مايكل غوف... الطريق إلى 10 داونينغ ستريت

بعد الطلاق البريطاني ـ الأوروبي

مايكل غوف... الطريق إلى 10 داونينغ ستريت
TT

مايكل غوف... الطريق إلى 10 داونينغ ستريت

مايكل غوف... الطريق إلى 10 داونينغ ستريت

تسبب الاستفتاء الذي نُظم يوم 23 يونيو (حزيران) الماضي في بريطانيا وأسفر عن تصويت غالبية البريطانيين لصالح الانسحاب من الاتحاد الأوروبي بـ«زلزال» اقتصادي وسياسي. فالنتيجة الصادمة على المستويين الداخلي والخارجي أثارت «تسونامي» اقتصاديًا أطاح خلال ثلاثة أيام فقط بمليارات الجنيهات من قيمة الأسهم البريطانية قدّرها خبراء ماليون واقتصاديون بأنها تفوق ما تدفعه البلاد حاليًا للاتحاد الأوروبي، على امتداد أكثر من 35 سنة.
أما على الصعيد السياسي، فأدت النتيجة إلى إعلان رئيس الحكومة ديفيد كاميرون، الذي كان في طليعة مؤيدي «البقاء» ضمن الاتحاد، استقالته من منصبه، ودعوته حزبه، حزب المحافظين الحاكم، إلى انتخاب زعيم جديد يتولى على الفور رئاسة الحكومة، وتفجّر أزمة زعامة في حزب العمال المعارض، بعدما اتهمت غالبية نواب الحزب زعيمه اليساري المتشدد جيريمي كوربن بـ«التآمر» على نواب الحزب في مجلس العموم والامتناع عن دعم موقفه الرسمي الداعم لـ«البقاء».
غير أن الأمر اللافت أكثر من غيره كان انفراط التحالف الذي قاد حملة «الخروج» من أوروبا في حزب المحافظين، وانقلاب وزير العدل مايكل غوف على حليفه عمدة لندن السابق بوريس جونسون، وإعلانه ترشيح نفسه لزعامة الحزب، مما اضطر جونسون للانسحاب من حلبة التنافس.
ما كانت «الكاريزما» في يوم من الأيام مزيّة لافتة في شخصية مايكل غوف، وزير العدل البريطاني، والسياسي والكاتب الصحافي ذي النزعة الأكاديمية الجافة. ثم أن الرجل نفسه لم يطرح نفسه إطلاقا، من قبل، كمشروع زعيم، بل على العكس كان ينفي وجود أي نية لديه ببلوغ مركز القرار. وهذا ما جعله في أنظار المعظم «شخصية الظل» الممتازة التي يمكن أن تكون رصيدًا لأي زعيم مستقبلي لحزب المحافظين، وبالتالي، رئيس الحكومة.
على العكس تمامًا، كان زميله وحليفه السابق بوريس جونسون. وهو محافظ مثله، وكاتب وصحافي سياسي مثله، وخريج جامعة أكسفورد مثله، لكن ما لا يختلف عليه اثنان أن جونسون شخصية جذابة وطريفة أحيانا إلى درجة الخفة والظرف الأخرق. وبالفعل، تجلّت «كاريزما» جونسون بفوزه الكبير بمنصب عمدة لندن 2008 متغلبًا على العمدة العمالي السابق اليساري كين ليفينغستون. ثم مما ساعده على تعزيز شعبيته استضافة لندن في عهد عموديته الألعاب الأولمبية عام 2012. وبعدها مع عجز رئيس الوزراء المحافظ المعتدل ديفيد كاميرون عن توحيد أجنحة الحزب خلف قيادته - لا سيما في شأن البقاء في أوروبا أو الخروج منها - أخذ بعض نواب الحزب وقادة كتله تطرح اسم جونسون كخليفة محتمل.
طيلة هذه الفترة لم يكن اسم مايكل غوف مطروحًا كزعيم، لا سيما أن أداءه الوزاري، وبالأخص إبان توليه حقيبة وزارة التربية والتعليم، لم يكن متميزًا بقدر ما كان مثيرًا للجدل.

