الصومال 2016: صراع الأجندات المحلية والأجنبية

على أبواب التجربة السياسية المقبلة

الصومال 2016: صراع الأجندات المحلية والأجنبية
TT

الصومال 2016: صراع الأجندات المحلية والأجنبية

الصومال 2016: صراع الأجندات المحلية والأجنبية

يُقبل الصومال على مرحلة سياسية جديدة بحلول أغسطس (آب) 2016. تختلف عن جميع مراحل العملية السياسية السابقة، التي بدأت قبل عقد ونصف، تغير اللاعبون المحليون في السياسة الداخلية كما تغير اللاعبون الإقليميون والدوليون الذين يؤثرون في سير العملية السياسية في الصومال ونتائجها خلال الأربع سنوات القادمة وربما إلى أبعد من ذلك. وحسب الجدول الانتخابي الذي اتفقت عليه الحكومة الاتحادية وحكومات الأقاليم الفيدرالية، فإن العملية السياسية الحالية ستمتد لشهرين على الأقل، يتم خلالها إجراء الانتخابات البرلمانية بغرفتيها (مجلس الأعيان ومجلس الشعب)، واستكمال تشكيل الأقاليم الفيدرالية (6 أقاليم) وكذلك الانتخابات الرئاسية، وكلها تسير وفق ترتيبات معقدة تتداخل فيه المصالح القبلية والسياسية وتأثيرات الدول المجاورة ومنظمات إقليمية ودولية.
تجري العملية السياسية، الانتخابية والتشكيلية - التنظيمية، في الصومال بينما تتقاسم الحكومة الصومالية النفوذ على أراضيها مع مجموعة من الدول الداعمة ماديا وعسكريا، فالاتحاد الأفريقي لديه قوات يزيد عددها قليلا عن 22 ألف جندي ينتمون إلى خمس دول، وهي بالترتيب: أوغندا (6223 جنديا) وبوروندي (5432 جنديا) وإثيوبيا (4395 جنديا) وكينيا (3664 جنديا) وجيبوتي (960 جنديا) إضافة إلى 552 عنصرا من قوات الشرطة تنتمي إلى كل من نيجيريا وأوغندا وغانا وكينيا وسيراليون.
وتضم البعثة المدنية التابعة للاتحاد الأفريقي أيضا مجموعة من الدوائر المدنية، أبرزها: دائرة الشؤون السياسية ودائرة الشؤون الإنسانية، وشعبة المعلومات، ودائرة الشؤون المدنية ودائرة الأمن والسلامة، ودائرة النوع (الجندر) وشعبة الدعم الفني. وهذه القوات مقسمة علي ستة قطاعات عسكرية في وسط وجنوب الصومال، واسمها الرسمي هو قوات حفظ السلام التابعة للاتحاد الأفريقي في الصومال، وتعرف اختصارا بالـ«أميصوم»، وهي بمثابة الحاكم الفعلي للصومال منذ عام 2007.
أما الدعم المالي فيأتي من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي ومنظمات الأمم المتحدة، ودول عربية من بينها المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة وقطر، إضافة إلى تركيا التي تعتبر الدولة الأكثر انخراطا في الشأن الصومالي خلال السنوات الماضية. وكل هذا يجعل من العملية السياسية الحالية في الصومال خاضعة لأجندات محلية وإقليمية ودولية يتم اتخاذ معظم ترتيباتها وقراراتها خارج الصومال، مع إتاحة هامش ضئيل من المناورة للأطراف الصومالية.
