ألمانيا تتسلح لمهمات عسكرية أوروبية أوسع بعد خروج بريطانيا

لكن يبقى الناتو هو الإطار الجديد للعمل المشترك بينها وبين الاتحاد

ينس ستولتنبرج الأمين العام لحلف شمال الأطلسي لدى وصوله إلى القمة الأوروبية أمس (أ.ف.ب)
ينس ستولتنبرج الأمين العام لحلف شمال الأطلسي لدى وصوله إلى القمة الأوروبية أمس (أ.ف.ب)
TT

ألمانيا تتسلح لمهمات عسكرية أوروبية أوسع بعد خروج بريطانيا

ينس ستولتنبرج الأمين العام لحلف شمال الأطلسي لدى وصوله إلى القمة الأوروبية أمس (أ.ف.ب)
ينس ستولتنبرج الأمين العام لحلف شمال الأطلسي لدى وصوله إلى القمة الأوروبية أمس (أ.ف.ب)

ذكر هانز - بيتر بارتل، مفوض الشؤون العسكرية في البرلمان الألماني، أن ألمانيا ستضطلع بمسؤولية أكبر في النشاط العسكري الأوروبي، بعد قرار بريطانيا الخروج من الاتحاد. وكان بارتل تحدث إلى صحيفة «برلينر مورننغ بوست» عن مزيد من الالتزامات العسكرية التي ستنهض بها ألمانيا بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. وأضاف: «على أي حال لا بد لألمانيا أن تضطلع بمسؤولية عسكرية أكبر حاليا».
وجاء تصريح بارتل، من الحزب الديمقراطي الاشتراكي، أمس الثلاثاء، بعد أسبوعين فقط من إعلان المستشارة الألمانية آنجيلا ميركل عن زيادة المخصصات العسكرية للجيش الألماني بمناسبة الاحتفال بيوم الجيش الألماني يوم 11 يونيو (حزيران) الحالي، وهي المرة الأولى التي تتجاوز فيها الحكومات الألمانية المتعاقبة، نسبة 1.2 في المائة من إجمالي الإنتاج الوطني الألماني منذ ربع قرن. وقالت ميركل إنها ستعمل على تحقيق طموح حلف الناتو الداعي إلى رفع نسبة مخصصات جيوش بلدان الحلف إلى 2 في المائة من إجمالي الإنتاج الوطني. وسبق للمستشارة قبل أشهر أن أعلنت عن رفع المخصصات العسكرية في الميزانية العامة من 43.32 مليار إلى 39.2 مليار يورو حتى العام 2020.
بررت ميركل زيادة مخصصات التسلح بالمخاطر والتهديدات الجديدة المتمثلة بالإرهاب وبمشاعر القلق السائدة بين دول أوروبا الشرقية خشية التوسع الروسي. وقالت: «إن ألمانيا لن تقبل باستيلاء روسيا الاتحادية على جزيرة القرم واستمرار سياستها الرامية لزعزعة استقرار شرق أوكرانيا».
ويرى خبير الشؤون العسكرية في البوندستاغ أن يشهد العالم المزيد من التعاون والتقارب العسكري البريطاني الأميركي، متوقعا أن يدير البريطانيون سياستهم الأمنية باتجاه الولايات المتحدة. ومن المحتمل، وفق تصوراته، أن تتحول بريطانيا خلال بضع سنوات، في السياسة الأمنية، إلى شريك لأوروبا كما هي الحال مع الولايات المتحدة.
ويتفق مع بارتل في هذه التقديرات توبياس لندنر، خبير حزب الخضر للشؤون الدفاعية، الذي توقع أن يزيد خروج بريطانيا أعباء ألمانيا العسكرية في الاتحاد الأوروبي الالتزامات. وتوقع لندنر أن يطالب الاتحاد الأوروبي ألمانيا بالمزيد من الجهد في مهماته العسكرية. إلى ذلك، وبخصوص سياسة نزع السلاح، عبر لندنر قناعته بأن تنعكس هذه التطورات بشكل سلبي على سياسة عدم التسلح. ستتواصل المهمات العسكرية للاتحاد الأوروبي ولن تتراجع فجأة؛ بسبب الانسحاب البريطاني من العضوية، بتقدير لندنر، لكن مسؤولية الجانب الألماني ستزداد، وكمثل فإن القوات المسلحة الألمانية والبريطانية تعملان بشكل موحد ضمن قوة «صوفيا» أمام السواحل الليبية.