سيرة شخصية
وُلِد مايكل غوف يوم 26 أغسطس (آب) 1967، أي أنه في الثامنة والأربعين من العمر، في العاصمة الاسكوتلندية أدنبره. ومع إتمامه أربعة شهور تبنّته عائلة مؤيدة لحزب العمال في مدينة أبردين في أقصى شمال شرقي اسكوتلندا وبريطانيا، حيث نشأ على المذهب البروتستانتي في كنف العائلة. وكان أبوه بالتبني يدير مؤسسة تعمل بتعليب الأسماك وأمه بالتبني موظفة مختبر في جامعة أبردين، قبل أن تتولى العمل في مدرسة للصم في المدينة نفسها. وغوف متزوج منذ عام 2001 من الصحافية والناشطة المحافظة سارة فاين، ولهما ولدان.
تلقى تعليمه الابتدائي والثانوي في مدرسة حكومية بأبردين، ثم في كلية روبرت غوردن الخاصة العريقة، بعد حصوله على منحة دراسية. ثم في عام 1985 التحق بجامعة أكسفورد (كلية ليدي مارغريت هول) حيث تخرّج عام 1988 بدرجة البكالوريوس في السياسة والفلسفة والاقتصاد، وإبان فترة دراسته في أكسفورد اختير لترؤس «اتحاد أكسفورد» الطلابي.
في أعقاب التخرج امتهن غوف العمل الصحافي، فعمل بداية مراسلاً متمرنًا في صحيفة «برس آند جورنال» في أبردين، وإبان فترة عمله هذه عايش لأول الصراعات النقابية والعمالية. غير أن النقلة التي صنعت اسمه في عالمي الصحافة والسياسة انتقاله عام في صحيفة «التايمز» محررًا، ثم ترقى في عدد من المسؤوليات التحريرية لينتهي كاتب مقالات من أبرز كتابها.
وعبر «التايمز»، كذلك ملحقها الأدبي ومجلة «السبكتايتور» اليمينية مقالات سياسية مهمة ولافتة. وعرفت عنه خلال هذه الحقبة علاقاته الطيبة مع الناشر الملياردير اليميني روبرت مردوخ (مالك «التايمز» و«الصن»). وأيضًا شارك غوف ببرامج وتحقيقات تلفزيونية وإذاعية كثيرة.

في البرلمان والحكومة
في عام 2005 دخل مجلس العموم لأول نائبًا عن حزب المحافظين، إثر فوزه بالمقعد البرلماني المضمون لدائرة سري هيث في أرياف مقاطعة سري إلى الجنوب الغربي من العاصمة لندن. وخلال سنتين فقط، عام 2007، اختير عضوًا في «حكومة الظل» المعارضة برئاسة ديفيد كاميرون وتولى حقيبة الأطفال والتعليم والعائلات.
وبعد انتخابات 2010 التي أنهت حكم العمال المستمر منذ 1997، والتي عجز خلالها أي من الأحزاب الرئيسية عن كسب غالبية مطلقة، شكل المحافظون برئاسة كاميرون حكومة ائتلافية مع حزب الديمقراطيين الأحرار الوسطي، أسندت إلى غوف حقيبة وزارة التربية والتعليم.
ومع أنه حاول تعميم تجربة «الأكاديميات» (نوع من المدارس المتوسطة والثانوية) التي بدأتها الحكومة العمالية، فإن أسلوبه سرعان ما أدى لاصطدامه عام 2013 بـ«الرابطة الوطنية لمديري المدارس» التي شكت من ممارساته «الضاغطة والترهيبية» وصوتت لسحب الثقة عنه. ومن ثم، سرعان ما امتدت معارضة سياسات غوف التعليمية من رابطة مديري المدارس إلى «رابطة المعلمين والمحاضرين»، والاتحاد الوطني للمعلمين وغيرها من اتحادات المعلمين.
ولم يطل الوقت حتى غادر غوف منصبه وزيرًا للتربية والتعليم، إذ في أعقاب التعديل الوزاري الذي جرى عام 2014 نقل ليتولى منصب كبير مسؤولي النظام في الحكومة. ثم بعد فوز المحافظين بغالبية مطلقة في عام 2015 مكّنتهم من الحكم منفردين، من دون الحاجة إلى تحالف مع أحزاب أخرى، رقّي غوف إلى منصب كبير المستشارين ووزير العدل. ومن موقع غوف في هذا المنصب بالذات فإنه لعب دورًا محوريًا بارزًا في حملة الاستفتاء على خروج بريطانيا أو بقائها في الاتحاد الأوروبي، وكان مع عمدة لندن السابق بوريس جونسون الشخصيتين الأبرز في معسكر دعاة «الخروج»، يدعمهما تيار داخل حزب المحافظين يحسب عمومًا على اليمينيين المشككين تقليديًا بفضائل التكامل الأوروبي. وما يذكر في هذا المجال أن هذا التيار المشكك صار أكثر جرأة في طروحاته الانفصالية عن أوروبا بعد ظهور «حزب استقلال المملكة المتحدة» (يوكيب) اليميني المناوئ للمهاجرين، والرافض بقاء بريطانيا داخل الاتحاد. وكان بروز هذا الحزب بالذات وراء خيار رئيس الوزراء كاميرون إجراء الاستفتاء، مع أنه ما كان مضطرًا لإجرائه.

