حي مولنبيك.. «الأرض الخصبة» للتشدد والإرهاب في أوروبا

مساعٍ لتجفيف مصادر المتطرفين المالية من تجارة السلاح والمخدرات

حي مولنبيك حيث غالبية من السكان  من أصول عربية وإسلامية
حي مولنبيك حيث غالبية من السكان من أصول عربية وإسلامية
TT

حي مولنبيك.. «الأرض الخصبة» للتشدد والإرهاب في أوروبا

حي مولنبيك حيث غالبية من السكان  من أصول عربية وإسلامية
حي مولنبيك حيث غالبية من السكان من أصول عربية وإسلامية

في أعقاب تفجيرات العاصمة الفرنسية باريس في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، والبلجيكية بروكسل في مارس (آذار) الماضي، وتورّط عدد من الشبان من سكان حي مولنبيك في بروكسل في هذه الهجمات - سواءً بالتخطيط أو التنفيذ أو تقديم المساعدة لمرتكبي التفجيرات - اكتسب الحي سمعته السيئة في جميع أنحاء العالم، وبات يوصف بأنه «نواة» أو «الأرض الخصبة» للتشدد والإرهاب في أوروبا.
في تصريحات خاصة لـ«الشرق الأوسط» قالت فرنسواز سكيبمانس، عمدة بلدية مولنبيك، وهي بلدية معروفة بأن غالبية السكان من أصول إسلامية «إن الوضع في مولنبيك له خصوصية. ونريد أن نظهر للمؤسسات الأوروبية وضعية بروكسل بشكل عام وبلدية مولنبيك بالذات، وبخاصة أن الأخيرة تتمتع بظروف ووضعية خاصة، ونريد نشرح هذه الأمور للمسؤولين الأوروبيين، ولا سيما عقب توجيه انتقادات وإشارات بالاتهامات إلى هذه البلدية خلال الأشهر الماضية». وأضافت سكيبمانس «الجميع تألم وكانت هناك حالة من الحزن في أعقاب تفجيرات مارس الماضي، وتحديدًا، هنا في مولنبيك.. لكننا في أمس الحاجة إلى المزيد من التضامن، ونريد لكل سكان مولنبيك بصرف النظر عن عقيدتهم أن يتقاسموا الأنشطة والاحتفالات ويظهروا التضامن».
حاليًا يعيش في مولنبيك غالبية من المسلمين، الأبرز بينهم المغاربة والأتراك إلى جانب جنسيات أفريقية. وقالت سارة تورين، مسؤولة ملف الحوار بين الثقافات في مولنبيك خلال لقاء مع «الشرق الأوسط»: إن «الحل الوحيد لمواجهة العنف والإرهاب يكمن في التعايش السلمي بين الجميع، وأن تلتقي بالآخر والتصدي للأفكار الخاطئة عن الآخر. نحن نستطيع أن نعيش معا رغم الاختلاف الثقافي، ونجعل من التنوع والاختلاف شيئا إيجابيًا. وفي ديسمبر (كانون الأول) من العام الماضي أعلنت الحكومة البلجيكية بعض تفاصيل خطتها التي قالت عنها إنها تهدف إلى (تنظيف) بلديات عدة في العاصمة بروكسل، ومنها بلدية مولنبيك، التي وصفها البعض بأنها (بؤرة للتطرف)».
ولكن على الرغم من أن هذه البلدية ليست الوحيدة في البلاد التي تطرح مشكلة للسلطات بسبب تصاعد نسبة البطالة والأنشطة غير القانونية، فإن ارتباط اسم مولنبيك ببعض منفذي ومخططي هجمات إرهابية عدة جعلها تحتل مكان الأولوية بالنسبة لوزير الداخلية يان جامبون، الذي ينتمي إلى التيار اليميني المتشدد. وكان جامبون قد قال في تصريحات لوسائل إعلام محلية: إن مخططه يتضمن بالدرجة الأولى العمل على محاربة الاقتصاد الموازي المستشري فيها، فـ«المتطرفون من سكان البلدية هم رسميًا عاطلون عن العمل، لكنهم يحصلون على الأموال بفضل تجارة»، ثم تحدث عن نيته «زيادة الدعم للسلطات الإدارية البلدية ليتسنى لها القيام بعملها من ناحية ضبط عدد السكان وفرز القاطنين على أراضيها بشكل غير قانوني».
