عقيدة طرابلس اللبنانية

الحرب السورية صبّت الزيت على نار التشدد

عقيدة طرابلس اللبنانية
TT

عقيدة طرابلس اللبنانية

عقيدة طرابلس اللبنانية

ارتبطت مدينة طرابلس اللبنانية خلال السنوات الأخيرة بالحركات الإسلامية المحافظة والمتشددة، مع تفكيك كثير من خلاياها في «عاصمة الشمال» والمناطق المحيطة بها مثل الضنّية وعكّار، مع الإشارة إلى أن الشمال تعتبر اليوم من أكثر مناطق لبنان تهميشًا. ولقد تأثر مشهد التشدد الإسلامي في تاريخ المدينة المعقّد بالسياسة المحلية كما بالعداء لنظام الأسد السوري، الذي ترجم في زيادة عدد الهجمات الإرهابية ضد ميليشيا ما يسمى «حزب الله» التي تقاتل إلى جانب قوات نظام بشار الأسد في سوريا.
يشرح الدكتور عبد الغني عماد، الخبير في شؤون الحركات الإسلامية اللبنانية، لمحات من الحركات الإسلامية المحافظة والمشددة في لبنان فيقول: «إن الشيخ سالم الشهال أسس أول مجموعة تنتمي إلى هذه التوجهات هي (شباب محمد في لبنان) خلال عقد الأربعينات، وكانت حركته دعوية، من أهدافها تصحيح الممارسات الخاطئة للمسلمين. أما على الصعيد السياسي فلم يكن للشيخ الشهال أطروحة سياسية واضحة، مع العلم أنه ترشح للنيابة عام 1972 غير أنه انسحب لصالح (الجماعة الإسلامية).. وفي هذا دليل واضح على انفتاحه».
ويتابع الدكتور عماد شرحه قائلا: «مع بدء الحرب اللبنانية أدى غياب الشيخ سالم الشهال عن الساحة الأمنية إلى صعود شخصيات جديدة من تلاميذه. وهذه النزعة تزايدت بعد وفاته، غير أن الانقسام الطاغي على الساحة السلفية ناتج عن طبيعة الحركة التي هي دعوية وليست حزبية».
وللعلم، نشأت في طرابلس مدارس صغيرة أخرى مثل تلك التابعة لسراج منير البخاري وحركة صفوان الزعبي والشيخ سالم الرافعي، الذي كان من أوائل من دعا إلى «الجهاد» في سوريا، فضلاً عن شخصيات أخرى مثل الشيخ بلال دقماق والشيخ نبيل رحيم أو الشيخ محمد خضر، ناهيك بحركات إسلامية راديكالية أخرى مثل «حركة التوحيد» التي أسّسها الشيع سعيد شعبان.
ومع بدء الشعور بالخطر من سياسات ما يسمى «حزب الله» ومواقفه طرأ تسييس واضح المعالم على المشهد الإسلامي في طرابلس ومحيطها، وظهر حراك محافظ ومتشدد ملحوظ. وازداد شعور التيار المتشدد مع أحداث 2008 واجتياح ما يسمى «حزب الله» بيروت ومحاولته غزو الجبل. وحاليًا تعتمد الفصائل الإسلامية المحافظة والمتشددة في طرابلس على شبكة من المساجد والمنظمات غير الحكومية والمدارس، وتتلقى التمويل من مختلف الدول العربية. وحسب الدكتور عماد يوجد اليوم في المدينة ومحيطها نوعان من هذه الفصائل: النوع الأول توجّه إلى حمل السلاح، وارتبط عدد من الخلايا بمنظمات إرهابية. أما النوع الثاني فهو الذي رفض حمل السلاح، ومع ذلك فقد تعرض للتوقيفات الأمنية - مثل الأول - إثر الأحداث الطائفية بين منطقة باب التبانة السنّيّة وجبل محسن العلوية في طرابلس بعد بدء حرب سوريا.
ووفقًا لمصدر - اختار التكتم على هويته نظرًا لحساسية الموضوع - يحصل كثيرون من ناشطي الفصائل المحافظة والمتشددة، كما أن معظم هذه الفصائل في طرابلس لديها اتصالات منتظمة مع هيئات مثل الشرطة والجيش أو الاستخبارات، وحتى وقت قريب كان يتم تأمين الأسلحة لها من قبل السياسيين المحليين. وفي هذا السياق يقول الشيخ بلال دقماق إن انقسام بعض هذه الفصائل يؤدي إلى ضعفهم، في حين يستطيعون أن يكونوا أقوياء.
