نوح فيلدمان يثير قضية «الشريعة»

قراءة في {سقوط الدولة الإسلامية ونهوضها}

نوح فيلدمان يثير قضية «الشريعة»
TT

نوح فيلدمان يثير قضية «الشريعة»

نوح فيلدمان يثير قضية «الشريعة»

مثل كتاب نوح فيلدمان «سقوط وقيام الدولة الإسلامية»، (الصادر سنة 2014 عن الشبكة العربية للأبحاث والنشر)، واحدة من المحاولات العلمية الغربية البارزة التي حاولت مناقشة تفكك واستعادة الدولة لقوتها في الجغرافية السياسية الإسلامية. وتدور أطروحته المركزية حول النظام الديمقراطي الدستوري، وارتباط الشريعة بسيادة القانون، وما يطرحه ذلك من تحديات تتعلق ببناء نظام مؤسساتي يحدد شكل الدولة الإسلامية، ويضفي عليه طابعا ديمقراطيا متجددا تسود فيه العدالة، ويتجاوز الهيكل التنظيمي الموروث، الذي يمنح الأولوية لسلطة تنفيذية مستبدة. ويتجاوز اختلال التوازن القائم بين السلطة الرقابية والتشريعية التي مارسها العلماء؛ وكذلك سلطة الحاكم التي توسعت، وأضعفت تاريخيا قدرات النزعة الدستورية الإسلامية الرامية لخلق منظومة مؤسساتية للحكم السياسي قائم على الشريعة.
يمكن القول: إن محاولات البروفسور نوح فيلدمان، أستاذ القانون في جامعة هارفارد الأميركية، ومؤلف لكتب ودراسات متعددة حول قضايا الشرق الأوسط، تتحدد في سؤال «هل يمكن أن تنجح الدولة الإسلامية الجديدة؟». علما بأنه يستحضر دور الإرث السياسي وإلغاء الخلافة، وما استتبعه من فقدان «الشريعة سموها الرسمي، وتم تنزيل رتبة العلماء الذين كانوا حماة الشرع وعزلهم، وأعلنت الدولة الجديدة التي حلت محل القديمة انفصالها عن سابقتها» (ص 42) من جهة. ومن جهة ثانية، يستحضر تجربة المجتمع، الذي عاش في ظل دستور عرفي يتطور على الدوام منذ العصر الأموي، والعباسي، والعثماني؛ وصولا إلى تاريخنا المعاصر، الذي ظهرت فيه الحركات الإسلامية، التي ينادي بعضها بدستور الشريعة، في ظل الدولة القُطرية.
يرى الكاتب، أن هناك فشلاً واضحًا للعلمانية وتجربتها في الحكم عربيًا، سواء ارتبطت العَلمنة باشتراكية الدولة وقوميتها أو ليبراليتها طيلة القرن العشرين. ومع ذلك لم يخف الصراع بين التيارات السياسية الوطنية، وصراع هذه الأخيرة مع الاستعمار؛ الدعوة إلى الإسلام باعتباره حلا للمشكلات السياسية في العالم الإسلامي. بل إن تفاعلات مسار التاريخ السياسي للدولة العربية المعاصرة، زاد من حدة المطالب الشعبية الرامية لاستعادة نموذج مثالي للسلطة يطلق عليه «الخلافة الإسلامية».
لا يعود بنا فيلدمان، ليشرح بالتفصيل مضمون الأطروحات الدستورية التقليدية، والحديثة أو المعاصرة، بالقدر الذي اهتم بالنظرية العامة للنظام السياسي. وليس من الغريب أن نجده يهمل، أطروحات حديثة لها بالغ الأثر في واقع الفكر الدستوري الإسلامي المعاصر. فلا نجد أن أستاذ القانون بهارفارد، يستحضر وهو يحلل التوجهات الدستورية المعاصرة ما طرحه الكثير من المنظرين الإسلاميين من مثل أبي الأعلى المودودي، في كتابه «نظرية الإسلام وهديه في السياسة والقانون والدستور»، الذي شكل لفترة زمنية مهمة مرجعا نظريا لمحاولات الحركات السياسية الإسلامية لاستعادة المعنى والنموذج الإسلامي للدولة.