وشدّد الوزير البلجيكي على أن مخططه يتضمن زيادة عدد قوات الشرطة في البلدية ودعم إمكانياتها من أجل تفعيل عملها في التصدي للجريمة والمخالفات، وكذلك التحري حول شبكات التطرف والأشخاص الذين يعتزمون الذهاب إلى أماكن الصراعات للقتال إلى جانب مجموعات إرهابية. وتابع جامبون «عبر خطة مولنبيك، أرغب في معالجة الوضع المحلي في مجال الأمن، الذي تطور على مر السنين، والذي له تأثير التهديد في المستويين الوطني والدولي، في ارتباطه بالإرهاب والتطرف». وبالفعل، تشاورت أجهزة الداخلية مع عمدة مولنبيك، ودوائر الشرطة المحلية، والشرطة الفيدرالية ودائرة الأجانب ومختلف المكاتب الوزارية من أجل إعداد هذه الخطة. وأظهرت هذه الخطة أن مقاربة الظاهرة لا يمكن أن تتحدد في هذه البلدية وحدها، بل ينبغي أن تشمل منطقة أكبر تضم أحياء، منها سان جيل واندرلخت ولاكن (بروكسل المدينة) وكوكلبرغ وسكاربيك وسان جوس وفيلفورد (بارابانت فلامان).
من ناحية أخرى، توجّهت «الشرق الأوسط» إلى مقر بلدية مولنبيك، وسألنا عضو المجلس المحلي آناليزا جادليتا، عما تردد في وسائل الإعلام البلجيكية من أن السلطات المحلية والأمنية في مولنبيك تدرس مقترحًا لوزير الداخلية يتعلق بحملة تفتيش وتدقيق واسعة على كل مساكن الحي؛ للتأكد من عدم وجود أشخاص غير مسجلين في السجلات الرسمية، وهو الأمر الذي يفسره البعض بأنه محاولة للقبض على مطلوبين أمنيًا. وكانت المفاجأة في رد المسؤولة في السلطة المحلية، التي قالت: «اقتراح وزير الداخلية غير ملائم لنا حاليًا، فنحن لدينا خطوات أخرى أهم، وتتعلق بمواجهة الفكر المتشدد، وتفادي تأثر الشباب بهذا التشدد. وأنا أعتقد أن تفتيش كل المنازل هنا أمر صعب تحقيقه، ولا سيما إذا ما علمنا أن الحي يضم 38 ألف وحدة سكنية». ثم تساءلت «كيف سندقق في كل منزل على حدة؟ وكم عدد الموظفين والأمنيين المطلوبين لهذا الأمر».
«البعض من سكان الحي لا ينظرون إلى القضية من هذه الزاوية، بل لهم حسابات أخرى» كما يقول مراد، الشاب المغربي المقيم في الحي، ثم يضيف «أنا ضد مثل هذه الخطط، وأعتقد أن السلطات لو أقدمت على تنفيذ المقترح ستتعرض لانتقادات شديدة، وأنا أول من سينتقد هذه الخطوة». ويبرر مراد موقفه بالقول: «الواحد يكون مع زوجته وأولاده في البيت وفجأة يأتي من يفتش المنزل. هذا أمر غير مقبول؛ لأنهم إذا كانوا يبحثون عن شخص مطلوب أمنيًا، فهذا عملهم ولا بد لهم أن يحددوا في البداية المنزل الموجود فيه، ثم يقومون بالتفتيش.. وليس تفتيش كل المنازل».
