«سايكس ـ بيكو» في وعي المتشددين العرب

بين الوحدة والقسمة

«سايكس ـ بيكو» في وعي المتشددين العرب
TT

«سايكس ـ بيكو» في وعي المتشددين العرب

«سايكس ـ بيكو» في وعي المتشددين العرب

كان مفهوما ومتوقعا هدم عناصر «داعش» السواتر الحدودية بين سوريا والعراق، بعد إعلان قادة التنظيم الإرهابي المتطرف خلافتهم المزعومة بيوم واحد في 10 يونيو (حزيران( وما نشروه طوال شهور تالية من خرائط جديدة للمنطقة، كانقلاب على التاريخ الواقعي وجزء من صناعة صورة متخيلة له، مهدت لها مراحل سابقة من الأدب والفكر العربي المعاصر، وفي مقدمتها اتفاقية «سايكس - بيكو».
ولقد مثل عداء وشجب هذه الاتفاقية المبرمة في 15 مايو (أيار) 1916. بين بريطانيا وفرنسا، التي مرت 100 سنة على ذكراها قبل قليل، مكانة خاصة في فكر التيارات الآيديولوجية العربية المعاصرة، بما حملته من هيكلة وصياغة جديدة لمنطقة الشرق الأوسط، خصوصا أن أغلب دوله كانت نتاجها، ونتاج الاتفاقات التالية لها، باستثناء مصر وإيران، فهما وحدهما مَن بقي من بلدان العالم القديم بصيغتهما السابقة نفسها.
الواقع أن «سايكس - بيكو» كانت انعكاسًا لواقع قائم وقديم، كما لم تكن أكثر أهمية من اتفاقات تلتها، كانت أبعد أثرا منها، مثل «مؤتمر سان ريمو» في عام 1920 و«مؤتمر القاهرة» الذي فصل أراضي فلسطين الخاضعة للانتداب البريطاني عن شرق نهر الأردن، لكنها دون سواها ظلت هي قلب «النظرة التآمرية» وملمحها الأول في الخطاب العربي المعاصر.
وصدمت هذه الاتفاقية مثالية حلم «الوحدة والخلافة» في آن واحد، إذ كانت «سايكس - بيكو» إحدى علامات وفاة الخلافة وتوزّع إرثها، وصادمة لدعوات الوحدة واليقظة الوليدة منذ العقد الأول مع القرن العشرين مع أمثال عبد الرحمن الكواكبي في «أم القرى» (عام 1895) أو نجيب عازوري الذي نشر كتابه «يقظة الأمة العربية» عام 1905 وتوفي في عام «سايكس – بيكو» أي 1916 نفسه.
كانت «سايكس - بيكو»، في التصور الغالب، حلقة من حلقات التفوّق الغربي الحديث وهيمنة الغالب على مصير معاهدات الحلف الأنجلو - روسي للسيطرة على بلاد فارس وأفغانستان. كما تزامنت معه وتلته لاحقًا قرارات الانتداب والاحتلال، كمحاولة مستمرة لهيكلة الشرق الأوسط وبلدانه.
لكن، ربما من الخطأ قراءتها بوصفها لحظة شرق أوسطية وليس كلحظة عالمية، ضمن سياقات ما بعد اندلاع الحرب العالمية الأولى (1914 - 1918)، التي انتهت بسقوط عدد من الإمبراطوريات والممالك الكبرى في العالم، وما أحدثته من تغير جيوسياسي كبير كذلك في الغرب كما في الشرق على السواء.
ففي اللحظة العالمية نفسها سقطت الإمبراطورية القيصرية الروسية، والإمبراطورية النمساوية – المجرية، والإمبراطورية الألمانية، والدولة العثمانية بعد ذلك، وكذلك ممالك في إيطاليا وصربيا وبلغاريا. وشهد الشرق الأوسط نفسه اندلاع ما عرف بـ«الثورة العربية الكبرى» بعدها بشهر واحد في يونيو من عام 1916، وغيرها من الأحداث الكبرى التي تثبت أننا كنا أمام فاصل مخاض عالمي خطير أثر على كل العالم وليس على المنطقة فقط.
