حي مولنبيك.. «الأرض الخصبة» للتشدد والإرهاب في أوروبا

مساعٍ لتجفيف مصادر المتطرفين المالية من تجارة السلاح والمخدرات

حي مولنبيك حيث غالبية من السكان  من أصول عربية وإسلامية
حي مولنبيك حيث غالبية من السكان من أصول عربية وإسلامية
TT

حي مولنبيك.. «الأرض الخصبة» للتشدد والإرهاب في أوروبا

حي مولنبيك حيث غالبية من السكان  من أصول عربية وإسلامية
حي مولنبيك حيث غالبية من السكان من أصول عربية وإسلامية

في أعقاب تفجيرات العاصمة الفرنسية باريس في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، والبلجيكية بروكسل في مارس (آذار) الماضي، وتورّط عدد من الشبان من سكان حي مولنبيك في بروكسل في هذه الهجمات - سواءً بالتخطيط أو التنفيذ أو تقديم المساعدة لمرتكبي التفجيرات - اكتسب الحي سمعته السيئة في جميع أنحاء العالم، وبات يوصف بأنه «نواة» أو «الأرض الخصبة» للتشدد والإرهاب في أوروبا.
في تصريحات خاصة لـ«الشرق الأوسط» قالت فرنسواز سكيبمانس، عمدة بلدية مولنبيك، وهي بلدية معروفة بأن غالبية السكان من أصول إسلامية «إن الوضع في مولنبيك له خصوصية. ونريد أن نظهر للمؤسسات الأوروبية وضعية بروكسل بشكل عام وبلدية مولنبيك بالذات، وبخاصة أن الأخيرة تتمتع بظروف ووضعية خاصة، ونريد نشرح هذه الأمور للمسؤولين الأوروبيين، ولا سيما عقب توجيه انتقادات وإشارات بالاتهامات إلى هذه البلدية خلال الأشهر الماضية». وأضافت سكيبمانس «الجميع تألم وكانت هناك حالة من الحزن في أعقاب تفجيرات مارس الماضي، وتحديدًا، هنا في مولنبيك.. لكننا في أمس الحاجة إلى المزيد من التضامن، ونريد لكل سكان مولنبيك بصرف النظر عن عقيدتهم أن يتقاسموا الأنشطة والاحتفالات ويظهروا التضامن».
حاليًا يعيش في مولنبيك غالبية من المسلمين، الأبرز بينهم المغاربة والأتراك إلى جانب جنسيات أفريقية. وقالت سارة تورين، مسؤولة ملف الحوار بين الثقافات في مولنبيك خلال لقاء مع «الشرق الأوسط»: إن «الحل الوحيد لمواجهة العنف والإرهاب يكمن في التعايش السلمي بين الجميع، وأن تلتقي بالآخر والتصدي للأفكار الخاطئة عن الآخر. نحن نستطيع أن نعيش معا رغم الاختلاف الثقافي، ونجعل من التنوع والاختلاف شيئا إيجابيًا. وفي ديسمبر (كانون الأول) من العام الماضي أعلنت الحكومة البلجيكية بعض تفاصيل خطتها التي قالت عنها إنها تهدف إلى (تنظيف) بلديات عدة في العاصمة بروكسل، ومنها بلدية مولنبيك، التي وصفها البعض بأنها (بؤرة للتطرف)».
ولكن على الرغم من أن هذه البلدية ليست الوحيدة في البلاد التي تطرح مشكلة للسلطات بسبب تصاعد نسبة البطالة والأنشطة غير القانونية، فإن ارتباط اسم مولنبيك ببعض منفذي ومخططي هجمات إرهابية عدة جعلها تحتل مكان الأولوية بالنسبة لوزير الداخلية يان جامبون، الذي ينتمي إلى التيار اليميني المتشدد. وكان جامبون قد قال في تصريحات لوسائل إعلام محلية: إن مخططه يتضمن بالدرجة الأولى العمل على محاربة الاقتصاد الموازي المستشري فيها، فـ«المتطرفون من سكان البلدية هم رسميًا عاطلون عن العمل، لكنهم يحصلون على الأموال بفضل تجارة»، ثم تحدث عن نيته «زيادة الدعم للسلطات الإدارية البلدية ليتسنى لها القيام بعملها من ناحية ضبط عدد السكان وفرز القاطنين على أراضيها بشكل غير قانوني».