وحقًا، واجهت خطة الحكومة القاضية بإجراء عملية تفتيش على كل منازل بلدية مولنبيك مصاعب وخلافات بين وزارة الداخلية والإدارة المحلية في البلدية - الحي. وحسب الوزير جامبون، تعد الحكومة لإرسال أعداد من الموظفين المدنيين في الوزارة لمساعدة السلطات المحلية في تنفيذ عملية تفتيش وتدقيق في كل المنازل؛ وذلك للتأكد من وجود فعلي للسكان المسجلة أسماؤهم في السجلات الرسمية في البلدية، والتحقق من وجود أشخاص آخرين من غير المسجلين بشكل رسمي.
وللعلم، كان الوزير قد صرح عقب تفجيرات باريس بأنه «يعيش في بعض بيوت مولنبيك عشرة أشخاص، بينما المسجلون رسميًا في البلدية يقل عن نصف هذا العدد، وهو وضع غير مقبول، وعلينا أن نعرف مَن يعيش على التراب البلجيكي». وأوضح جامبون في تصريحات على هامش ندوة حزبية ما يتداول يتعلق «بعنصر طارئ لخطة شاملة» من أجل هذه البلدية التي كانت تضم الكثير من منفذي هجمات الجمعة 13 نوفمبر بباريس أو المشتبه بهم.
وبعد يومين من وقوع هذه الهجمات، أعلنت الحكومة البلجيكية عن تطوير خطة منهجية تستهدف مولنبيك على وجه الخصوص. وبعد بضعة أيام عيّنت وزير الداخلية منسّقًا للوضع بفي مولنبيك، ويومذاك أعلن عن نيته تفتيش كل عنوان بالبلدة من طرف الشرطة المحلية، مضيفًا أنه يرغب في «القيام بالتنظيف». وعلى الأثر، علقت عمدة مولنبيك على تصريحات الوزير، بأنها تتحفظ عن كلمة «تنظيف»، واعتبرت أن عرض الوزير ليس الأنسب، أضافت: «العرض ليس ضروريًا لأن هذه مسؤولية رجال الشرطة وليس الموظف المدني... ومواجهة التشدد من صميم عمل الشرطة، وفور هجمات باريس بدأت شرطة مولنبيك بالفعل في إعداد قوائم بالعناوين التي ستقوم بزيارتها للتدقيق والتفتيش عن سكان هذه المنازل». ولفتت إلى أن هذه الزيارات يجب أن تضع في الحسبان وضعية سكان مولنبيك وظروفهم.
ويذكر هنا أن الوزير كان تحدث أيضا عن ضرورة اتخاذ تدابير في مجال التعليم وتطوير التخطيط الترابي وتكافؤ الفرص من أجل «إعطاء مستقبل للشباب ما بين 15 و16 سنة». ووافق مجلس الوزراء على مشروع مرسوم ملكي للمشروعات الرائدة التي تستهدف السيطرة على التطرف العنيف ومكافحة التطرف في عشر بلديات، من بينها مولنبيك بمبلغ إجمالي وصل إلى مليون يورو. وحول هذا قالت العمدة سكيبمانس «إننا نعيش في بلدية كبيرة الحجم، وفيها تنوع ثقافي، ولم نتخيل أن نصل إلى هذه الدرجة من التخوف بعد ظهور الراديكالية العنيفة. ولقد حذرت منذ سنوات طويلة من مشكلة تتعلق بالتعايش السلمي في هذه البلدية، وكان التحدي كبيرا نتيجة تراكمات وصعوبات اجتماعية في قطاع التربية، وكذلك سوق العمل والسكن غير اللائق والعائلات الكبيرة العدد».
