فضاءات جديدة لممارسة التفلسف

كي لا يحتكروا حب الفلسفة ويبتعد عن ساحاتها الآخرون

حنا ارنت
حنا ارنت
TT

فضاءات جديدة لممارسة التفلسف

حنا ارنت
حنا ارنت

قلما نسمع عن المقهى الفلسفي، والصالون الفلسفي، وحلقة الفلسفة، والفلسفة والزنقة، والفلسفة في المستشفى، والفلسفة للأطفال، والاستشارة الفلسفيّة، والفلسفة في المقاولة. فبم يتعلق الأمر؟ هل هي حقا مجالات جديدة استقبلت الفلسفة؟ أم أن الفلسفة هي التي اقتحمت هذه المجالات وفرضت نفسها؟ هل هناك حاجة إلى تدخل الفلسفة كحارسة للمعبد وكطبيب معالج؟
كثيرا ما نادت حنة آرنت، إلى تجديد الشّرط السيّاسي للإنسان الحدِيث، أمام موجَة التصَّحُر التي عصفت بالمجتمعات الإنسانيّة في القرن العشرين. وإلى آرنت، يعود الفضل في نحت مفهومين رئيسيين: «الحياة النّشيطَة»، كإجابة على «غياب التفكير»، و«الحق في كافة الحقوق» الذي استعارته جوديث بتلر لبناء أطروحتها حول «حقوق اللاَّجئِين»، لتعزيز الحاجة إلى «كونيَّة بديلة».
يتعلق المفهوم الأول بضرورة إعادة الاعتبار للسيَّاسة، من منطلق أن الفلسفة كانت دومًا بصُحبة الفعل السيّاسي في «ساحة الوغى»: فهل يمكن القول إن تشييد أفلاطون للأكاديميّة مَكَّن الطبقة السيَّاسيَّة التي أعدَمت سقراط من قبر الفلسفة في دهاليز المؤسسة التعليمية؟ ويتعلق المفهوم الثاني، بكون تطور تدريس الفلسفة - أو ما يصطلح عليه بالفلسفة المدرسيَّة - قد خضع لاعتباراتٍ سيّاسيّة محضة، بحيث لم تعد مادة لتنميّة القدرات النقديّة ومهارات التفكير والتعبير الحُر، وإنما مادة كغيرها من المواد، تؤدي وظيفتها الآيديولوجيَّة والسيَّاسيَّة لضبط الناشِئة والتلاعب بطاقاتِها إلا بداعيَّة. إلا أن علاقة الفلسفة بالمؤسسة التعليميَّة لم تكن دومًا علاقة تطويع، ومن الصعوبة القول إنها استطاعت أن تدمج الفلسفة في نسقِها النِّظامي العام، بحيث استطاعت طِوال تاريخ تدريسها أن تُنتج فلاسفة تحرَّروا من قِبضة المُؤسسة، فلاسفة كانت شِيمتهم الباديَّة: «الشَّغب». فلاسفة رفضوا قوالِب المُؤسسة وإغراءاتِها، ومارسوا النَّقد اللاَّذِع في حق المؤسسة، وخلخلوا بنيات التفكير العامِّي والعالم معًا.
ليس غرضنا هنا، بيان تاريخ غزو الفلسفة للمجالات الجديدة، ولا الرهانات التي تفترضها الفلسفة في نشاطها الجديد، لأن ذلك يستدعي عملاً مُفردًا، وإنما غرضُنا هو محاولة التفكِير في هذه الإشكالية التي فرضت نفسها علينا فرضًا. لذا أمكننا تفسير ولوج الفلسفة للمجالات الجديدة بما يلي:
- تطور تعليم الفلسفة وتعميمه وإجباريته.
- رهان بعض المؤسسات العالميّة المهتمة بالفكر على الوظيفة السيّاسيّة للفلسفة، أي دورها في الترويج للفكر اللِّيبرالي والديمقراطيَّة اللِّيبراليَّة، والوقوف في وجه الأنظمة الشموليَّة والكِليانيَّة.
- ظهور فلسفة ما بعد الحداثة، ودورها في مجاوزة الميتافيزيقا وتفكيك الأنساق الفلسفيَّة الكبرى.
- تراجع التعليم العتيق في مختلف بلدان العالم، وتطور التعليم الحديث وما له من انعكاسات على التعليم الدِّيني، الذي كان يلعب دور حارس المعبد الأول والأقدم.
- ظهور نخب جديدة لا تجد نفسها في السَّاحة الرسميَّة، ولم يجر إدماجها في أجهزة الدول. وبعبارة أخرى، مقصيَّة عنوة لما تشكِلُه من خطرٍ محدق على الغايات الكُبرى للفِعل السيَّاسي المؤسسي.
