نوح فيلدمان يثير قضية «الشريعة»

قراءة في {سقوط الدولة الإسلامية ونهوضها}

نوح فيلدمان يثير قضية «الشريعة»
TT

نوح فيلدمان يثير قضية «الشريعة»

نوح فيلدمان يثير قضية «الشريعة»

مثل كتاب نوح فيلدمان «سقوط وقيام الدولة الإسلامية»، (الصادر سنة 2014 عن الشبكة العربية للأبحاث والنشر)، واحدة من المحاولات العلمية الغربية البارزة التي حاولت مناقشة تفكك واستعادة الدولة لقوتها في الجغرافية السياسية الإسلامية. وتدور أطروحته المركزية حول النظام الديمقراطي الدستوري، وارتباط الشريعة بسيادة القانون، وما يطرحه ذلك من تحديات تتعلق ببناء نظام مؤسساتي يحدد شكل الدولة الإسلامية، ويضفي عليه طابعا ديمقراطيا متجددا تسود فيه العدالة، ويتجاوز الهيكل التنظيمي الموروث، الذي يمنح الأولوية لسلطة تنفيذية مستبدة. ويتجاوز اختلال التوازن القائم بين السلطة الرقابية والتشريعية التي مارسها العلماء؛ وكذلك سلطة الحاكم التي توسعت، وأضعفت تاريخيا قدرات النزعة الدستورية الإسلامية الرامية لخلق منظومة مؤسساتية للحكم السياسي قائم على الشريعة.
يمكن القول: إن محاولات البروفسور نوح فيلدمان، أستاذ القانون في جامعة هارفارد الأميركية، ومؤلف لكتب ودراسات متعددة حول قضايا الشرق الأوسط، تتحدد في سؤال «هل يمكن أن تنجح الدولة الإسلامية الجديدة؟». علما بأنه يستحضر دور الإرث السياسي وإلغاء الخلافة، وما استتبعه من فقدان «الشريعة سموها الرسمي، وتم تنزيل رتبة العلماء الذين كانوا حماة الشرع وعزلهم، وأعلنت الدولة الجديدة التي حلت محل القديمة انفصالها عن سابقتها» (ص 42) من جهة. ومن جهة ثانية، يستحضر تجربة المجتمع، الذي عاش في ظل دستور عرفي يتطور على الدوام منذ العصر الأموي، والعباسي، والعثماني؛ وصولا إلى تاريخنا المعاصر، الذي ظهرت فيه الحركات الإسلامية، التي ينادي بعضها بدستور الشريعة، في ظل الدولة القُطرية.
يرى الكاتب، أن هناك فشلاً واضحًا للعلمانية وتجربتها في الحكم عربيًا، سواء ارتبطت العَلمنة باشتراكية الدولة وقوميتها أو ليبراليتها طيلة القرن العشرين. ومع ذلك لم يخف الصراع بين التيارات السياسية الوطنية، وصراع هذه الأخيرة مع الاستعمار؛ الدعوة إلى الإسلام باعتباره حلا للمشكلات السياسية في العالم الإسلامي. بل إن تفاعلات مسار التاريخ السياسي للدولة العربية المعاصرة، زاد من حدة المطالب الشعبية الرامية لاستعادة نموذج مثالي للسلطة يطلق عليه «الخلافة الإسلامية».
لا يعود بنا فيلدمان، ليشرح بالتفصيل مضمون الأطروحات الدستورية التقليدية، والحديثة أو المعاصرة، بالقدر الذي اهتم بالنظرية العامة للنظام السياسي. وليس من الغريب أن نجده يهمل، أطروحات حديثة لها بالغ الأثر في واقع الفكر الدستوري الإسلامي المعاصر. فلا نجد أن أستاذ القانون بهارفارد، يستحضر وهو يحلل التوجهات الدستورية المعاصرة ما طرحه الكثير من المنظرين الإسلاميين من مثل أبي الأعلى المودودي، في كتابه «نظرية الإسلام وهديه في السياسة والقانون والدستور»، الذي شكل لفترة زمنية مهمة مرجعا نظريا لمحاولات الحركات السياسية الإسلامية لاستعادة المعنى والنموذج الإسلامي للدولة.