مما يستحق الإشارة، أن ثلاثة أشخاص من بين المشاركين في هجمات باريس هم من سكان مولنبيك. بل إن تقارير إعلامية أفادت بأن شخصًا رابعًا ربما شارك في التخطيط للهجمات وهو مطلوب في بلجيكا على ذمة قضايا أخرى. وكلها هذه مسائل ربما تثير مخاوف البلجيكيين. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط» قالت سيدة بلجيكية تعيش بالقرب من السوق الشعبية التي تقام في البلدية كل يوم خميس إنها «لا تتوقع حدوث هجمات في مولنبيك»، مضيفة «لا أعتقد أن هجمات يمكن أن تقع هنا لأنهم لن يقتلوا مواطنين من الأصول نفسها. وأنا أتعامل مع كل جيراني، لكن لا أستطيع أن أعرف ما في تفكير الجار من شر أو طيبة. وبعد ما حدث، من الممكن أن يحدث تصادم بين المسلمين والبلجيكيين». بينما قال رجل في العقد الخامس من عمره «الإرهاب يمكن أن يحدث في أي مكان في العالم، كما أن ».
في المقابل، في أعقاب حملات مداهمة شنت لاعتقال أحد المطلوبين، وفرض الشرطة طوقًا أمنيًا تباينت ردود الأفعال بشأنها من جانب سكان الحي. فقال أحدهم وهو من أصول مغاربية اسمه مصطفى «لا يمكن أن يكون الأمن وحده حلاً للإرهاب... وبالنسبة للشباب يجب أن نتعامل معهم كما نتعامل مع الشيوخ كبار السن، وأيضا مع الأطفال؛ لأن هذه الشريحة الإنسانية لم تجد من يستمع ويتفهم لمطالبها، مع أن هناك حاجة إلى تكوين شخصيتها». ويقول خليل زجندي، وهو رئيس إحدى الجمعيات في بروكسل، إن الشرطة والسلطات «تقاعستا عن مساعدة هؤلاء الشباب وفهم مطالبهم واكتشاف المتشددين منهم، والآن تقومان بعمليات مداهمة وتضييق أمني على السكان الذين هم في الأصل ضحايا، ورغم ذلك، يشير إليهم البعض بأصابع الاتهام».
وفي لقاء مع «الشرق الأوسط» رأى الشيخ نور الدين الطويل، وهو أحد أبرز القيادات الدينية في بروكسل ورئيس جمعية المسلمين الجدد، أن «بلجيكا لم تكن يومًا مرتعًا للتطرف والإرهاب، ولكن هناك فئة قليلة جدا انحرفت عن الطريق وسارت في طريق الانحراف لفترة من الوقت، ثم وقعت فريسة في أيدي من يستغلون ظروفهم». وحول انحراف هؤلاء وما ترتب عليه قال الشيخ نور الدين «هناك تقصير من جانب الحكومة البلجيكية ومن جانب أولياء الأمور، وأيضا من جانب المدارس. وفضلا عن كل ذلك هناك شيء خطير جدًا هو خطاب الكراهية الذي يظهر من وقت لآخر. ومن هنا يجب أن يعاد النظر في الخطاب الديني ويكون هناك خطاب معتدل كما يجب أيضا أن يكون هناك اهتماما بتكوين الأئمة وإعدادهم».
الشارع البلجيكي، إذن، بدا رافضًا في مجمله لما تردده وسائل إعلام غربية بأن بلجيكا أصبحت «حاضنة للتطرف والإرهاب». وإذ أكد البعض أن الأمر يقتصر على فئة قليلة جدًا من المسلمين وفي أحياء معروفة ومحددة داخل العاصمة البلجيكية، أشار آخرون إلى فشل الحكومة في دمج الأجانب في المجتمع ما قد يساهم في توفير أرضية للتطرف.



تساؤلات حول قيادة «داعش»

فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
TT

تساؤلات حول قيادة «داعش»

فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)

من يقود تنظيم داعش الإرهابي الآن؟ وما سر عدم ظهور إبراهيم الهاشمي القرشي، زعيم «داعش» الجديد، حتى اللحظة؟ ولماذا تعمد التنظيم إخفاء هوية «القرشي» منذ تنصيبه قبل شهرين؟ وهل هناك تغير في شكل التنظيم خلال الفترة المقبلة، عبر استراتيجية إخفاء هوية قادته، خوفاً عليهم من الرصد الأمني بعد مقتل أبو بكر البغدادي؟ تساؤلات كثيرة تشغل الخبراء والمختصين، بعدما خيم الغموض على شخصية زعيم «داعش» الجديد طوال الفترة الماضية. خبراء في الحركات الأصولية أكدوا لـ«الشرق الأوسط» أن «التنظيم يعاني الآن من غياب المركزية في صناعة القرار».