يميز المودودي بين الحاكمية القانونية والحاكمية السياسية، ويربط الأولى بحق الله في التشريع للمسلمين، بينما الثانية تخص تنفيذ الأحكام الربانية. فالدولة الإسلامية عند المودودي، دولة الحاكمية، و«الحاكمية بكل معنى من معانيها لله تعالى وحده، فإنه هو الحاكم الحقيقي في واقع الأمر»، (المودودي: نظرية الإسلام وهديه في السياسة والقانون والدستور، الدار السعودية، جدة، طبعة 1985، ص211). أما فيلدمان، بروفسور القانون، فإنه يسجل أن تطور التنظير السياسي الدستوري للإسلاميين، لا يستند إلى المنظومة التقليدية؛ بل يعمل على تجاوزها، وتجاوز استنادها إلى ركيزة العلماء، واعتبارهم الهيئة التشريعية والرقابة للحاكم. والإسلاميون كذلك لا يسعون لاستعادة النظام الشرعي الإسلامي القديم؛ بل إنهم من الناحية النظرية والعملية، انخرطوا في نظام الدولة الحديثة، التي جعلت من الدولة مؤسسة المؤسسات المتعددة، التي تشمل السلطة التنفيذية، والقضائية، والتشريعية، وجعل من موظفيها جزءا من منظومة مدنية للحكم السياسي.
وعلى الرغم من أن الإسلاميين يعظّمون العلماء، فإنهم لا يعتبرونهم عصب الدولة، أو مصدر السلطة، أو الرقابة، أو رجال مؤسسات الدولة المعاصرة. بل إن التوجه الجديد يعتمد سياسة تعوض العلماء بمدنيين في الوظائف العامة، ولا تترك للعلماء غير الدور الاستشاري في نظام الحكم. إن الإسلاميين يطرحون ويتبنون، في الواقع، دعوة مستجدة، تأسيسية لدولة إسلامية جديدة: «والنتيجة أن اقتراحهم الدستوري القائم على الشريعة لا يمثل الدستور الإسلامي الكلاسيكي، بل شيئا مختلفا جدا، إنها مجموعة جديدة من الترتيبات الدستورية المُؤَسلمة»، (سقوط الدولة ونهوضها، ص 143).
من جهة أخرى، يظهر فيلدمان بمظهر المحامي المدافع عن الإسلاميين، وهو ينتقد التصورات الغربية المغلوطة حول الخبرة والتصورات الدستورية الإسلامية. ويعتبر أن كتّاب وفلاسفة من أمثال منتسكيو وماكس فايبر وغيرهم، كرسوا هذا الخطأ الفكري؛ وبالتالي يصعب على الغرب اليوم تصور عودة مؤسساتية ودستورية ديمقراطية للدولة الإسلامية. كذلك، يصعب عليه إدراك حقيقة «صعود الدعم الشعبي للشريعة الإسلامية في العالم الإسلامي مرة أخرى، وتأثير ذلك في الغرب وفي الشرق».
ولهذا لجأ فيلدمان في الدفاع عن وجهة نظره، إلى المنهجية التحليلية لتجربة التاريخية الإصلاحية العثمانية، وعرضه للتغيير الدستوري الذي أدى إلى تعويض العلماء بأجهزة تشريعية وإدارية حديثة تدور في إطار الإنتاج الغربي. وهنا لم يعد النظام السياسي المقنن في حاجة إلى العلماء لاكتساب الشرعية. وفي الإطار نفسه، يؤكد صاحب الكتاب أن الترتيب الدستوري العثماني الجديد، لم يعلن الانفصال التام عن الشريعة والقيم السياسية الإسلامية التي ترتكز على العدالة والمساواة، وإن كان يدور أساسا في مجال الأحوال الشخصية.
وبناءً على استقراء الخبرة التاريخية الدستورية، فإن «الدولة الإسلامية الحديثة يمكنها تقديم العدالة القضائية والسياسية لمسلمي العصر الحديث، ولكن فقط إذا تم إنشاء مؤسسات جديدة تستعيد التوازن الدستوري بين القوى والسلطات». هذه الإمكانية لم تعد بعيدة المنال، وبخاصة أمام التوسع السوسيولوجي لظاهرة المطلب الشعبي بالعودة لقيم الشريعة الإسلامية. وهي ظاهرة تستحق في نظر فيلدمان طرح إشكالية جديدة من الناحية السياسية والدستورية، يمكن تلخيصها في السؤال التالي «لماذا يطالب الناس الآن بعودة الشريعة وينجذبون إليها رغم أن أجدادهم في العصر الحديث نبذوها ووصفوها بأنها أثر من الماضي السحيق؟».
