زهور العالم تلتقي في معرض قصر «هامبتون كورت» السنوي

حدائق تروي ألغاز الحضارات.. وأخرى تحاكي قضايا الهجرة والحرب

زهور العالم تلتقي في معرض قصر «هامبتون كورت» السنوي
TT

زهور العالم تلتقي في معرض قصر «هامبتون كورت» السنوي

زهور العالم تلتقي في معرض قصر «هامبتون كورت» السنوي

لا يتهيأ للمرء عند حضور معرض للزهور في ريتشموند، إحدى ضواحي لندن ذات الطابع «الإنجليزي» البحت، أن تتعدى هذه الزيارة عن بضعة مناظر خلابة ومجموعة زهور بريطانية زاهية وفرصة للاستمتاع بطبيعة نهر «التيمز» بعيدا عن زحمة وسط المدينة، وقد يكون هذا هو الاعتقاد السائد عن معرض قصر «هامبتون كورت» السنوي للزهور الذي يقام في حديقة القصر في يوليو (تموز)، لكن تجربة زيارة هذا المعرض تفوق التوقعات، ففي حديقة قصر بريطاني عريق، اختارت زهور من كل بقاع الأرض أن تلتقي ليمثل بعضها تنوع الثقافات والحضارات الغنية، ويحاكي البعض الآخر منها أهم القضايا العالمية الإنسانية والاجتماعية وحتى السياسية. وافتتح المعرض أبوابه يوم أمس بوعود أن يبهر أكثر من 140 ألف زائر على مدار خمسة أيام بأكثر من 40 حديقة و500 قطعة بستنة فنية من حول العالم. وأتيح لـ«الشرق الأوسط» استكشاف خفايا أكبر معرض زهور في العالم قبل يوم من افتتاحه للزوار.

* يعد معرض قصر «هامبتون كورت» للزهور الأكبر في العالم وينظمه مجتمع البستنة الملكي في يوليو (تموز) كل عام بالتعاون مع إدارة القصر الواقع جنوب غربي العاصمة لندن. ويعتبر هذا الحدث الصيفي ثاني أهم معرض للبستنة بعد معرض «تشيلسي» للزهور، لكنه يطل على زواره بطابع مختلف تماما؛ إذ تتحول الأرض الخضراء المحيطة بالقصر إلى مساحة شاسعة لرسم لوحات بألوان عالمية وبمعان تتعدى جماليات الزهور. وكان قصر «هامبتون كورت» قد استضاف هذا المعرض عام 1993 للمرة الأولى.
ويقع قصر «هامبتون كورت» الملكي على ضفاف نهر التيمز في منطقة ريتشموند جنوب غربي لندن. بني القصر في الأساس للكاردينال توماس وولسي المقرب من الملك هنري الثامن ملك إنجلترا في القرن السادس عشر، وفي عام 1529 بعد أن فقد وولسي حظوته عند الملك، استحوذ الملك على القصر وقام بتوسعته. وفي القرن التالي، بدأ الملك ويليام الثالث مشروعًا ضخمًا لإعادة بناء وتوسعة القصر، لينافس قصر فيرساي الفرنسي، وتوقف العمل في عام 1694، ليترك في القصر نوعين متناقضين من الطراز المعماري، دمج فيهما الحقبة التيودورية والباروكية، وقد سكنته العائلة المالكة منذ القرن الثامن عشر.
وأضحى القصر اليوم معلما إنجليزيا عريقا مفتوحا للزوار، وبات يجذب السياح من شتى بقاع الأرض، ويتولى إدارته والاعتناء به مؤسسة القصور الملكية التاريخية، التي لا تتلقى أي تمويل من الحكومة أو العرش، ويعد هذا القصر وقصر سانت جيمس القصرين الوحيدين الباقيين من القصور الكثيرة التي امتلكها الملك هنري الثامن.
ووفقا لإحصاءات زودها موقع معرض الزهور الإلكتروني الرسمي، يقام معرض هذا العام على مساحة نحو 34 فدانا، ويستغرق نصب حدائقه ومعروضاته نحو عشرين يوما، ويحضره على مدار أيامه الخمسة 140 ألف شخص سنويا لاستكشاف أكثر من 40 حديقة (العدد الأكبر في تاريخ المعرض) ونحو 500 معروضة من حول العالم.

