التكيف الروائي حسب أورهان باموق

الفائز بجائزة نوبل للآداب يتحدث عن تجربته

أورهان باموق
أورهان باموق
TT

التكيف الروائي حسب أورهان باموق

أورهان باموق
أورهان باموق

> حين يكتب روائي عن الرواية أو شاعر عن الشعر أو مسرحي عن المسرح، فلا شك أن الكتابة ستحتل، على الأقل في ذهن القارئ، موقعًا مختلفًا عما لو كان المتحدث عن أي من تلك الفنون ناقدًا عرف بدراساته وتنظيراته وليس بإبداعه في الفن الذي يتحدث عنه. سيبدو للبعض، وربما للكثير، أن الكتابة عندئذٍ تكتسب صدقية أكبر، ما قد يزيدها أهمية لا سيما لقراء ذلك الكاتب، روائيًا كان أم غير ذلك. وينبني ذلك على فرضية أن الكاتب «أدرى» بفنه من غيره، وأن تفسيره أو تحليله، إن هو فسر أو حلل العمل فإن لما يخرج به موقعًا خاصًا. وقد يكون ذلك صحيحًا، بل إن من المؤكد أن كتابة الكاتب عن تجربته تمتلك موقعًا خاصًا، تأسيسًا على مقولة أن المعنى في بطن الشاعر أو الكاتب بشكل عام فإذا أخرجه إلى الناس كان ذلك هو القول النهائي. شواهد التاريخ الأدبي لا تسند ذلك الاعتقاد، بل إن الكثير مما نشر من أعمال نقدية كتبها كتاب عن أعمالهم وفنونهم تؤكد أن الكثير من تلك الأعمال ليس بالأهمية التي يراها البعض. للكاتب رؤية مهمة ومميزة، دون شك، تجاه عمله وبشكل عام تجاه الفن الذي يكتب فيه أو يبدع في مجاله، لكن اللغة بإيحاءاتها والثقافة بحمولاتها والذائقة بجمالياتها أوسع من أن تحكمها رؤية فردية حتى لكاتب يعد خبيرًا بفن الكتابة.
خطر ذلك ببالي وأنا أقرأ ما كتبه الروائي التركي أورهان باموق حول الفن الروائي في كتاب بعنوان «الروائي الساذج والروائي الحساس» (2010). فطرحه حول الرواية ليس بمستوى ما كتبه نقاد كبار حول ذلك الفن الواسع الأرجاء المركب البناء. ليس بمستوى ما كتبه إدوارد سعيد أو الإنجليزي جيمس وود مثلاً، لكنه يحتفظ، كما يحتفظ كثير من الروائيين، بمسافة خاصة من تجربته تجعله الأفضل عند الحديث عن تلك التجربة، أي الجانب الشخصي المتعلق بظروف كتابة العمل والخلفية السيرية التي تشكل سياقًا مهمًا أحيانًا لاكتناه جوانب ليس غير الكاتب عارفًا بها أو عارفًا ببعض تفاصيلها الحميمة بوجه خاص. ولا ينقص ذلك من أهمية آراء باموق النقدية حول الرواية بشكل عام فهي آراء جديرة بالاهتمام ومن المتوقع أن تكون كذلك وقد ألقيت في جامعة هارفارد الأميركية ضمن سلسلة من المحاضرات التي يدعى لإلقائها نخبة من الكتاب والنقاد.
سأشير فيما يلي إلى رأي مهم لباموق حول الفن الروائي إجمالاً وموقعه في الأدب المعاصر، وهو رأي أتفق معه فيه وأجده جديرًا بالتأمل. لكني سأبدأ برأي لا اتفق معه فيه وأراه أيضًا جدير بالتأمل. يقول الكاتب التركي: «طوال الثلاثمائة عام الممتدة منذ ديفو [يقصد الإنجليزي دانييل ديفو صاحب (روبنسن كروزو) الذي يعد من رواد الفن الروائي]، حيثما تجذرت الرواية فإنها اقتلعت الشعر وتحولت بسرعة إلى الفن الأدبي المهيمن، ناشرة بالتدريج في مجتمعات حول العالم، مفهوم القص الذي نتفق عليه (أو نتفق ألا نتفق عليه)».
هل استطاعت الرواية حقًا وحيثما حلت أن تقتلع الشعر؟ أعتقد أن الرواية احتلت مكانة واسعة في الاهتمامات القرائية لدى الناس حيثما حلت، مجتذبة كتابًا وقراءً كثيرين، لكن هل أدى ذلك إلى الحلول محل الشعر؟ إجابتي هي: لا. صحيح أن الشعر لم تعد له المكانة السابقة حين كان سيد الموقف في كثير من الثقافات وأن دواوين الشعر اليوم تبيع أقل بكثير مما تبيع الأعمال الروائية. لكن الشعر ليس فنًا قرائيًا فقط، لم يكن دائمًا في دواوين تباع لتقرأ، بل كان وما يزال، وإلى حد بعيد، فن سماع وترديد، فنًا غنائيًا أو تأمليًا تحتفظ به الثقافات المختلفة بوصفه جزءًا أساسيا من تكوينها. الشعر فن فردي يزدهر في خلوة الإنسان بنفسه وليس بالضرورة حين يلتقي الآخرين، لكنه في الوقت نفسه فن شعبي واسع الانتشار يحفظ ويتناقل شفاهيًا. ربما يقل انتشار أنواع معينة منه، تلك التي تتطلب قارئًا ذا وعي ودربة خاصة (قصيدة النثر مثلاً)، لكنه يظل الفن الأكثر حميمية وإنسانية. ولن أفيض في هذا الأمر ففيه قول كثير قد يختلف فيه معي البعض وله مساحة قد أعود إليها لاحقًا. هنا أود أن أعود إلى المسألة الأخرى التي أتفق فيها مع باموق.
يقول الكاتب التركي الشهير، فهو الفائز بجائزة نوبل كما هو معروف، لمستمعيه في هارفارد وقرائه بعد ذلك إن قصة الرواية في البلاد التي اخترعتها معروفة، لكن قصتها حيث انتقلت وصارت فنًا شائعًا له شعبيته وقراؤه ليست معروفة بالقدر نفسه. يتحدث باموق هنا حديث الخبير بتجربته الشخصية وتجارب شبيهة بتجربته. النقطة أو المشكلة الأساسية تتمثل فيما حدث للرواية ولمفهوم القص تحديدًا وهو يدخل آفاقًا ثقافية مختلفة، كالأفق التركي، وهو بالطبع شبيه بآفاق غير غربية كثيرة أخرى. «في قلب تلك المشاكل والأصوات والأشكال الجديدة التي تولدت عنها تكمن عملية التكيف الإبداعية والتطبيقية التي مر بها المفهوم الغربي للقص المتخيل في الثقافات المحلية». ويشرح الكاتب التركي ما يقصد قائلاً: «إن الكتاب غير الغربيين الذين وجدوا أنفسهم مضطرين لمقاومة الممنوعات، والمحرمات، والاضطهاد من قبل دول سلطوية، اتكأوا على فكرة القص المتخيل المستعارة ليتحدثوا عن (حقائق) لم يكن بمقدورهم التعبير عنها صراحة – تمامًا كما كان حال الرواية سابقًا في الغرب».
ما يشير إليه باموق هو ما عرفه ليس الروائيون وحدهم في مناطق كثيرة من العالم غير الغربي بل معظم إن لم يكن كل الكتاب، وبالطبع لم تكن المشكلة كما يقول باموق مع دول أو أنظمة سياسية سلطوية وإنما وفي المقام الأول مع مجتمعات وثقافات تعج بالمحرمات والضوابط والموانع. في كثير من الأحيان تكون الأنظمة السياسية أكثر تسامحًا ورحابة صدر من فئات اجتماعية تعاني منها الأنظمة نفسها. لكن هذا ليس المهم هنا، بل هو أن الفنون بشكل عام تتكيف مع الظروف التي تولد وتنشط فيها وتتخذ لذلك أشكالاً وتتبنى أساليب غير تلك المألوفة في بيئات منفتحة، أو أقل تشددًا، ذلك أن الانفتاح والتشدد نسبيان ويستحيل أن تخلو ثقافة أو بيئة من محرمات. وقد أدى هذا دون شك إلى وضع الفن الروائي وغيره من فنون الكتابة في موضع يجعل من الصعب مطالبته بما يطالب به ذلك الفن وغيره في بيئات أخرى. ويقتضي ذلك تغييرًا في العادات القرائية وأفق التوقعات، كما يسميه نقاد التلقي واستجابة القارئ. هذا إلى جانب اختلاف الهموم التي تشغل الكتاب مقارنة بنظرائهم في أوروبا وأميركا. ومع أن بعض تلك الهموم لا يتغير من حيث هي هموم إنسانية، فإن طريقة التناول وكثير من التفاصيل ستختلف. قضايا مثل حرية الكاتب والهيمنة الثقافية اللتين تشغلان حيزًا واسعًا من اهتمامات روائي مثل باموق إلى جانب كتاب عرب وأفارقة، مثلاً، ليستا الهم الأول لروائيين بريطانيين أو فرنسيين.
لكن الاختلاف في الهموم سينعكس حتمًا، في الأعمال الجادة بالتأكيد، على الأساليب واللغة، على تقنيات السرد وبناء الشخوص، إلى غير ذلك. صحيح أن ذلك الانعكاس لن يؤدي إلى قطيعة بين الفن الروائي هنا وهناك لكنه سيتمثل في اختلافات من المهم ألا تغيب عن ذهن القارئ وأجزم أنها حاضرة وإن لم يجر تمثلها أو استيعابها بشكل واضح سواء في ذهن الكاتب أو القارئ.