ولقد بدأت عملية «فدرلة» الصومال منذ سنوات، وهي أقرب حاليا إلى «فيدرالية الأمر الواقع» ذات الصبغة القبلية، واعتمدت في الدستور الانتقالي الذي لم يتم طرحه للاستفتاء الشعبي بعد. واستقرت هذه الفيدرالية على ستة أقاليم، لكن حدود هذه الأقاليم لم تحدد بعد، ستنظر اللجنة الوطنية المستقلة بشأن الحدود بين الأقاليم، وهي لجنة لم يتم تفعيلها حتى الآن.
وللعلم، ينص الدستور الصومالي الانتقالي على أنه «يحق لأي اثنتين أو أكثر من المحافظات الصومالية (18 محافظة) تشكيل إقليم فيدرالي، ويصبح هذا الإقليم عضوا في الدولة الفيدرالية الصومالية». ويترك الدستور للبرلمان تحديد عدد الأقاليم الفيدرالية التي تتكون منها الجمهورية. ورغم ذلك فإن الأقاليم التي تشكلت حتى الآن تشكلت بالأمر الواقع حسب الديموغرافية القبلية، مع وجود امتدادات قبلية في هذا الإقليم أو ذاك.
ومع أن الدستور أيضا يجعل شؤون «السياسة الخارجية، والدفاع، والجنسية والهجرة، والسياسة النقدية» من اختصاصات الحكومة الاتحادية، فإن النموذج الفيدرالي الصومالي الحالي يبدو وكأنه دول مستقلة لا يصرح أطرافها بذلك، في الوقت الذي يرتبطون فيه بعلاقات ظاهرة وغير ظاهرة بالخارج بعيدا عن نفوذ الحكومة الاتحادية.
وقد وجهت انتقادات كثيرة إلى النظام الفيدرالي الصومالي بشكله الحالي بأنه نظام يناقض التركيبة السكانية المتجانسة للصومال، حيث لا توجد فيه تنوعات دينية أو عرقية أو لغوية، أو حتى عوازل جغرافية فالصوماليون يتحدثون لغة واحدة وينتمون إلى عرق واحد ويعتنقون ديانة واحدة هي الإسلام، إذ يتبع كلهم المذهب الفقهي الشافعي. ويرى المنتقدون أن حماسة القادة السياسيين للفيدرالية هدفه تقوية نفوذهم على حساب الحكومة الاتحادية أكثر منه تأسيس نظام يقود إلى تعزيز الوحدة والاستقرار.
كذلك يثير كثير من الصوماليين علامات استفهام حول التصميم الحالي للأقاليم الفيدرالية في الصومال، الذي يخالف جميع التقسيمات الإدارية المعروفة منذ الاستقلال. ويجري تداول شرطين أساسيين (غير معلنين) في الأوساط الشبيه الصومالية لتشكيل أي إقليم فيدرالي صومالي هما: أن يكون له منفذ بحري، وأن تكون له حدود مع إثيوبيا (بلد مغلق)، ما يوفر لهذا الإقليم استقلالا اقتصاديا نسبيا ويعطي لإثيوبيا نفوذا سياسيا وعسكريا عليه بحكم الجوار. بغض النظر عن صحة هذه المعلومات فإن هذين الشرطين ينطبقان على الأقاليم الستة الموجودة حاليا في الساحة.
والأقاليم التي تشكلت حتى الآن هي خمسة أقاليم فيدرالية هي: بونت لاند (شمال شرق) وجوبا لاند (جنوب) وإقليم الجنوب الغربي، وغلمدغ (وسط) وهيران شبيلي (وسط - وقيد الإنشاء). أما الإقليم السادس فهو إقليم «أرض الصومال» أو صومالي لاند (شمال) الذي أعلن الانفصال عن بقية الصومال تحت اسم «جمهورية أرض الصومال» لكنه إقليم غير معترف به إقليميا ودوليا. ولقد رفض هذا الإقليم الانضمام إلى العملية السياسية في الصومال منذ إعلانه الانفصال عام 1991.