ويرجح خبراء التنظيمات المتطرفة أن «يكون (داعش) قد قرر إخفاء هوية (القرشي) تماماً، في محاولة لحمايته، وأن إعلان (القرشي) زعيماً من قبل كان شكلاً من أشكال التمويه فقط، لإخفاء حقيقة الخلاف الدائر داخل التنظيم». كما شكك الخبراء في «وجود شخصية (القرشي) من الأساس».
وأعلن «داعش»، في تسجيل صوتي بثه موقع «الفرقان»، الذراع الإعلامية للتنظيم، في نهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، تنصيب «القرشي» خلفاً للبغدادي الذي قتل في أعقاب غارة أميركية، وتعيين أبو حمزة القرشي متحدثاً باسم التنظيم، خلفاً لأبو الحسن المهاجر الذي قتل مع البغدادي. وكان الرئيس الأميركي دونالد ترمب قد أعلن «مقتل البغدادي في عملية عسكرية أميركية شمال غربي سوريا».
ورغم أن مراقبين أكدوا أن «(القرشي) هو القاضي الأول في التنظيم، وكان يرأس اللجنة الشرعية»، فإن مصادر أميركية ذكرت في وقت سابق أن «(القرشي) عُرف بلقب الحاج عبد الله، وعُرف أيضاً باسم محمد سعيد عبد الرحمن المولى، وكان أحد قادة تنظيم القاعدة في العراق، وقاتل ضد الأميركيين». لكن عمرو عبد المنعم، الباحث في شؤون الحركات الأصولية بمصر «شكك في وجود (القرشي) من الأساس»، قائلاً: إن «(القرشي) شخصية غير حقيقية، وهناك أكثر من إدارة تدير (داعش) الآن».
وأكد أحمد بان، الخبير في شؤون الحركات الأصولية بمصر، أنه «بطبيعة الحال، لا يمكن أن نحدد من يقود (داعش) الآن، حتى هذا الإعلان (أي تنصيب القرشي) قد يكون شكلاً من أشكال التمويه، لإخفاء حقيقة الخلاف الدائر داخل التنظيم»، مضيفاً: «نحن أمام عدد من الاحتمالات: الاحتمال الأول هو أن تكون شخصية (القرشي) حقيقية لكن يتم إخفاءها، وعدم ظهوره إلى الآن هو من أجل تأمين حياته، وعدم مطاردته من قبل أجهزة الدول. والاحتمال الثاني أننا أمام شخصية (وهمية)، والتنظيم لا يزال منقسماً حول فكرة اختيار خليفة للبغدادي. أما الاحتمال الثالث فأننا أمام صراع حقيقي داخل التنظيم حول خلافة (البغدادي)».
وتحدث المراقبون عن سبب آخر لإخفاء «داعش» هوية «القرشي»، وهو «الخوف من الانشقاقات التي تضرب التنظيم من قبل مقتل البغدادي، بسبب الهزائم التي مُني بها في سوريا والعراق، خاصة أن نهج إخفاء المعلومات والتفاصيل التي تتعلق بقادة (داعش) استخدمه التنظيم من قبل، حين تم تعيين أبو حمزة المهاجر وزيراً للحرب (على حد تعبير التنظيم) في عهد البغدادي، وتم الكشف عن اسمه في وقت لاحق».