وشدّد الوزير البلجيكي على أن مخططه يتضمن زيادة عدد قوات الشرطة في البلدية ودعم إمكانياتها من أجل تفعيل عملها في التصدي للجريمة والمخالفات، وكذلك التحري حول شبكات التطرف والأشخاص الذين يعتزمون الذهاب إلى أماكن الصراعات للقتال إلى جانب مجموعات إرهابية. وتابع جامبون «عبر خطة مولنبيك، أرغب في معالجة الوضع المحلي في مجال الأمن، الذي تطور على مر السنين، والذي له تأثير التهديد في المستويين الوطني والدولي، في ارتباطه بالإرهاب والتطرف». وبالفعل، تشاورت أجهزة الداخلية مع عمدة مولنبيك، ودوائر الشرطة المحلية، والشرطة الفيدرالية ودائرة الأجانب ومختلف المكاتب الوزارية من أجل إعداد هذه الخطة. وأظهرت هذه الخطة أن مقاربة الظاهرة لا يمكن أن تتحدد في هذه البلدية وحدها، بل ينبغي أن تشمل منطقة أكبر تضم أحياء، منها سان جيل واندرلخت ولاكن (بروكسل المدينة) وكوكلبرغ وسكاربيك وسان جوس وفيلفورد (بارابانت فلامان).
من ناحية أخرى، توجّهت «الشرق الأوسط» إلى مقر بلدية مولنبيك، وسألنا عضو المجلس المحلي آناليزا جادليتا، عما تردد في وسائل الإعلام البلجيكية من أن السلطات المحلية والأمنية في مولنبيك تدرس مقترحًا لوزير الداخلية يتعلق بحملة تفتيش وتدقيق واسعة على كل مساكن الحي؛ للتأكد من عدم وجود أشخاص غير مسجلين في السجلات الرسمية، وهو الأمر الذي يفسره البعض بأنه محاولة للقبض على مطلوبين أمنيًا. وكانت المفاجأة في رد المسؤولة في السلطة المحلية، التي قالت: «اقتراح وزير الداخلية غير ملائم لنا حاليًا، فنحن لدينا خطوات أخرى أهم، وتتعلق بمواجهة الفكر المتشدد، وتفادي تأثر الشباب بهذا التشدد. وأنا أعتقد أن تفتيش كل المنازل هنا أمر صعب تحقيقه، ولا سيما إذا ما علمنا أن الحي يضم 38 ألف وحدة سكنية». ثم تساءلت «كيف سندقق في كل منزل على حدة؟ وكم عدد الموظفين والأمنيين المطلوبين لهذا الأمر».
«البعض من سكان الحي لا ينظرون إلى القضية من هذه الزاوية، بل لهم حسابات أخرى» كما يقول مراد، الشاب المغربي المقيم في الحي، ثم يضيف «أنا ضد مثل هذه الخطط، وأعتقد أن السلطات لو أقدمت على تنفيذ المقترح ستتعرض لانتقادات شديدة، وأنا أول من سينتقد هذه الخطوة». ويبرر مراد موقفه بالقول: «الواحد يكون مع زوجته وأولاده في البيت وفجأة يأتي من يفتش المنزل. هذا أمر غير مقبول؛ لأنهم إذا كانوا يبحثون عن شخص مطلوب أمنيًا، فهذا عملهم ولا بد لهم أن يحددوا في البداية المنزل الموجود فيه، ثم يقومون بالتفتيش.. وليس تفتيش كل المنازل».
وحقًا، واجهت خطة الحكومة القاضية بإجراء عملية تفتيش على كل منازل بلدية مولنبيك مصاعب وخلافات بين وزارة الداخلية والإدارة المحلية في البلدية - الحي. وحسب الوزير جامبون، تعد الحكومة لإرسال أعداد من الموظفين المدنيين في الوزارة لمساعدة السلطات المحلية في تنفيذ عملية تفتيش وتدقيق في كل المنازل؛ وذلك للتأكد من وجود فعلي للسكان المسجلة أسماؤهم في السجلات الرسمية في البلدية، والتحقق من وجود أشخاص آخرين من غير المسجلين بشكل رسمي.