أما الانتخابات البرلمانية لغرفتي البرلمان الأولى والثانية فتجرى على مرحلتين في شهر أغسطس المقبل، حسب الجدول المتفق عليه حتى الآن. وتتكون الغرفة الأولى (أي مجلس الأعيان) من 56 عضوا يصار إلى اختيارهم على أساس الأقاليم الفيدرالية الستة المعترف بها، حيث تكون الكلمة الأخيرة في اختيارهم لرؤساء الأقاليم الفيدرالية مع مراعاة التوازن القبلي أيضا، بينما تستمر المفاوضات بين الأطراف السياسية الصومالية حول تخصيص مقاعد إضافية للعاصمة مقديشو، التي لم يتم حسم موقعها في النظام الفيدرالي حتى الآن.
أما الغرفة الثانية من البرلمان الصومالي (أي مجلس الشعب) فتتكون من 275 عضوا يجري انتخابهم وفقا للمحاصصة القبلية التي تعرف محليا بنظام «الأربعة والنصف» الذي يصنف القبائل الصومالية إلى أربع مجموعات قبلية كبيرة، وتحالف للقبائل الصغيرة اعتبر نصف قبيلة.
ويتم اتباع نظام انتخابي جديد غير مباشر، حيث أنشئ ما يشبه دائرة انتخابية قبلية خاصة تتكون من 51 ناخبا لكل دائرة التي تنتخب نائبا واحدا في البرلمان. ويترشح الأعضاء الذين يسعون لدخول الغرفة الثانية للبرلمان (مجلس الشعب) في هذه الدوائر الانتخابية الخاصة بقبيلتهم كل على حدة، فيما يبلغ عدد الناخبين الذين سينتخبون أعضاء البرلمان المقبل 14 ألف ناخب يمثلون القبائل الصومالية المختلفة سينتخبون الأعضاء الـ275 في البرلمان.
وبشأن توزيع الدوائر الانتخابية القبلية فإنه تحقق في الأقاليم الستة لانتخاب الغرفة الثانية من البرلمان، على الترتيب التالي: إقليم أرض الصومال (47 مقعدا)، إقليم بونت لاند (40 مقعدا) إقليم غلمدغ (36 مقعدا)، إقليم جوبا لاند (39 مقعدا)، إقليم هيران شبيلي (37 مقعدا)، إقليم جنوب غربي (69)، إضافة إلى قبائل البنادريين من سكان العاصمة (7 مقاعد).
ولكن تدور حاليا معركة أخرى في الأوساط السياسية حول تحديد أعضاء الدائرة الانتخابية الخاصة بكل نائب، حيث يسعي المرشحون للبرلمان وللرئاسة إلى فرض أعضاء موالين لهم في هذه الدوائر لوضع بصماتهم على نتيجة الانتخابات بشقيها البرلماني والرئاسي.
وتبدأ عملية تحديد أعضاء الدوائر الانتخابية القبلية من زعماء العشائر المعترف بهم ويبلغ عددهم 135 زعيم عشيرة، وتشرف عليهم اللجنة الوطنية المستقلة للانتخابات، وممثلون عن الاتحاد الأفريقي ومنظمات المجتمع الدولي، ثم يتوجه الناخبون إلى عواصم الأقاليم الفيدرالية لانتخاب النواب، حيث من المقرر أن تعقد هذه الانتخابات في وقت متزامن، وبعدها ينتقل النواب المنتخبون إلى العاصمة مقديشو لأداء اليمين الدستورية ثم انتخاب الرئيس في العاشر من سبتمبر (أيلول) المقبل حسب الجدول الانتخابي. ولأول مرة يقوم البرلمان الصومالي بغرفتيه بانتخاب الرئيس.