بيد أن ما رسخ من عداء وتحميل لاتفاقية «سايكس - بيكو» في الشرق الأوسط، كل المسؤولية، أنه أعقبها بعام واحد ما عرف بـ«إعلان بلفور» عام 1917 وما تزامن معه وتبعه، خلال أقل من عقد من الزمان، من تحولات جوهرية وعميقة في أنظمة الحكم في المنطقة. ولعل أبرزها سقوط الخلافة العثمانية عام 1924 ونجاح «النزعة الطورانية» بقيادة مصطفى كمال «أتاتورك»، وكذلك سقوط الإمبراطورية القاجارية في إيران عام 1925 وبدء حكم آل بهلوي، وتوالي نشوء سائر دول المنطقة، منها الدولة السعودية الثالثة بقيادة الملك المؤسس عبد العزيز آل سعود - رحمه الله - في العام نفسه.
أيضًا حَمَلت «سايكس - بيكو»، أو حُمّلت، المسؤولية عن إخفاق فكرة الدولة القومية في الشرق الأوسط، بعكس نجاح النموذج الأوروبي بعد «صلح وستفاليا» (مايو 1648) الذي يُعتبر إعلان نشوء منطق سيادة الدول في العصر الحديث، ونشوء الدولة القومية. ولكن هذا المنطق يتجاهل في الآن ذاته الاختلافات الإثنية والقومية والطائفية الراسخة منذ قرون قبل هذا الاتفاق داخل دول المنطقة وشعوبها، التي حكمها نمط التغلب والاستيلاء التاريخي بشكل رئيس.
لقد اهتم واستهدف وعي النخبة العربية المعاصرة التحرير من الاستعمار ومقاومته، كما استهدف النهضة والحداثة، بعد استدراك الفجوة بين التقدم الغربي والتخلف المشرقي منذ حملة نابليون بونابرت على مصر التي حملت المطبعة والصاروخ عام 1798 ميلادية.
واستدعى واستلزم هدف التحرير والمقاومة فكرة التوحّد وإحياء الروابط السياسية، التي التفت أول ما التفت حول فكرة «الجامعة الإسلامية» وإصلاح «نظام الخلافة» ورفع كفاءته. وهو ما حاوله جمال الدين الأفغاني بدرجة كبيرة وتبعه فيه كثيرون. ولكن تزامنت معها الدعوة لروابط أخرى قومية، كـ«الرابطة الوطنية» في دعوة الليبراليين المصريين لها، و«الرابطة القومية» التي نشطت بعد ذلك بعقد مع تيارات الفكر القومي ومفكريه، من أمثال ساطع الحصري وميشيل عفلق وزكي الأرسوزي وغيرهم، بوصفها محاولة لبعث الأمة عبر الطريق الأصعب في توحيدها أولاً!
وأخيرًا، استلزم واستهدف هم الحداثة الانطلاق من الواقع والممكن، ومن الدولة الوطنية، وليس من التاريخ ورموز تمجيده. ففي مساجلة مشهورة عام 1939 بين طه حسين وساطع الحصري عن الوحدة العربية، كان رد الأول على الأخير بأن المصريين أمة والعرب أمة والترك أمة، وأن الوحدة الثقافية العربية حقيقة واقعة، لكن الوحدة السياسية أمر بعيد وصعب المنال في هذه المرحلة على الأقل. وهو ما قال به مختلف الليبراليين المصريين في هذه المرحلة. ويبدو أن هذا المنطق المعتدل في تصوّر العلاقة والرابطة السياسية بين الدول العربية، بأنها جامعة ورابطة أكثر منها وحدة أو دولة وحدوية هو الذي انتصر عند تأسيس الجامعة العربية في مارس (آذار) 1945، حين عبّرت عن جامعة بين أفراد مترابطين، لا تلغي قراراتهم وتنوعاتهم لصالح وحدة مبتغاة. كما أنه كان الأكثر حضورا في جهودهم نحو التحديث والعصرنة وتأكيد قيمة المواطنة وردّ الاعتبار للدول الوطنية أو القطرية وطرح بدائل كالتكامل أو التعاون أو التنسيق بين الدول الجديدة.