معركة الزعامة
في أعقاب الاستفتاء الأوروبي، ونتيجته «المزلزلة» كان كثيرون في حزب المحافظين والشارع البريطاني، عمومًا، يتوقعون بعد أن تهدأ الخواطر ويستقر وضع الأسهم، أن تبدأ معركة خلافة ديفيد كاميرون، الذي اختار الابتعاد عن السلطة بأنفة وشهامة، متحملاً المسؤولية في رهانه الخاسر.
كذلك كان السواد الأعظم من المتابعين يتوقعون أن يكون جونسون هو المرشح «الجاهز» والأوفر حظًا لأن يتولى زعامة الحزب، ومن ثم تلقائيًا، رئاسة الحكومة بعد سريان مفعول استقالة كاميرون إبان المؤتمر الوطني للحزب هذا الخريف. غير أن الانقسام الحاد داخل صفوف الحزب بين مناصري «البقاء» ومؤيدي «الخروج»، والخسائر المالية الضخمة المبكرة في بورصة لندن وحي «السيتي» (حي المال والأعمال)، فضل جونسون وغوف التريث والتزام الحذر والصمت مؤقتًا، في حين بدأت جهات محسوبة على قلب «المؤسسة» الحزبية تعمل على دفع مرشح (أو مرشحة) فوق الانقسام الحاد يستطيع لملمة الصفوف المنقسمة والانطلاق من أرضية صلبة للتفاوض مع الأوروبيين خلال الأشهر المقبلة على ترتيبات الخروج.
وحقًا، بادرت وزيرة الداخلية تيريزا ماي، وهي سياسية محترمة تعد من مؤيدي التقارب الأوروبي لكنها - بحكم موقعها وزيرة للداخلية - عرف عنها تشددها إزاء ظاهرة الهجرة غير الشرعية، وكذلك مكافحة الإرهاب، إلى تقديم ترشحها. ولم يلبث الباب أن فتح أمام مرشحين آخرين.
إلا أن المفاجأة الضخمة جاءت من قلب ما كان حتى تلك اللحظة «كتلة الحليفين» الأبرز في معسكر الخروج... أي جونسون وغوف. بينما كان الإعلاميون والنواب والجمهور ينتظر إعلان جونسون ترشيحه نفسه ضد ماي، بادر غوف إلى ترشيح نفسه وتبرير هذا الترشيح بكلام يمس مكانة «حليفه» السابق، ويشكل - كما رأى كثيرون - خيانة وطعنة في الظهر.
إذ قال غوف، الذي سبق له القول صراحة إنه غير راغب بمنصب رئاسة الحكومة، في بيان ترشحه يوم أول من أمس: «لقد توصلت إلى قناعة مؤداها أن بوريس (جونسون) لا يستطيع أن يقود أو يبني فريقًا مؤهلاً للمهام التي تنتظرنا!».
ولم ينتظر جونسون طويلاً، إزاء هذه الصراحة الجارحة والتشكيك بمؤهلاته القيادية من أقرب حلفائه، إذ بادر بسرعة إلى إعلان عزوفه عن خوض معركة الزعامة، التي يبدو أنها حتى اللحظة على الأقل ستدور بين مجموعة من الوزراء الحاليين والسابقين، على رأسهم ماي وغوف، ومعهما وزير الدفاع السابق ليام فوكس ووزير العمل والتعويضات ستيفن كراب.
في مطلق الأحوال فإن غوف يواجه معركة صعبة، خلال الأسابيع المقبلة ستحتدم المعركة وتتكشف التحالفات التكتيكية، وترمي الكتل المالية والسياسية والمصلحية النافذة داخل الحزب بثقلها مع هذا المرشح أو ذاك، ولا يتوقع أن تتضح الصورة بسرعة، مع أن ثمة من يرجح أن يتجنب المحافظون الذهاب مع مرشحين يعمّقون الانقسامات.

