موسوعة «مفاتيح العلوم» للخوارزمي الكاتب.. والوعي بالتغير الدلالي

اللغة وعاء العالم ومأوى الوجود ولا إدراك خارجها

موسوعة «مفاتيح العلوم» للخوارزمي الكاتب.. والوعي بالتغير الدلالي
TT

موسوعة «مفاتيح العلوم» للخوارزمي الكاتب.. والوعي بالتغير الدلالي

موسوعة «مفاتيح العلوم» للخوارزمي الكاتب.. والوعي بالتغير الدلالي

لا يخفى على أحد، أن اللغة محدد أساسي في إنسانية الإنسان. فهي خاصية بشرية بامتياز، لا ترقى إليها بقية الحيوانات، وإن تواصلت بأعلى المستويات الغريزية، كالنمل بإفرازاته الكيميائية، والنحل برقصاته المعلنة عن مكان وجود الطعام، أو تلك الأصوات التي تلفظها الحيوانات للإخبار بالفزع أو التزاوج. فالإنسان له لغة متمفصلة، كما يقول عالم اللسانيات «بنفينيست». فالحروف الأبجدية مثلا، تمكن الإنسان من صناعة كلمة وجملة وفقرة ونص وكتاب ومجلدات.. وهذا ما يعجز عنه الحيوان. فالإنسان قادر على تشكيل الألفاظ بحسب الحاجة والمتغيرات، وما تنامي المعاجم إلا دليل ذلك.
لكن الخطير في اللغة، باعتبارها علامات وصور منطوقة أو مكتوبة، هو قدرتها على اختصار العالم وضمه في الذهن. وهذا عمل اقتصادي يلم شمل الجزئيات المتناثرة هنا وهناك في هذا الكون الفسيح. فماذا سيكون مصير الإنسان في غياب اللغة؟ من المؤكد أنه سيكون صورا حسية مشتتة لا ضابط لها ولا جامع يمكن الإنسان منها. فعندما أقول لك في غرفة مغلقة لفظة قمر، فأنا لا أحضر هذا القمر الملموس الخارجي الموضوعي، بل أختزل معناه في كلمة تسعفني وتغنيني عن الموضوع. فاللغة تحضر لي العالم كله وتختزله لي في ذهني. وكم يعتبر الأمر مثيرا وعجيبا وملغزا، إذ يكفي أن نتفق على إعطاء اسم لغوي لموضوع معين وسط جماعة معينة، لننسى نهائيا هذا الواقع، ونكتفي بالرموز فقط. وهذا اقتصاد شديد، فغياب اللغة يعني الدخول في بعثرة كاملة تفضي إلى غياب التواصل.
إن عقلنا البشري لا يستطيع فهم العالم بمعزل عن اللغة، فهي عدته وأداته الأساس. ولا يكتفي العقل بالتسميات المفردة اللصيقة بالمحسوس، بل يتجه صوب المجردات لمزيد من الجمع والضم، كي يسهل التعامل مع الواقع. فلفظة إنسان، تضم زيدا وعمرا ومحمدا وفاطمة.. وهي أشمل وأعم. إنها الكل والتعريف، إنها الاختصار الأكبر. ويقال الشيء نفسه عن لفظة حيوان ولفظة حشرة وغير ذلك. فعقلنا يسعى بواسطة اللغة، سواء في بعدها الملموس أو المجرد، إلى التجميع والترتيب، واختزال العالم في قوالب لغوية جامعة، تسهل الفهم والإدراك، وتبعد الغموض، وتمكن من التواصل الأحسن. إذن اللغة وعاء العالم ومأوى الوجود، ولا إدراك خارج اللغة.
أصول الفقه والتغير الدلالي
مع مرور القرون والتجارب والخبرات، نجد أن اللفظ الموضوع أولا، تعلق به معان تكون مختلفة، أحيانا، عن الأصل، فيصبح مشحونا بدلالات ومعان كأنها طبقات فوق طبقات، تشوش كل طبقة منها على الأخرى، فتظهر مشكلات في المعنى. ونجد أنفسنا نردد الألفاظ نفسها، لكن ليس بالدلالة نفسها. وتكون انعكاسات ذلك وخيمة على التواصل السليم. هذا الأمر المرتبط بالتغير الدلالي للألفاظ، بحسب التخصصات وبحسب مرور الزمن، تنبه له المسلمون بقوة. ويكفي التنبيه إلى علم أصول الفقه، وهو علم يزود الفقيه بالأدوات والخطة والمنهج اللازم لاستنباط الأحكام الشرعية، خاصة التكليفية منها، والأمر عندهم كان معقدا، والجري وراء إيقاف نزيف المعنى وسيولته كان أمرا ملحا. فاللفظ المتعامل معه مأخوذ من الوحي، والتعامل مع