كذلك كان ثمة وعي حقيقي بصعوبة وخطورة تعميم تصور الأمة وسط الاختلافات الإثنية والطائفية بين كثير من شعوب المنطقة، وصعود دور نخب الأقليات في مقاومة المستعمر والمطالبة بالاستقلال، والإصرار على حقوق حديثة لمواطنين لا رعايا في مجتمع حديث. ومن هنا كانت شعارات الثورة المصرية عام 1919 بأن «الدين لله والوطن للجميع»، أو «مصر للمصريين». بل لا نبالغ إذا قلنا إن كان التوجّه والدافع الأكبر هو القطيعة والمفاصلة مع «التتريك» والنزعة التركية التي مثلتها الخلافة العثمانية بغض النظر عن أنها خلافة، وما أرسته من تمييز ضد العرب أو الأقليات فيهم وبينهم!
في حين نجحت التيارات الفكرية والآيديولوجية العربية في تعديل تصوراتها للدولة الوطنية الحديثة التي نشأت بعد هذه الاتفاقات، خصوصا مع استفادتها من أخطاء وفشل تجاربها الحزبية الوحدوية الحاكمة، أصر الإسلاميون - وبدرجة أكبر الراديكاليون منهم - على معاداة هذه الدولة وكل ما هو غربي وما تمخّض عن واقع صنعه أو شارك فيه. فكان اعتبار«الدولة الوطنية» صنمًا لا يجوز قبوله أو الإيمان به. وما تعلق به، شأن مقولات الديمقراطية والمواطنة وحقوق الأقليات وما شابه من أمور فالقبول بها يعني القبول بما تولّد عنها، أي يعني القطع مع مفهوم دولة «المؤمنين والخلافة» الواحدة والمتوحدة، ما يوجب الكفر بالأولى أولاً.
يقول زعيم «القاعدة» أيمن الظواهري في التبرئة تعبيرًا عن هذا التصور، ومركزية «سايكس - بيكو» فيه: «هذه الدولة الوطنية فرضت علينا حدود سايكس - بيكو بالقوة والقهر والتزوير، وهي زائلة لا محالة إن شاء الله، لأنها أمر طارئ فرض بالقوة على الأمة المسلمة، التي عاشت تحت دولة واحدة حتى عام 1924، والأمر الطارئ المفروض لا بد أن يزول، لأنه يخالف حقائق الأشياء وطبائعها» (ص 49). ويقول أيضًا في موضع آخر معبّرًا عن هذا الرفض والكفر بما يسمى الوحدة الوطنية «إن تقديس الوحدة الوطنية ثمرة خبيثة من ثمرات سايكس - بيكو التي قسّمت الأمة المسلمة لأسلاب متفرقة نهبًا لتركة الدولة العثمانية، ثم عشّشت هذه السياسة الغازية المجرمة في عقولنا حتى أصبحت صنمًا مقدسًا، فيجب على المسلم طِبقًا لها في كل قُطر أن يتحد مع أبناء قطره وبلده حتى لو كانوا من أعدى أعداء»... (الأعمال الكاملة - ص 5)
وفي دراسة له عام 2013 ينتقد «أبو محمد المقدسي» الثورات العربية وتعاطف بعض الإسلاميين معها لقبولها الوحدة الوطنية، المتمخصة عن «سايكس - بيكو» بقوله «ركبت موجة الربيع العربي وانساقت بل ذابت مع شعاراته الجاهلية، رأيناها كيف تروّج للوطنية ورفعت أعلام سايكس - بيكو وأخواتها في كثير من البلاد إرضاء للعوام وانسياقًا مع الطغاة، فلا هي تميّزت عن هؤلاء ولا عملت على إخراج الناس من حمأة الجاهلية». ويجتمع مختلف الإسلاميين على هذا التصوّر الشجبي والرفضي لهذا الواقع الذي تأسس بعد هذه الاتفاقية، ولكن بدرجات مختلفة، ليس حسب تصور حجم المؤامرة، ولكن حسب إيمان كل فصيل بفكرة الوطن أو الوحدة الوطنية ودولتها الجديدة.