وللعلم، كان الوزير قد صرح عقب تفجيرات باريس بأنه «يعيش في بعض بيوت مولنبيك عشرة أشخاص، بينما المسجلون رسميًا في البلدية يقل عن نصف هذا العدد، وهو وضع غير مقبول، وعلينا أن نعرف مَن يعيش على التراب البلجيكي». وأوضح جامبون في تصريحات على هامش ندوة حزبية ما يتداول يتعلق «بعنصر طارئ لخطة شاملة» من أجل هذه البلدية التي كانت تضم الكثير من منفذي هجمات الجمعة 13 نوفمبر بباريس أو المشتبه بهم.
وبعد يومين من وقوع هذه الهجمات، أعلنت الحكومة البلجيكية عن تطوير خطة منهجية تستهدف مولنبيك على وجه الخصوص. وبعد بضعة أيام عيّنت وزير الداخلية منسّقًا للوضع بفي مولنبيك، ويومذاك أعلن عن نيته تفتيش كل عنوان بالبلدة من طرف الشرطة المحلية، مضيفًا أنه يرغب في «القيام بالتنظيف». وعلى الأثر، علقت عمدة مولنبيك على تصريحات الوزير، بأنها تتحفظ عن كلمة «تنظيف»، واعتبرت أن عرض الوزير ليس الأنسب، أضافت: «العرض ليس ضروريًا لأن هذه مسؤولية رجال الشرطة وليس الموظف المدني... ومواجهة التشدد من صميم عمل الشرطة، وفور هجمات باريس بدأت شرطة مولنبيك بالفعل في إعداد قوائم بالعناوين التي ستقوم بزيارتها للتدقيق والتفتيش عن سكان هذه المنازل». ولفتت إلى أن هذه الزيارات يجب أن تضع في الحسبان وضعية سكان مولنبيك وظروفهم.
ويذكر هنا أن الوزير كان تحدث أيضا عن ضرورة اتخاذ تدابير في مجال التعليم وتطوير التخطيط الترابي وتكافؤ الفرص من أجل «إعطاء مستقبل للشباب ما بين 15 و16 سنة». ووافق مجلس الوزراء على مشروع مرسوم ملكي للمشروعات الرائدة التي تستهدف السيطرة على التطرف العنيف ومكافحة التطرف في عشر بلديات، من بينها مولنبيك بمبلغ إجمالي وصل إلى مليون يورو. وحول هذا قالت العمدة سكيبمانس «إننا نعيش في بلدية كبيرة الحجم، وفيها تنوع ثقافي، ولم نتخيل أن نصل إلى هذه الدرجة من التخوف بعد ظهور الراديكالية العنيفة. ولقد حذرت منذ سنوات طويلة من مشكلة تتعلق بالتعايش السلمي في هذه البلدية، وكان التحدي كبيرا نتيجة تراكمات وصعوبات اجتماعية في قطاع التربية، وكذلك سوق العمل والسكن غير اللائق والعائلات الكبيرة العدد».
مما يستحق الإشارة، أن ثلاثة أشخاص من بين المشاركين في هجمات باريس هم من سكان مولنبيك. بل إن تقارير إعلامية أفادت بأن شخصًا رابعًا ربما شارك في التخطيط للهجمات وهو مطلوب في بلجيكا على ذمة قضايا أخرى. وكلها هذه مسائل ربما تثير مخاوف البلجيكيين. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط» قالت سيدة بلجيكية تعيش بالقرب من السوق الشعبية التي تقام في البلدية كل يوم خميس إنها «لا تتوقع حدوث هجمات في مولنبيك»، مضيفة «لا أعتقد أن هجمات يمكن أن تقع هنا لأنهم لن يقتلوا مواطنين من الأصول نفسها. وأنا أتعامل مع كل جيراني، لكن لا أستطيع أن أعرف ما في تفكير الجار من شر أو طيبة. وبعد ما حدث، من الممكن أن يحدث تصادم بين المسلمين والبلجيكيين». بينما قال رجل في العقد الخامس من عمره «الإرهاب يمكن أن يحدث في أي مكان في العالم، كما أن ».