مشكلات أخرى
ولكن لعل ما يزيد الصورة العامة غموضًا، سواء ربح مايكل غوف معركته داخل حزب المحافظين أو خسر، أن ثمة مشكلات أخرى تعج بها الحياة السياسية البريطانية في هذه الساعات.
ذلك أن حزب العمال أيضًا يعيش صراع أجنحة عنيفًا، وهو الذي يفترض به أن يستفيد من الأزمة التي زجّ المحافظون أنفسهم بها عبر استفتاء قسم صفوفهم وأسقط زعيمهم وهدد حكومتهم. وإصرار زعيم العمال اليساري جيريمي كوربن على رفض مطالبات نواب الحزب بالاستقالة، وسعيه للاستقواء بنقابات العمال وحركيي الفروع الحزبية ضد النواب، يهدد بتفسخ الحزب وانقسامه إلى حزبين: الأول اشتراكي معتدل تمثله الغالبية الساحقة من النواب الحاليين، والثاني يساري متطرف يمثله كوربن وأصحابه.
وكان نواب الحزب الذين اتهموا كورين بالمخادعة والتقصير المتعمّد في دعم حملة «البقاء» في أوروبا، قد صوّتوا بالأمس بغالبية 172 صوتًا مقابل 40 لصالح تنحّي كورين، لكن الأخير لتاريخه يعاند ويتهم النواب بالانقلاب على الحزب وجذوره الجماهيرية.
أيضًا هناك التحدي الانفصالي الذي يشكله الإقليمان ذاتيا الحكم اللذان صوتا مع «البقاء» وهما اسكوتلندا وآيرلندا الشمالية. وثمة من يشك بإمكانية إقناع الاسكوتلنديين على الأقل بصرف النظر عن استفتاء شعبي يمهّد لاستقلال اسكوتلندا وانفصالها عن بريطانيا، ومن ثم عودتها إلى «الحضن الأوروبي» منفردة.



الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
TT

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)

شأن معظم دول المنطقة والإقليم، تسببت الأزمة السورية المتصاعدة في تراجع الاهتمام الرسمي والشعبي العراقي بالحرب التي تشنّها إسرائيل على غزة ولبنان، بعد أن كانت تحظى بأولوية قصوى، خصوصاً بعد التهديدات الإسرائيلية بتوجيه ضربات عسكرية ضد الفصائل المسلحة العراقية التي استهدفتها بأكثر من 200 هجمة صاروخية خلال الأشهر الماضية. وأظهر رئيس الوزراء محمد شيّاع السوداني، موقفاً داعماً للحكومة السورية في ظروفها الحالية منذ اليوم الأول للهجوم الذي شنَّته الفصائل السورية المسلحة وتمكّنت من السيطرة على محافظة حلب ومدن أخرى، إذ أجرى اتصالاً بالرئيس السوري بشار الأسد وكذلك الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، وأكد دعمه لدمشق.