وقد استبعدت الأحزاب السياسية الناشئة عن المشاركة في العملية السياسية الحالية التي حصرت بين الحكومة الاتحادية وحكومات الأقاليم الفيدرالية. ورغم مصادقة البرلمان مؤخرا على قانون الأحزاب السياسية في البلاد، فإن الأحزاب الموجودة لن تشارك في الانتخابات بصفتها الحزبية بل أجّل ذلك إلى عام 2020، ولكن يحق لأعضاء الأحزاب الترشح للبرلمان عن طريق قبائلهم في الانتخابات المرتقبة.
ويشكل موقف إقليم «جمهورية أرض الصومال» (شمال البلاد) الرافض للعملية السياسية الحالية برمتها مشكلة أخرى للحكومة الاتحادية ولحكومات الأقاليم الفيدرالية الأخرى. وكما سبق فإن «أرض الصومال» تعتبر نفسها دولة مستقلة ذات سيادة، وحقًا أعلنت أنه لا علاقة لها بما يجري في الصومال، وأن لها نظامها السياسي والانتخابي الخاص بها، وفشلت المفاوضات - التي ترعاها تركيا منذ سنوات - بين «أرض الصومال» والحكومة المركزية في مقديشو، في ضم الإقليم إلى العملية السياسية الحالية في البلاد.
وفيما يبدو أنه محاولة للتغلب على مشكلة تمثيل «أرض الصومال» في البرلمان المرتقب، تقرر تخصيص 58 مقعدا من غرفتي البرلمان للقبائل الساكنة في الإقليم، كما كان الحال في الانتخابات السابقة، ومن المتوقع أن تجري عملية انتخاب هؤلاء النواب في العاصمة مقديشو في وقت لاحق من أغسطس المقبل.
وفيما يتعلق بالعاصمة مقديشو فإن الخلافات لا تزال قائمة حول وضعها المستقبلي في النظام الفيدرالي الجديد، حيث تأجل حسم وضعها إلى أجل غير مسمى.
وما يجدر ذكره أن القبائل التي تشكل الأغلبية من سكانها تطالب باعتبارها إقليما فيدراليا قائما بذاته نظرا للثقل السكاني والاقتصادي والسياسي التي تتمتع به (نحو مليوني نسمة)، في حين تطالب قبائل أخرى بتخصيص مقاعد لها في غرفتي البرلمان لكن بشرط أن يكون التمثيل القبلي لهذه المقاعد متساويا بين القبائل الصومالية، لأن مقديشو هي العاصمة القومية للبلاد. وثمة قبائل تطالب أيضًا بجعل مقديشو «منطقة محايدة» لا تمثيل لها في العملية السياسية على أن تحتفظ بمكانتها كعاصمة للبلاد، ومقر للحكومة المركزية والمؤسسات الوطنية الأخرى.
ورغم الطابع القبلي الخالص للانتخابات البرلمانية والرئاسية المرتقبة في الصومال فإن الصراع ينحصر في ثلاثة أطراف رئيسية في البلاد، هي: التيارات الإسلامية، ومجموعات رجال الأعمال على اختلاف قبائلهم، وباقي الفئات. ولقد سطع نجم الإسلاميين في السياسة الصومالية منذ قيام «حركة المحاكم الإسلامية» (2006) التي أطاح بها التدخل العسكري الإثيوبي الذي كان يحظى بدعم جهات دولية وإقليمية عدة، وتولي الرئيس السابق شريف شيخ أحمد الرئاسة (2009) مدعومًا من التيار الإسلامي، ثم مجيء الرئيس الحالي حسن شيخ محمود إلى السلطة (2012) بدعم من التيار الإسلامي أيضا.