- تعزيز الحقوق الكونيَّة وضمان حريّة التعبير في بعض الدول الديمقراطيَّة، التي تؤمن بحاجتها إلى الفكر النقدي، لضمان استمراريتها ودور ذلك النقد في تقويم اعوجاجها.
- دمج الفلسفة في مواد أخرى من دون الإخلال بمهامها، أو الخروج عن غاياتها (صيغة الامتدادات والمواد المتآخيّة).
لا يسعنا هنا الوقوف على مجمل العوامل التي ساهمت في تزايد الطلب على الفلسفة، لأن الأمر يستدعي تمعنًا دقيقًا وقاعدة معطيات موضوعيّة. وتكفي الإشارة هنا، إلى أن المساهمات كثيرة في هذا المجال، ولكنها لا تستطيع أن تقدم تفسيرات فعليّة لولوج الفلسفة لهذه الفضاءات الجديدة، لأنها غارقة في تبرير الحضور لا غير.
فاعلون أوفياء للفلسفة
يقبع وراء كل مبادرة، فاعلون وجنود لا يظهرون، حريصون على الوفاء للفلسفة. فثمة منذ ما يقرب الثلاثة عقود، مبادرات كثيرة أقحمت الفلسفة في فضاءات عموميّة وخاصة، وراكمت تجارب لا يستهان بها، بدأت تتناسل في مختلف بقاع العالم. ولا يمكن تفسير ذلك إلا لكون الفلسفة بالتعبير الذي صار عاميًّا وأُفرِغ من محتواه ومضمونه: «الفلسفة أم العلوم»، تسعى وراء حشر نفسها في كل شيء. وهذا دليل على أزمة الفلسفة أي طبيعة هويتها. فأمام التقدم الهائل والمروع للعلوم، لا يسع الفلسفة إلا الدفاع عن هويتها والبحث عن موطئ قدم في مجالات جديدة.
عودة إلى وظيفة الفلسفة
لماذا ندرِّسُ الفلسفة؟ هل ندرِّسُ الفلسفة للشباب المتعلم بغرض حصوله على الشهادة - الدبلوم، أم لتوجيه الشباب نحو استكمال دروس الفلسفة في الجامعة والتخصُّص فِيها؟
من المؤكد أنه كيفما كان الغرض، فإن هذه الوظيفة تظل نفعيّة محضة. فالحصول على معدل للنجاح، لا يعني أبدا التمكن من مهارات التفكير. ومن المؤسف أن ما آل إليه درس الفلسفة في التعليم الثانوي، اليوم، الذي اختزلها في المراقبة، كغيرها من المواد، إنما هو ناتج عن النفعيّة العمياء التي صارت قدرًا محتومًا نسايره عن وعي أو عن غير وعي. أما استكمال الدراسة في شعبة الفلسفة في الجامعة، فهو مرتبطٌ أشدَّ الارتباط بتوجيه سيّاسي مقصود ومحكوم، أغلب الظن، بولوج عالم التدريس. وهذا ما انعكس سلبًا على الدرس الفلسفي في الثانوي والجامعي معًا.
أليس حريا الرهان على الدرس الفلسفي لتوجيه المتعلم وجهة أخرى؟ ألا يمكن أن تؤدي الفلسفة وظائف أخرى نبيلة؟
كلنا يعلم أن المتعلمين جميعهم، لا يمكنهم استكمال الدراسة في الفلسفة، كما لا يمكنهم جميعا محبة الفلسفة. ولكن درسًا ناجِحًا وتعليمًا صادِقًا، يمكن أن يجعلا منهم فلاسفة في حقولهم. لأننا نعرف جيّدًا، أن التعليم يرتبط - فيما لا يدع مجالا للشك في ذلك - بولوج عالم الشغل. وبناء عليه، كيف يمكننا أن نجعل الفلسفة محبوبة لدى الجميع؟ وكيف يمكننا أن نقحم الفلسفة في حياة المتعلم؟ كيف يمكن لطالب في كلية الطب أن يحب الفلسفة، وأن يكون وفيًا لها من دون أن يستكمل دراسته الجامعيّة في الفلسفة؟ وكذلك الأمر بالنسبة للفنون والرياضيات ومختلف الشعب العلمية والأدبية على حد سواء؟
سأكون مسرورًا وممتنًا لمن علّمني الفلسفة، أن أرى سينمائيين وروائيين وأطباء ومحامين وفنانين ومهندسين يتقاسمون معنا الحب نفسه: الحب الواحد الذي لا نظير له: حب الحكمة. حب الحكمة يبدو عويصًا، إذا افترضنا أن الفلاسفة قد احتكروا هذا التعبير. فلنقل، على الأقل، حب الفلسفة الذي قد يؤدي إلى محبة الحكمة، وإن لم نستطع إلى ذلك سبيلا، فلنتحلى بحكمة الحب sophilo.