يميز المودودي بين الحاكمية القانونية والحاكمية السياسية، ويربط الأولى بحق الله في التشريع للمسلمين، بينما الثانية تخص تنفيذ الأحكام الربانية. فالدولة الإسلامية عند المودودي، دولة الحاكمية، و«الحاكمية بكل معنى من معانيها لله تعالى وحده، فإنه هو الحاكم الحقيقي في واقع الأمر»، (المودودي: نظرية الإسلام وهديه في السياسة والقانون والدستور، الدار السعودية، جدة، طبعة 1985، ص211). أما فيلدمان، بروفسور القانون، فإنه يسجل أن تطور التنظير السياسي الدستوري للإسلاميين، لا يستند إلى المنظومة التقليدية؛ بل يعمل على تجاوزها، وتجاوز استنادها إلى ركيزة العلماء، واعتبارهم الهيئة التشريعية والرقابة للحاكم. والإسلاميون كذلك لا يسعون لاستعادة النظام الشرعي الإسلامي القديم؛ بل إنهم من الناحية النظرية والعملية، انخرطوا في نظام الدولة الحديثة، التي جعلت من الدولة مؤسسة المؤسسات المتعددة، التي تشمل السلطة التنفيذية، والقضائية، والتشريعية، وجعل من موظفيها جزءا من منظومة مدنية للحكم السياسي.
وعلى الرغم من أن الإسلاميين يعظّمون العلماء، فإنهم لا يعتبرونهم عصب الدولة، أو مصدر السلطة، أو الرقابة، أو رجال مؤسسات الدولة المعاصرة. بل إن التوجه الجديد يعتمد سياسة تعوض العلماء بمدنيين في الوظائف العامة، ولا تترك للعلماء غير الدور الاستشاري في نظام الحكم. إن الإسلاميين يطرحون ويتبنون، في الواقع، دعوة مستجدة، تأسيسية لدولة إسلامية جديدة: «والنتيجة أن اقتراحهم الدستوري القائم على الشريعة لا يمثل الدستور الإسلامي الكلاسيكي، بل شيئا مختلفا جدا، إنها مجموعة جديدة من الترتيبات الدستورية المُؤَسلمة»، (سقوط الدولة ونهوضها، ص 143).
من جهة أخرى، يظهر فيلدمان بمظهر المحامي المدافع عن الإسلاميين، وهو ينتقد التصورات الغربية المغلوطة حول الخبرة والتصورات الدستورية الإسلامية. ويعتبر أن كتّاب وفلاسفة من أمثال منتسكيو وماكس فايبر وغيرهم، كرسوا هذا الخطأ الفكري؛ وبالتالي يصعب على الغرب اليوم تصور عودة مؤسساتية ودستورية ديمقراطية للدولة الإسلامية. كذلك، يصعب عليه إدراك حقيقة «صعود الدعم الشعبي للشريعة الإسلامية في العالم الإسلامي مرة أخرى، وتأثير ذلك في الغرب وفي الشرق».
ولهذا لجأ فيلدمان في الدفاع عن وجهة نظره، إلى المنهجية التحليلية لتجربة التاريخية الإصلاحية العثمانية، وعرضه للتغيير الدستوري الذي أدى إلى تعويض العلماء بأجهزة تشريعية وإدارية حديثة تدور في إطار الإنتاج الغربي. وهنا لم يعد النظام السياسي المقنن في حاجة إلى العلماء لاكتساب الشرعية. وفي الإطار نفسه، يؤكد صاحب الكتاب أن الترتيب الدستوري العثماني الجديد، لم يعلن الانفصال التام عن الشريعة والقيم السياسية الإسلامية التي ترتكز على العدالة والمساواة، وإن كان يدور أساسا في مجال الأحوال الشخصية.
وبناءً على استقراء الخبرة التاريخية الدستورية، فإن «الدولة الإسلامية الحديثة يمكنها تقديم العدالة القضائية والسياسية لمسلمي العصر الحديث، ولكن فقط إذا تم إنشاء مؤسسات جديدة تستعيد التوازن الدستوري بين القوى والسلطات». هذه الإمكانية لم تعد بعيدة المنال، وبخاصة أمام التوسع السوسيولوجي لظاهرة المطلب الشعبي بالعودة لقيم الشريعة الإسلامية. وهي ظاهرة تستحق في نظر فيلدمان طرح إشكالية جديدة من الناحية السياسية والدستورية، يمكن تلخيصها في السؤال التالي «لماذا يطالب الناس الآن بعودة الشريعة وينجذبون إليها رغم أن أجدادهم في العصر الحديث نبذوها ووصفوها بأنها أثر من الماضي السحيق؟».