ويعتبر الإسلاميون الصوماليون على اختلاف مشاربهم تيارات عابرة للقبائل نسبيًا، الأمر الذي قد يمكّنهم من بناء تحالفات سياسية فيما بينهم، ومع أنه سادت حالة من العداء والتنافس الشديد المشهد الإسلامي في الصومال في التسعينات، لكن تجربة المحاكم الإسلامية وما أعقبها من تطورات، خلقت جوا من التقارب بين الإسلاميين وخاصة بين التيارات المحافظة والإخوانية بأطيافها المختلفة. كذلك مع أنه قد يكون الوقت مبكرا للحكم على خريطة التحالفات السياسية والقبلية والآيديولوجية للتأثير على الانتخابات البرلمانية والرئاسية في الصومال، إلا أن تيارات الإسلام السياسي هي الأكثر تنظيما واستعدادا لهذا الحدث، ومن شبه المؤكد أن يكون لممثليها وجود ملحوظ في مجلسي البرلمان.
أما مجموعات رجال الأعمال الذين تعزز نفوذهم المالي والسياسي في السنوات الماضية بسبب ضعف الحكومات في مقديشو وفي الأقاليم، فإنهم يشعرون بتهديد مصالحهم في حالة مجيء برلمان وحكومة لا يخضعان لنفوذهم. وبناءً على ذلك فإن عشرات من رجال الأعمال وأصحاب الشركات العملاقة يترشحون الآن لغرفتي البرلمان، وفي نفس الوقت يدفعون بمرشحين مدعومين من طرفهم لدخول البرلمان، بهدف تشكيل كتلة برلمانية مؤثرة تدافع عن مصالحهم، كما أنهم يسعون إلى دخول الحكومة أيضا وكذلك دعم أحد المرشحين للرئاسة.
والحقيقة أن رجال الأعمال الصوماليون بنوا إمبراطوريات مالية بسبب غياب النظام الضريبي والتنظيم التجاري في البلاد، واستطاعوا التأثير على قرارات الحكومات والبرلمانات عند إثارة القضايا المتعلقة بالضرائب وتنظيم النشاط التجاري والاقتصادي في البلاد، والآن يسعى كثيرون منهم إلى حماية مصالحهم المالية مهما كان الثمن.
وبناء على هذه المؤشرات فإن البرلمان الصومالي القادم وكذلك الحكومة الاتحادية سيضمان وجوها من التيارات الإسلامية المختلفة، ورجال الأعمال المؤثرين أكثر من أي وقت مضي. وليس مستبعدا أن يفوز مرشح من التيارات الإسلامية أو مدعوم من قبلها بمعركة الرئاسة التي تتحكم فيها مجموعة من المؤثرات المحلية والإقليمية والدولية أيضا، تتضح معالمها كلما اقتربنا أكثر من موعد الانتخابات.
وبغض النظر عن نتيجة الانتخابات المرتقبة فإن أي سلطة قادمة في الصومال ستواجه نفس التحديات التي واجهتها الحكومات السابقة بما فيها تلك المنتهية ولايتها بعد شهرين. فالوضع الأمني رغم التحسن الملحوظ لا يزال متعثرا، فبناء الجيش الوطني لم ينجز بعد، الأمر الذي يحتم على السلطة القادمة الاستمرار في الاعتماد على قوات الاتحاد الأفريقي. ثم إن «حركة الشباب» رغم خسارتها معظم المناطق الحضرية التي كانت تحكمها، فإنها لا تزال تسيطر على مساحات واسعة من وسط وجنوب البلاد، وتشكل تهديدا أمنيا واضحا في العاصمة والمدن الرئيسية في البلاد.
أضف إلى ما سبق أنه بسبب غياب مصادر دخل وطنية، فمن المتوقع أن تستمر السلطة الجديدة المقبلة في الاعتماد على المعونات الخارجية بشكل أساسي، وهي معونات غير ثابتة ترتفع وتنخفض حسب المزاج السياسي الدولي، كما أن هذا الدعم سيتأثر بحسب لون البرلمان والرئيس والحكومة التي ستفرزها الانتخابات المرتقبة، ومعنى ذلك أن الصومال سينتقل إلى مرحلة جديدة بتحديات قديمة.