في المقابل، في أعقاب حملات مداهمة شنت لاعتقال أحد المطلوبين، وفرض الشرطة طوقًا أمنيًا تباينت ردود الأفعال بشأنها من جانب سكان الحي. فقال أحدهم وهو من أصول مغاربية اسمه مصطفى «لا يمكن أن يكون الأمن وحده حلاً للإرهاب... وبالنسبة للشباب يجب أن نتعامل معهم كما نتعامل مع الشيوخ كبار السن، وأيضا مع الأطفال؛ لأن هذه الشريحة الإنسانية لم تجد من يستمع ويتفهم لمطالبها، مع أن هناك حاجة إلى تكوين شخصيتها». ويقول خليل زجندي، وهو رئيس إحدى الجمعيات في بروكسل، إن الشرطة والسلطات «تقاعستا عن مساعدة هؤلاء الشباب وفهم مطالبهم واكتشاف المتشددين منهم، والآن تقومان بعمليات مداهمة وتضييق أمني على السكان الذين هم في الأصل ضحايا، ورغم ذلك، يشير إليهم البعض بأصابع الاتهام».
وفي لقاء مع «الشرق الأوسط» رأى الشيخ نور الدين الطويل، وهو أحد أبرز القيادات الدينية في بروكسل ورئيس جمعية المسلمين الجدد، أن «بلجيكا لم تكن يومًا مرتعًا للتطرف والإرهاب، ولكن هناك فئة قليلة جدا انحرفت عن الطريق وسارت في طريق الانحراف لفترة من الوقت، ثم وقعت فريسة في أيدي من يستغلون ظروفهم». وحول انحراف هؤلاء وما ترتب عليه قال الشيخ نور الدين «هناك تقصير من جانب الحكومة البلجيكية ومن جانب أولياء الأمور، وأيضا من جانب المدارس. وفضلا عن كل ذلك هناك شيء خطير جدًا هو خطاب الكراهية الذي يظهر من وقت لآخر. ومن هنا يجب أن يعاد النظر في الخطاب الديني ويكون هناك خطاب معتدل كما يجب أيضا أن يكون هناك اهتماما بتكوين الأئمة وإعدادهم».
الشارع البلجيكي، إذن، بدا رافضًا في مجمله لما تردده وسائل إعلام غربية بأن بلجيكا أصبحت «حاضنة للتطرف والإرهاب». وإذ أكد البعض أن الأمر يقتصر على فئة قليلة جدًا من المسلمين وفي أحياء معروفة ومحددة داخل العاصمة البلجيكية، أشار آخرون إلى فشل الحكومة في دمج الأجانب في المجتمع ما قد يساهم في توفير أرضية للتطرف.



فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
TT

فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)

غداة إعلان باريس مصرع 13 جندياً من مواطنيها، في حادث تحطم مروحيتين عسكريتين في جمهورية مالي الأفريقية، كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يعلن في مؤتمر صحافي أن بلاده تدرس جميع الخيارات الاستراتيجية المتعلقة بوجودها العسكري في منطقة الساحل الأفريقي.
في تصريحاته، أكد ماكرون أنه أمر الجيش الفرنسي بتقييم عملياته ضد المسلحين في غرب أفريقيا، مشيراً إلى أن جميع الخيارات متاحة، وموضحاً أن بلاده «ترغب في مشاركة أكبر من قبل حلفائها في المنطقة من أجل مكافحة الإرهاب».

هل يمكن عد تصريحات ماكرون بداية لمرحلة فرنسية جديدة في مكافحة الإرهاب على أراضي القارة السمراء، لا سيما في منطقة دول الساحل التي تضم بنوع خاص «بوركينا فاسو، ومالي، وموريتانيا، والنيجر، وتشاد»؟
يتطلب منا الجواب بلورة رؤية واسعة للإشكالية الأفريقية في تقاطعاتها مع الإرهاب بشكل عام من جهة، ولجهة دول الساحل من ناحية ثانية.