مراد الشارع محفوف بالمخاطر. وترك المعنى منفلتا من دون قيود، سيضرب الأحكام الربانية في الصميم. ما جعل الأصوليين يتعاملون بجدية منقطعة النظير مع مسألة الدلالة وتغيرها. فقدموا في ذلك أعمالا فذة، لكي لا تكون الفوضى في استخراج المعنى من النص الشرعي، الذي يحتاج إلى الحذر والتريث والتؤدة، خشية الانزلاق في مطب التقول على الله بما يخالف قصده. فقام الأصوليون بوضع قواعد لفهم النصوص، وسنوا ضوابط تسمح للفقيه بالسير في درب أكثر أمانا، وهو يستخرج الأحكام من النص. وعولوا في ﺫلك بالأساس، على الفهم العربي، أي على معهود العرب في التداول. وأول ما قاموا به هو تحرير الألفاظ، حيث نجدهم يتحدثون عن اللفظ من حيث وضوحه (الظاهر – النص – المفسر - المحكم). وعن اللفظ من حيث عدم وضوحه (الخفي – المشكل – المجمل – المتشابه - المؤول). وعن اللفظ من حيث ضيق معناه أو اتساع معناه (الخاص والعام). وعن اللفظ من حيث الإطلاق والتقييد. وكذلك تحدث الأصوليون عن اللفظ كصيغ للتكليف، (الأمر والنهي).. إلى غير ذلك مما يعلمه أهل الاختصاص. ولنأخذ على ذلك مثال الصلاة، فهي على الأقل، تحتوي على ثلاث طبقات من المعاني عند الأصوليين. فنجد المعنى اللغوي، أي الدعاء، والمعنى الشرعي، أي الصلاة، كما جاءت بها التعاليم الإسلامية، والصلاة بالمعنى العرفي. وعلى هذا المنوال اشتغل علماء أصول الفقه، لإيقاف نزيف المعنى.
هذا العمق في استيعاب التغيرات الدلالية، سيزداد حدة مع التلاقحات الإسلامية بالحضارات الأخرى (سريانية وفارسية ويونانية..)، إلى درجة أنه كان من الطبيعي أن تبدأ عملية وضع معاجم متخصصة لضبط هذا السيل من الكلمات التي تحتاج إلى تفسير. وما كشاف اصطلاحات الفنون للتهانوي، والتعريفات للجرجاني، ومفاتيح العلوم للخوارزمي، إلا أمثلة على ذلك. وسنقف عند هذا الكتاب الأخير لإبراز العمل العملاق الذي أنجزه المسلمون بخصوص اللغة.
«مفاتيح العلوم» للخوارزمي الكاتب
نشير بداية، إلى أن الخوارزمي المقصود هنا، ليس أبو عبد الله محمد بن موسى الخوارزمي، المتوفى سنة (232-847م) الرياضي الشهير، بل هو محمد بن أحمد بن يوسف الكاتب البلخي الخوارزمي، المتوفى سنة (387-997م)، صاحب كتاب «مفاتيح العلوم».
يعد الكتاب الذي سنعتمد فيه على طبعة «دار المناهل»، لبنان، ط1. 2008، المصحوبة بتصدير ودراسة الدكتور عبد الأمير الأعسم، من أنفس المصادر في تاريخ العلوم. وظهوره إلى الوجود كان جوابا عن الكثير من الأسئلة العالقة في سؤال العلم عند العرب، خاصة فيما يتعلق بالمصطلح خلال القرن الرابع الهجري، العاشر الميلادي، وذلك من حيث نحته أو استيراده من لغات أخرى، وإقحامه في بنية العربية بشكل ملائم. ناهيك على أن الكتاب يقف عند مسألة التغير الدلالي بحسب الحقول العلميّة. فاللفظة نفسها، تأخذ معاني مختلفة. والمفاهيم وهي تسافر، تعلق بها شحنات جديدة من الدلالات. وهذا ما سيضرب عليه الخوارزمي الكاتب، الكثير من الأمثلة في مقدمة كتابه. وهذا يدل على نضج عال في تلك الحقبة من تاريخ البشرية، فيما يخص المنهج، مثير للدهشة بحق. فالكتاب موسوعة لغوية شاملة للعلوم، سواء الشرعية أو الدخيلة. فهو يجمع كل المعجم الخاص بكل علم، ويقسمه إلى أبواب، هي: الفقه، والكلام، والنحو، والكتابة، والشعر، والأخبار، والفلسفة، والطب، والرياضيات، والفلك، والحيل، والكيمياء.