وكانت المفوضة الأوروبية للشؤون الخارجية فريدريكا موغريني عبرت عن قلقها أيضا من تخلخل السياسة الأمنية الأوروبية؛ بسبب قرار الخروج البريطاني. وأشارت موغريني، في حديث لمجلة د«ير شبيغل» إلى أن الانسحاب البريطاني قد يفرض بعض التغيرات على ورقة عمل «رؤية مشتركة - فاعلية مشتركة - أوروبا أقوى»، التي تتعلق بالسياسة الأمنية، والتي من المقرر أن تطرح على البرلمان الأوروبي قريبًا. وتوقعت رأس الدبلوماسية الأوروبية أن يكون التعاون في المجال العسكري بين دول الاتحاد هو «المعيار» مستقبلا، وتحدثت موغريني عن مزيد من الخطر الناجم عن السياسة التوسعية الروسية باتجاه شرق أوروبا.
من ناحيته، انتقد غيرنوت إيرلر، مفوض الشؤون الروسية في البرلمان الألماني، سياسة زيادة التسلح التي أعلنتها ميركل بالضد من روسيا الاتحادية. وقال إيرلر إن الوضع الحالي يتطلب نزع السلاح والتهدئة، لا التصعيد العسكري مع روسيا. وإذ بررت ميركل سياستها التسليحية بضرورات طمأنة مخاوف دول أوروبا الشرقية، قال إيرلر إنه لا يعرف ما إذا كانت هذه السياسية ستطمئن مخاوف شرق أوروبا أم تضاعفها. وحذر إيرلر، من الحزب الديمقراطي الاشتراكي، من مغبة الصدام العسكري مع روسيا بسبب زيادة التسلح.
ويبدو أن الكثير من الأصوات داخل الحزب الديمقراطي الاشتراكي، حليف ميركل في الوزارة، ترفض سياسة التصعيد ضد روسيا. بينها صوت وزير الخارجية فرانك - فالتر شتاينماير الذي انتقد مناورات حلف الناتو على الحدود الشرقية مع روسيا بشدة، إذ ذكر شتاينماير لصحيفة «بيلد» أن ما ينبغي لأوروبا أن تفعله الآن هو أن تخفف حدة التوتر الناجم عن «زعيق الحرب وصليل السيوف». وأضاف: «واهم من يعتقد أنه يستطيع توفير المزيد من الأمن لأعضاء الحلف من خلال استعراض رمزي للدبابات على الحدود».
ومن جاب آخر شارك ينس ستولتنبرغ، أمين عام حلف شمال الأطلسي الناتو، في أعمال قمة قادة دول الاتحاد الأوروبي، التي انطلقت أمس الثلاثاء في بروكسل، وجرى خلال القمة مناقشة التعاون والعمل المشترك بين الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو، بحسب ما ذكر دونالد تاسك، رئيس مجلس الاتحاد الأوروبي.
ويقول مسؤولون إن انفصال بريطانيا عن الاتحاد الأوروبي يخاطر بأضعاف الاستراتيجية الدفاعية الجديدة في أوروبا، وذلك قبل أيام من توقيع حكومات حلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي اتفاقا تاريخيا للتصدي لمجموعة من التهديدات من روسيا إلى البحر المتوسط. وكان حلف الناتو قد أعلن صراحة أن وضعية بريطانيا كدولة عضو في الحلف لن تتأثر بالخروج من عضوية الاتحاد، وهو أمر ربما جعل البعض من المراقبين في بروكسل يتساءلون حول كيفية التعاون المستقبلي بين أوروبا وبريطانيا داخل الناتو في أعقاب الاستفتاء الأخير.