بداية، يمكن القطع بأن كثيراً من التحديات الحياتية اليومية تطفو على السطح في تلك الدول، لا سيما في ظل التغيرات المناخية التي تجعل الحياة صعبة للغاية وسط الجفاف، الأمر الذي يولد هجرات غير نظامية من دولة إلى أخرى. وفي الوسط، تنشأ عصابات الجريمة المنظمة والعشوائية معاً، مما يقود في نهاية المشهد إلى حالة من الانفلات الأمني، وعدم مقدرة الحكومات على ضبط الأوضاع الأمنية، وربما لهذا السبب أنشأ رؤساء دول المنطقة ما يعرف بـ«المجموعة الخماسية»، التي تدعمها فرنسا وتخطط لها مجابهتها مع الإرهاب، والهدف من وراء هذا التجمع هو تنسيق أنشطتهم، وتولي زمام الأمور، وضمان أمنهم، من أجل الحد من تغلغل الإرهاب الأعمى في دروبهم.
على أنه وفي زمن ما يمكن أن نسميه «الإرهاب المعولم»، كانت ارتدادات ما جرى لتنظيم داعش الإرهابي في العراق وسوريا، من اندحارات وهزائم عسكرية العامين الماضيين، تسمع في القارة الأفريقية بشكل عام، وفي منطقة الساحل بنوع خاص، ولم يكن غريباً أو عجيباً أن تعلن جماعات إرهابية متعددة، مثل «بوكو حرام» وحركة الشباب وغيرهما، ولاءها لـ«داعش»، وزعيمها المغدور أبي بكر البغدادي.
وتبدو فرنسا، فعلاً وقولاً، عازمة على التصدي للإرهاب القائم والآتي في القارة السمراء، وقد يرجع البعض السبب إلى أن فرنسا تحاول أن تحافظ على مكاسبها التاريخية السياسية أو الاقتصادية في القارة التي تتكالب عليها اليوم الأقطاب الكبرى، من واشنطن إلى موسكو، مروراً ببكين، ولا تود باريس أن تخرج خالية الوفاض من قسمة الغرماء الأفريقية، أي أنه تموضع عسكري بهدف سياسي أو اقتصادي، وفي كل الأحوال لا يهم التوجه، إنما المهم حساب الحصاد، وما تخططه الجمهورية الفرنسية لمواجهة طاعون القرن الحادي والعشرين.
في حديثها المطول مع صحيفة «لوجورنال دو ديمانش» الفرنسية، كانت وزيرة الجيوش الفرنسية، فلورانس بارلي، تشير إلى أن فرنسا تقود جهوداً أوروبية لتشكيل قوة عسكرية لمحاربة تنظيمي «داعش» و«القاعدة» في منطقة الساحل الأفريقي، وأن هناك خطوات جديدة في الطريق تهدف إلى تعزيز المعركة ضد العناصر الإرهابية هناك، وإن طال زمن الصراع أو المواجهة.
ما الذي يجعل فرنسا تتحرك على هذا النحو الجاد الحازم في توجهها نحو الساحل الأفريقي؟
المؤكد أن تدهور الأوضاع في الساحل الأفريقي، وبنوع خاص المثلث الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، قد أزعج الأوروبيين أيما إزعاج، لا سيما أن هذا التدهور يفتح الأبواب لهجرات غير شرعية لسواحل أوروبا، حكماً سوف يتسرب في الوسط منها عناصر إرهابية تنوي إلحاق الأذى بالقارة الأوروبية ومواطنيها.
يكاد المتابع للشأن الإرهابي في الساحل الأفريقي يقطع بأن فرنسا تقود عملية «برخان 2»، وقد بدأت «برخان 1» منذ اندلاع أولى شرارات الأزمة الأمنية في منطقة الساحل، فقد التزمت فرنسا التزاماً حاراً من أجل كبح جماح التهديد الإرهابي.
بدأت العملية في يناير (كانون الثاني) 2013، حين تدخلت فرنسا في شمال مالي، عبر عملية «سيرفال»، بغية منع الجماعات الإرهابية التابعة لتنظيم القاعدة من السيطرة على البلاد.
والثابت أنه منذ ذلك الحين، توحدت العمليات الفرنسية التي تضم زهاء 4500 جندي تحت اسم عملية «برخان». وتعمل القوات الفرنسية في هذا الإطار على نحو وثيق مع القوات المسلحة في منطقة الساحل.