لم يحظ كتاب «مفاتيح العلوم» باهتمام لائق من الباحثين العرب إلا نادرا. لكنه وجد بالمقابل، صدى وتفصيلا في الدراسة من طرف المستشرقين، على نحو يثير الإعجاب. لقد قام الدكتور عبد الأمير الأعسم، بدراسة جعلها مقدمة لكتاب مفاتيح العلوم، واستنتج الأمر التالي: إنه شخصيا، كان له موقف صارم من الاستشراق الآيديولوجي. أما هذه المرة، خاصة مع هذا الكتاب، فعلى العكس تماما، تشكلت في ذهنه تصورات إيجابية عن الاستشراق العلمي، الذي أنجز الكثير في تاريخ العلوم عند العرب. فخلص إلى فكرة مفادها أنه ليس كل ما هو قادم من الاستشراق سيئ أو مغرض.
ظهر كتاب «مفاتيح العلوم» للخوارزمي الكاتب، بنصه العربي ولأول مرة، في نشرة المستشرق الألماني فان فلوتن van vloten، سنة 1895، أي أواخر القرن التاسع عشر. وكان ذلك أمرا مدهشا لدى المستشرقين، نظرا لطريقة بنائه وطريقة تفصيلاته. لقد كان إعلانا بانفتاح البحث العلمي الجاد على دراسة المصطلحات التي ضمها الكتاب، خلال القرن الرابع الهجري، أي العاشر الميلادي.
استهل الخوارزمي كتابه بمقدمة بها وضوح في الرؤية. ويمكن أن نقف عند بعض محطاتها التي حاول من خلالها الخوارزمي توضيح عمله ومشروعه، وهي كالآتي:
يعلن الخوارزمي الكاتب أنه من الدواعي لكتابة هذا النموذج من الموسوعات اللغوية، تزويد الباحث بمفاتيح للعلوم، أي جمع كل المواضعات والاصطلاحات المسعفة خاصة للغوي. فهو يقول، بأن كتب علم اللغة تخلو من هذه المواضعات، حتى إن البارز من اللغويين، إذا نظر كتب بعض التخصصات، كان كالأمي الذي لا يفقه شيئا. ومن ثم قرر الخوارزمي تزويده بما يلزم لاختراق كل علم على حدة.
وبعد حديثه عن دواعي الكتابة، قام الخوارزمي بتقديم التفاتة رائعة حول التغير الدلالي من حقل إلى آخر. فاللفظة يكون لها معنى، لكن عندما تسافر إلى علم آخر، فإنها تكتسي دلالة جديدة وتشحن بمعان أخرى. ويضرب لذلك ثلاثة أمثلة:
لفظة الرجعة: وسيحصر لها الخوارزمي خمسة تغيرات في الدلالة وهي:
ا - عند أصحاب اللغة: المرة الواحدة من الرجوع. ويقول: وهم لا يكادون يعرفون غيرها.
ب - عند الفقهاء: الرجوع في الطلاق والذي ليس ببائن.
ج - عند المتكلمين: ما يزعمه بعض الشيعة من رجوع الإمام بعد موته أو غيبته.
د - عند الكتاب: حساب يرفعه المعطي في العسكر لطمع واحد «الأجير».
- عند أهل الفلك: سير الكواكب من الخمسة المتحيرة على خلاف نضد البروج.
لفظة الفك: وحصر لها أربعة تغيرات وهي:
ا - عند أصحاب اللغة والفقهاء: فك الأسير أو الرهن أو الرقبة، أو أحد الفكين وهما اللحيان.
ب - عند أصحاب العروض: إخراج جنس من الشعر من جنس آخر تجمعهما دائرة.
ج - عند الكتاب: أي كتاب الدواوين: الفك هو تصحيح اسم المرتزق في الجريدة السوداء، بعد أن كان وضع عنها.
لفظة الوتد: حصر لها ثلاثة تغيرات.
ا - عند اللغويين والمفسرين: أحد أوتاد البيت أو الجبل من قوله تعالى «والجبال أوتادا».
ب - عند أصحاب العروض: ثلاثة أحرف اثنان متحركان وثالث ساكن.
ج - عند المنجمين: الوتد هو أحد المنازل الأربعة في منطقة البروج وهي الطالع الغار.
يبدو بوضوح أن اللغة العربية قد أصبحت ألفاظها تحتوي على طبقات متعددة من المعاني، مما كان يجعل التواصل صعبا بين الناس. فهم نعم يتحدثون اللغة نفسها لكن بدلالات مختلفة حد التضارب. ومن ثم كانت ضرورة المعاجم المتخصصة، لكي يتمكن الباحث من الحصول على مفاتيح تسمح له باقتحام العلوم. وهذا ما فعله الخوارزمي الكاتب، بجمعه للمصطلحات الرائجة آنذاك، في كل صنوف المعارف، سواء في العلوم الشرعية أو ما سماه علوم العجم.