لقد حاول نوح فيلدمان الإجابة في هذا الكتاب عن هذا السؤال، وتقديمه للفكر الغربي المعاصر الذي أصيب بتشوش تصوري تجاه قضايا الشريعة والسياسة في العالم العربي الإسلامي. ولذلك تعمد تذكير القارئ: «إن القوى الغربية تعتبرها (أي الشريعة) تهديدا للديمقراطية، في حين أن الحركات الإسلامية تكسب الانتخابات بسببها، ويستخدمها الإرهابيون لتبرير جرائمهم. فما هي الشريعة؟ ولماذا لها هذه الشعبية الجارفة بين المسلمين رغم الأحكام الجنائية القاسية فيها؟ وهل يمكن لدولة إسلامية أخرى أن تنجح؟ بل هل ينبغي لها أن تنجح؟».
لتجاوز هذا الإشكال، يحيل فيلدمان على الواقع العربي بعد الحراك في 2011، وعاد في المقدمة الطويلة لطبعة الكتاب سنة 2012 لتقديم مزيد من المؤشرات الدالة على تطور فكر الإسلاميين الدستوري والديمقراطي، معتبرا «الدعوة إلى الشريعة هي دعوة إلى سيادة القانون». ومن جانب ثان، فإن الحكومات العربية الديكتاتورية التي اتسمت بعدم توازن السلطة تواجه اضمحلالاً متزايدا. غير أن الكاتب يشير إلى جانب ثالث في يرتبط مركزيا بأطروحة الكتاب، ويتعلق «بالتحديات الدستورية التي يواجهها الديمقراطيون الإسلاميون عندما تسنح لهم الفرصة حقا لتحديد شكل الدولة الجديدة: تحديات إضفاء الطابع الديمقراطي والمؤسساتي على الشريعة يقوم اليوم إصلاحيون دستوريون في تونس ومصر بحله» (ص 35).
غير أن الأكاديمي الأميركي عاد وسجل ملاحظة صدقتها التجربة الراهنة لما بعد 2011، حيث قال: «إذا وصل الإسلاميون للحكم، لكنهم لم يتمكنوا من خلق مؤسسات توازن بين القوى واستعادة حكم القانون، فإننا جميعا (بما فينا الغرب) سنمر بفترة عصيبة». في الواقع سبق للكاتب في كتابه «ما بعد الجهاد» أن ناقش هذه القضية؛ إضافة إلى أن واقع توسع «داعش» بالعراق وسوريا، وتمددها في أفريقيا والغرب، وقدرتها على التجنيد، تلخص ما يرمي إليه فيلدمان حينما يدعو إلى خلق تواصل، بل ومساعدة الحركات الإسلامية الديمقراطية المعتدلة، على بناء نموذج دستوري ديمقراطي جديد، حتى ولو كان في ظل دولة إسلامية حديثة. لكنه في نهاية كتابه، يعود بنا لطرح سؤال مركزي يتعلق بما «إذا كان الإسلاميون، وهم في الحكم، قادرين فعلا على تحقيق سيادة القانون؟» كما يطرح مسألة لا تقل أهمية على أطروحة الكتاب المركزية، وترتبط بالمصداقية «فإذا كان الإسلاميون غير قادرين على توفير العدالة السياسية، سيجدون أنفسهم يفقدون مصداقيتهم مثل سابقيهم» (ص 179).