مجلة «الفيصل» السعودية: هل منع الرجل المرأة من التفلسف؟

مجلة «الفيصل» السعودية: هل منع الرجل المرأة من التفلسف؟
TT

مجلة «الفيصل» السعودية: هل منع الرجل المرأة من التفلسف؟

مجلة «الفيصل» السعودية: هل منع الرجل المرأة من التفلسف؟

صدر العدد الجديد من مجلة الفيصل وتضمن العديد من الموضوعات والمواد المهمة. وكرست المجلة ملف العدد لموضوع إقصاء المرأة من حقل الفلسفة، وعدم وجود فيلسوفات. شارك في الملف: كل من رسلان عامر: «غياب المرأة الفلسفي بين التاريخ والتأريخ». خديجة زتيلي: «هل بالإمكان الحديث عن مساهمة نسائية في الفلسفة العربية المعاصرة؟» فرانك درويش: «المرأة في محيط الفلسفة». أحمد برقاوي: «ما الذي حال بين المرأة والتفلسف؟» ريتا فرج: «الفيلسوفات وتطور الأبحاث الحديثة من اليونان القديمة إلى التاريخ المعاصر». يمنى طريف الخولي: «النساء حين يتفلسفن». نذير الماجد: «الفلسفة نتاج هيمنة ذكورية أم نشاط إنساني محايد؟» كلير مثاك كومهيل، راشيل وايزمان: «كيف أعادت أربع نساء الفلسفة إلى الحياة؟» (ترجمة: سماح ممدوح حسن).

أما الحوار فكان مع المفكر التونسي فتحي التريكي (حاوره: مرزوق العمري)، وفيه يؤكد على أن الدين لا يعوض الفلسفة، وأن الفلسفة لا تحل محل الدين، وأن المفكرين الدينيين الحقيقيين يرفضون التفلسف لتنشيط نظرياتهم وآرائهم. وكذلك تضمن العدد حواراً مع الروائي العربي إبراهيم عبد المجيد الذي يرى أن الحزن والفقد ليس مصدرهما التقدم في العمر فقط... ولكن أن تنظر حولك فترى وطناً لم يعد وطناً (حاوره: حسين عبد الرحيم).