دوما بوكو... رئيس بوتسوانا «العنيد» يواجه تحديات «البطالة والتمرد»

دوما بوكو
دوما بوكو
TT

دوما بوكو... رئيس بوتسوانا «العنيد» يواجه تحديات «البطالة والتمرد»

دوما بوكو
دوما بوكو

لا يختلف متابعو ملفات انتقال السلطة في أفريقيا، على أن العناد مفتاح سحري لشخصية المحامي والحقوقي اليساري دوما بوكو (54 سنة)، الذي أصبح رئيساً لبوتسوانا، إثر فوزه في الانتخابات الرئاسية بنهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي. «عناد» الرئيس الجديد قاده، وعلى نحو مذهل، لإزاحة خصمه الرئيس السابق موكغويتسي ماسيسي ومن خلفه حزب قويّ هيمن على السلطة قرابة 6 عقود مرّت على استقلال بوتسوانا. ويبدو أن وعورة طريق بوكو إلى الانتصار لن تحجب حقيقة أن وديعة الفقر والفساد والبطالة و«تمرّد الاستخبارات»، التي خلفها سلفه ماسيسي، ستكون أخطر الألغام التي تعترض مهمة بوكو، الذي دشّن مع بلاده تداولاً غير مسبوق للسلطة، في بلد حبيسة جغرافياً، اقترن فيها الفقر مع إنتاج الماس.

إلى جانب «العناد في ساحة القتال» والتواضع المُقترن بالثقة في النفس، يبدو أن رهان الانتصار للفقراء والطبقات الدنيا هو المحرّك الرئيسي في المسارات المتوقعة للرئيس البوتسواني الجديد دوما بوكو. وبالفعل، لم يبالغ الرئيس المنتخب في أول تصريحاته لوسائل الإعلام عندما خاطب شعبه قائلاً: «أتعهد بأنني سأبذل قصارى جهدي وعندما أفشل وأخطئ، سأتطلع إليكم للحصول على التوجيه».

هذه الكلمات قوبلت باهتمام واسع من جانب مراقبين، بعد أداء بوكو (54 سنة) اليمين الدستورية أمام حشد من آلاف من الأشخاص في الاستاد الوطني بالعاصمة خابوروني، في مراسم حضرها قادة مدغشقر، وناميبيا، وزامبيا وزيمبابوي، وبدأت معها التساؤلات عن مستقبل بوتسوانا.

من هو دوما بوكو؟

وُلد دوما جديون بوكو عام 1969، في قرية ماهالابي الصغيرة التي تبعد 200 كلم عن العاصمة خابوروني، وترعرع وسط أسرة متواضعة، لكن اللافت أنه كان «يتمتع بثقة عالية في النفس واحترام أهله وذويه في طفولته وصباه»، وفق كلام لأقاربه لوسائل إعلام محلية. وهذه الصفات الإيجابية المبكرة، اقترنت لدى الرئيس الجديد بـ«إيمان عميق بالعدالة»، وفق عمته، وربما أكسبته هذه الصفات ثقة زملاء الدراسة الذين انتخبوه رئيساً لاتحاد الطلاب في المدرسة الثانوية.

أكاديمياً، درس بوكو القانون في جامعة بوتسوانا، لكنه - بعكس أقرانه اليساريين في العالم - كان منفتحاً على إكمال دراسته القانونية في الولايات المتحدة، وبالذات في كلية الحقوق بجامعة هارفارد العريقة، حيث تشربت ميوله اليسارية بـ«أفكار ديمقراطية» انعكست على مستقبله السياسي. أما عن المشوار المهني، فقد ذاع صيت بوكو بوصفه أحد ألمع محامين بوتسوانا.

مشوار التغيير

نقطة التحول في رحلة الرئيس الجديد باتجاه القصر الرئاسي، بدأت بتوليه زعامة حزب «جبهة بوتسوانا الوطنية» عام 2010.

يومذاك، كانت «الجبهة» تتمسك بأفكار شيوعية تلاشت مع أفول شمس الإمبراطورية السوفياتية، إلا أن بوكو بحنكته وواقعيته، مال بها نحو اشتراكية «يسار الوسط». ولم يتوقف طموح بوكو عند هذه النقطة، بل خطا خطوة غير مسبوقة بتشكيله ائتلاف «مظلة التغيير الديمقراطي» عام 2012، وهو تحالف من الأحزاب المعارضة للحكومة بينها «الجبهة». وأطلق بهذا الائتلاف عملياً «شرارة» التغيير بعد إحباط طويل من هزائم المعارضة أمام الحزب الديمقراطي البوتسواني، المحافظ،، الذي حكم البلاد منذ استقلالها عن بريطانيا عام 1966.