لقد حاول نوح فيلدمان الإجابة في هذا الكتاب عن هذا السؤال، وتقديمه للفكر الغربي المعاصر الذي أصيب بتشوش تصوري تجاه قضايا الشريعة والسياسة في العالم العربي الإسلامي. ولذلك تعمد تذكير القارئ: «إن القوى الغربية تعتبرها (أي الشريعة) تهديدا للديمقراطية، في حين أن الحركات الإسلامية تكسب الانتخابات بسببها، ويستخدمها الإرهابيون لتبرير جرائمهم. فما هي الشريعة؟ ولماذا لها هذه الشعبية الجارفة بين المسلمين رغم الأحكام الجنائية القاسية فيها؟ وهل يمكن لدولة إسلامية أخرى أن تنجح؟ بل هل ينبغي لها أن تنجح؟».
لتجاوز هذا الإشكال، يحيل فيلدمان على الواقع العربي بعد الحراك في 2011، وعاد في المقدمة الطويلة لطبعة الكتاب سنة 2012 لتقديم مزيد من المؤشرات الدالة على تطور فكر الإسلاميين الدستوري والديمقراطي، معتبرا «الدعوة إلى الشريعة هي دعوة إلى سيادة القانون». ومن جانب ثان، فإن الحكومات العربية الديكتاتورية التي اتسمت بعدم توازن السلطة تواجه اضمحلالاً متزايدا. غير أن الكاتب يشير إلى جانب ثالث في يرتبط مركزيا بأطروحة الكتاب، ويتعلق «بالتحديات الدستورية التي يواجهها الديمقراطيون الإسلاميون عندما تسنح لهم الفرصة حقا لتحديد شكل الدولة الجديدة: تحديات إضفاء الطابع الديمقراطي والمؤسساتي على الشريعة يقوم اليوم إصلاحيون دستوريون في تونس ومصر بحله» (ص 35).
غير أن الأكاديمي الأميركي عاد وسجل ملاحظة صدقتها التجربة الراهنة لما بعد 2011، حيث قال: «إذا وصل الإسلاميون للحكم، لكنهم لم يتمكنوا من خلق مؤسسات توازن بين القوى واستعادة حكم القانون، فإننا جميعا (بما فينا الغرب) سنمر بفترة عصيبة». في الواقع سبق للكاتب في كتابه «ما بعد الجهاد» أن ناقش هذه القضية؛ إضافة إلى أن واقع توسع «داعش» بالعراق وسوريا، وتمددها في أفريقيا والغرب، وقدرتها على التجنيد، تلخص ما يرمي إليه فيلدمان حينما يدعو إلى خلق تواصل، بل ومساعدة الحركات الإسلامية الديمقراطية المعتدلة، على بناء نموذج دستوري ديمقراطي جديد، حتى ولو كان في ظل دولة إسلامية حديثة. لكنه في نهاية كتابه، يعود بنا لطرح سؤال مركزي يتعلق بما «إذا كان الإسلاميون، وهم في الحكم، قادرين فعلا على تحقيق سيادة القانون؟» كما يطرح مسألة لا تقل أهمية على أطروحة الكتاب المركزية، وترتبط بالمصداقية «فإذا كان الإسلاميون غير قادرين على توفير العدالة السياسية، سيجدون أنفسهم يفقدون مصداقيتهم مثل سابقيهم» (ص 179).
* اساذ العلوم السياسية جامعة محمد الخامس ـ الرباط



تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
TT

تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)

غداة الزيارة المريبة التي قام بها الوالي العثماني المنحول إردوغان إلى تونس، علا صوت الكثير من الأحزاب التونسية والاتحادات العامة للشغل وغيرها من جماعات المجتمع المدني بالرفض لأن تكون تونس ممراً أو مستقراً لنقل «الدواعش» من سوريا إلى ليبيا بواسطة تركيا عبر بلادهم».
المطالب المتقدمة تعني أمراً واحداً، وهو يقين الشرفاء والنبلاء من الشعب التونسي بأن بعض من نوايا إردوغان الحقيقية بالنسبة لليبيا موصول بإعادة إنتاج التنظيم الإرهابي الأشرس في العقود الأخيرة (داعش)، وربما في طبعة جديدة أسوأ مما شهده العالم في العراق وسوريا خلال النصف الثاني من العقد الماضي.