ويمكن للمرء توقع «برخان 2»، من خلال تحليل وتفكيك تصريحات وزيرة الجيوش الفرنسية بارلي التي عدت أن دول الساحل الأفريقي تقع على أبواب أوروبا. وعليه، فإن المرحلة المقبلة من المواجهة لن تكون فرنسية فقط، بل الهدف منها إشراك بقية دول أوروبا في مالي بقيادة عملية «برخان 2»، في إطار وحدة مشتركة تدعى «تاكوبا»، بغية مواكبة القوات المسلحة المالية.
ولعل المتابع لتصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون العام الحالي يرى أن الرجل يكاد ينزع إلى ما مضي في طريقه جنرال فرنسا الأشهر شارل ديغول، ذاك الذي اهتم كثيراً بوحدة أوروبا والأوروبيين بأكثر من التحالف مع الأميركيين أو الآسيويين.
ماكرون الذي أطلق صيحة تكوين جيش أوروبي مستقل هو نفسه الذي تحدث مؤخراً عما أطلق عليه «الموت السريري» لحلف الناتو. وعليه، يبقى من الطبيعي أن تكون خطط فرنسا هادفة إلى جمع شمل الأوروبيين للدفاع عن القارة، وعدم انتظار القوة الأميركية الأفريقية (أفريكوم) للدفاع عن القارة الأوروبية.
هذه الرؤية تؤكدها تصريحات الوزيرة بارلي التي أشارت إلى أن فرنسا تبذل الجهود الكبيرة من أجل أن يكون هناك أوروبيون أكثر في الصفوف الأولى مع فرنسا ودول الساحل. وقد أعلنت الوزيرة الفرنسية بالفعل أن «التشيكيين والبلجيكيين والإستونيين قد استجابوا أولاً، كما أن آخرين حكماً سينضمون إلى عملية (تاكوبا) عندما تصادق برلمانات بلادهم على انتشارهم مع القوات الفرنسية».
لا تبدو مسألة قيادة فرنسا لتحالف أوروبي ضد الإرهاب مسألة مرحباً بها بالمطلق في الداخل الفرنسي، لا سيما أن الخسائر التي تكمن دونها عاماً بعد الآخر في منطقة الساحل قد فتحت باب النقاش واسعاً في الداخل الفرنسي، فقد قتل هناك العشرات من الجنود منذ عام 2013، مما جعل بعض الأصوات تتساءل عن نجاعة تلك العملية، وفرصها في الحد من خطورة التنظيمات الإرهابية، وقد وصل النقاش إلى وسائل الإعلام الفرنسية المختلفة.
غير أنه، على الجانب الآخر، ترتفع أصوات المسؤولين الفرنسيين، لا سيما من الجنرالات والعسكريين، الذين يقارنون بين الأكلاف والخسائر من باب المواجهة، وما يمكن أن يصيب فرنسا وبقية دول أوروبا حال صمت الأوروبيين وجلوسهم مستكينين لا يفعلون شيئاً. فساعتها، ستكون الأراضي الأوروبية من أدناها إلى أقصاها أراضي شاسعة متروكة من الدول، وستصبح ملاجئ لمجموعات إرهابية تابعة لـ«داعش» و«القاعدة».
ما حظوظ نجاحات مثل هذا التحالف الأوروبي الجديد؟
يمكن القول إن هناك فرصة جيدة لأن يفعل التحالف الفرنسي الأوروبي الجديد حضوره، في مواجهة الإرهاب المتغلغل في أفريقيا، لا سيما أن الهدف يخدم عموم الأوروبيين، فتوفير الأمن والاستقرار في الجانب الآخر من الأطلسي ينعكس حتماً برداً وسلاماً على بقية عموم أوروبا.
ولم يكن الإعلان الفرنسي الأخير هو نقطة البداية في عملية «برخان 2» أو «تاكوبا»، فقد سبق أن أعلن رئيس الجمهورية الفرنسية، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، بمعية رئيس بوركينا فاسو السيد روش كابوريه، وهو الرئيس الحالي للمجموعة الخماسية لمنطقة الساحل، إبان مؤتمر قمة مجموعة الدول السبع في بياريتز، إنشاء الشراكة من أجل الأمن والاستقرار في منطقة الساحل.