طوال 12 سنة، لعب المحامي اليساري الديمقراطي بوكو دوراً حاسماً في قيادة الائتلاف، ولم ييأس أو يستسلم أو يقدم تنازلات على الرغم من الهزائم التي لحقت بالائتلاف.

وفي غمار حملة الدعاية بانتخابات الرئاسة البوتسوانية الأخيرة، كان المحللون ووسائل الإعلام منشغلين بانعكاسات خلاف قديم بين الرئيس (السابق) ماسيسي وسلفه الرئيس الأسبق إيان خاما، في حين ركّز بوكو طوال حملته على استقطاب شرائح من الطبقات الدُّنيا في بلد يفترسه الفقر والبطالة، وشدّدت تعهدات حملته الانتخابية عن دفاع قوي عن الطبقات الاقتصادية الدنيا في المجتمع وتعاطف بالغ معها.

ووفق كلام الصحافي إنوسنت سيلاتلهوا لـ«هيئة الإذاعة البريطانية» (بي بي سي) كان بوكو «يناشد أنصاره الاقتراب من الناس والاستماع إلى شكاواهم». وبجانب أن أسلوب الرئيس الجديد - الذي استبعد الترشح لعضوية البرلمان) - كان «جذاباً وودوداً دائماً» مع الفقراء وطبقات الشباب، حسب سيلاتلهوا، فإن عاملاً آخر رجَّح كفّته وأوصله إلى سدة السلطة هو عودة الرئيس الأسبق خاما إلى بوتسوانا خلال سبتمبر (أيلول) الماضي من منفاه في جنوب أفريقيا، ليقود حملة إزاحة غريمه ماسيسي عبر صناديق الاقتراع.

انتصار مفاجئ

مع انقشاع غبار الحملات الانتخابية، لم يتوقع أكثر المتفائلين فوز ائتلاف بوكو اليساري «مظلة التغيير الديمقراطي» بالغالبية المطلقة في صناديق الاقتراع، وحصوله على 36 مقعداً برلماناً في انتخابات 30 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، مقارنة بأربعة مقاعد فقط للحزب الديمقراطي. وبالتالي، وفق دستور بوتسوانا، يحق للحزب الذي يسيطر على البرلمان اختيار الرئيس وتشكيل حكومة جديدة. ولقد خاضت 6 أحزاب الانتخابات، وتقدم أربعة منها بمرشحين لرئاسة الجمهورية، في حين سعى ماسيسي لإعادة انتخابه لولاية ثانية رئيساً للدولة.

تكابد بوتسوانا التي يبلغ عدد سكانها 2.6 مليون نسمة

مستويات عالية جداً من البطالة نسبتها 27.6 % فضلاً

عن معدلات فقر تقترب نسبتها من 38 %

وبقدر ما كانت هذه الهزيمة صادمة للحزب الديمقراطي والرئيس السابق ماسيسي - الذي سارع بالاعتراف بالهزيمة في حفل التنصيب - فإنها فاجأت أيضاً بوكو نفسه، الذي اعترف بأنه فوجئ بالأرقام.

تعزيز العدالة الاجتماعية

لعل بين «أسرار» نجاح بوكو، التي رصدها ديفيد سيبودوبودو، المحلل السياسي والأستاذ في جامعة بوتسوانا، «بروزه زعيماً حريصة على تعزيز العدالة الاجتماعية». وفي مسار موازٍ رفعت أسهمه خبرته الحقوقية وخاصة حقوق قبيلة الباساروا (السان)، وهم السكان الأصليون في بوتسوانا، وفق موقع «أول أفريكا». هذا الأسبوع، دخلت وعود الرئيس الجديد محك التجربة في مواجهة مرحلة بلد يعاني مرحلة «شكوك اقتصادية»؛ إذ تكابد بوتسوانا التي يبلغ عدد سكانها 2.6 مليون نسمة، مستويات عالية جداً من البطالة تبلغ 27.6 في المائة، فضلاً عن معدلات فقر تقترب نسبتها من 38 في المائة، وفق أرقام رسمية واستطلاعات رأي. وخلص استطلاع حديث أجرته مؤسسة «أفروباروميتر» إلى أن البطالة هي مصدر القلق «الأكثر إلحاحاً» للمواطنين مقارنة بالقضايا الأخرى.