أسئلة كثيرة تطل برأسها من نافذة الأحداث المتسارعة عن أحوال «داعش» وعن الفوضى والارتباك اللذين تتسبب فيهما تركيا في ليبيا، وفي الوسط تسعى لنقل معركتها إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط، وإلى العمق الأفريقي لأهداف سنأتي على تفصيلها.
علامة الاستفهام الأولى في هذا الحديث: «ما هو وضع الدواعش في الوقت الحاضر في موطن النشوء الأول ومن حول بلاد الشام التاريخية؟».
الجواب نجده بالتفصيل والأرقام عند هارون ي زيلين، الباحث في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، وعنده أنه في عام 2019 قدر البنتاغون أن ما بين 14 و18 ألف من مقاتلي تنظيم «داعش» لا يزالون في العراق وسوريا، والتساؤل ما الذي يفعلونه هناك؟
بلا شك مواصلة العمل كتنظيم إرهابي متمرد يكرس أعضاؤه جل وقتهم لمحاولة تهريب السجناء، وربما إعادة السيطرة على الأراضي، ومن خلال حرب استنزاف يعتقدون أنهم سيرهقون أعداءهم، كما أنهم يستفيدون من أي مساحات لا تسيطر عليها الحكومة المركزية أو يلعبون على وتر خطوط الصدع السياسية أو العرقية أو الدينية آملين في استغلالها لصالحهم.
> هل لدى التنظيم حتى الساعة مقدرة مالية على إدارة شؤونه بنفسه والإنفاق على عملياته الإرهابية؟
ــــ من الواضح أن الدواعش لا يزالون قابضين على ثروة تقدر بنحو 300 مليون دولار، ووفقاً لتقرير صادر عن الأمم المتحدة في يوليو (تموز) 2019، فإن «داعش» استثمر مجدداً أمواله في أعمال مشروعة، وربما بأسماء وهمية لا علاقة لها بأعضائه الإرهابين، أي من خلال عناصر نائمة، وذلك عبر العقارات، ووكلاء السيارات، ويوجد عدد منها في تركيا وفقاً لوزارة الخزانة الأميركية التي صنفت أفراداً من تنظيم «داعش» وشركات تحويل وصرافة على لائحة الإرهاب.
> ماذا تعني تلك البيانات المتقدمة؟
ــــ باختصار غير مخل، تشير إلى أن التنظيم لا يزال باقياً وفاعلاً، وأن الأيادي التركية السوداء تقف وراءه في أقصى الشرق، وها هي تجد فرصة غير مسبوقة ليعبر المتوسط جهة الغرب ويحل برحاله في ليبيا.
لم ينس إردوغان للحظة واحدة أنه في الشرق من ليبيا، توجد مصر الكنانة التي أسقطت مشروعه في عام 2013؛ فقد خيل له أنه قد أضحى الخليفة الجديدة بعد سنوات الربيع المغشوش؛ ولهذا فإن ملامح وعلامات الانتقام من مصر لا تغيب عن ناظريه، وقد حاول كثيراً استخدام الطابور الخامس من الإخوان المسلمين في مصر في زعزعة استقرار المحروسة وأخفق؛ ولهذا فقد بدا واضحاً أن الرجل المقهور يود نقل معركته إلى الداخل المصري بالاقتراب الكبير والمؤثر والفاعل؛ الأمر الذي لا يغيب عن أعين صقور المؤسسة العسكرية المصرية التي تقف له بالمرصاد.
وجد إردوغان ضالته المنشودة في جماعة الوفاق المنحلة، التي هي مزيج من الإخوان المسلمين والدواعش و«القاعدة» والجماعات الإرهابية كافة الشاردة والواردة، ومن خلال عمليات لوجيستية تتضح ساعة بعد أخرى، يمضي في إحياء التنظيم القاتل وله في ذلك أيضاً مأربان، أحدهما جهة الشمال والآخر ناحية الجنوب...ماذا عن ذلك؟
أما الشمال، فالمقصود به أوروبا، حيث العداء التاريخي المستحكم من تركيا تجاه أوروبا، وإردوغان يشعر بالغدر والخيانة من جراء رفض الاتحاد الأوروبي قبوله تحت سقفه؛ ولهذا أطلق تصريحات ذات طبيعة دوجمائية أكثر من مرة، حاول بها تفعيل مشاعر ديماجوجية في وسط الأتراك ليكتسب شعبية، رغم أن الأمر ارتد عليه مؤخراً بالسلب.
