أوروبا حائرة فيما تفعله لمواجهة تبعات «انفصال» بريطانيا

ماذا بعد قرار الناخبين البريطانيين الانفصال عن الاتحاد الأوروبي؟ هذا السؤال يشكل جوهر الاتصالات القائمة بين قادة الاتحاد الـ27 الذين سيجتمعون يومي الثلاثاء والأربعاء القادمين في بروكسل، في اليوم الأول بحضور رئيس الوزراء البريطاني وفي اليوم الثاني في غيابه ما سيشكل أول تغير في عمل المؤسسات الأوروبية الناتج عن الهزة التي عرفها بسبب قرار لندن. لكن المشاورات بدأت منذ صباح الجمعة عندما أعلنت نتائج الاستفتاء البريطاني. وكان الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل الأكثر انخراطا في هذه الاتصالات بالنظر للدور «التاريخي» الذي تلعبه باريس وبرلين باعتبارهما «قاطرة» الاتحاد والدولتين «الكبريين» فيه بعد «انسحاب» بريطانيا. ويبدو أن هناك نوعا من التنافس الخفي قائم بينهما لإبراز لمن تعود المبادرة في قيادة المرحلة الحرجة التي فتحت أمام الاتحاد. ورغم حرص الجانبين على إبراز الرغبة في التنسيق والتوصل إلى رد «مشترك»، إلا أن الواضح أن لكل منهما رأيه في كيفية التعاطي مع المرحلة الجدية ومع كاميرون الذي أغاظ الكثيرين في أوروبا بإعلانه أنه لنم ينسحب ويترك رئاسة الحكومة إلا في شهر أكتوبر (تشرين الأول) القادم ما عيني أن الاتحاد سيعيش فترة ثلاثة أشهر بانتظار أن تقرر لندن تفعيل البند الخمسين وبدء عملية الانفصال عن أوروبا التي يمكن أن تستغرق عامين وربما أكثر من ذلك.
بيد أن هذه المسألة الإجرائية، على أهميتها، لا تشكل العقدة الأساسية وهي كيفية الاستيعاب العميق والفهم الجيد للأسباب التي دفعت الناخبين البريطانيين لسلوك هذا الطريق الذي يشكل، وفق كافة العواصم، طعنة للمشروع الأوروبي الذي قام، وفق المستشارة الألمانية، على أنه «مشروع سلام واستقرار وازدهار مشترك» في أوروبا. وبناء على هذا الفهم وعلى هديه، يستطيع المسؤولون الأوروبيون أن يأتوا بالجواب الناجع ويمنعوا تكرار السيناريو البريطاني. والحال أن الاجتماع الذي استضافته أمس برلين لوزراء خارجية الدول المؤسسة «ألمانيا، فرنسا، إيطاليا، بلجيكا، هولندا ولوكسمبورغ» بدعوة من الوزير الألماني فرانك وولتر شتاينماير بين بوضوح أن الوزراء الستة لا يملكون تصورا واضحا للمرحلة الجديدة ولا للإجراءات والتدابير والمشاريع التي من شأنها تقريب المواطن الأوروبي من الاتحاد. وباختصار، فإن دعوة الرئيس هولاند التي أطلقها أول من أمس من أجل «انتفاضة» أوروبية تحتاج لمن يحدد ماهيتها ويوفر لها مضمونا حسيا. وبعد التنديد والإعراب عن الأسف وتحميل مسؤولية «الكارثة» لديفيد كاميرون، جاء الزمن الأصعب.