وستطلع فيديريكا موغيريني، مسؤولة السياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبي، زعماء الاتحاد، أمس الثلاثاء، على خطة استراتيجية عالمية خمسية اطلعت عليها «رويترز»، وستبلغ القادة أن على الاتحاد الأوروبي أن «يتصرف باستقلال إذا اقتضت الضرورة» في مواجهة تزايد جرأة روسيا وأزمة الهجرة وانهيار دول على أعتابهم.
ويقول الدبلوماسيون إن تلك الخطوة الرمزية التي تحث الحكومات على تنسيق الأنفاق الدفاعي تحظى بدعم قوي من ألمانيا وفرنسا، لكنها ستبدو فارغة من المضمون دون بريطانيا صاحبة أكبر ميزانية دفاعية في الاتحاد الأوروبي.
ويعتزم الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة استغلال قمتين منفصلتين يعقدهما الاتحاد وحلف الأطلسي في الأيام المقبلة لدفع إصلاحات في المؤسستين اللتين تمثلان عماد الأمن الرئيسي للغرب بهدف تقليص اعتماد أوروبا على واشنطن.
وقال مسؤول دفاعي غربي كبير يشارك في التعاون بين المؤسستين «ستصبح الأمور أصعب كثيرا. حلف شمال الأطلسي خطط لربط نفسه باتحاد أوروبي أقوى لا أن يصبح هو الخيار التلقائي لتكتل ضعيف مقسم».
وفي تصريحات لـ«الشرق الأوسط» قال جولدنار سونموت، الخبير والمحلل السياسي، في مقر المفوضية ببروكسل: «بعد الاستفتاء البريطاني لا شك أن توازنات الشراكة عبر الأطلسي ستتغير وسيعمل الجانبان الأوروبي والأميركي على إعادة هيكلة العلاقات وفي الوقت نفسه سوف تعود العلاقات بين الجانبين في وجود بريطانيا عبر حلف الناتو، وسيكون العلاقة بين الناتو الاتحاد الأوروبي إطارا يجمع كل هذه الأطراف، ولهذا جاء جون كيري، وزير الخارجية الأميركي، إلى بروكسل في زيارة مفاجئة لمناقشة هذا الملف وملفات أخرى، ومنها الوضع في منطقة الشرق الأوسط وملفات استراتيجية أخرى».
وأجرى كيري محادثات في مؤسسات الاتحاد الأوروبي، ومقر حلف الناتو، ويمكن القول: «إن التمسك بالشراكة القوية سواء مع الاتحاد الأوروبي أو بريطانيا عقب الاستفتاء الأخير كانت رسالة الوزير كيري للمسؤولين في بروكسل». ومن جانبها تعهدت موغيريني ببقاء الاتحاد الأوروبي قويا مثلما كان من قبل وضمان استمرار الشراكة القوية مع واشنطن. وخلال المؤتمر الصحافي تناوب كل من موغيريني وكيري، على إطلاق تطمينات بعد نتائج الاستفتاء البريطاني. وقال الوزير الأميركي «بالنسبة إلى الولايات المتحدة الأميركية، من المهم رؤية اتحاد أوروبي قوي؛ لأننا نعمل معا في مجالات محاربة الإرهاب والتغير المناخي والحفاظ على الأمن، وكذلك موضوع الهجرة»، وشدد كيري على ضرورة أن يتم تجاوز هذه المرحلة «الانتقالية» بشكل من العقلانية، محذرا من مغبة الاستسلام للرغبة في الانتقام أو الوقوع في فخ الانقسام.