أسود منمنمة من موقع الدُّور في أمّ القيوين

أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان
أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان
TT

أسود منمنمة من موقع الدُّور في أمّ القيوين

أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان
أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان

خرجت من موقع الدُّور في إمارة أم القيوين مجموعة كبيرة من اللقى الأثرية المتنوّعة، تعود إلى حقبة تمتد من القرن الأول ما قبل الميلاد إلى القرن الثاني للميلاد. كشفت أعمال التصنيف العلمي الخاصة بهذه اللقى عن مجموعة من القطع العاجية المزينة بنقوش تصويرية، منها عدد كبير على شكل أسود تحضر في قالب واحد جامع. كذلك، كشفت هذه الأعمال عن مجموعة من القطع المعدنية النحاسية المتعدّدة الأحجام والأنساق، منها 4 قطع على شكل أسود منمنمة، تحضر كذلك في قالب ثابت.

تمثّل القطع العاجية تقليداً فنياً شاع كما يبدو في شمال شرقي شبه الجزيرة العربية، وتنقسم حسب نقوشها التصويرية إلى 3 مجموعات، فمنها ما يمثّل قامات أنثوية، ومنها ما يمثّل قامات آدمية مجرّدة يصعب تحديد هويتها الجندرية، ومنها ما يمثّل بهائم من الفصيلة السنورية. تزين هذه البهائم قطع يتراوح حجمها بين 3 و4.5 سنتيمترات عرضاً، حيث تحضر في تأليف تشكيلي ثابت، مع اختلاف بسيط في التفاصيل الجزئية الثانوية، ويوحي هذا التأليف بشكل لا لبس فيه بأنه يمثّل أسداً يحضر في وضعية جانبية، طوراً في اتجاه اليمين، وطوراً في اتجاه اليسار. يغلب على هذا الأسد الطابع التحويري الهندسي في تصوير سائر خصائصه الجسدية، من الجسم العضلي، إلى الرأس الكبير، إلى الأرجل الصغيرة. نراه فاتحاً شدقيه، رافعاً قائمتيه الأماميتين، وكأنه يستعدّ للقفز، ويظهر ذيله من خلفه وهو يلتف ويمتد إلى أعلى ظهره.

ملامح الوجه ثابتة لا تتغيّر. العين دائرة كبيرة محدّدة بنقش غائر، يتوسّطها ثقب يمثّل البؤبؤ. الأذنان كتلتان مرتفعتان عموديتان، والأنف كتلة دائرية موازية. فكّا الفم مفتوحان، ويكشفان في بعض القطع عن أسنان حادة مرصوفة بشكل هندسي. تحدّ الرأس سلسلة من النقوش العمودية المتوازية تمثل اللبدة، وهي كتلة الشعر الكثيف الذي يغطي الرقبة. يتكون الصدر من كتلة واحدة مجرّدة، تعلوها سلسلة من النقوش الغائرة تمثل الفراء. يتبنى تصوير القائمتين الخلفيتين نسقين متباينين؛ حيث يظهر الأسد جاثياً على هاتين القائمتين في بعض القطع، ومنتصباً عليها في البعض الآخر. في المقابل، تظهر القائمتان الأماميتان ممدّدتين أفقياً بشكل ثابت. أرجل هذه القوائم محدّدة، وهي على شكل كف مبسوطة تعلوها سلسلة من الأصابع المرصوفة. الذيل عريض للغاية، وتعلو طرفه خصلة شعر كثيفة تماثل في تكوينها تكوين أرجله.