وكان البغدادي قد استغل فرصة الاضطرابات التي حدثت في سوريا، وأسس فرعاً لتنظيمه هناك، كما استغل بعض الأحداث السياسية في العراق، وقدم نفسه وتنظيمه على أنهم المدافعون عن الإسلام (على حد زعمه)، فاكتسب في البداية بيئة حاضنة ساعدته على احتلال المزيد من الأراضي العراقية التي أسس عليها «دولته المزعومة». وفي عام 2014، أعلن البغدادي نفسه «خليفة مزعوماً» من على منبر مسجد النوري الكبير، في مدينة الموصل، ثم اختفى بعدها لمدة 5 سنوات، ولم يظهر إلا في أبريل (نيسان) الماضي، في مقطع فيديو مصور مدته 18 دقيقة، ليعلن «انتهاء السيطرة المكانية لـ(دولته المزعومة)، وسقوط آخر معاقلها في الباغوز السورية». وقال المراقبون إنه «رغم أن ظهور البغدادي كان قليلاً في السنوات الأخيرة قبل مقتله، فإن أخباره كانت دائمة الانتشار، كما عمد مع بداية الإعلان عن (دولته المزعومة) إلى الظهور المتكرر، وهو ما لم يفعله (القرشي)».
وأكد عبد المنعم أن «هوية (القرشي) كانت لا بد أن تختفي تماماً لحمايته»، مدللاً على ذلك بأنه «في ثمانينات القرن الماضي، كانت التنظيمات الإرهابية تعلن عن أكثر من اسم للقيادة، حتى تحميه من التتبع الأمني»، موضحاً: «يبدو أن هوية (القرشي) الحقيقة بالنسبة لعناصر التنظيم ليست بالأهمية ذاتها، لأن ما يهمهم هو وجود الزعيم على هرم التنظيم، ضمن إطار وإرث ديني... وهذا أهم بكثير للعناصر من الإعلان عن هوية الرجل (أي القرشي)»، مدللاً على ذلك بأنه «في الأيام التي أعقبت إعلان تعيين (القرشي)، تساءلت مجموعة صغيرة من عناصر التنظيم على موقع التواصل (تليغرام) عن هوية الزعيم الجديد. وبعد أيام من تساؤلاتهم، وعندما طلب منهم مبايعة (القرشي)، قلت التساؤلات. ولهذا، من الواضح أن هوية الرجل بدت غير مهمة لهم، بل المهم هو أنه زعيم (داعش)، ويحتاج إلى دعمهم».
وحث أبو حمزة القرشي، متحدث «داعش» الجديد، أتباعه في رسالته الصوتية الأخيرة على «الالتزام بما أصدره البغدادي في رسالته في سبتمبر (أيلول) الماضي، التي طالب فيها بتحرير أنصار التنظيم من السجون، وتجنيد أتباع جدد لاستكمال المهمة، وتأكيد مواصلة التنظيم تمدده في الشرق الأوسط وخارجه».
ومن جهته، أضاف عبد المنعم أن «التنظيم دشن قبل أيام كتيبة أطلق عليها (الثأر للبغدادي والمهاجر)، بهدف الانتقام لمقتل البغدادي والمهاجر، كما جرى سجن عدد من قيادات التنظيم، مُرجح أنها تورطت في تسريب معلومات بطريقة غير مباشرة لعناصر في تنظيم (حراس الدين)»، موضحاً أن «المركز الإعلامي للتنظيم يعاني حالياً من عدم وجود اتصال مع باقي المراكز التابعة للتنظيم، ويعاني من حالة ارتباك شديدة».
وهدد المتحدث باسم التنظيم الجديد الولايات المتحدة، قائلاً: «لا تفرحوا بمقتل الشيخ البغدادي». وقال عبد المنعم: «يبدو أن (داعش) قرر عدم التعامل بالشكل التقليدي في التسجيلات والظهور المباشر لـ(القرشي)، مثلما كان يحدث مع البغدادي»، لافتاً إلى أن «عمليات (داعش) منذ تولي (القرشي) لم تشهد أي حراك، على عكس شهري أبريل وسبتمبر الماضيين، اللذين شهدا حراكاً، عقب بث تسجيلين: واحد مصور والآخر صوتي للبغدادي».
وكان أبو بكر البغدادي قد ذكر في سبتمبر (أيلول) الماضي أن «تنظيمه لا يزال موجوداً، رغم توسعه في البداية، ومن ثم الانكماش»، وأن ذلك يعد (اختباراً من الله)»، على حد زعمه.