أعلن رئيس الحكومة العراقي محمد شيّاع السوداني، يوم الثلاثاء الماضي، موقفاً أكثر وضوحاً بالنسبة لدعم نظام دمشق، وذلك خلال اتصال - مماثل لاتصاليه مع القيادتين السورية والإيرانية - أجراه مع الرئيس التركي رجب طيب إردوغان.

ومما قاله السوداني إن «العراق لن يقف متفرجاً على التداعيات الخطيرة الحاصلة في سوريا، خصوصاً عمليات التطهير العرقي للمكوّنات والمذاهب هناك»، طبقاً لبيان حكومي.

كذلك شدّد الزعيم العراقي على أنه سبق لبلاده أن «تضرّرت من الإرهاب ونتائج سيطرة التنظيمات المتطرّفة على مناطق في سوريا، ولن يُسمَح بتكرار ذلك»، مؤكداً «أهمية احترام وحدة سوريا وسيادتها، وأن العراق سيبذل كل الجهود من أجل الحفاظ على أمنه وأمن سوريا».

محمد شياع السوداني (آ ف ب)

السوداني كان قد انهمك بسلسلة اتصالات خلال الأيام القليلة الماضية مع عدد من قادة الدول، بخصوص الوضع في سوريا؛ من «أجل دعم الاستقرار في المنطقة، وعدم حصول أي تداعيات فيها، خصوصاً مع ما تشهده من حرب إجرامية صهيونية مستمرة منذ أكثر من عام» بحسب بيان حكومي.

وأظهرت قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية موقفاً مماثلاً وداعماً لحكومة السوداني في مواقفها حيال سوريا، لكنها أعربت خلال اجتماع، الثلاثاء الماضي أيضاً، عن قلقها جراء الأوضاع في سوريا بعد «احتلال الإرهابيين مناطق مهمة» طبقاً لبيان صدر عن الاجتماع. وعدّت «أمن سوريا امتداداً للأمن القومي العراقي للجوار الجغرافي بين البلدين، والامتدادات المختلفة لذلك الجوار».

الحدود المشتركة مؤمّنة

للعلم، مع الشرارة الأولى لاندلاع الأزمة السورية، اتخذت السلطات العراقية على المستوى الأمني إجراءات عديدة «لتأمين» حدودها الممتدة لأكثر من 600 كيلومتر مع سوريا. وصدرت بيانات كثيرة حول جاهزية القوات العراقية وقدرتها على التصدّي لأي محاولة توغّل داخل الأراضي العراقية من قبل الفصائل المسلحة من الجانب السوري، مثلما حدث صيف عام 2014، حين تمكَّنت تلك الجماعات من كسر الحدود المشتركة والسيطرة على مساحات واسعة من العراق.

اللواء يحيى رسول، الناطق باسم القائد العام للقوات المسلحة العراقية، أوضح (الثلاثاء) أبرز الإجراءات المُتَّخذة لتحصين الحدود مع سوريا. وقال في تصريحات صحافية إن «الحدود مؤمَنة ومُحكمة بشكل كبير من تحكيمات وتحصينات، وهناك وجود لقوات الحدود على خط الصفر الذي يربطنا مع الجارة سوريا مدعومة بالأسلحة الساندة والجهد الفني، المتمثل بالكاميرات الحرارية وأبراج المراقبة المحصّنة». وأضاف رسول: «لا خوف على الحدود العراقية، فهي مؤمّنة ومحكمة ومحصّنة، وأبطالنا منتشرون على طولها»، مشيراً إلى أنه «تم تعزيز الحدود بقطاعات من الألوية المدرعة وهي موجودة أيضاً عند الحدود».

أيضاً، وصل وفد أمني برئاسة الفريق أول قوات خاصة الركن عبد الأمير رشيد يارالله، رئيس أركان الجيش، يوم الأربعاء، إلى الشريط الحدودي العراقي - السوري. وذكر بيان عسكري أن «هدف الزيارة جاء لمتابعة انتشار القطعات الأمنية وانفتاح خطوط الصد».