تبدو صورة «سايكس - بيكو» واحدة عند كل رافضي فكرة الدولة الوطنية والقطرية الحديثة، التي ربحها العرب بعد الاستقلال، وسوق الخطاب اللاتاريخي - الذي صعد عربيًا في فترة الخمسينات والستينات - في تحميل الآخر كل الوزر عن «مؤامراته ومخططاته» المسؤولة عن واقع العرب والمسلمين وأزماتهم وتقسيماتهم داخليًا وخارجيًا.
تقع فجوة هذا التصوّر في تجاهل الواقع والتاريخي العربي والإسلامي المنقسم قبلها بكثير، منذ قرون. منذ العصر العباسي الأول والثاني حين تعددت العواصم والمراكز ونشأت الإمارات السلطانية، ثم الدول المستقلة وممالك الطوائف وإماراتها التي ربما كانت أكثر شتاتًا وتعددا منه الآن. ففي أواخر عهد الأيوبيين أنفسهم - أبناء صلاح الدين وإخوته - توزّعت منطقة مصر والشام على أكثر من ست إمارات، وكذلك بلدان المغرب العربي واليمن وشبه الجزيرة العربية، كانت أكثر تقسيمًا مما كان بعد هذه اللحظة التاريخية العالمية المهمة.
ثم إن تصور الخلافة العثمانية - أو غيرها - وحدة شاملة وحامية للمسلمين من القوى الغربية قبل هذا التاريخ، يخالفه التاريخ ووقائعه الذي شهد احتلال مصر قبل انهيارها بأربعة عقود تقريبًا عام 1882. وبلاد أخرى كتونس والجزائر والهند وغيرها. ويكفي أن نشير إلى أن انفراد صلاح الدين، مثلاً، بتحرير القدس في حياة الخلافة العباسية قبل وفاتها بقليل، لم يكن إلا لكون الرهان على الدولة الوطنية الواقعية وليس على التصورات الأممية والرابطة السياسية المعنوية.



2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
TT

2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)

مبكراً جداً بدأت العمليات الإرهابية في العام الجديد 2020، وربما استغلت الخلايا الإرهابية القائمة والنائمة حالة الارتباك الحادثة في الشرق الأوسط والخليج العربي وشمال أفريقيا، لا سيما أزمة المواجهة الإيرانية - الأميركية الأخيرة، وما يحدث على سطح البحر الأبيض المتوسط من أزمات، مثل المحاولات التركية لإرسال قوات عسكرية إلى ليبيا... نقول استغلت تلك الجماعات المشهد، وها هي آخذة في النمو السيئ السمعة مرة جديدة، وإن كانت كالعادة الأيادي التركية والقطرية وراءها وتدعمها لأهداف لا تخلو عن أعين الناظر المحقق المدقق في المشهد الآني: ماذا عن تلك العمليات؟ وما دلالاتها في الحال والاستقبال وتجاذباتها وتقاطعاتها مع الدعم التركي والقطري الذي لا يتوقف؟

المتابع لشأن الإرهاب حول العالم يمكنه -بسهولة ويسر- رصد الاعتداء الإرهابي الذي حدث على قاعدة عسكرية في مالي، وكذا تعرض مسجد في باكستان لعمل هجومي من جماعات متطرفة، وصولاً إلى مهاجمة معسكر للجيش في نيجيريا.