يسعى إردوغان من تأصيل وجود «الدواعش» على الشاطئ المتوسطي المواجه لأوروبا إلى استخدام الإرهاب الأصولي كأحدى أوراق نفوذه ضد ألمانيا، وفرنسا، وإيطاليا، والبرتغال، وقبلهما اليونان وقبرص، وهو أمر ليس بجديد عليه، فقد صرح قبل فترة بأنه قادر على فتح بوابات الوصول إلى أوروبا أمام اللاجئين والدواعش لإغراق أوروبا، وربما إحراقها بنيران الدواعش ومن لفّ لفّهم.
إردوغان أيضاً له مأرب آخر يتصل بعمق القارة الأفريقية، وهو يدرك أن ما فقده من أوهام الخلافة في الشرق الأوسط، ربما يجد له صدى في وسط أفريقيا، حيث يغيب الأمن كثيراً عن بعض الدول من جهة، ولا سيما المفككة اجتماعياً، وحيث تنتشر جماعات الإرهاب المشابهة من «حركة الشباب» و«بوكو حرام» وما شابه، وغالبيتها قد أعلنت ولاءها وانضواءها تحت راية تنظيم «داعش» الإرهابية وليس الإسلامية قبل نحو عامين.
والشاهد، أن إردوغان لا ينشئ فرعاً جديداً لـ«داعش» في ليبيا، وإنما يسعى لإيقاظ المؤتلفة قلوبهم، إن جاز التعبير، أولئك الذين هم دواعش في الباطن وإن أبدوا خلاف ذلك في العلن، والمعروف أن الأرضية الأصولية الإخوانية في ليبيا كانت قد انتهزت فرصة الإطاحة بمعمر القذافي عام 2011، حيث أقام المقاتلون مثل سوريا والعراق حكماً دينياً، غير أنه وفي عام 2016 استطاعت قوات الحكومة ومقاتلون من مصراتة بدعم من القوات الأميركية الخاصة وطائرات «إف 16» إخراج مقاتلي التنظيم من سرت في ديسمبر (كانون الأول) 2016.
في ذلك الهجوم قُتلت أعداد كبيرة من المتشددين، في حين هرب البقية إلى الجنوب بحثاً عن ملاجئ آمنة، وأقاموا معسكرات تدريب استخدموها للسطو على شاحنات النفط، وحصلوا على موارد من خلال التهريب، وهرب بعضهم إلى النيجر، حيث انضموا إلى فرع التنظيم هناك. ورغم عددهم القليل فإنهم استمروا في هجماتهم السريعة.
مؤخراً، وحتى قبل التدخل الإردوغاني المسموم، بدأ القلق يتزايد في سرت مرة أخرى، حيث تم اعتقال عشرة أشخاص يشتبه بتعاطفهم مع التنظيم، منهم مهندسة عثر على جهاز لاسلكي في بيتها، كما قبض على رجل قابل أعضاء في «خلية نائمة»، وأقاموا حاجز تفتيش خارج المدينة لإظهار أنهم لا يزالون فيها.
> هل بدأت مرحلة إحياء «داعش» ليبيا بشكل رسمي الأيام الأخيرة وبدعم علني من تركيا لا يواري ولا يداري أهدافه الآثمة؟
ــــ من الواضح أن ذلك كذلك، ولا سيما في ضوء ما رصده «المرصد السوري لحقوق الإنسان» في سوريا، والذي أشار قبل أيام إلى أن الفصائل السورية الموالية لتركيا قد افتتحت هناك مراكز تسجيل أسماء الأشخاص الراغبين بالذهاب للقتال في ليبيا.
> هل بدأ الحشد «الداعشي» التركي طريقه إلى ليبيا بالفعل؟
ــــ الشاهد، أنه، ومن أسف، قد بدأ عشرات الأشخاص يقصدون تلك المراكز للالتحاق بالمعارك في ليبيا للعمل تحت الحماية التركية هناك، كما نقلت مصادر محلية قولها إن الفصائل الموالية لتركيا تشجع الشباب على الالتحاق بالحرب الليبية، وتقدم مغريات ورواتب مجزية تراوح بين 1800 و2000 دولار أميركي لكل مسلح شهرياً، علاوة عل تقديم خدمات إضافية تتكفل بها الدولة المضيفة.