والواقع أن المشهد الإسلامي المحافظ في لبنان عمومًا، يبقى مثل بقية الأنسجة السياسية والاجتماعية المعقدة في لبنان، منقسمًا بعمق. كما أن الفصائل الإسلامية في طرابلس لا تتعرّض للتلاعب بها فقط من قبل القوى الخارجية، بل أيضًا تقع رهينة في يد السياسيين المحليين الذين يستخدمونها في اللعبة السياسية. فخلال الفترة بين عامي 2012 و2015، شهدت طرابلس اشتباكات بين المسلحين المتشددين وأفراد من الأقلية العلوية الموالية لنظام الأسد في سوريا وكذلك ضد الجيش اللبناني. وانتهت المعركة أواخر العام الماضي بعد اعتقال قادة الميليشيات وتفكيك الخلايا الإرهابية. وفي مايو (أيار) 2015، اعتقل الجيش اللبناني إبراهيم بركات، الموصوف تارة بأمير «داعش» في شمال لبنان، وتارة بـ«القاضي الشرعي» للتنظيم الإرهابي، وذلك بتهمة العمل على تجنيد الشباب لصالح التنظيم.
من جهة أخرى، لفترة طويلة بدا أن معظم المحافظين المتشدّدين في الشارع الإسلامي الطرابلسي يؤيدون قوى «14 آذار»، وعلى رأسها تيار «المستقبل» - ذو الغالبية السنّية - برئاسة رئيس الوزراء الأسبق سعد الحريري، في حين فضلت الفصائل السنية الراديكالية الأخرى مثل «حركة التوحيد» التي تلقى رعاية قوية ومباشرة من نظام سوريا وإيران، أن تدين بولائها لقوى «8 آذار» بقيادة ما يسمى «حزب الله».
إنما يبدو أن هذا المشهد الإسلامي قد تغير، بما في ذلك مكوناته المتشددة والحركية التي تعكس الديناميات المحلية في طرابلس. إذ صبّت أصواتها خلال الانتخابات البلدية الأخيرة التي أجريت في مايو (أيار) الماضي لصالح اللائحة المدعومة من قبل وزير العدل السابق اللواء أشرف ريفي، وهو من «14 آذار» الذي تميّز بتشدده ضد ما يسمى «حزب الله» ومناهضته لسوريا ورفضه مهادنة مناصري النظام السوري داخل طرابلس، في حين فضل غيره من أعضاء «14 آذار» اتخاذ مواقف أقل تشددًا. وكما هو معروف، فازت القائمة المدعومة من ريفي ضد ما وصفت بـ«قائمة المليارات» الائتلافية التي شكلتها الشخصيات السياسية والاقتصادية السنّية، وفي مقدمتهم الرئيس الحريري ورئيس الوزراء السابق نجيب ميقاتي والوزيران محمد الصفدي وفيصل كرامي، بالتحالف مع «الجماعة الإسلامية» و«جمعية المشاريع الإسلامية» (الأحباش).
وفي حين لم يشارك المحافظون المتشددون عمومًا في العملية الديمقراطية، فقد صوت كثيرون، منهم في طرابلس، ضد القائمة الائتلافية (الحريري - ميقاتي - الصفدي - كرامي)، لمصلحة القائمة المدعومة من ريفي. ووفق الشيخ محمد إبراهيم، وهو رجل دين من حي المنكوبين، المنطقة التي أسهم سكانها إلى حد كبير في معارك سوريا: «بقاء اللواء ريفي على مواقفه الحازمة، يفسر الدعم الواسع الذي حظي به» في الانتخابات. وفي المقابل سجل ابتعاد للناخبين عن «الأحباش» و«الجماعة الإسلامية» المشاركين في اللائحة المناوئة للائحة المدعومة من ريفي.
يشرح بعض المحافظين المتشددين كيف أنهم ينظرون بشكل سلبي إلى قبول تحالف «الجماعة الإسلامية» مع «الأحباش» الذين يشكلون أعداء طبيعيين لهم لأسباب سياسية ودينية على حد سواء. ويقول أحدهم: «الأحباش كانوا من داعمي النظام السوري إبان احتلاله للمدينة»، وفي عام 1986، نفذ الجيش السوري حملة عنيفة على سكان المدينة أدت إلى اختطاف وقتل المئات من الناس.