إرهاب 2020 إذن به مسحات جديدة من التعرض لدور العبادة الإسلامية، الأمر الذي أودى بحياة 12 شخصاً، وهو أمر وصفته الحواضن الإسلامية الشرعية في المنطقة بأنه عمل إجرامي آثم يخالف دين الإسلام، بل يخالف كل الأديان التي دعت إلى حماية دور العبادة وحرمتها والدفاع عنها، وهو ما يؤكد أيضاً أن الإرهاب لا يرعى حرمة دين أو وطن، كما أنه يهدف إلى زعزعة استقرار البلاد، والإضرار بالعباد في كل مكان وزمان.
ولعل التفجير الإرهابي الثاني في هذا الحديث هو ما يقودنا إلى قصة الساعة، وما يجري لتحويل أفريقيا إلى موقع وموضع لحاضنة إرهابية، حكماً ستكون الأكبر والأخطر من تجربة دولة الخلافة المزعومة في العراق وسوريا، المعروفة بـ«داعش».
وجرى ذلك العمل الإرهابي على أراضي جمهورية مالي التي باتت يوماً تلو الآخر تتحول إلى بؤرة إرهابية كبرى، لا سيما جراء تنوع وتعدد الجماعات الإرهابية القائمة على أرضها. فقد تم استهداف قاعدة عسكرية نهار الخميس التاسع من يناير (كانون الثاني) الحالي، وأسفر عن إصابة 20 شخصاً، بينهم 18 من قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة. وقد وقع التفجير في منطقة تساليت بإقليم كيدال، شمال جمهورية مالي.
هل كانت تلك العملية الأولى من نوعها في مالي؟
بالقطع الأمر ليس كذلك، ففي أوائل نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، أعلن تنظيم داعش في منطقة الصحراء الكبرى مسؤوليته عن الهجمات الإرهابية التي وقعت هناك، وأودت بحياة 53 جندياً مالياً ومدنياً واحداً، وفق حصيلة رسمية، و70 جندياً، وفق الحصيلة التي أعلن عنها التنظيم الإرهابي الذي تبنى أيضاً هجوماً في المنطقة نفسها، قتل فيه جندي فرنسي.
وكان واضحاً من بيان «داعش» أن مالي تحولت إلى مركز متقدم على صعيد عمليات الإرهاب، إذ أعلن التنظيم، في بيان له عبر تطبيق «تلغرام»، أن من يطلق عليهم «جنوده» استهدفوا رتل آليات للقوات الفرنسية بالقرب من قرية انديليمان، بمنطقة ميناكا، شمال شرقي مالي، بتفجير عبوة ناسفة. كما أعلن التنظيم في بيان منفصل أن مقاتليه «هاجموا قاعدة عسكرية يتمركز فيها جنود من الجيش المالي».
ولا يستهدف إرهابيو «داعش» وبقية الجماعات الإرهابية في تلك المنطقة القوات الفرنسية فحسب. ففي وقت سابق من سبتمبر (أيلول) من العام الماضي أيضاً، تم استهداف ثكنات عسكرية في بولكيسي، قتل فيها 40 جندياً مالياً، وفق الحصيلة الحكومية، وإن كانت هناك حصيلة أخرى غير رسمية تشير إلى أن الخسائر أكبر من ذلك بكثير.
ويخشى المراقبون من أن يكون الإرهاب قد جعل من مالي قاعدة متقدمة له، رغم الرفض والتنديد الشعبيين هناك بتلك الجماعات المارقة التي أضحت تتمركز على الشريط الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، الأمر الذي وصفه الإمام محمود ديكو بأنه «نزف تعيشه مالي، ولا يمكن أن يستمر طويلاً». وقد سبق أن دعا ديكو إلى ضرورة فتح حوار وطني يشارك فيه جميع الماليين لتوحيد الصفوف في وجه الإرهاب، وهو الذي سبق أن تفاوض مع الإرهابيين للإفراج عن رهائن، من ضمنهم جنود ماليون.