عُثر على سائر هذه القطع العاجية في قبور حوت مجموعة كبيرة من اللقى شكّلت في الأصل أثاثها الجنائزي. للأسف، تبعثر هذا الأثاث، وبات من الصعب تحديد موقعه الأصلي. كانت القطع العاجية مثبّتة في أركان محدّدة، كما تؤكد الثقوب التي تخترقها، غير أن تحديد وظيفتها يبدو مستحيلاً في غياب السند الأدبي الذي من شأنه أن يكشف عن هذه الوظيفة الغامضة. تحضر الأسود إلى جانب القامات الآدمية، والأرجح أنها تشكّل معاً علامات طوطمية خاصة بهذه المدافن المحلية.

تمثّل القطع العاجية تقليداً فنياً شاع كما يبدو في شمال شرقي شبه الجزيرة العربية

إلى جانب هذه القطع العاجية، يحضر الأسد في 4 قطع معدنية عُثر عليها كذلك ضمن أثاث جنائزي مبعثر. تعتمد هذه القطع بشكل أساسي على النحاس، وهي قطع منمنمة، تبدو أشبه بالقطع الخاصة بالحلى، واللافت أنها متشابهة بشكل كبير، ويمكن القول إنها متماثلة. حافظت قطعتان منها على ملامحها بشكل جلي، وتظهر دراسة هذه الملامح أنها تعتمد نسقاً مميزاً يختلف عن النسق المعتمد في القطع العاجية، بالرغم من التشابه الظاهر في التكوين الخارجي العام. يحضر هذا الأسد في كتلة ناتئة تبدو أشبه بالقطع المنحوتة، لا المنقوشة، ويظهر في وضعية جانبية، جاثياً على قوائمه الـ4، رافعاً رأسه إلى الأمام، ويبدو ذيله العريض في أعلى طرف مؤخرته، ملتفاً نحو الأعلى بشكل حلزوني. العين كتلة دائرية ناتئة، والأذن كتلة بيضاوية مشابهة. الفكان مفتوحان، ممّا يوحي بأن صاحبهما يزأر في سكون موقعه. اللبدة كثيفة، وتتكون من 3 عقود متلاصقة، تحوي كل منها سلسلة من الكتل الدائرية المرصوفة. مثل الأسود العاجية، تتبنى هذه الأسود المعدنية طابعاً تحويرياً يعتمد التجريد والاختزال، غير أنها تبدو أقرب من المثال الواقعي في تفاصيلها.

يظهر هذا المثال الواقعي في قطعة معدنية من البرونز، مصدرها موقع سمهرم، التابع لمحافظة ظفار، جنوب سلطنة عُمان. عُثر على هذه القطعة في ضريح صغير يعود إلى القرن الأول قبل الميلاد، واللافت أنها وصلت بشكلها الكامل، وتتميز بأسلوب يوناني كلاسيكي يتجلّى في تجسيم كتلة الجسم وسائر أعضائها. يظهر الأسد واقفاً على قوائمه الـ4، مع حركة بسيطة تتمثل في تقدم قائمة من القائمتين الأماميتين، وقائمة من القائمتين الخلفيتين، وفقاً للتقليد الكلاسيكي المكرّس. يحاكي النحات في منحوتته المثال الواقعي، وتتجلّى هذه المحاكاة في تجسيم مفاصل البدن، كما في تجسيم ملامح الرأس، وتبرز بشكل خاص في تصوير خصلات اللبدة الكثيفة التي تعلو كتفيه.

يبدو هذا الأسد تقليدياً في تكوينه الكلاسيكي، غير أنه يمثّل حالة استثنائية في محيطه، تعكس وصول هذا التقليد في حالات نادرة إلى عمق شمال شرقي شبه الجزيرة العربية.