مع هذا، وعلى الرغم من هذا الماضي المليء بالأحداث، فإن المشهد الطائفي التعددي في لبنان، والتحالفات السنّيّة القديمة مع الدولة عنصران حالا دون نجاح تنظيمات إرهابية متطرفة مثل «القاعدة» بإحكام طابعها المؤسسي في لبنان رغم بذلها محاولات كثيرة. لكن الحرب السورية غيرت هذا الواقع. وكما يقول الشيخ إبراهيم: «الحرب في سوريا والانتهاكات ضد الثورة والشارع السني أغضب السكان في طرابلس. كذلك أدى تدخل (حزب الله) إلى صب الزيت على النار، وساهم في توجه كثيرين إلى سوريا، حتى وصل عددهم إلى 1000 شخص». مع العلم أن مصادر الاستخبارات العسكرية في لبنان تقول إن عددهم لا يتجاوز الـ250.
أمر آخر لافت، هو أنه بينما يتعاطف «الجيل القديم» من المحافظين المتشدّدين مع «جبهة النصرة»، فإن «الجيل الأصغر سنًا» يؤيد «داعش». وخلال الأسابيع الأخيرة، ألقي القبض على عدة خلايا لعلاقاتها بالتنظيم المتطرف. و«على الرغم من الإجراءات الكثيرة التي اتخذت لوقف نشاط (داعش)، فإن كثيرا من الأشخاص الذين يدعمون آيديولوجيا التنظيم ما زالوا موجودين. ومن غير المتوقّع حصول هجمات إرهابية كبيرة خلال شهر رمضان كون أتباع (داعش) في لبنان لا يملكون إمكانيات لإجراء أعمال بهذا الحجم»، وفق مصدر في الجيش اللبناني: «لكن قد يكون من السهل وقوع عمليات صغيرة لا تتطلّب جهدًا تقنيًا أو تدريبًا على غرار ما شهدناه في باريس».
في المقابل، تعتبر مصادر متشددة في طرابلس أن الخطر الجديد قد ينشأ من الشباب الذين سبق أن اعتقلوا بطريقة عشوائية، للاشتباه في علاقاتهم مع المنظمات الإرهابية، والذين أطلق سراحهم بعد تبرئتهم. وهنا يقول الشيخ إبراهيم: «ألقي القبض على كثير من الشباب لدعمهم الآيديولوجي للنصرة أو و(داعش)، وسجنوا لشهور عدة.. ومن ثم أطلق سراحهم في النهاية لعدم وجود أي إثباتات ضدهم»، متابعًا أن «هؤلاء الشباب الممتعضين من اعتقالهم غير القانوني والمعاملة السيئة يشكلون قنابل موقوتة، وبالأخص، أنه سبق وضعهم في السجن مع المتطرّفين المتشدّدين من جبهة النصرة و(داعش)».
هذا، وعلى الرغم من الإنجازات الكثيرة التي حققتها القوى الأمنية اللبنانية بالقبض على الخلايا الإرهابية وتفكيكها، فإن السلطات اللبنانية لا تزال عاجزة عن وضع حد لمزيد من تطرف الشباب، بحيث تبدو عاجزة عن تأمين فرص جديدة لهم أو التفكير ببديل عن زجهم في السجون بالقرب من الإرهابيين المتطرفين.



فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
TT

فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)

غداة إعلان باريس مصرع 13 جندياً من مواطنيها، في حادث تحطم مروحيتين عسكريتين في جمهورية مالي الأفريقية، كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يعلن في مؤتمر صحافي أن بلاده تدرس جميع الخيارات الاستراتيجية المتعلقة بوجودها العسكري في منطقة الساحل الأفريقي.
في تصريحاته، أكد ماكرون أنه أمر الجيش الفرنسي بتقييم عملياته ضد المسلحين في غرب أفريقيا، مشيراً إلى أن جميع الخيارات متاحة، وموضحاً أن بلاده «ترغب في مشاركة أكبر من قبل حلفائها في المنطقة من أجل مكافحة الإرهاب».

هل يمكن عد تصريحات ماكرون بداية لمرحلة فرنسية جديدة في مكافحة الإرهاب على أراضي القارة السمراء، لا سيما في منطقة دول الساحل التي تضم بنوع خاص «بوركينا فاسو، ومالي، وموريتانيا، والنيجر، وتشاد»؟
يتطلب منا الجواب بلورة رؤية واسعة للإشكالية الأفريقية في تقاطعاتها مع الإرهاب بشكل عام من جهة، ولجهة دول الساحل من ناحية ثانية.