ولعل المراقبين لشأن هذه الجمهورية الأفريقية التي باتت مصدر خوف وقلق لبقية القارة الأفريقية يتساءلون عن السبب الرئيسي الذي جعل منها خلفية للإرهاب الأممي، يخشى معها أن تمثل مع النيجر والصومال وكينيا مربع قوة ونفوذاً غير تقليدي يستنهض أوهام ما أطلق عليه الخلافة في فكر «الدواعش»، وغيرهم من جماعات التكفير، لا التفكير.
البداية في واقع الحال تنطلق من التركيبة الديموغرافية لهذا البلد، فهي مليئة بالأعراق التي تكاد عند نقطة بعينها تضحى متقاتلة، ففيها مجموعة الماندي التي تشكل نحو 50 في المائة من إجمالي السكان، والطوارق والعرب الذين يشكلون نحو 10 في المائة، والفولتايك الذين يشكلون 12 في المائة، والسنغاري بنسبة 6 في المائة، والبول الذين يشكلون 17 في المائة، بالإضافة إلى مجموعات عرقية أخرى تشكل ما نسبته 5 في المائة.
ويمكن القطع بأن الجماعات الأصولية المختلفة قد أجادت العزف السيئ على مسألة الأعراق المالية المختلفة، وجعلت منها نقطة انطلاق لتقسيم المجتمع المالي، وتجزئته عبر تنويع وتعدد الانتماءات الإرهابية، الأمر الذي أدى إلى وقوع 270 هجوماً إرهابياً في جمهورية مالي خلال الأشهر الثلاثة الماضية، والعهدة هنا على التقرير الأممي الصادر عن الأمم المتحدة الذي أشار إليه الأمين العام أنطونيو غوتيريش، مؤكداً أن حصيلة تلك الهجمات قد بلغت 200 قتيل من المدنيين، و96 مصاباً، إضافة إلى اختطاف 90 آخرين، لافتاً إلى أن 85 في المائة من الهجمات المميتة وقعت في منطقة موبتى، حيث قتل خلالها 193 من القوات المسلحة، وجرح 126.
وفي هذا الإطار، كان من الطبيعي أن تشهد مالي حالة من حالات انعدام الأمن، بعد أن سيطرت جماعات مرتبطة بتنظيم «القاعدة» على مناطق واسعة من شمال مالي، قبل أن يتدخل الفرنسيون والأفارقة لطرد هذه الجماعات من المدن الكبرى، وإن كانت الأخيرة تشن حرب عصابات منذ ذلك الوقت كبدت الفرنسيين والأفارقة والجيش المالي خسارة كبيرة.
ولم تكن مالي بطبيعتها المهترئة اجتماعياً لتغيب عن أعين الدواعش الذين دخلوا على الخط عام 2015، عندما أعلن المدعو أبو الوليد الصحراوي الانشقاق عن جماعة «المرابطون»، وتشكيل تنظيم جديد بايع تنظيم داعش، سماه «تنظيم داعش في الصحراء الكبرى».
وخذ إليك، على سبيل المثال، بعضاً من تلك الجماعات التي باتت تغطي ثلثي الجهورية المالية منذ عام 2012، وفي المقدمة منها «جماعة التوحيد والجهاد». وقد كان حصان طروادة بالنسبة إليها، وما تسبب في انتشارها في البلاد، حالة الفوضى والارتباك التي أعقبت الانقلاب العسكري الذي حدث في 22 مارس (آذار) 2012. فقد برزت على السطح في هذا التوقيت، وتمكنت من احتلال شمال مالي. ويرى محللو شؤون الإرهاب الدولي في القارة الأفريقية أنه أحد أكثر التنظيمات رعباً، لكونه مسلحاً وممولاً بشكل جيد، فضلاً عن قيامه بتكثيف عملياته الإرهابية منذ ظهوره، وتمركزه في الهضبة الصحراوية الشاسعة الممتدة في منطقة تساليت، وفرض سيطرته بلا منازع على عدد من القرى في تلك المنطقة.