قانون الآثار الإسرائيلي الجديد «يهوّد» الضفة الغربية

قانون الآثار الإسرائيلي الجديد «يهوّد» الضفة الغربية
TT

قانون الآثار الإسرائيلي الجديد «يهوّد» الضفة الغربية

قانون الآثار الإسرائيلي الجديد «يهوّد» الضفة الغربية

كانت الأراضي الفلسطينية طوال آلاف السنين مقراً وممراً للعديد من الحضارات العريقة التي تركت وراءها آلاف المواقع الأثريّة ذات الأهميّة الفائقة، ليس في تاريخ المنطقة فحسب، بل ومُجمل التجربة البشرية. وقد أصبحت المواقع بمحض القوة بعد قيام الدولة العبرية عام 1948 خاضعة لسلطة دائرة الآثار الإسرائيلية، التي لا تدخر وسعاً في السعي لتلفيق تاريخ عبراني لهذه البلاد، وإخفاء ما من شأنه أن يتعارض مع سرديات الحركة الاستعماريّة الصهيونيّة عنها.

على أن أراضي الضفة الغربيّة التي احتُلَتْ عام 1967 وتحتوى على ما لا يَقِلُّ عن 6 آلاف موقع أثَري ظلّت قانونياً خارج اختصاص دائرة الآثار الإسرائيلية، بينما تمّ بعد اتفاق أوسلو بين الدولة العبريّة ومنظمة التحرير الفلسطينية في 1995 تقاسم المنطقة لناحية اللقى والحفريات بشكل عشوائيّ بين السلطة الفلسطينية ووحدة الآثار في الإدارة المدنية الإسرائيلية، وفق تقسيمات الأراضي الثلاث المعتمدة للحكم والأمن (أ- سلطة فلسطينية، باء: سيطرة مدنية فلسطينية وسيطرة أمنية مشتركة مع الجانب الإسرائيلي، ج: سيطرة إسرائيلية تامة).

ويبدو أن غلبة التيار اليميني المتطرّف على السلطة في الدّولة العبريّة تدفع الآن باتجاه تعديل قانون الآثار الإسرائيلي لعام 1978 وقانون سلطة الآثار لعام 1989 بغرض تمديد صلاحية سلطة الآثار لتشمل مجمل الأراضي الفلسطينية المحتلّة عام 1967، بينما سيكون، حال إقراره، انتهاكاً سافراً للقانون الدّولي الذي يحظر على سلطات الاحتلال القيام بأنشطة تتعلق بالآثار ما لم تتعلق بشكل مباشر باحتياجات السكان المحليين (في هذه الحالة السكان الفلسطينيين).

ولحظت مصادر في الأرض الفلسطينية المحتلّة بأن الأوضاع الأمنيّة في الضفة الغربيّة تدهورت بشكل ملحوظ منذ بدء الحرب على غزة في أكتوبر (تشرين الأول) من العام 2023، وكثّفت السلطات الإسرائيليّة من توسعها الاستيطاني بشكل غير مسبوق منذ ثلاثة عقود، ورفعت من وتيرة هجماتها على بؤر المقاومة، وأطلقت يد المستوطنين اليهود كي يعيثوا فساداً في القرى والبلدات العربيّة تسبب بهجرة آلاف الفلسطينيين من بيوتهم، مما يشير إلى تكامل الجهد العسكري والاستيطاني مع التعديلات القانونية المزمعة لتحضير الأرضية المناسبة لتنفيذ النيات المبيتة بتهويد مجمل أراضي فلسطين التاريخيّة.

ويأتي مشروع القانون الذي قدمه عضو الكنيست عن حزب الليكود اليميني أميت هاليفي، في أعقاب حملة استمرت خمس سنوات من قبل رؤساء المجالس الإقليمية للمستوطنين ومنظمات مثل «حراس الخلود» المتخصصة في الحفاظ على ما يزعم بأنه تراث يهودي من انتهاكات مزعومة على أيدي العرب الفلسطينيين. وتردد الحملة أكاذيب مفادها أن ثمة مواقع في الضفة الغربية لها أهمية أساسية بالنسبة إلى ما أسمته «التراث اليهودي»، وخلقت انطباعاً بوجود «حالة طوارئ أثرية» تستدعي تدخل الدّولة لمنع الفلسطينيين من «نهب وتدمير آثار المواقع اليهودية ومحاولاتهم المتعمدة لإنكار الجذور اليهودية في الأرض» – على حد تعبيرهم.

