عروض لوحات الغناء الصوفي الحديث.. ورقصة الدراويش في بيروت

فرصة للارتقاء عن الماديات والقشور بين الإفطار والسحور

أحمد حويلي في إحدى الحفلات الغنائية التي أحياها مؤخرًا على مسرح الجامعة اليسوعية في بيروت
أحمد حويلي في إحدى الحفلات الغنائية التي أحياها مؤخرًا على مسرح الجامعة اليسوعية في بيروت
TT

عروض لوحات الغناء الصوفي الحديث.. ورقصة الدراويش في بيروت

أحمد حويلي في إحدى الحفلات الغنائية التي أحياها مؤخرًا على مسرح الجامعة اليسوعية في بيروت
أحمد حويلي في إحدى الحفلات الغنائية التي أحياها مؤخرًا على مسرح الجامعة اليسوعية في بيروت

يشهد لبنان في الفترة الأخيرة صعود ظاهرة فنيّة، ألا وهي الغناء الصوفي على وقع موسيقى محدّثة. ويعدّ هذا الفنّ الذي يعود تاريخه إلى القرن الثالث عشر، أحد الفنون القديمة الجديدة التي شقّت طريقها بين شباب اليوم هواة سماع أغان ترتكز على الشعر الكلاسيكي القديم.
حاليا في شهر رمضان الفضيل يجد هذا الغناء صدى طيّبا لدى عشّاقه، خصوصا أن بعض فنّانيه طعّموه بالموسيقى الحديثة كالجاز مثلا، لاستقطاب الناس ولتسهيل استيعاب أشعاره على آذانهم.
ويعدّ أحمد حويلي أحد منشدي هذا النوع من الغناء وأشهرهم في لبنان. وهو فن وصل لبنان في عام 2011 بعدما كان معروفا في تركيا ومصر وتونس وأفغانستان.
ويقول حويلي، في حديث لـ«الشرق الأوسط»، إنه «هناك سببان أساسيان لانتشار هذا الغناء حاليا، ويرتكز الأول على عطش الناس للمحبّة في جميع وجوهها، بعيدا عن الماديات والقشور المتغلغلة في أفكار وتصرفات الكثيرين. ومن خلال هذا الغناء يشعرون بالتصوّف والارتقاء بأسلوب مباشر. أما السبب الثاني برأيي فهو حاجة الناس إلى سماع الفنّ الأصيل في ظلّ انتشار الهابط منه، فينظّفون به آذانهم ونفوسهم ليعيشوا حالة ارتقاء لا تشبه غيرها من الأنماط الغنائية الأخرى».
قد يخيّل إلى من يستمع للأشعار الصوفية المغناة أنها نوع من الغزل الذي يتناول المرأة، ولكنه في الحقيقة يعبّر عن الحبّ الإلهي، كالذي نلاحظه في قصائد الحلاج (من إعلام التصوّف المعروفين). ويعلق حويلي في هذا الصدد: «لقد لعبت المرأة دورا أساسيا لدى الصوفيين بحيث اعتبروها جسر العبور. فلا يحسن بنا أن نؤذيها ونذلّها ونناديها بعبارات لا تليق بمقامها بل نحترمها تماما هي التي ترمز إلى العشق».
وعادة ما يرافق حفلات الأغاني الصوفية رقصة الدراويش، وهذا ما تابعه الحاضرون في حفلة من هذا النوع أقيمت مؤخرا على مسرح الجامعة اليسوعية في الأشرفية وأحياها حويلي نفسه. وهذه اللوحات الروحانية تكمل مشهد الابتهال بحيث يؤدون دورات سريعة وبطريقة فنيّة خاصة، فينزعون عنهم العباءات ليظهروا في ثياب بيضاء فضفاضة، وهذه الحركة ترمز إلى التخلّي عن الشهوات فيشكلون بأيديهم ورأسهم لفظة الجلالة ويعيشون نشوة التقرب إلى السماء.
ويرى أحمد حويلي أن قصائد المتصوفين أمثال ابن الفارض ورابعة وابن عربي والشيرازي وغيرهم، «تحثّنا على الارتقاء إلى الله الذي يجب أن نعشقه ونرتبط به ارتباطا كاملا». وهي «قصائد وابتهالات تتجلّى بشكل كبير في شهر رمضان الكريم، ففيه يعي الناس هذا الفراغ الذي يلفّ نفوسهم وأعماق ذواتهم فيلجأون إلى الابتهالات التي يغرفون منها الغذاء الروحي». ويضيف أحمد حويلي أن القصائد والتواشيح والأناشيد الدينية تتناسب ومعاني الشهر الكريم، فتؤلّف مضمون المناسبات الصوفية التي تقام خلاله.
يرافق أحمد حويلي على المسرح عادة فرقة موسيقية تتألّف من ثمانية أشخاص بينهم من يعزف على البيانو والعود والدف والرقّ والكمان وغيرها من الآلات المعروفة.
ويتفاعل شباب اليوم مع هذا النوع من الحفلات فيشاركون فيها دون تردد رغم تاريخها القديم، بعدما تمّ تحديثها بآلات موسيقية تواكب عصرهم. حتى إنهم لا يتوانون عن المشاركة في غناء قصائد حفظوها من حفلات سابقة، فيما لا يتوانى عدد منهم عن الصمت طيلة مدة الحفلة التي تستغرق نحو التسعين دقيقة، إذ يعتبرونها نوعا من الرياضة الروحية التي يمارسونها ما بين وقت الإفطار والسحور، فتقوّي روحانياتهم.
ويختم أحمد حويلي حديثه بالقول: «كلّ شخص يرغب في البحث بذاته، بإمكانه أن يفعل ذلك بالاستماع إلى أغان صوفية هي بمثابة ترانيم وتواشيح تولّد لدينا السلام الداخلي».



ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
TT

ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)

ستيف بركات عازف بيانو كندي من أصل لبناني، ينتج ويغنّي ويلحّن. لفحه حنين للجذور جرّه إلى إصدار مقطوعة «أرض الأجداد» (Motherland) أخيراً. فهو اكتشف لبنان في وقت لاحق من حياته، وينسب حبّه له إلى «خيارات مدروسة وواعية» متجذرة في رحلته. من اكتسابه فهماً متيناً لهويته وتعبيره عن الامتنان لما منحه إياه الإرث من عمق يتردّد صداه كل يوم، تحاوره «الشرق الأوسط» في أصله الإنساني المنساب على النوتة، وما أضفاه إحساسه الدفين بالصلة مع أسلافه من فرادة فنية.
غرست عائلته في داخله مجموعة قيم غنية استقتها من جذورها، رغم أنه مولود في كندا: «شكلت هذه القيم جزءاً من حياتي منذ الطفولة، ولو لم أدركها بوعي في سنّ مبكرة. خلال زيارتي الأولى إلى لبنان في عام 2008. شعرتُ بلهفة الانتماء وبمدى ارتباطي بجذوري. عندها أدركتُ تماماً أنّ جوانب عدة من شخصيتي تأثرت بأصولي اللبنانية».
بين كوبنهاغن وسيول وبلغراد، وصولاً إلى قاعة «كارنيغي» الشهيرة في نيويورك التي قدّم فيها حفلاً للمرة الأولى، يخوض ستيف بركات جولة عالمية طوال العام الحالي، تشمل أيضاً إسبانيا والصين والبرتغال وكوريا الجنوبية واليابان... يتحدث عن «طبيعة الأداء الفردي (Solo) التي تتيح حرية التكيّف مع كل حفل موسيقي وتشكيله بخصوصية. فالجولات تفسح المجال للتواصل مع أشخاص من ثقافات متنوعة والغوص في حضارة البلدان المضيفة وتعلّم إدراك جوهرها، مما يؤثر في المقاربة الموسيقية والفلسفية لكل أمسية».
يتوقف عند ما يمثله العزف على آلات البيانو المختلفة في قاعات العالم من تحدٍ مثير: «أكرّس اهتماماً كبيراً لأن تلائم طريقة عزفي ضمانَ أفضل تجربة فنية ممكنة للجمهور. للقدرة على التكيّف والاستجابة ضمن البيئات المتنوّعة دور حيوي في إنشاء تجربة موسيقية خاصة لا تُنسى. إنني ممتنّ لخيار الجمهور حضور حفلاتي، وهذا امتياز حقيقي لكل فنان. فهم يمنحونني بعضاً من وقتهم الثمين رغم تعدّد ملاهي الحياة».
كيف يستعد ستيف بركات لحفلاته؟ هل يقسو عليه القلق ويصيبه التوتر بإرباك؟ يجيب: «أولويتي هي أن يشعر الحاضر باحتضان دافئ ضمن العالم الموسيقي الذي أقدّمه. أسعى إلى خلق جو تفاعلي بحيث لا يكون مجرد متفرج بل ضيف عزيز. بالإضافة إلى الجانب الموسيقي، أعمل بحرص على تنمية الشعور بالصداقة الحميمة بين الفنان والمتلقي. يستحق الناس أن يلمسوا إحساساً حقيقياً بالضيافة والاستقبال». ويعلّق أهمية على إدارة مستويات التوتّر لديه وضمان الحصول على قسط كافٍ من الراحة: «أراعي ضرورة أن أكون مستعداً تماماً ولائقاً بدنياً من أجل المسرح. في النهاية، الحفلات الموسيقية هي تجارب تتطلب مجهوداً جسدياً وعاطفياً لا تكتمل من دونه».