بداية، يمكن القطع بأن كثيراً من التحديات الحياتية اليومية تطفو على السطح في تلك الدول، لا سيما في ظل التغيرات المناخية التي تجعل الحياة صعبة للغاية وسط الجفاف، الأمر الذي يولد هجرات غير نظامية من دولة إلى أخرى. وفي الوسط، تنشأ عصابات الجريمة المنظمة والعشوائية معاً، مما يقود في نهاية المشهد إلى حالة من الانفلات الأمني، وعدم مقدرة الحكومات على ضبط الأوضاع الأمنية، وربما لهذا السبب أنشأ رؤساء دول المنطقة ما يعرف بـ«المجموعة الخماسية»، التي تدعمها فرنسا وتخطط لها مجابهتها مع الإرهاب، والهدف من وراء هذا التجمع هو تنسيق أنشطتهم، وتولي زمام الأمور، وضمان أمنهم، من أجل الحد من تغلغل الإرهاب الأعمى في دروبهم.
على أنه وفي زمن ما يمكن أن نسميه «الإرهاب المعولم»، كانت ارتدادات ما جرى لتنظيم داعش الإرهابي في العراق وسوريا، من اندحارات وهزائم عسكرية العامين الماضيين، تسمع في القارة الأفريقية بشكل عام، وفي منطقة الساحل بنوع خاص، ولم يكن غريباً أو عجيباً أن تعلن جماعات إرهابية متعددة، مثل «بوكو حرام» وحركة الشباب وغيرهما، ولاءها لـ«داعش»، وزعيمها المغدور أبي بكر البغدادي.
وتبدو فرنسا، فعلاً وقولاً، عازمة على التصدي للإرهاب القائم والآتي في القارة السمراء، وقد يرجع البعض السبب إلى أن فرنسا تحاول أن تحافظ على مكاسبها التاريخية السياسية أو الاقتصادية في القارة التي تتكالب عليها اليوم الأقطاب الكبرى، من واشنطن إلى موسكو، مروراً ببكين، ولا تود باريس أن تخرج خالية الوفاض من قسمة الغرماء الأفريقية، أي أنه تموضع عسكري بهدف سياسي أو اقتصادي، وفي كل الأحوال لا يهم التوجه، إنما المهم حساب الحصاد، وما تخططه الجمهورية الفرنسية لمواجهة طاعون القرن الحادي والعشرين.
في حديثها المطول مع صحيفة «لوجورنال دو ديمانش» الفرنسية، كانت وزيرة الجيوش الفرنسية، فلورانس بارلي، تشير إلى أن فرنسا تقود جهوداً أوروبية لتشكيل قوة عسكرية لمحاربة تنظيمي «داعش» و«القاعدة» في منطقة الساحل الأفريقي، وأن هناك خطوات جديدة في الطريق تهدف إلى تعزيز المعركة ضد العناصر الإرهابية هناك، وإن طال زمن الصراع أو المواجهة.
ما الذي يجعل فرنسا تتحرك على هذا النحو الجاد الحازم في توجهها نحو الساحل الأفريقي؟
المؤكد أن تدهور الأوضاع في الساحل الأفريقي، وبنوع خاص المثلث الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، قد أزعج الأوروبيين أيما إزعاج، لا سيما أن هذا التدهور يفتح الأبواب لهجرات غير شرعية لسواحل أوروبا، حكماً سوف يتسرب في الوسط منها عناصر إرهابية تنوي إلحاق الأذى بالقارة الأوروبية ومواطنيها.
يكاد المتابع للشأن الإرهابي في الساحل الأفريقي يقطع بأن فرنسا تقود عملية «برخان 2»، وقد بدأت «برخان 1» منذ اندلاع أولى شرارات الأزمة الأمنية في منطقة الساحل، فقد التزمت فرنسا التزاماً حاراً من أجل كبح جماح التهديد الإرهابي.
بدأت العملية في يناير (كانون الثاني) 2013، حين تدخلت فرنسا في شمال مالي، عبر عملية «سيرفال»، بغية منع الجماعات الإرهابية التابعة لتنظيم القاعدة من السيطرة على البلاد.