* اساذ العلوم السياسية جامعة محمد الخامس ـ الرباط



2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
TT

2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)

مبكراً جداً بدأت العمليات الإرهابية في العام الجديد 2020، وربما استغلت الخلايا الإرهابية القائمة والنائمة حالة الارتباك الحادثة في الشرق الأوسط والخليج العربي وشمال أفريقيا، لا سيما أزمة المواجهة الإيرانية - الأميركية الأخيرة، وما يحدث على سطح البحر الأبيض المتوسط من أزمات، مثل المحاولات التركية لإرسال قوات عسكرية إلى ليبيا... نقول استغلت تلك الجماعات المشهد، وها هي آخذة في النمو السيئ السمعة مرة جديدة، وإن كانت كالعادة الأيادي التركية والقطرية وراءها وتدعمها لأهداف لا تخلو عن أعين الناظر المحقق المدقق في المشهد الآني: ماذا عن تلك العمليات؟ وما دلالاتها في الحال والاستقبال وتجاذباتها وتقاطعاتها مع الدعم التركي والقطري الذي لا يتوقف؟

المتابع لشأن الإرهاب حول العالم يمكنه -بسهولة ويسر- رصد الاعتداء الإرهابي الذي حدث على قاعدة عسكرية في مالي، وكذا تعرض مسجد في باكستان لعمل هجومي من جماعات متطرفة، وصولاً إلى مهاجمة معسكر للجيش في نيجيريا.
إرهاب 2020 إذن به مسحات جديدة من التعرض لدور العبادة الإسلامية، الأمر الذي أودى بحياة 12 شخصاً، وهو أمر وصفته الحواضن الإسلامية الشرعية في المنطقة بأنه عمل إجرامي آثم يخالف دين الإسلام، بل يخالف كل الأديان التي دعت إلى حماية دور العبادة وحرمتها والدفاع عنها، وهو ما يؤكد أيضاً أن الإرهاب لا يرعى حرمة دين أو وطن، كما أنه يهدف إلى زعزعة استقرار البلاد، والإضرار بالعباد في كل مكان وزمان.
ولعل التفجير الإرهابي الثاني في هذا الحديث هو ما يقودنا إلى قصة الساعة، وما يجري لتحويل أفريقيا إلى موقع وموضع لحاضنة إرهابية، حكماً ستكون الأكبر والأخطر من تجربة دولة الخلافة المزعومة في العراق وسوريا، المعروفة بـ«داعش».
وجرى ذلك العمل الإرهابي على أراضي جمهورية مالي التي باتت يوماً تلو الآخر تتحول إلى بؤرة إرهابية كبرى، لا سيما جراء تنوع وتعدد الجماعات الإرهابية القائمة على أرضها. فقد تم استهداف قاعدة عسكرية نهار الخميس التاسع من يناير (كانون الثاني) الحالي، وأسفر عن إصابة 20 شخصاً، بينهم 18 من قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة. وقد وقع التفجير في منطقة تساليت بإقليم كيدال، شمال جمهورية مالي.
هل كانت تلك العملية الأولى من نوعها في مالي؟
بالقطع الأمر ليس كذلك، ففي أوائل نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، أعلن تنظيم داعش في منطقة الصحراء الكبرى مسؤوليته عن الهجمات الإرهابية التي وقعت هناك، وأودت بحياة 53 جندياً مالياً ومدنياً واحداً، وفق حصيلة رسمية، و70 جندياً، وفق الحصيلة التي أعلن عنها التنظيم الإرهابي الذي تبنى أيضاً هجوماً في المنطقة نفسها، قتل فيه جندي فرنسي.
وكان واضحاً من بيان «داعش» أن مالي تحولت إلى مركز متقدم على صعيد عمليات الإرهاب، إذ أعلن التنظيم، في بيان له عبر تطبيق «تلغرام»، أن من يطلق عليهم «جنوده» استهدفوا رتل آليات للقوات الفرنسية بالقرب من قرية انديليمان، بمنطقة ميناكا، شمال شرقي مالي، بتفجير عبوة ناسفة. كما أعلن التنظيم في بيان منفصل أن مقاتليه «هاجموا قاعدة عسكرية يتمركز فيها جنود من الجيش المالي».
ولا يستهدف إرهابيو «داعش» وبقية الجماعات الإرهابية في تلك المنطقة القوات الفرنسية فحسب. ففي وقت سابق من سبتمبر (أيلول) من العام الماضي أيضاً، تم استهداف ثكنات عسكرية في بولكيسي، قتل فيها 40 جندياً مالياً، وفق الحصيلة الحكومية، وإن كانت هناك حصيلة أخرى غير رسمية تشير إلى أن الخسائر أكبر من ذلك بكثير.