غموض في الموقف

إلا أنه حتى مع المواقف الحكومية الداعمة لدمشق في أزمتها الراهنة، يبدو جلياً «الالتباس» بالنسبة لكثرة من المراقبين، وبالأخص لجهة شكل ذلك الدعم وطبيعته، وما إذا كانت السلطات الحكومية العراقية ستنخرط بقوة لمساعدة نظام الأسد عسكرياً، أم أنها ستبقى عند منطقة الدعم السياسي والدبلوماسي، تاركة أمر الانخراط والمساعدة الميدانية للفصائل المسلحة.

وهنا يلاحظ إياد العنبر، أستاذ العلوم السياسية في جامعة بغداد، وجود «التباس واضح حيال الموقف من الحدث السوري، وهذا الالتباس نختبره منذ سنوات، وليس هناك تمييز واضح بين العراق الرسمي وغير الرسمي». وتابع العنبر لـ«الشرق الأوسط» أن «مستويات تفعيل المساهمة العراقية في الحرب غير واضحة، وإذا ما قررت الحكومة البقاء على المستوى الدبلوماسي بالنسبة لقضة دعم سوريا، أم أن هناك مشاركة عسكرية».

غير أن إحسان الشمري، أستاذ الدراسات الاستراتيجية والدولية في جامعة بغداد، يعتقد بأن «العراق الرسمي عبَر عتبة التردّد، وبات منخرطاً في الأزمة السورية». وفي لقاء مع «الشرق الأوسط» بنى الشمري فرضيته على مجمل المواقف الرسمية التي صدرت عن رئيس الوزراء، والناطق الرسمي، وزعماء «الإطار التنسيقي»، وشرح قائلاً إن «هذه المواقف بمجملها كسرت مبدأ الحياد وعدم التدخل في شؤون الدول الأخرى الذي يتمسّك به العراق، إلى جانب كونها انخراطاً رسمياً عراقياً بالأزمة السورية».

نتنياهو غير مضمون

ولكن، بعيداً عن الانشغال الراهن بالأزمة السورية، ما زالت التهديدات الإسرائيلية بين أهم القضايا التي تشغل الرأي العام ببعدَيه السياسي والشعبي. وحتى مع الترحيب العراقي بقرار وقف إطلاق النار بين إسرائيل و«حزب الله»، ما زالت مخاوف البلاد من ضربة إسرائيلية محتملة قائمةً.

ولقد قال الناطق باسم الحكومة باسم العوادي، الأربعاء قبل الماضي، في تصريحات صحافية، إنه «مع عملية وقف إطلاق النار في لبنان، نحن أنهينا الجزء الأسهل، فالمعركة انتهت والحرب لم تنتهِ، فالأصعب أنك ستدخل بالمخططات غير المعلومة. ونحن (العراق) واقعون في المنطقة الحرام، لكن السياسة العقلانية المتوازنة استطاعت أن تجنبنا الضرر».

وأجاب، من ثم، عن طبيعة الرد العراقي إذا ما هاجمت إسرائيل أراضيه، بالقول: «إلى حد أيام قليلة كانت تأتي نتائج جيدة من المعادلات التي اشتغل عليها رئيس الوزراء، لكن رغم ذلك فلا أحد يضمن ما الذي يدور في بال حكومة نتنياهو، وما هو القادم مع الإدارة الأميركية الجديدة، وكيف سيتصرف نتنياهو».

وتابع العوادي، أن «الإسرائيليين عملوا على تفكيك الساحات، وتوجيه ضربات إلى اليمن وسوريا، لكن الطرف العراقي هو الوحيد الذي لم يستطيعوا الوصول إليه بفضل المعادلة... وقد يكونون وضعونا للحظات الأخيرة أو الأيام الأخيرة بنوع ما، وهذا وارد جداً، وتتعامل الحكومة العراقية مع ذلك».

شبح هجوم إسرائيلي

وحقاً، لا يزال شبح هجوم إسرائيلي واسع يخيم على بغداد، إذ تناقلت أوساط حزبية تحذيرات جدية من شنِّ ضربات جوية على العراق. وفي وقت سابق، قال مصدر مقرّب من قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، لـ«الشرق الأوسط»، إنَّ «مخاوف الأحزاب الشيعية من جدية التهديد دفعتها إلى مطالبة رئيس الحكومة للقيام بما يلزم لمنع الهجمات». وأكَّد المصدر أنَّ «فصائل عراقية مسلّحة لجأت أخيراً إلى التحرك في أجواء من التكتم والسرية، وقد جرى بشكل مؤكد إبدال معظم المواقع العسكرية التابعة لها».