والثابت أنه منذ ذلك الحين، توحدت العمليات الفرنسية التي تضم زهاء 4500 جندي تحت اسم عملية «برخان». وتعمل القوات الفرنسية في هذا الإطار على نحو وثيق مع القوات المسلحة في منطقة الساحل.
ويمكن للمرء توقع «برخان 2»، من خلال تحليل وتفكيك تصريحات وزيرة الجيوش الفرنسية بارلي التي عدت أن دول الساحل الأفريقي تقع على أبواب أوروبا. وعليه، فإن المرحلة المقبلة من المواجهة لن تكون فرنسية فقط، بل الهدف منها إشراك بقية دول أوروبا في مالي بقيادة عملية «برخان 2»، في إطار وحدة مشتركة تدعى «تاكوبا»، بغية مواكبة القوات المسلحة المالية.
ولعل المتابع لتصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون العام الحالي يرى أن الرجل يكاد ينزع إلى ما مضي في طريقه جنرال فرنسا الأشهر شارل ديغول، ذاك الذي اهتم كثيراً بوحدة أوروبا والأوروبيين بأكثر من التحالف مع الأميركيين أو الآسيويين.
ماكرون الذي أطلق صيحة تكوين جيش أوروبي مستقل هو نفسه الذي تحدث مؤخراً عما أطلق عليه «الموت السريري» لحلف الناتو. وعليه، يبقى من الطبيعي أن تكون خطط فرنسا هادفة إلى جمع شمل الأوروبيين للدفاع عن القارة، وعدم انتظار القوة الأميركية الأفريقية (أفريكوم) للدفاع عن القارة الأوروبية.
هذه الرؤية تؤكدها تصريحات الوزيرة بارلي التي أشارت إلى أن فرنسا تبذل الجهود الكبيرة من أجل أن يكون هناك أوروبيون أكثر في الصفوف الأولى مع فرنسا ودول الساحل. وقد أعلنت الوزيرة الفرنسية بالفعل أن «التشيكيين والبلجيكيين والإستونيين قد استجابوا أولاً، كما أن آخرين حكماً سينضمون إلى عملية (تاكوبا) عندما تصادق برلمانات بلادهم على انتشارهم مع القوات الفرنسية».
لا تبدو مسألة قيادة فرنسا لتحالف أوروبي ضد الإرهاب مسألة مرحباً بها بالمطلق في الداخل الفرنسي، لا سيما أن الخسائر التي تكمن دونها عاماً بعد الآخر في منطقة الساحل قد فتحت باب النقاش واسعاً في الداخل الفرنسي، فقد قتل هناك العشرات من الجنود منذ عام 2013، مما جعل بعض الأصوات تتساءل عن نجاعة تلك العملية، وفرصها في الحد من خطورة التنظيمات الإرهابية، وقد وصل النقاش إلى وسائل الإعلام الفرنسية المختلفة.
غير أنه، على الجانب الآخر، ترتفع أصوات المسؤولين الفرنسيين، لا سيما من الجنرالات والعسكريين، الذين يقارنون بين الأكلاف والخسائر من باب المواجهة، وما يمكن أن يصيب فرنسا وبقية دول أوروبا حال صمت الأوروبيين وجلوسهم مستكينين لا يفعلون شيئاً. فساعتها، ستكون الأراضي الأوروبية من أدناها إلى أقصاها أراضي شاسعة متروكة من الدول، وستصبح ملاجئ لمجموعات إرهابية تابعة لـ«داعش» و«القاعدة».
ما حظوظ نجاحات مثل هذا التحالف الأوروبي الجديد؟
يمكن القول إن هناك فرصة جيدة لأن يفعل التحالف الفرنسي الأوروبي الجديد حضوره، في مواجهة الإرهاب المتغلغل في أفريقيا، لا سيما أن الهدف يخدم عموم الأوروبيين، فتوفير الأمن والاستقرار في الجانب الآخر من الأطلسي ينعكس حتماً برداً وسلاماً على بقية عموم أوروبا.
ولم يكن الإعلان الفرنسي الأخير هو نقطة البداية في عملية «برخان 2» أو «تاكوبا»، فقد سبق أن أعلن رئيس الجمهورية الفرنسية، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، بمعية رئيس بوركينا فاسو السيد روش كابوريه، وهو الرئيس الحالي للمجموعة الخماسية لمنطقة الساحل، إبان مؤتمر قمة مجموعة الدول السبع في بياريتز، إنشاء الشراكة من أجل الأمن والاستقرار في منطقة الساحل.