ويخشى المراقبون من أن يكون الإرهاب قد جعل من مالي قاعدة متقدمة له، رغم الرفض والتنديد الشعبيين هناك بتلك الجماعات المارقة التي أضحت تتمركز على الشريط الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، الأمر الذي وصفه الإمام محمود ديكو بأنه «نزف تعيشه مالي، ولا يمكن أن يستمر طويلاً». وقد سبق أن دعا ديكو إلى ضرورة فتح حوار وطني يشارك فيه جميع الماليين لتوحيد الصفوف في وجه الإرهاب، وهو الذي سبق أن تفاوض مع الإرهابيين للإفراج عن رهائن، من ضمنهم جنود ماليون.
ولعل المراقبين لشأن هذه الجمهورية الأفريقية التي باتت مصدر خوف وقلق لبقية القارة الأفريقية يتساءلون عن السبب الرئيسي الذي جعل منها خلفية للإرهاب الأممي، يخشى معها أن تمثل مع النيجر والصومال وكينيا مربع قوة ونفوذاً غير تقليدي يستنهض أوهام ما أطلق عليه الخلافة في فكر «الدواعش»، وغيرهم من جماعات التكفير، لا التفكير.
البداية في واقع الحال تنطلق من التركيبة الديموغرافية لهذا البلد، فهي مليئة بالأعراق التي تكاد عند نقطة بعينها تضحى متقاتلة، ففيها مجموعة الماندي التي تشكل نحو 50 في المائة من إجمالي السكان، والطوارق والعرب الذين يشكلون نحو 10 في المائة، والفولتايك الذين يشكلون 12 في المائة، والسنغاري بنسبة 6 في المائة، والبول الذين يشكلون 17 في المائة، بالإضافة إلى مجموعات عرقية أخرى تشكل ما نسبته 5 في المائة.
ويمكن القطع بأن الجماعات الأصولية المختلفة قد أجادت العزف السيئ على مسألة الأعراق المالية المختلفة، وجعلت منها نقطة انطلاق لتقسيم المجتمع المالي، وتجزئته عبر تنويع وتعدد الانتماءات الإرهابية، الأمر الذي أدى إلى وقوع 270 هجوماً إرهابياً في جمهورية مالي خلال الأشهر الثلاثة الماضية، والعهدة هنا على التقرير الأممي الصادر عن الأمم المتحدة الذي أشار إليه الأمين العام أنطونيو غوتيريش، مؤكداً أن حصيلة تلك الهجمات قد بلغت 200 قتيل من المدنيين، و96 مصاباً، إضافة إلى اختطاف 90 آخرين، لافتاً إلى أن 85 في المائة من الهجمات المميتة وقعت في منطقة موبتى، حيث قتل خلالها 193 من القوات المسلحة، وجرح 126.
وفي هذا الإطار، كان من الطبيعي أن تشهد مالي حالة من حالات انعدام الأمن، بعد أن سيطرت جماعات مرتبطة بتنظيم «القاعدة» على مناطق واسعة من شمال مالي، قبل أن يتدخل الفرنسيون والأفارقة لطرد هذه الجماعات من المدن الكبرى، وإن كانت الأخيرة تشن حرب عصابات منذ ذلك الوقت كبدت الفرنسيين والأفارقة والجيش المالي خسارة كبيرة.
ولم تكن مالي بطبيعتها المهترئة اجتماعياً لتغيب عن أعين الدواعش الذين دخلوا على الخط عام 2015، عندما أعلن المدعو أبو الوليد الصحراوي الانشقاق عن جماعة «المرابطون»، وتشكيل تنظيم جديد بايع تنظيم داعش، سماه «تنظيم داعش في الصحراء الكبرى».
وخذ إليك، على سبيل المثال، بعضاً من تلك الجماعات التي باتت تغطي ثلثي الجهورية المالية منذ عام 2012، وفي المقدمة منها «جماعة التوحيد والجهاد». وقد كان حصان طروادة بالنسبة إليها، وما تسبب في انتشارها في البلاد، حالة الفوضى والارتباك التي أعقبت الانقلاب العسكري الذي حدث في 22 مارس (آذار) 2012. فقد برزت على السطح في هذا التوقيت، وتمكنت من احتلال شمال مالي. ويرى محللو شؤون الإرهاب الدولي في القارة الأفريقية أنه أحد أكثر التنظيمات رعباً، لكونه مسلحاً وممولاً بشكل جيد، فضلاً عن قيامه بتكثيف عملياته الإرهابية منذ ظهوره، وتمركزه في الهضبة الصحراوية الشاسعة الممتدة في منطقة تساليت، وفرض سيطرته بلا منازع على عدد من القرى في تلك المنطقة.