وأوضح وزير الخارجية الأميركي أن بلاده يمكنها التعاون مع الأوروبيين لمعالجة الآثار والتداعيات الناتجة عن الاستفتاء؛ حيث «هناك تحديات وآثار على حياة الناس لا يمكن تجنبها ويتعين مواجهتها معا»، على حد قوله. وأكد ضرورة البحث عن خريطة طريق مشتركة للعمل معا، مع التركيز على تمسك بلاده بعلاقات متميزة مع المملكة المتحدة. كما تقود بريطانيا عملية «أتلانتا» التي ينفذها الاتحاد الأوروبي لمكافحة القرصنة قبالة القرن الأفريقي، ولها سفن تجوب البحر المتوسط وتلتزم بتخصيص قوات للمشاركة في المجموعات القتالية للاتحاد الأوروبي رغم أن ذلك لم يحدث من قبل.
وستشمل المقترحات التي تطرحها موغيريني على قادة الاتحاد الأوروبي دعوة للمهام التي يقودها الاتحاد للعمل مع حرس حدود أوروبي جديد للحد من تدفقات المهاجرين، وربما يكون ذلك أصعب دون السفن البريطانية.
وقال ينس ستولتنبرج، الأمين العام لحلف شمال الأطلسي: «ما تفعله بريطانيا له أهميته، فبريطانيا هي أكبر مشارك أمني في أوروبا».
بريطانيا واحدة من خمس دول أعضاء في الاتحاد الأوروبي تملك الموارد التي تمكنها في تنفيذ عملية عسكرية في الخارج لحساب الاتحاد، وهي مساهم رئيسي للعمليات التي يقودها الاتحاد، وتسدد نحو 15 في المائة من التكاليف وتخصص عتادا لتلك العمليات.
الاتحاد الأوروبي فقد، بخروج بريطانيا من عضويته، مساهما فعالا في المهمات العسكرية للاتحاد الأوروبي، بحسب رأيه. وأضاف أنه يتوقع أن يزداد اعتماد الاتحاد الأوروبي في سياسته السياسية الأمنية على المساهمات الألمانية والفرنسية.
لكن بريطانيا كانت تخشى خططا لتشكيل جيش للاتحاد الأوروبي وقاومت توثيق التعاون الدفاعي الأوروبي. وقال وزير الدفاع البريطاني مايكل فالون لـ«رويترز» هذا الشهر: «لا أحد يريد أن يرى قواته تحت سيطرة بروكسل».
ويأمل البعض أن تتمكن فرنسا وألمانيا، من دون أن تعطل لندن خطط الاتحاد، من قيادة ما تراه برلين «اتحادا دفاعيا مشتركا». وقد أيدت فرنسا فكرة إقامة مقر قيادة عسكرية للاتحاد الأوروبي بخلاف حلف شمال الأطلسي لإدارة المهام.
بعد الأزمات المالية التي خفضت الأنفاق الدفاعي وضم روسيا لشبه جزيرة القرم الأوكرانية قالت حكومات الاتحاد الأوروبي إنها ستبذل المزيد لضمان أمنها، وأنه لا يمكنها الاعتماد على الجانب الأميركي إلى ما لا نهاية.
وفي ذلك الإطار سيعمل حلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي على تعزيز التعاون المتنامي بينهما من بحر البلطيق إلى بحر إيجة في قمة يعقدها حلف شمال الأطلسي في وارسو الشهر المقبل.
وعلى مستوى الاتحاد الأوروبي تبحث الحكومات إقامة صندوق دفاعي مشترك لتجميع موارد لتطوير طائرات الهليكوبتر والطائرات دون طيار والسفن والأقمار الصناعية.
وقبل الاستفتاء البريطاني على الانسحاب من الاتحاد الأوروبي كانت الولايات المتحدة تتطلع لبريطانيا حليفها الرئيسي في أوروبا، لكي تصبح جسرا بين الحلف والاتحاد الأوروبي.
وكان الهدف من ذلك السماح لواشنطن بالتركيز على المشكلات الأخرى بما في ذلك حركة طالبان في أفغانستان والدور العسكري الصيني في جزر بحر الصين الجنوبي.