الحدائق العالمية بين لغز «الإنكا» وشاعرية «غاليسيا»

* على رغم تعدد وتميز جميع الحدائق العالمية في معرض هذا العام كحدائق حلت من الولايات المتحدة الأميركية وحديقة النورمادي من فرنسا، فإن الحديقتين الأكثر بروزا وانفرادا هما حديقة «الإنكا» من البيرو وحديقة «غاليسيا» الإسبانية.
استلهمت الحديقة من بيرو طرازها من حضارة «الإنكا» التاريخية ومرتفعات «ماتشو بيتشو»؛ الحديقة الواسعة التي تدمج بين الطبيعة اللاتينية والمرتفعات الصخرية والشلالات حازت على الميدالية الفضية لهذا العام. مساحتها الواسعة تتيح للزوار التجول داخلها لخوض مغامرة استكشافية تشعرهم كأنهم سافروا إلى أميركا اللاتينية في مطلع القرن العشرين لحل لغز قلعة ماتشو بيتشو المفقودة. النباتات الاستوائية كالكينوا والبطاطا وغيرها لم تغب عن هذه الحديقة أيضا.
حديقة «الطريق إلى كاميليا» حلت برونق حالم ورومانسي على المعرض، يجذب ممر حدده الصدف الوردي الزوار إلى قلب الحديقة؛ حيث يقبع تمثال تاريخي ساحر. تمثل الحديقة التي حلت من منطقة «غاليسيا» الإسبانية طريق القوافل المتجهة إلى مدينة سانتياغو دي كومبوستيلا الساحرة لاستكشافها، وحازت هذه الحديقة المتألقة أيضا على ميدالية فضية.

من كل روض زهرة

* جرى توزيع حدائق هذا العام التي يبلغ عددها 42 حديقة على سبع فئات مختلفة، وهي الحدائق المثالية ذات المزروعات والشجيرات المقلمة بإتقان تام، والحدائق العالمية التي حلت كزائرة من عدة دول لتكشف جمال حضاراتها وثقافاتها. يذكر أن الأردن شاركت في هذه الفئة في دورة عام 2012 بحديقة مستلهمة من الطبيعة الأردنية وتنوعها واختلافها حول المملكة من نهر الأردن إلى المنطقة التي تعانق المدينة الوردية (البتراء)، أما الفئة الثالثة هي الحدائق المائية التي توظف المياه في تصميمها كالشلالات والبحيرات الاصطناعية، وتتضمن الفئتين الرابعة والخامسة الحدائق الصيفية والحدائق المناسبة للمدن المكتظة، وتعتبر الفئة السادسة فرصة للاحتفال بالذكرى الـ300 لمولد أحد أبرز فناني البستنة في العام «لانيسلوت براون» بتشييد حدائق مستلهمة من أعماله السابقة، ولكن بطابع عصري.
ويحتفل المعرض هذا العام بالذكرى العاشرة لإطلاق الفئة السابعة التي يتميز بها «هامبتون كورت» عن غيره. فئة الحدائق الخارجة عن المألوف التي يوظفها فنانو البستنة لمخاطبة مفاهيم عميقة، وفي هذه الفئة يتحول الزهر والعشب والنبات إلى مكملات لوحة فنية تحاكي قضية مجتمعية أو إنسانية أو حتى سياسية.

ورود على مد النظر

* بعيدا عن الحدائق الرئيسة والمعروضات الخارجية، نصبت خيمة بيضاء مهولة قد لا تبدو لافتة للنظر من الخارج، لكن من يدخلها ينتقل إلى حديقة ورود خيالية؛ ورود من جميع الألوان والأحجام والأنواع على مد النظر. البعض منها جرى تنسيقه ليصبح جزءًا من لوحات وقطع فنية فريدة، أما الآخر كتب له أن ينتظر الزوار شراءه واصطحابه لبيوتهم وحدائقهم لتزيينها، ومن المعلوم أن الوردة هي الزهرة المفضلة لدى الإنجليز، وتستخدم عبارة «الوردة الإنجليزية» للتغزل بالمرأة الإنجليزية الجميلة ذات البشرة البيضاء والملامح الرقيقة.