وكانت اللجنة التشريعية الحكوميّة قد وافقت على التعديل المقترح لقانون الآثار، وأرسلته للكنيست الإسرائيلي (البرلمان) لمراجعته من قبل لجنة التعليم والثقافة والرياضة التي عقدت اجتماعها في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، وذلك تحضيراً لعرضه بالقراءة الأولى و«التصويت» في الكنيست بكامل هيئته خلال وقت قريب.

وبينما اكتفت السلطة الفلسطينية والدول العربيّة بالصمت في مواجهة هذه الاندفاعة لتعديل القانون، حذرّت جهات إسرائيلية عدة من خطورة تسييس علم الآثار في سياق الصراع الصهيوني الفلسطيني، واعتبرت منظمة «إيميك شافيه» غير الحكومية على لسان رئيسها التنفيذي ألون عراد أن «تطبيق قانون إسرائيلي على أراضي الضفة الغربية المحتلة يرقى إلى مستوى الضم الرسمي»، وحذَّر في حديث صحافيّ من «عواقب، ومزيد من العزل لمجتمع علماء الآثار الإسرائيليين في حالة فرض عقوبات دوليّة عليهم بسبب تعديل القانون»، كما أكدت جمعيّة الآثار الإسرائيليّة أنها تعارض مشروع القانون «لأن غايته ليست النهوض بعلم الآثار، بل لتعزيز أجندة سياسية، وقد يتسبب ذلك في ضرر كبير لممارسة علم الآثار في إسرائيل بسبب التجاوز على القانون الدولي المتعلق بالأنشطة الأثرية في الضفة الغربية»، ولا سيّما قرار محكمة العدل الدولية في التاسع عشر من يوليو (تموز) الماضي، الذي جدَّد التأكيد على أن وجود إسرائيل في الأراضي الفلسطينية المحتلة برمته غير قانوني، وطالب الدّولة العبريّة بـ«إزالة مستوطناتها في الضفة الغربية والقدس الشرقية في أقرب وقت ممكن»، وألزمت سلطة الاحتلال بتقديم تعويضات كاملة للفلسطينيين بما في ذلك إعادة «جميع الممتلكات الثقافية والأصول المأخوذة من الفلسطينيين ومؤسساتهم».

وتشير الخبرة التاريخيّة مع سلطة الآثار الإسرائيلية إلى أن الحكومة تقوم لدى إعلان السلطة منطقة ما موقعاً تاريخيّاً بفرض حماية عسكريّة عليها، مما قد يتطلّب إخلاء السكان أو فرض قيود على تحركاتهم وإقامة بنية تحتية أمنية لدعم الحفريات، وتمنع تالياً الفلسطينيين أصحاب الأرض من تطويرها لأي استخدام آخر، الأمر الذي يعني في النهاية منع التنمية عنها، وتهجير سكانها وتهويدها لمصلحة الكيان العبريّ، لا سيّما وأن الضفة الغربيّة تحديداً تضم آلاف المواقع المسجلة، مما يجعل كل تلك الأراضي بمثابة موقع أثري ضخم مستهدف.

وتبرر الحكومة الإسرائيلية الحاليّة دعمها مشروع القانون للجهات الأُممية عبر تبني ادعاءات منظمات ومجالس مستوطني الضفة الغربيّة بأن الفلسطينيين يضرون بالمواقع ويفتقرون إلى الوسائل التقنية والكوادر اللازمة للحفاظ عليها، هذا في وقت قامت به قوات الجيش الإسرائيلي بتدمير مئات المواقع الأثريّة في قطاع غزة الفلسطيني المحتل عبر استهدافها مباشرة، مما يعني فقدانها إلى الأبد.

لن يمكن بالطبع للفلسطينيين وحدهم التصدي لهذا التغوّل على الآثار في فلسطين، مما يفرض على وزارات الثقافة ودوائر الآثار والجامعات في العالم العربيّ وكل الجهات الأممية المعنية بالحفاظ على التراث الإنساني ضرورة التدخل وفرض الضغوط للحيلولة دون تعديل الوضع القانوني للأراضي المحتلة بأي شكل، ومنع تهويد تراث هذا البلد المغرِق في عراقته.