وفي سياق متصل، تتحدَّث مصادر صحافية عمَّا وصفتها بـ«التقديرات الحكومية» التي تشير إلى إمكانية تعرّض البلاد لـ«300 هجوم إسرائيلي». وفي مطلع الأسبوع الماضي، شدَّدت وزارة الخارجية العراقية، في رسالة إلى مجلس الأمن، على أهمية «تدخل المجتمع الدولي لوقف هذه السلوكيات العدوانية لإسرائيل».

كما أنَّه حيال التهديدات الجدية والخشية الحقيقية من عمل عسكري إسرائيل ضد البلاد، اهتدت بعض الشخصيات والأجواء المقرّبة من الحكومة والفصائل إلى «رمي الكرة» في الملعب الأميركي، مستندين بذلك إلى اتفاقية «الإطار الاستراتيجي» المُوقَّعة منذ عام 2011، بين بغداد وواشنطن، وهو العام الذي خرجت فيه القوات الأميركية من العراق.

التهديدات الإسرائيلية من أهم القضايا التي تشغل الرأي العام العراقي

هادي العامري (رووداو)

العامري يلوم واشنطن

أيضاً، وجد هادي العامري، زعيم منظمة «بدر»، بنهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، الفرصة ليحمّل واشنطن مسؤولية حماية الأجواء العراقية، بعدما شنَّت إسرائيل هجوماً عسكرياً ضد إيران، مستخدمةً الأجواء العراقية في هجماتها. ويومذاك، حمّل العامري الجانب الأميركي «المسؤولية الكاملة» على انتهاك إسرائيل سيادة الأجواء العراقية في طريقها لضرب إيران. وقال، إن «الجانب الأميركي أثبت مجدّداً إصراره على الهيمنة على الأجواء العراقية، وعمله بالضد من مصالح العراق وشعبه وسيادته، بل سعيه لخدمة الكيان الصهيوني وإمداده بكل ما يحتاج إليه لممارسة أساليبه العدوانية، وتهديده للسلام والاستقرار في المنطقة».

وأضاف العامري: «لهذا باتت الحاجة ماسة أكثر من أي وقت مضى لإنهاء الوجود العسكري الأميركي في العراق بأشكاله كافة». وللعلم، فإن منظمة «بدر» - التي يقودها العامري - وردت ضمن لائحة المنظمات التي اتهمتها إسرائيل بشنِّ هجمات ضدها خلال الشكوى التي قدمتها إلى مجلس الأمن في 18 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي.

وبناءً على تصريحات العامري السالفة، وتصريحات أخرى لشخصيات مقرّبة من الفصائل المسلحة وقوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، تبلورت خلال الأسبوع الأخير، قناعة داخل أوساط هذه القوى مفادها، بأن واشنطن «ملزمة وبشكل مباشر بحماية الأجواء العراقية» من أي هجوم محتمل من إسرائيل أو غيرها، أخذاً في الاعتبار الاتفاقية الاستراتيجية الموقعة و«سيطرتها على الأجواء العراقية».

وبالتوازي، سبق أن حمّل فادي الشمري، المستشار السياسي لرئيس الوزراء، الولايات المتحدة، أيضاً وفقاً لـ«اتفاقية الإطار الاستراتيجي والاتفاقية الأمنية»، مسؤولية «الردع، والرد على أي هجمات خارجية تمسّ الأمن الداخلي العراقي».