الفراشات تتباهى داخل القبة

* داخل قبة شفافة ضخمة، ترفرف أكثر من ألف فراشة أجنحتها الملونة ليشعر كل من يدخل هذه القبة بأنه في عالم العجائب والخرافات. ومن دون خجل، تتباهى بجمالها وتتنقل بين الزهور الاستوائية دون أن تهاب زوار القبة. وإن كنت محظوظا قد تحط على إصبعك إحدى الفراشات أو تقرر أخرى أن تدغدغ أنفك. وقد استورد القائمون على القبة هذه الفراشات النادرة من أميركا الجنوبية وإندونيسيا وماليزيا، ووفروا لها المناخ المناسب برفع الحرارة ودرجة الرطوبة داخل الصرح البلاستيكي. وتعيش هذه الفراشات ما بين 6 إلى 8 أسابيع، وذلك حسبما أكد مدير المهرجان ديف غرين لـ«الشرق الأوسط».

البساتين تروي قصص الهجرة والحروب

* كرس معرض «هامبتون كورت» حيزا ضمن مساحته الواسعة لمخاطبة القضايا العالمية الإنسانية والاجتماعية والسياسية منها؛ ففي هذه الفئة من الحدائق، كان غرض الأرض الخضراء أن تكون ورقة بيضاء يوثق عليها فنانو البستنة مواضيع مهمة، وتتحول الزهور في هذه الفئة إلى أجزاء مهمة في لوحة فنية هدفها نشر التوعية والإنسانية. وبهذا يتميز معرض «هامبتون كورت» عن غيره ليكون المعرض الأول من نوعه الذي أضاف معاني عميقة لمعروضات جذابة.
وشملت القطع الفنية حديقة تحذر من تداعيات التغير المناخي على البيئة وتوسطت الحديقة دوامة مائية أشبه بفوهة سوداء غامضة، وآخر توعوي عن الأبحاث التي توظف الأعشاب لإيجاد عقار للسرطان. كما تضمنت الفئة حديقة تحت اسم «صانع السلام» لشركة رافاج للتصميم، حازت على الميدالية البرونزية لهذا العام. اختار مصمموها توظيف ذخيرة الأسلحة (الرصاص) والرمل رمزًا لانعدام الحياة وسط الحروب والنزاعات الدائرة التي يشهدها العالم لتسليط الضوء على المجتمعات التي تعاني ذلك العنف الدموي، لكنهم اختاروا زرع زهور ونباتات حول «الدمار» يرمزون للأمل وجمال الحياة.
وللمرة الأولى في تاريخ معرض الزهور، حضرت قطعة فنية مثيرة للجدل ومشبعة بالمعاني السياسية والإنسانية؛ «أمن الحدود،» الحديقة الحائزة على الميدالية الذهبية للمصممين توم ماسي وجون وارد وبرعاية مفوضية شؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة تجسيد لمعاناة المهاجرين من لحظة هروبهم من النزاع الدائر في دولهم إلى رحلتهم المحفوفة بالمخاطر بقوارب الموت إلى أوروبا إلى المصاعب التي تجابههم عند الوصول من حدود مغلقة، ومستقبل مجهول، ومصاعب الاندماج.
ويشرح المصممان ماسي ووارد لـ«الشرق الأوسط» رموز القطعة الفنية بقولهم: «اخترنا بدء مسيرة الحديقة بحطام يحيط بخندق من المياه. الحطام يرمز للأوطان المنكوبة، والمياه هي مغامرة يخوضها اللاجئون في قوارب الموت». ويضيف المصممان: «وعند اجتياز الخندق يواجه المهاجرون بحدود مغلقة رمزنا لها بالأسلاك الشائكة التي تستخدم في المعرض للمرة الأولى، وتأتي أرض آمنة وسكينة مزينة بالزهور وراء الأسلاك، لمن استطاع اجتيازها». وأشار المصممون إلى أنهم حرصوا على استخدام زهور تنبت في البلاد المنكوبة وزرعوها في الأرض الآمنة لترمز إلى المهاجرين الذين انتهت فيهم الرحلة إلى بر الأمان واستطاعوا الاندماج في المجتمعات الأوروبية.
وهنا يؤكد المصممان أن الهدف الرئيس وراء هذه القطعة الفنية هو «نشر التوعية بين الزوار إلى معاناة اللاجئين وأهمية مد يد العون لهم وإدماجهم في المجتمع».



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)