عزف أناشيد نالت مكانة، منها نشيد «اليونيسف» الذي أُطلق من محطة الفضاء الدولية عام 2009 ونال جائزة. ولأنه ملحّن، يتمسّك بالقوة الهائلة للموسيقى لغة عالمية تنقل الرسائل والقيم. لذا حظيت مسيرته بفرص إنشاء مشروعات موسيقية لعلامات تجارية ومؤسسات ومدن؛ ومعاينة تأثير الموسيقى في محاكاة الجمهور على مستوى عاطفي عميق. يصف تأليف نشيد «اليونيسف» بـ«النقطة البارزة في رحلتي»، ويتابع: «التجربة عزّزت رغبتي في التفاني والاستفادة من الموسيقى وسيلة للتواصل ومتابعة الطريق».
تبلغ شراكته مع «يونيفرسال ميوزيك مينا» أوجها بنجاحات وأرقام مشاهدة عالية. هل يؤمن بركات بأن النجاح وليد تربة صالحة مكوّنة من جميع عناصرها، وأنّ الفنان لا يحلّق وحده؟ برأيه: «يمتد جوهر الموسيقى إلى ما وراء الألحان والتناغم، ليكمن في القدرة على تكوين روابط. فالنغمات تمتلك طاقة مذهلة تقرّب الثقافات وتوحّد البشر». ويدرك أيضاً أنّ تنفيذ المشاريع والمشاركة فيها قد يكونان بمثابة وسيلة قوية لتعزيز الروابط السلمية بين الأفراد والدول: «فالثقة والاهتمام الحقيقي بمصالح الآخرين يشكلان أسس العلاقات الدائمة، كما يوفر الانخراط في مشاريع تعاونية خطوات نحو عالم أفضل يسود فيه الانسجام والتفاهم».
بحماسة أطفال عشية الأعياد، يكشف عن حضوره إلى المنطقة العربية خلال نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل: «يسعدني الوجود في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا كجزء من جولة (Néoréalité) العالمية. إنني في مرحلة وضع اللمسات الأخيرة على التفاصيل والتواريخ لنعلن عنها قريباً. تملؤني غبطة تقديم موسيقاي في هذا الحيّز النابض بالحياة والغني ثقافياً، وأتحرّق شوقاً لمشاركة شغفي وفني مع ناسه وإقامة روابط قوامها لغة الموسيقى العالمية».
منذ إطلاق ألبومه «أرض الأجداد»، وهو يراقب جمهوراً متنوعاً من الشرق الأوسط يتفاعل مع فنه. ومن ملاحظته تزايُد الاهتمام العربي بالبيانو وتعلّق المواهب به في رحلاتهم الموسيقية، يُراكم بركات إلهاماً يقوده نحو الامتنان لـ«إتاحة الفرصة لي للمساهمة في المشهد الموسيقي المزدهر في الشرق الأوسط وخارجه».
تشغله هالة الثقافات والتجارب، وهو يجلس أمام 88 مفتاحاً بالأبيض والأسود على المسارح: «إنها تولّد إحساساً بالعودة إلى الوطن، مما يوفر ألفة مريحة تسمح لي بتكثيف مشاعري والتواصل بعمق مع الموسيقى التي أهديها إلى العالم».