الرد الأميركي قاطع

في المقابل، تخلي واشنطن مسؤوليتها حيال هذا الأمر. ورداً على المزاعم العراقية المتعلقة بـ«الحماية الأميركية»، قالت ألينا رومانوسكي، السفيرة الأميركية في بغداد، صراحةً إن بلادها غير معنية بذلك. وأردفت رومانوسكي، خلال مقابلة تلفزيونية سابقة، أن التحالف الدولي دُعي إلى العراق لـ«محاربة (داعش) قبل 10 سنوات، وقد حققنا إنجازات على مستوى هزيمة هذا التنظيم، لكنه ما زال يمثل بعض التهديد، ودعوة الحكومة العراقية لنا تتعلق بهذا الجانب حصراً. أما اتفاقية الإطار الاستراتيجي فتلزمنا ببناء القدرات العسكرية العراقية، لكنها لا تتطرق لمسألة حماية الأجواء والدفاع بالنيابة». ونفت السفيرة أن تكون بلادها قد «فرضت سيطرتها على سماء العراق».

والاثنين قبل الماضي، قالت رومانوسكي، خلال لقاء «طاولة مستديرة» لعدد من وسائل الإعلام: «أود أن أكون واضحة جداً، ومنذ البداية، بأن الإسرائيليين وجّهوا تحذيرات ردع للميليشيات المدعومة إيرانياً والموجودة هنا في العراق، التي تعتدي على إسرائيل». وأضافت: «هذه الميليشيات هي التي بدأت الاعتداء على إسرائيل. ولأكون واضحة جداً في هذه النقطة، فإن الإسرائيليين حذّروا حكومة العراق بأن يوقف هذه الميليشيات عن اعتداءاتها المتكررة والمستمرة على إسرائيل... إن رسالتنا إلى حكومة العراق هي أن تسيطر على هذه الميليشيات المنفلتة، والتي لا تعتد بأوامر الحكومة وأوامر القائد العام للقوات المسلحة رئيس الوزراء. إن إسرائيل دولة لها سيادتها، وهي سترد على أي اعتداء من أي مكان ضدها».

جدعون ساعر (آ ف ب)

 

حقائق

قلق عراقي جدّي من التهديدات الإسرائيلية مع مطالبة واشنطن بالتدخّل

خلال الأسبوع قبل الماضي، بعث وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر رسالةً إلى مجلس الأمن تكلّم فيها عمّا أسماه بـ«حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها»، وحمّل فيها الحكومة العراقية المسؤولية عن الهجمات التي تشنها الفصائل العراقية عليها، داعياً مجلس الأمن للتحرك والتأكد من أن الحكومة العراقية تفي بالتزاماتها. ساعر اتّهم بالتحديد «عصائب أهل الحق» و«كتائب حزب الله» و«ألوية بدر» وحركة «النُّجباء» و«أنصار الله الأوفياء» و«كتائب سيد الشهداء»، بمهاجمة إسرائيل، ومعظم هذه الفصائل مشاركة في الحكومة العراقية الحالية ولها نفوذ كبير داخلها. هنا، تجدر الإشارة إلى أنه سبق لرئاسة الوزراء العراقية توجيه وزارة الخارجية لمتابعة ملف التهديدات الإسرائيلية في المحافل الأممية والدولية وأمام هيئات منظمة الأمم المتحدة، واتخاذ كل الخطوات اللازمة، وفق مبادئ القانون الدولي، لحفظ حقوق العراق وردع تهديدات إسرائيل العدوانية. كذلك طالبت رئاسة الوزراء بـ«دعوة جامعة الدول العربية إلى اتخاذ موقف حازم وموحّد ضد تهديدات سلطات الكيان المحتل، يتضمن إجراءات عملية تستند إلى وحدة المصير والدفاع المشترك». وهذا بجانب «مطالبة مجلس الأمن الدولي بالنظر في الشكاوى المقدمة من جمهورية العراق ضد سلطات الكيان المحتل، واتخاذ إجراءات رادعة تكفل تحقيق الاستقرار والسِّلم الإقليمي والدولي»، وباتخاذ الولايات المتحدة مع العراق، من خلال الحوارات الأمنية والعسكرية ضمن إطار القسم الثالث من «اتفاقية الإطار الاستراتيجي»، خطوات فعالة «لردع سلطات الكيان المحتل» مع دعوة «التحالف الدولي والدول الأعضاء فيه إلى كبح هذه التهديدات والحدّ من اتساع رقعة الحرب».