2025... عام ملء الفراغات؟

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
TT

2025... عام ملء الفراغات؟

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)

لا يوجد فراغ مسموح به في الطبيعة. فالطبيعة لا تغيّر طبيعتها، لأنها تكره الفراغ. في الفراغ لا حياة، لا صراع ولا تاريخ. فالتاريخ يتنقّل بين الفوضى والنظام. يُفرض النظام بالإكراه، فتوضع القوانين لتُفرض بالقوّة والإكراه أيضاً. هكذا كتب ألبير كامو، الفيلسوف الفرنسي في كتابه «الإنسان المتمرّد»، (The Rebel): «في النظام، كما في الفوضى، هناك شيء من العبوديّة». تستهدف الثورة النظام القائم، فتخلق الفوضى. لكنها مُلزمة بإعادة تكوين نظام جديد. وبين الفوضى والنظام، يدفع الإنسان العاديّ الأثمان.

يقول السياسيّ الراحل هنري كيسنجر ما معناه: إن الفراغ يجلب الحرب والهجوم. فهل سيكون عام 2025 عام ملء الفراغات، أو خلق بعضها؟

دخان يتصاعد من شمال قطاع غزة خلال قصف الجيش الإسرائيلي (أرشيفية - أ.ف.ب)

بعد عملية 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، تغيّرت موازين القوى في المنطقة. سقطت «حماس». سقط «حزب الله». سقط النظام في سوريا... وبذلك انهارت وحدة الساحات، أو ما يُسمّى محور المقاومة. وبسبب ذلك، سقطت منظومات كانت قائمة. وتظهّرت الفراغات القاتلة. ها هي إسرائيل تدمّر قطاع غزّة، لتخلق فراغاً لا توجد فيه حركة «حماس»، ولتؤسّس لحالة معيّنة قد يُطلَق عليها «الاحتلال التغييريّ»، (Transformative). بكلام آخر، فُرض الاحتلال أمراً واقعاً خارج القانون الدوليّ، لكنه طويل، ومُكلف للمُحتلّ، الأمر الذي قد يخلق ثقافة جديدة، ومختلفة عما كانت قبلها، حتى ولو تطلّب الأمر جيلاً من الزمن.

دخلت إسرائيل لبنان خلال الحرب الأخيرة، فخلقت منطقة عازلة. وها هي اليوم تُحصّنها استباقاً للسيناريو السيّئ. خلقت إسرائيل هذا الفراغ على الحدود اللبنانيّة، كما في داخل قطاع غزّة بالقوّة العسكريّة المُفرطة. لكن البقاء في لبنان واحتلال المنطقة العازلة، هو أمر مختلف تماماً عن احتلال قطاع غزّة.

بعد سقوط النظام في سوريا، سارعت إسرائيل إلى احتلال مزيد من الأراضي السوريّة وتوسيع المنطقة العازلة. لكنه احتلال من دون استعمال للقوّة، حتى ولو دمّر الطيران الإسرائيليّ قدرات الجيش السوريّ المستقبليّ. إنه احتلال مؤقّت-طويل. لكن المفارقة هي إعلان إسرائيل أن الجولان لن يعود إلى سوريا، وهو احتلال كأمر واقع (De Facto). ولتحرير الجولان، لا بد من حرب أو تفاوض، وهذان أمران متعذّرَان حالياً لأسباب كثيرة. وعليه قد يمكن حالياً إعلان وفاة مقولة كسينجر: «لا حرب في الشرق الأوسط من دون مصر، ولا سلام من دون سوريا».

صورة نشرها الجيش الإسرائيلي وقال إنها لجولة رئيس الأركان هرتسي هاليفي الميدانية في جنوب لبنان (أرشيفية)

حال العالم

في أوكرانيا يستعين الرئيس بوتين في حربه بالتكنولوجيا الغربيّة لتصميم صواريخه، آخرها الصاروخ الفرط صوتيّ «أوريشنيك». كما يستعين بالمُسيّرات الإيرانيّة، والعسكر الكوري الشمالي لتحرير الأرض الروسية في كورسك. يريد بوتين الاحتلال التغييري للشرق الأوكرانيّ.

في منطقة نفوذ الصين، يسعى التنين إلى استرداد جزيرة تايوان على أنها جزء تاريخيّ من الصين الكبرى. فهي تحضّر البحريّة الصينيّة، كون الحرب، وفي حال حصولها، سيكون أغلبها في البحر. ورداً على ذلك، بدأ تشكُّل كثير من التحالفات ردّاً على السلوك الصينيّ.