ولم تكن جماعة «التوحيد والجهاد» بعيدة بحال من الأحوال عن تنظيم القاعدة، غير أنها انفصلت عنها وانتشرت في بلاد المغرب الإسلامي، تحت دعوة نشر فكر «الجهاد» في غرب أفريقيا، بدلاً من الاكتفاء فقط بمنطقة الغرب أو منطقة الساحل.
ويمكن للمرء أن يعدد أسماء كثيرة من التنظيمات الإرهابية على الأراضي المالية، مثل جماعة أنصار الدين، وهذه لها جذور عميقة في المجتمع المالي، ولذلك تضم ما بين 5 آلاف و10 آلاف عضو مزودين بأسلحة متقدمة.
وعطفاً على ذلك، يلاحظ المراقبون جماعات أصولية، وإن كانت أقل قوة من حيث العدة والعتاد، إلا أنها أخطر من جانب الأساس العقائدي، مما يجعل فرص ارتقائها أكبر وأوسع.
ومع تصاعد عمليات الإرهاب في مالي، وما حولها من دول جميعها مرتبطة بعقد واحد من الأصوليات الخبيثة، يبقى البحث عمن يزخمها ويساندها أمر واجب الوجود، كما تقول جماعة الفلاسفة.
أما الجواب فهو يسير. ففي 25 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، أعلنت الإدارة العامة للأمن الوطني في النيجر عن القبض على مجموعة إرهابية تتكون من 3 أشخاص، يحمل 2 منهم الجنسية التركية، بالإضافة إلى متعاون محلي من مواطني النيجر.
ويضحي من الطبيعي القول إن اعتقال أتراك في النيجر يفتح ملف الإرهاب التركي - القطري في العمق الأفريقي، ويثير من جديد قضية نقل الإرهابيين إلى طرابلس دعماً للميليشيات الموالية لقطر وتركيا في ليبيا، في مواجهة الجيش الوطني الليبي.
ويوماً تلو الآخر، يثبت للعالم أن هناك أكثر من ستار تختبئ تركيا من وراءه، وبتمويل قطري لا يغيب عن الأعين، في محاولة متجددة لا تنقطع من أجل إعادة إنتاج مشروع الخلافة الوهمي، حتى إن كلف ذلك أكثر من دولة أفريقية أمنها وأمانها.
ومن عينة الستر التي تختبئ تركيا وراءها: «الهلال الأحمر التركي»، و«الوكالة التركية للتعاون والتنسيق». أما قطر، فمنذ أمد بعيد تستخدم جمعية «قطر الخيرية» ستاراً لاستقطاب الإرهابيين والمرتزقة لدعم الميليشيات في طرابلس.
ومؤخراً، كان موقع «انفيستجتيف بروجكت» الأميركي المتخصص في إلقاء الضوء على القضايا الإرهابية يكشف عن العلاقة التي تربط بين المثلث الجهنمي الإخواني بأذرعه المختلفة، لا سيما في الولايات المتحدة الأميركية، وجمعيات تركيا الخفية التي تعمل تحت ستار الأعمال الخيرية، والرابط الأكبر المتمثل في الدعم المالي القطري لهما، وهي قصة يضيق المسطح المتاح للكتابة عن سردها وعرضها، وإن كانت باختصار تبين أن العمق الأفريقي هو مكمن خطر الإرهاب العالمي في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين.
ومؤخراً، تتحدث واشنطن عن انسحاب قواتها المسلحة من القارة الأفريقية، بذريعة التفرغ لملاقاة روسيا والصين حول العالم، وتالياً ترفض ألمانيا المشاركة بجنود في القوة الأوروبية التي تقودها فرنسا في الساحل الغربي الأفريقي لمواجهة خطر الإرهاب... فهل يعني ذلك أن هناك فصلاً جديداً من فصول نماء الإرهاب الدولي في ظل غض الطرف عنه؟!
آفة حارتنا النسيان. والذين لدغوا من ثعبان الإرهاب من قبل يبدو أنهم لم يتعلموا الدرس بعد.