وترمي هذه الشراكة مع بلدان المنطقة إلى تعزيز فعالية الجهود المبذولة في مجالي الدفاع والأمن الداخلي، وإلى تحسين سبل تنسيق دعم الإصلاحات الضرورية في هذين المجالين، وتمثل ضرورة المساءلة مقوماً من مقومات هذه الشراكة.
ولا يخلو المشهد الفرنسي من براغماتية مستنيرة، إن جاز التعبير، فالفرنسيون لن يقبلوا أن يستنزفوا طويلاً في دفاعهم عن الأمن الأوروبي، في حين تبقى بقية دول أوروبا في مقاعد المتفرجين ليس أكثر، وربما لمح الفرنسيون مؤخراً من طرف خفي إلى فكرة الانسحاب الكامل الشامل، إن لم تسارع بقية دول القارة الأوروبية في إظهار رغبة حقيقية في تفعيل شراكة استراتيجية تستنقذ دول الساحل الأفريقي من الوقوع لقمة سائغة في فم الجماعات الإرهابية، في منطقة باتت الأنسب ليتخذها الإرهابيون مخزناً استراتيجياً ومنطقة حشد لهم، وفي مقدمة تلك الجماعات مجموعات إرهابية تابعة لتنظيم القاعدة تجتمع تحت راية جماعة «نصرة الإسلام والمسلمين»، وأخرى تابعة لتنظيم داعش على غرار التنظيم الإرهابي في الصحراء الكبرى، التي تقوم بتنفيذ كثير من الهجمات ضد القوات المسلحة في منطقة الساحل، والقوات الدولية التي تدعمها، والتي تضم بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الإبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي، المكلفة بدعم تنفيذ اتفاق السلام المنبثق عن عملية الجزائر العاصمة، ودعم جهود إرساء الاستقرار التي تبذلها السلطات المالية في وسط البلاد.
ولعل كارثة ما يجري في منطقة الساحل الأفريقي، ودول المجموعة الخماسية بنوع خاص، غير موصولة فقط بالجماعات الراديكالية على اختلاف تسمياتها وانتماءاتها، فهناك مجموعات أخرى مهددة للأمن والسلام الأوروبيين، جماعات من قبيل تجار المخدرات والأسلحة، وكذا مهربو البشر، وتهريب المهاجرين غير الشرعيين، وهذا هاجس رهيب بدوره بالنسبة لعموم الأوروبيين.
على أن علامة استفهام تبقى قلقه محيرة بالنسبة لباريس وقصر الإليزيه اليوم، وهي تلك المرتبطة بالإرادة الأوروبية التي تعاني من حالة تفسخ وتباعد غير مسبوقة، تبدت في خلافات ألمانية فرنسية بنوع خاص تجاه فكرة استمرار الناتو، وطرح الجيش الأوروبي الموحد.
باختصار غير مخل: هل دعم الأوروبيين كافة لعملية «برخان 2» أمر مقطوع به أم أن هناك دولاً أوروبية أخرى سوف تبدي تحفظات على فكرة المساهمة في تلك العمليات، خوفاً من أن تستعلن فرنسا القوة الضاربة الأوروبية في القارة الأفريقية من جديد، مما يعني عودة سطوتها التي كانت لها قديماً في زمن الاحتلال العسكري لتلك الدول، الأمر الذي ربما ينتقص من نفوذ دول أخرى بعينها تصارع اليوم لتقود دفة أوروبا، في ظل حالة الانسحاب من الاتحاد التي تمثلها بريطانيا، والمخاوف من أن تلحقها دول أخرى؟
مهما يكن من أمر الجواب، فإن تصاعد العمليات الإرهابية في الفترة الأخيرة، أو حدوث عمليات جديدة ضد أهداف أوروبية في القارة الأفريقية، وجريان المقدرات بأي أعمال إرهابية على تراب الدول الأوروبية، ربما يؤكدان الحاجة الحتمية لتعزيز توجهات فرنسا، وشراكة بقية دول أوروبا، ويبدو واضحاً أيضاً أن بعضاً من دول أفريقيا استشرفت مخاوف جمة من تعاظم الإرهاب في منطقة الساحل الأفريقي، مثل تشاد التي وافقت على تعبئة مزيد من الجيوش في المثلث الحدودي الهش مع النيجر وبوركينا فاسو.