وفي مكان آخر من العالم، يُحضّر الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب مأسسة الصراع مع التنين الصينيّ. فهو يريد استعادة السيطرة على قناة بنما، نظراً إلى أهمية هذه القناة على الأمن القومي الأميركيّ. فهي الشريان الحيويّ الذي يربط الشرق الأميركي بالغرب. وهي التي أوصى بها المفكّر الاستراتيجيّ الأميركي البحريّ ألفريد ماهان. وهي التي أشرفت على بنائها الولايات المتحدة الأميركيّة، وذلك بعد انفصال بنما عن كولومبيا وبمساعدة البحريّة الأميركيّة آنذاك، خلال فترة حكم الرئيس الأميركي الراحل تيودور روزفلت. وبذلك، تكون القناة قد مرّت بثلاث مراحل هي: 1906 البناء مع الرئيس روزفلت، و1977 مع الرئيس جيمي كارتر الذي أعادها إلى بنما، واليوم مع الرئيس ترمب الذي يريد استردادها.

صور الرئيس الأسبق حافظ الأسد ممزقة للمرة الأولى في تاريخ سوريا (الشرق الأوسط)

يرى البعض أن تصريحات الرئيس ترمب مجرّد كلام عاديّ بسبب شخصيّته الفريدة. لكن الأكيد أن تصريحاته تنمّ عن عمق جيوسياسيّ بعيد المدى. فما معنى طرحه موضوع شراء جزيرة غرينلاند من الدنمارك؟ ما أهميّة هذه الجزيرة؟

إن ثقافة دبلوماسيّة الدولار (Dollar Diplomacy) في التاريخ الأميركي ليست جديدة. فهي قد اشترت لويزيانا من فرنسا عام 1803 بـ15 مليون دولار. كما اشترت من روسيا ولاية ألاسكا الحاليّة بـ7.2 مليون دولار.

شكّلت لويزيانا الربط بين الشرق والغرب الأميركيّ، كما سيطرت على أهمّ مرفأ أميركيّ يطلّ على خليج المكسيك. وبالحدّ الأدنى أخرجت دولة أوروبيّة من الأرض الأميركيّة. أما شراء ألاسكا، فقد أعطى أميركا إطلالة على مضيق بيرينغ الذي يطلّ بدوره على الأرض الروسيّة.

التحّولات الجيوسياسيّة الحاليّ

مع صعود الصين، تبدّلت موازين القوى العالميّة عمَّا كانت عليه خلال الحرب الباردة. فللصين قدرات كونيّة وفي كل الأبعاد، خصوصاً الاقتصاديّة والعسكريّة، وهذه أبعاد افتقر إليها الاتحاد السوفياتيّ. تسعى الصين إلى التموضع في القارة الأميركيّة. يُضاف إلى هذا التحوّل، الكارثة البيئيّة والاحتباس الحراري، الأمر الذي قد يفتح طرقاً بحريّة جديدة، حول الشمال الأميركيّ. خصوصاً أن ذوبان المحيط المتجّمد الشمالي سوف يُغيّر جغرافيّة الصراع الجيوسياسيّ بالكامل. ونتيجة لذلك، ستصبح الولايات المتحدة الأميركيّة تطلّ على ثلاثة محيطات بعد أن كانت تطلّ على محيطين.

وحدة مدفعية أوكرانية في منطقة زابوريجيا تطلق النار باتجاه القوات الروسية على خط المواجهة (أرشيفية - رويترز)

تتميّز غرينلاند بمساحتها الكبيرة، نحو مليوني كيلومتر مربع، مع عديد لا يتجاوز 56 ألف نسمة، وثروات مهمّة قد تجعل أميركا تستغني عن استيراد كثير من الثروات الطبيعيّة من الصين. خلال الحرب الباردة حاول الرئيس هاري ترومان شراء الجزيرة، وهي لا تزال تضمّ قاعدة عسكريّة جويّة أميركيّة.

في الختام، إذا استطاع الرئيس ترمب استعادة السيطرة على قناة بنما، وسيطر بشكل ما على غرينلاند، سيتكوّن مثلثّ جيوسياسيّ دفاعيّ حول الولايات المتحدة الأميركيّة يرتكز على: غرينلاند، وألاسكا، وقناة بنما. كل ذلك، بانتظار الرئيس ترمب في البيت الأبيض، وكيف سيتعامل مع العالم خصوصاً الصين. فهل سيكون انعزاليّاً أم انخراطيّاً أم مزيجاً من المقاربتين؟