ولم تكن جماعة «التوحيد والجهاد» بعيدة بحال من الأحوال عن تنظيم القاعدة، غير أنها انفصلت عنها وانتشرت في بلاد المغرب الإسلامي، تحت دعوة نشر فكر «الجهاد» في غرب أفريقيا، بدلاً من الاكتفاء فقط بمنطقة الغرب أو منطقة الساحل.
ويمكن للمرء أن يعدد أسماء كثيرة من التنظيمات الإرهابية على الأراضي المالية، مثل جماعة أنصار الدين، وهذه لها جذور عميقة في المجتمع المالي، ولذلك تضم ما بين 5 آلاف و10 آلاف عضو مزودين بأسلحة متقدمة.
وعطفاً على ذلك، يلاحظ المراقبون جماعات أصولية، وإن كانت أقل قوة من حيث العدة والعتاد، إلا أنها أخطر من جانب الأساس العقائدي، مما يجعل فرص ارتقائها أكبر وأوسع.
ومع تصاعد عمليات الإرهاب في مالي، وما حولها من دول جميعها مرتبطة بعقد واحد من الأصوليات الخبيثة، يبقى البحث عمن يزخمها ويساندها أمر واجب الوجود، كما تقول جماعة الفلاسفة.
أما الجواب فهو يسير. ففي 25 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، أعلنت الإدارة العامة للأمن الوطني في النيجر عن القبض على مجموعة إرهابية تتكون من 3 أشخاص، يحمل 2 منهم الجنسية التركية، بالإضافة إلى متعاون محلي من مواطني النيجر.
ويضحي من الطبيعي القول إن اعتقال أتراك في النيجر يفتح ملف الإرهاب التركي - القطري في العمق الأفريقي، ويثير من جديد قضية نقل الإرهابيين إلى طرابلس دعماً للميليشيات الموالية لقطر وتركيا في ليبيا، في مواجهة الجيش الوطني الليبي.
ويوماً تلو الآخر، يثبت للعالم أن هناك أكثر من ستار تختبئ تركيا من وراءه، وبتمويل قطري لا يغيب عن الأعين، في محاولة متجددة لا تنقطع من أجل إعادة إنتاج مشروع الخلافة الوهمي، حتى إن كلف ذلك أكثر من دولة أفريقية أمنها وأمانها.
ومن عينة الستر التي تختبئ تركيا وراءها: «الهلال الأحمر التركي»، و«الوكالة التركية للتعاون والتنسيق». أما قطر، فمنذ أمد بعيد تستخدم جمعية «قطر الخيرية» ستاراً لاستقطاب الإرهابيين والمرتزقة لدعم الميليشيات في طرابلس.
ومؤخراً، كان موقع «انفيستجتيف بروجكت» الأميركي المتخصص في إلقاء الضوء على القضايا الإرهابية يكشف عن العلاقة التي تربط بين المثلث الجهنمي الإخواني بأذرعه المختلفة، لا سيما في الولايات المتحدة الأميركية، وجمعيات تركيا الخفية التي تعمل تحت ستار الأعمال الخيرية، والرابط الأكبر المتمثل في الدعم المالي القطري لهما، وهي قصة يضيق المسطح المتاح للكتابة عن سردها وعرضها، وإن كانت باختصار تبين أن العمق الأفريقي هو مكمن خطر الإرهاب العالمي في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين.
ومؤخراً، تتحدث واشنطن عن انسحاب قواتها المسلحة من القارة الأفريقية، بذريعة التفرغ لملاقاة روسيا والصين حول العالم، وتالياً ترفض ألمانيا المشاركة بجنود في القوة الأوروبية التي تقودها فرنسا في الساحل الغربي الأفريقي لمواجهة خطر الإرهاب... فهل يعني ذلك أن هناك فصلاً جديداً من فصول نماء الإرهاب الدولي في ظل غض الطرف عنه؟!
آفة حارتنا النسيان. والذين لدغوا من ثعبان الإرهاب من قبل يبدو أنهم لم يتعلموا الدرس بعد.