وقال عمرو عبد المنعم إن «قنوات (داعش) واصلت بث أخبارها كالمعتاد، وأبرز ما نقلته هذه القنوات أخيراً إصدار مرئي جديد على شاكلة (صليل الصوارم)، بعنوان (لن يضروكم إلا أذى)، مدته 11 دقيقة، وفيه متحدث رئيسي مُقنع يتوعد بالثأر من عملية (التراب الأسود) التي أطلقتها القوات العراقية ضد (داعش) في سبتمبر (أيلول) الماضي. وفي نهاية الإصدار، ظهر مقاتلون ملثمون يبايعون الخليفة الجديد».
وبايع فرع «داعش» في الصومال «القرشي» في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، حيث نشر فرع التنظيم صوراً على موقع التواصل الاجتماعي «إنستغرام» لنحو 12 عنصراً يقفون بين الأشجار، وعليها تعليق يقول: «إنهم يعلنون مبايعة (القرشي)». كما بايع «ولاية سيناء»، الموالي لـ«داعش» في مصر، «القرشي»، ونشر في إصدار مرئي صوراً لمجموعة قال إنهم من العناصر التي بايعت «القرشي». ويشار إلى أنه ما زالت بعض أفرع تنظيم داعش حول العالم لم تعلن مبايعتها لـ«القرشي» حتى الآن، وفي مقدمتها «ولاية خراسان» في أفغانستان، و«ولاية غرب أفريقيا» (بوكو حرام سابقاً) في نيجيريا.
وحول وجود تغير في استراتيجية «داعش» في الفترة المقبلة، بالاعتماد على إخفاء شخصيات قادته، أكد الخبير الأصولي أحمد بان أن «هذه المرحلة ليست مرحلة الإمساك بالأرض من جديد، والسيطرة عليها، أو ما يسمى (الخلافة)، لكن مرحلة ترميم مجموعات التنظيم، وإعادة التموضع في ساحات جديدة، ومحاولة كسب ولاءات جماعات أخرى، قبل أن نصل إلى عنوان جديد، ربما يعكس ظهور تنظيم جديد، قد يكون أخطر من تنظيم (داعش). لكن في كل الأحوال، هيكلية (داعش) تغيرت، من مرحلة الدولة (المزعومة) إلى مرحلة (حروب النكاية) إلى مرحلة إعادة التنظيم والتموضع؛ وكل مرحلة تطرح الشكل المناسب لها. وفي هذه المرحلة (أي الآن)، أتصور أن التنظيم قد تشظى إلى مجموعات صغيرة، وأن هناك محاولة لكسب ولاء مجموعات جديدة في دول متعددة».
أما عمرو عبد المنعم، فقد لفت إلى أن «(داعش) فقد مركزية صناعة القرار الآن، وهناك عملية (انشطار) في المرحلة المقبلة للتنظيم، ولن يكرر التنظيم فكرة القيادة المركزية من جديد، لذلك لم يظهر (القرشي) على الإطلاق حتى الآن، لو كان له وجود حقيقي، وهذا على عكس ما كان يظهر به البغدادي، ويحث العناصر دائماً على الثبات والصبر»، محذراً في الوقت ذاته من «خطوة (حرب العصابات) التي قد يشنها التنظيم، وقتال الشوارع واستنزاف القوى الكبرى، وهي الاستراتيجية القديمة نفسها للتنظيم، مع زيادة العنصر (الانفرادي) الذي يعرف بـ(الذئاب المنفردة)».
وقال المراقبون إن «التنظيم تحول منذ سقوط بلدة الباغوز في مارس (آذار) الماضي، ونهاية (الخلافة المزعومة) بعد عدة سنوات من إرسائها، نحو اعتماد (نهج العصابات). وقاد البغدادي (داعش) بعد استيلائه على مناطق شاسعة في العراق وسوريا، قبل أن يتهاوى التنظيم خلال الأشهر الماضية نتيجة خسائره، وفرار عدد كبير من عناصره».