وترمي هذه الشراكة مع بلدان المنطقة إلى تعزيز فعالية الجهود المبذولة في مجالي الدفاع والأمن الداخلي، وإلى تحسين سبل تنسيق دعم الإصلاحات الضرورية في هذين المجالين، وتمثل ضرورة المساءلة مقوماً من مقومات هذه الشراكة.
ولا يخلو المشهد الفرنسي من براغماتية مستنيرة، إن جاز التعبير، فالفرنسيون لن يقبلوا أن يستنزفوا طويلاً في دفاعهم عن الأمن الأوروبي، في حين تبقى بقية دول أوروبا في مقاعد المتفرجين ليس أكثر، وربما لمح الفرنسيون مؤخراً من طرف خفي إلى فكرة الانسحاب الكامل الشامل، إن لم تسارع بقية دول القارة الأوروبية في إظهار رغبة حقيقية في تفعيل شراكة استراتيجية تستنقذ دول الساحل الأفريقي من الوقوع لقمة سائغة في فم الجماعات الإرهابية، في منطقة باتت الأنسب ليتخذها الإرهابيون مخزناً استراتيجياً ومنطقة حشد لهم، وفي مقدمة تلك الجماعات مجموعات إرهابية تابعة لتنظيم القاعدة تجتمع تحت راية جماعة «نصرة الإسلام والمسلمين»، وأخرى تابعة لتنظيم داعش على غرار التنظيم الإرهابي في الصحراء الكبرى، التي تقوم بتنفيذ كثير من الهجمات ضد القوات المسلحة في منطقة الساحل، والقوات الدولية التي تدعمها، والتي تضم بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الإبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي، المكلفة بدعم تنفيذ اتفاق السلام المنبثق عن عملية الجزائر العاصمة، ودعم جهود إرساء الاستقرار التي تبذلها السلطات المالية في وسط البلاد.
ولعل كارثة ما يجري في منطقة الساحل الأفريقي، ودول المجموعة الخماسية بنوع خاص، غير موصولة فقط بالجماعات الراديكالية على اختلاف تسمياتها وانتماءاتها، فهناك مجموعات أخرى مهددة للأمن والسلام الأوروبيين، جماعات من قبيل تجار المخدرات والأسلحة، وكذا مهربو البشر، وتهريب المهاجرين غير الشرعيين، وهذا هاجس رهيب بدوره بالنسبة لعموم الأوروبيين.
على أن علامة استفهام تبقى قلقه محيرة بالنسبة لباريس وقصر الإليزيه اليوم، وهي تلك المرتبطة بالإرادة الأوروبية التي تعاني من حالة تفسخ وتباعد غير مسبوقة، تبدت في خلافات ألمانية فرنسية بنوع خاص تجاه فكرة استمرار الناتو، وطرح الجيش الأوروبي الموحد.
باختصار غير مخل: هل دعم الأوروبيين كافة لعملية «برخان 2» أمر مقطوع به أم أن هناك دولاً أوروبية أخرى سوف تبدي تحفظات على فكرة المساهمة في تلك العمليات، خوفاً من أن تستعلن فرنسا القوة الضاربة الأوروبية في القارة الأفريقية من جديد، مما يعني عودة سطوتها التي كانت لها قديماً في زمن الاحتلال العسكري لتلك الدول، الأمر الذي ربما ينتقص من نفوذ دول أخرى بعينها تصارع اليوم لتقود دفة أوروبا، في ظل حالة الانسحاب من الاتحاد التي تمثلها بريطانيا، والمخاوف من أن تلحقها دول أخرى؟
مهما يكن من أمر الجواب، فإن تصاعد العمليات الإرهابية في الفترة الأخيرة، أو حدوث عمليات جديدة ضد أهداف أوروبية في القارة الأفريقية، وجريان المقدرات بأي أعمال إرهابية على تراب الدول الأوروبية، ربما يؤكدان الحاجة الحتمية لتعزيز توجهات فرنسا، وشراكة بقية دول أوروبا، ويبدو واضحاً أيضاً أن بعضاً من دول أفريقيا استشرفت مخاوف جمة من تعاظم الإرهاب في منطقة الساحل الأفريقي، مثل تشاد التي وافقت على تعبئة مزيد من الجيوش في المثلث الحدودي الهش مع النيجر وبوركينا فاسو.