الأرقام السابقة تصطدم بوعود أعلنها بوكو برفع الراتب الأساسي وعلاوات الطلاب ومعاشات الشيخوخة، والاهتمام بشريحة الشباب، علماً بأن نحو 70 في المائة من سكان البلاد دون سن الـ35 سنة. ويتمثل التحدي الأكبر بتعهد الرئيس بـ«تنويع الاقتصاد» الذي يعتمد في 90 في المائة من صادراته على الماس. لذا؛ قال الباحث سيبودوبودو لموقع «أول أفريكا» شارحاً: «حكومة بوكو في حاجة إلى تحويل الاقتصاد بحيث يخلق فرص العمل، وهذا أمر صعب في خضم ركود سوق الماس، أكبر مصدر للدخل في البلاد». في المقابل، يرى المحلل السياسي ليسولي ماتشاشا أن الرئيس بوكو «شغوف بالمعرفة والتعليم، ولديه دائماً فهم جيد للشؤون والقضايا الداخلية الجارية في بوتسوانا... وكذلك فهو جاد في إصلاح البلاد».

... الدافع الحقوقي

وفي موازاة الهاجس الاقتصادي، يبدو أن الدافع الحقوقي سيشكل عنصراً مهماً في أجندة بوكو الرئاسية؛ إذ عبر في مقابلة مع «بي بي سي» عن عزمه منح إقامة مؤقَّتة وتصاريح عمل لآلاف المهاجرين الذين وصلوا خلال السنوات الأخيرة بشكل غير نظامي إلى البلاد من الجارة زيمبابوي. وفي معرض تبريره هذا القرار، أوضح بوكو: «إن المهاجرين يأتون من دون وثائق؛ ولذا فإنَّ حصولهم على الخدمات محدود، وما يفعلونه بعد ذلك هو العيش خارج القانون وارتكاب الجرائم». ثم تابع مستدركاً: «ما يجب علينا فعله هو تسوية أوضاعهم».

ترويض مديرية الاستخبارات

لكن، ربما تكون المهمة الأصعب للرئيس الجديد هي ترويض «مديرية الاستخبارات والأمن»، التي يرى البعض أنها تتعامل وكأنها «فوق القانون أو هي قانون في حد ذاتها».

وهنا يشير الباحث سيبودوبودو إلى تقارير تفيد بأن الاستخبارات عرقلت التحقيقات التي تجريها «مديرية مكافحة الفساد والجرائم الاقتصادية» في قضايا فساد، تتمثل في تربّح بعض أقارب الرئيس السابق من المناقصات الحكومية، وأنباء عن انخراط الجهاز الاستخباراتي في أدوار خارج نطاق صلاحياته، وتضارب عمله مع الشرطة ومديرية الفساد. «وبناءً على ذلك قد تبدو مهمة بوكو صعبة في إعادة ترتيب مؤسسات الدولية السيادية، علماً بأن (مديرية الاستخبارات والأمن) كانت مركز تناحر بين الرئيس السابق وسلفه إيان خاما، كما أن المؤسسات التي كان من المفترض أن توفر المساءلة، مثل (مديرية مكافحة الفساد) والسلطة القضائية، جرى إضعافها أو تعريضها للخطر في ظل صمت الرئيس السابق».أخيراً، من غير المستبعد أن يفرض سؤال محاكمات النظام السابق نفسه على أجندة أولويات الرئيس الجديد، وفق متابعين جيدي الاطلاع، مع الرئيس السابق الذي لم يتردد في الإقرار بهزيمته. بل، وأعلن، أثناء تسليم السلطة، مجدداً أن على حزبه «التعلم الآن كيف يكون أقلية معارضة».