ونطالع مقالات لكل من المفكر المغربي عبد العزيز بومسهولي «الفلسفة وإعادة التفكير في الممارسات الثقافية»، والكاتب والأكاديمي السعودي عبد الله البريدي «اللغة والقيم العابرة... مقاربة لفك الرموز»، وضمنه يقول إننا مطالبون بتطوير مناهج بحثية لتحليل تورط اللغة بتمرير أفكار معطوبة وقيم عدمية وهويات رديئة. ويذهب الناقد سعيد بنكراد في مقال «الصورة من المحاكاة إلى البناء الجمالي» إلى أن الصورة ليست محاكاة ولا تنقل بحياد أو صدق ما تمثله، لكنها على العكس من ذلك تتصرف في ممكنات موضوعاتها. وترجم ميلود عرنيبة مقال الفرنسي ميشال لوبغي «من أجل محبة الكتب إمبراطورية الغيوم».

ونقرأ مقالاً للأنثروبولوجي الفرنسي فرانك ميرمييه بعنوان «مسار أنثربولوجي فرنسي في اليمن». ومقال «لا تحرر الحرية» (أريانا ماركيتي، ترجمة إسماعيل نسيم). و«فوزية أبو خالد... لم يزل الماء الطين طرياً بين أصابع اللغة» (أحمد بوقري). «أعباء الذاكرة ومسؤولية الكتابة» (هيثم حسين). «العمى العالمي: غزة بين فوضى الحرب واستعادة الإنسانية» (يوسف القدرة). «الطيور على أشكالها تقع: سوسيولوجيا شبكة العلاقات الاجتماعية» (نادية سروجي). «هومي بابا: درس في الشغف» (لطفية الدليمي).

ويطالع القارئ في مختلف أبواب المجلة عدداً من الموضوعات المهمة. وهي كالتالي: قضايا: سقوط التماثيل... إزاحة للفضاء السيميائي وإعادة ترتيب للهياكل والأجساد والأصوات (نزار أغري). ثقافات: «هل يمكن أن تحب الفن وتكره الفنان؟» ميليسا فيبوس (ترجمة خولة سليمان). بورتريه: محمد خضر... المؤلف وسرديات الأسلوب المتأخر (علي حسن الفواز). عمارة: إعادة تشكيل الفضاءات العامة والخاصة في جدة بين التراث والحداثة (بدر الدين مصطفى). حكايتي مع الكتب: الكتب صحبة رائعة وجميلة الهمس (فيصل دراج). فضاءات: «11 رصيف برنلي»... الابنة غير الشرعية لفرنسوا ميتران تواجه أشباح الحياة السرية (ترجمة جمال الجلاصي). تحقيقات: الترفيه قوة ناعمة في بناء المستقبل وتنمية ثقافية مؤثرة في المجتمع السعودي (هدى الدغفق). جوائز: جوائز الترجمة العربية بين المنجز والمأمول (الزواوي بغورة). المسرح: الكاتبة ملحة عبد الله: لا أكتب من أجل جائزة أو أن يصفق لي الجمهور، إنما كي أسجل اسمي في تاريخ الفن (حوار: صبحي موسى).

وفي باب القراءات: نجوان درويش... تجربة فلسطينية جسورة تليق بالشعر الجديد (محمد عبيد الله). جماليات البيت وسردية الخواء... قراءة في روايات علاء الديب (عمر شهريار). «أغنية للعتمة» ماتروشكا الحكايات والأنساب تشطر التاريخ في صعودها نحو الأغنية (سمية عزام). تشكيل: مهدية آل طالب: دور الفن لا يتحقق سوى من خلال الفنان (هدى الدغفق). مسرح: المنظومة المسرحية الألمانية يؤرقها سوء الإدارة والتمييز (عبد السلام إبراهيم)

ونقرأ مراجعات لكتب: «وجه صغير يتكدس في كل ظهيرة» (عماد الدين موسى)، «مروة» (نشوة أحمد)، «خاتم سليمي» (نور السيد)، «غراميات استثنائية فادحة» (معتصم الشاعر)، «أبناء الطين» (حسام الأحمد)، «حساء بمذاق الورد» (جميلة عمايرة).

وفي العدد نطالع نصوص: «مارتن هيدغر يصحو من نومه» (سيف الرحبي)، «مختارات من الشعر الكوري» (محمد خطاب)، «سحر الأزرق» (مشاعل عبد الله)، «معرض وجوه» (طاهر آل سيف)، «سارقة الذكريات» (وجدي الأهدل)، «أوهام الشجر» (منصور الجهني).