بعد اجتماع الستة، تتجه الأنظار لما يمكن أن يصدر عن المشاورات التمهيدية التي ستعقد في برلين يوم الاثنين والتي ستضم إلى جانب المستشارة الألمانية الرئيس الفرنسي ورئيس الحكومة الإيطالية ماتيو رنزي ورئيس المجلس الأوروبي دونالد تاسك. وغرض المستشارة الألمانية التوصل إلى تفاهم مشترك بين البلدان الرئيسية الثلاث «ألمانيا وفرنسا وإيطاليا» التي تشكل أكبر ثلاثة اقتصادات أوروبية للمرحلة الجديدة وإشكالياتها الجديدة: ما المطلوب أوروبيا؟ هل مزيد من الانصهار والاندماج والسير إلى الأمام بالمشروع الأوروبي؟ أم المطلوب توفير الشروط لإشعار المواطن الأوروبي بأن الاتحاد يوفر له ما لا يمكن لأي بلد بمفرده أن يوفره وتحديدا الأمن والحماية وفرص العمل والازدهار الاقتصادي ما يعني عمليا التخلي عن «المشاريع الكبرى» التأسيسية والالتفات إلى الظروف الحياتية اليومية التي أضرت بها سياسات التقشف والهجرات المكثفة من شرق وجنوب المتوسط ناهيك عن العمليات الإرهابية التي ضربت أكثر من عاصمة أوروبية؟ أما السؤال الآخر الذي لا بد أن يطرحه القادة الأوروبيون بعد المحن والانقسامات وأبرزها تضارب المواقف لجهة التعاطي مع موضوع الهجرات الكثيفة التي عرفها الاتحاد في العامين الأخيرين فهو: أي أوروبا نريد؟ هل أوروبا واحدة موحدة؟ أم أن تكون هناك «نواة صلبة أوروبية» محورها برلين - باريس وتدور حولها البلدان الأقرب الراغبة في اندماج أوروبي «اقتصادي، مالي، سياسي، اجتماعي...»؟
حتى الآن، لا أحد يملك إجابات واضحة. لكن الأمر المؤكد أن الجميع يعي أنه لم يعد من المستطاع الاستمرار على النهج السابق الذي أدى إلى وجود هوة بين النخب الأوروبية والتكنوقراطية وبين الطبقات الوسطى والشعبية الأمر الذي يبينه الاستفتاء الأوروبي. والخوف أن استمرار النهج المذكور سيقوي اليمين المتطرف والخطاب الشعبوي الذي رأى في التجربة البريطانية «بالون أكسجين» يتوكأ عليه ويؤمله بتكرار التجربة في بلدان أخرى. وفي هذا السياق، فإن استحقاقات انتخابية أوروبية في الأسابيع القادمة «في إسبانيا وإيطاليا وهولاند والسويد والدنمارك وفرنسا» يمكن أن تكون مؤشرا لمدى تقدم الغربة «الانفصالية» وقوة الأحزاب التي تنفخ في بوقها. يمكن الركون إلى ما خرج به اجتماع برلين أمس للتعرف على بعض توجهات الاتحاد علما بأن الطرف الألماني يريد تلافي بروز انطباع بأن «القدماء» يريدون فرض رؤيتهم وقراراتهم على «الجدد» أي بلدان أووربا الوسطى والشرقية. وقد توافق الوزراء الستة على الحاجة إلى إطلاق «عمل أوروبي مشترك» لمواجهة الأزمة الاقتصادية التي ما زالت مستفحلة في أوروبا ووجهها الأول أرقام البطالة والتوافق على مقاربة جديدة أكثر نجاعة لموضوع استمرار تدفق المهاجرين غير الشرعيين على الشواطئ الأوروبية والنظر في كيفية حماية الحدود الخارجية والداخلية لأوروبا درءا لمخاطر الإرهاب... والحال أن كافة هذه المواضيع كانت الشغل الشاغل للمسؤولين الأوروبيين ولو أنه كانت لديهم حلول ناجعة لكانوا عملوا بوحيها.
وبانتظار أن تتبلور هذه الأمور، فإن الشغل الشاغل اليوم للأوروبيين هو الاتفاق على «الطلاق» مع بريطانيا وتحديد شروطه وسرعته. وهنا يبرز الاختلاف بين باريس التي تريد البدء به «فورا» وبرلين التي تدعو لعدم التسرع. وأمس طالب الوزير جان مارك أيرولت بأن تعين لندن رئيسا جديدا للحكومة يقدم سريعا طلب الخروج من الاتحاد لأنه «لا يتعين أن تطول مرحلة الانتظار بسبب ما تحمله من مشاكل خطيرة ماليا واقتصاديا وسياسيا». وجاء كلام رئيس البرلمان الأوروبي شولتز الأكثر عنفا إذ دعا البريطانيين إلى الامتناع عن أخذ الـ27 الباقين «رهائن» لاعتبارات سياسية داخلية داعيا إلى الانفصال السريع ومعتبرا أن قرار كاميرون انتظار ثلاثة أشهر بمثابة فضيحة. لكن الوزير الألماني شتاينماير التزم خطابا دبلوماسيا مكتفيا بالدعوة إلى تلافي «تمييع» الوضع والبدء في إجراءات الانفصال في «أقرب وقت». إضافة إلى ذلك، توافق الستة على رفض إعادة النظر في المعاهدات والمواثيق الأوروبية على المدى القصير الأمر الذي يترك الباب مفتوحا للمراحل اللاحقة.