ولعل الذين تابعوا الأسبوع الماضي تصريحات المتحدث باسم الجيش الوطني الليبي اللواء أحمد المسماري قد وقر لديهم أن عجلة إحياء تنظيم «داعش» في ليبيا قد دارت بالفعل، وذلك من خلال الأصابع المشبوهة للمخابرات التركية التي تقوم بنقل عناصر التنظيم، عطفاً على القادمين والمنتمين الجدد والذين هم في غالبيتهم مرتزقة ومؤدلجون أصوليون، والنوعان معاً، ولا سيما من أعضاء «جبهة النصرة» من سوريا إلى ليبيا عبر مطار جربة في تونس، الأمر الذي يعود بنا إلى الحديث عن تونس مرة جديدة، ويربط بينها وبين ما يجري في ليبيا.
> هل تعرّض التونسيون إلى خدعة كبرى في اختيارهم الأخير؟
ــــ مهما يكن من أمر ساكن القصر الرئاسي، إلا أن المؤكد أن حزب «النهضة التونسي» ليس إلا وجهاً آخر من أوجه الإخوان المسلمين في تونس، وهو أحد فروع التنظيم الدولي لـ«الإخوان» المسلمين المنتشر حول العالم، يأتمر بأمرهم، ويتوجه كيفما يعنّ لبوصلتهم.
هنا يصبح من الحقيقي التسليم بالمعلومات التي رصدها الجيش الليبي من استخدام مطارات تونس لغرض إنشاء «داعش» جديدة على الأراضي الليبية، ومنها مطار جربة، حيث تم إنزال مجموعات إرهابية في تونس، وتم نقلهم إلى ليبيا عن طريق الجبل الغربي، ومطار مصراتة وزواره، ومعتيقة تحديداً التي استقبلت أعداداً كبيرة من «جبهة النصرة» وتنظيم «داعش».
في هذا السياق، يبقى من الطبيعي أن تنهض آمال «الدواعش» في تونس في الفترة المقبلة، أولئك الذين سيصبحون الجسر الواصل بين تونس وليبيا؛ الأمر الذي حذر منه البرلمان التونسي السابق قبل عودة النهضة الكارثية مرة أخرى، لكن في ظل السيطرة الإخوانية التونسية الأخيرة يكاد يكون الأمل سراباً في إعادة ضبط وتموضع «الدواعش» التونسيين.
حين نشير إلى أن دواعش ليبيا قد بدأوا مرحلة مغاير آخذة في التصاعد الإرهابي المؤلم، فإننا لا نرجم بالغيب، بل من خلال أدلة ليس آخرها الفيديو الذي أذاعوه نهار الخامس من ديسمبر 2019، وفيه ذبح لمواطنين ليبيين بينهم موظفون حكوميون سقطوا أسرى في أيدي التنظيم، ومشاهد بشعة لعمليات إعدام جماعية بالرصاص، في منطقة الفقهاء جنوب ليبيا.
الفيديو بثته وكالة «أعماق» التابعة لتنظيم «داعش» حمل اسم «وأخرجوهم من حيث أخرجوكم»، استمر نحو 31 دقيقة وأظهر معاملة مشينة من عناصر التنظيم للأسرى الذين وقع اختطافهم، أو المواطنين الذين تم اعتقالهم خلال عملياته الإرهابية على بلدة الفقهاء، حيث وثقت مقاطع عملية إعدام جماعية لأشخاص مكبلين رمياً بالرصاص على رؤوسهم.
الأسئلة الجوهرية في هذا السياق، هل ستبقى أوروبا مكتوفة الأيدي أمام تركيا وهي تعيد سيرة حروب القرون الوسطى من جديد، وهل ستكتفي بدور المشاهد بعد أن أسقطت نظام القذافي ولم يكن لها خطة لليوم التالي؟
ثم فيما يخص أميركا، لماذا يتسم موقفها بالميوعة السياسية، وهل يخشى إردوغان من التورط في الأزمة الليبية عسكرياً وهو في عام الانتخابات ولديه من الإشكاليات الداخلية ما يكفي؟
ألا تعد خطط إردوغان نوعاً من تهديد السلم العالمي، الأمر الذي يستوجب التنادي إلى البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة الخاص بالاتحاد من أجل السلم قبل أن يستفحل الضرر ويتحول المشهد إلى حرب إقليمية؟
ثم ما هو الدور الروسي في ليبيا وهي التي تسعى لاستعادة نفوذها هناك، وهل سيقدر لها قطع الطريق على الآغا العثمانلي بطريق مشابهة لما فعلته مع الدواعش في سوريا؟