الشر الجذري عند كانط

رغم طبيعته فإن سلوكه وأفعاله الأخلاقية ينطويان على الخير والشر معًا

الشر الجذري عند كانط
TT

الشر الجذري عند كانط

الشر الجذري عند كانط

«إنّ دينا يعلن الحرب على العقل سوف يصبح مع مرور الزمن غير قادر على الصمود أمامه»
كانط، «الدين في حدود مجرّد العقل»، تصدير الطبعة الأولى.
يتعلق الأمر في هذه المساهمة، بمفهوم فلسفي طرح على بساط البحث والتداول منذ الفلسفة اليونانية، وما يزال مطروحا على الفكر الفلسفي المعاصر، إن لم نقل أن سؤال الشر سيظل مطروحا، أخذا بعين الاعتبار، أن سياقات مقاربته تختلف. ونميز في الشر بين أربعة مستويات أساسية: الشر الطبيعي، الشر الميتافيزيقي، الشر الأخلاقي، الشر السياسي. وليس ثمة من حدود فاصلة في القول السياسي والأخلاقي والميتافيزيق والطبيعي للشر؛ ذلك أن معظم المساهمات الفلسفية، حاولت مقاربة هذا المفهوم باعتباره مبدأ يحكم الوجود عامة (الميتافيزيقا)، ويحضر بشكل قبلي أو بعدي في الطبيعة البشرية (الطبيعي)، ويتعلق بالسلوك والتعامل البشريين وما يقتضيه الواجب والحق (الأخلاقي)، ويتعارض وضرورة الاجتماع البشري المعاصر (السياسي)؛ بل ثمة تداخل بين كل هذه الأبعاد في كل مناقشة لسؤال الشر.
في كتابه «الدين في حدود مجرد العقل»، يعالج كانط أربع قضايا أساسية، وهي على التوالي، عناوين الأقسام الأربعة للكتاب:
1 - الشرّ الجذري في الطبيعة الإنسانية.
2 – صراع مبدأ الخير ضدّ مبدأ الشر من أجل السيطرة على الإنسان.
3 - إمكانية انتصار مبدأ الخير على مبدأ الشر، والأمل في أن يؤدّي إلى إقامة مملكة الرب على الأرض.
4 - التمييز في خدمة الله بين عبادة صحيحة وعبادة باطلة، أي بين الدّين والكهنوت.
ويذهب إلى أن الشر الأخلاقي، هو كل فعل يسبب في إلحاق الضرر بالغير، شريطة أن يكون ذلك الفعل متعارضا مع القوانين الأخلاقية. فالإنسان بطبيعته يحمل في ذاته ميلا نحو تغليب الأفعال اللاأخلاقية على الأفعال المنسجمة مع القانون الأخلاقي. ولكن الحل لا يكمن في تشبث الإنسان بحرفية القانون الأخلاقي، لأن ذلك أمر مستحيل، وعلى هذا الأساس، يبحث في الأقسام الأخرى إمكانية الأمل في بلوغ حالة مدنية قوامها السلوك الإنساني الخير، فالشر في التعريف الكانطي الدقيق: «هو الأساس الذاتي الأول لإمكانية النزوع نحو الشر»، أي ذلك الميل المتجذر في الطبيعة الإنسانية.
عمل كانط في مقالته حول الشر الجذري في الطبيعة البشرية، على بيان أن «الإنسان شرير بطبعه». ولكن ليس بالمعنى الذي يورده هوبز، أي أن الإنسان ذئب لأخيه الإنسان، وإنما لأنه يتضمن في طبيعته، ميلا نحو الشر. وهو شر جذري لأنه يفسد أساس كل القواعد الأخلاقية. وهو كوني ويتعلق بكل النوع البشري، ويمتد إلى المؤسسات الدينية. ولكن هذه الجذرية الكانطية، لا تعني أن الشر مطلق، ببساطة، لأنه لا يلغي إمكانية فعل الخير. فالإنسان من وجهة نظره، هو وحده من يتحمل مسؤولية أفعاله التي تتعارض مع القانون الأخلاقي. ولهذا أشرنا سلفا، إلى أن مجال الشر هو مجال الحرية، مجال الأفعال الحقيقية والواقعية كما يسميها كانط. إذن، كل أفعالنا اليومية التي توصف بأنها سيئة (شريرة) إنما هي نابعة من ميلنا إلى الغريزة وتغليب الدوافع الحسية على العقلية؛ وهذا ما فعله آدم أيضا في تعارض مع القانون - التشريع الإلهي؛ في تعارض مطلق مع القانون الأخلاقي. إلا أن الفارق بيننا وبين آدم، هو أن آدم انتقل بفعله المتعارض ذاك مع القانون الإلهي، من حالة البراءة إلى حالة الخطيئة، وهذا ما تعبر عنه حالة السقوط. أما نحن البشر، فإننا ننتقل بأفعالنا الشريرة من حالة الخطيئة الأولى إلى حالة ثانية للخطيئة وهكذا دواليك.
انكب كانط على إعادة بناء مضمون الروايات والتفسيرات التاريخية التي تقدمها النصوص الدينية، بمقتضيات العقل، وليس بتأويلات مجردة وأسطورية تحاول التأثير في الناس من دون أن تقدم بديلا لدوامة الخطيئة التي يتخبطون فيها. بحيث «لا يمكن أن يكون الشر قد نشأ إلا عن الشر الأخلاقي (لا عن الحدود البسيطة لطبيعتنا)، ومع ذلك فإن استعدادنا الأصيل (الأول) استعداد للخير (ولا أحد غير الإنسان نفسه هو الذي أفسد هذا الاستعداد، إذا كان ينبغي أن ينسب هذا الفساد إليه). ولهذا لا يوجد لدينا سبب مفهوم لمعرفة من أين جاءنا الشر الأخلاقي أول ما جاء». وستكون هذه الفكرة منطلق آرنت في نقد كانط ومحاولة تأصيل الشر من منظور سياسي جديد.
«الإنسان شرير بطبعه»: لا تعني هذه الصيغة شيئا آخر؛ في نظر كانط؛ غير أن الإنسان يعرف جيدا القانون الأخلاقي، ولكنه من حيث هو كائن حر يتصرف على نحو مخالف لذلك القانون، وهو التبرير الذي يعطيه كل فرد لممارسة أعمال سيئة تؤدي إلى الفظاعات. غير أن كانط هنا، لم يكن يعالج الشر كمعضلة سياسية كجرائم ترتكب في حق البشرية باسم القانون. صحيح أن عصره كان عصرا تبريريا من وجهة نظر دينية، حيث سلطة الكنيسة تستطيع تبرير كل الأفعال البشرية بمبررات دينية واهية، نابعة من تأويلات خاطئة للنص الديني. وقد حاول التأسيس لأطروحة أن الإنسان شرير بطبعه، من محاولة نقده لأطروحة الإنسان خير بطبعه. ولكنه يغض النظر عن أطروحة توماس هوبز، ولم يشر إليها حتى. فقد رد على روسو وكل الأخلاقيين الذين يعتبرون أن حالة الطبيعة هي حالة خير. فإذا كان هؤلاء الفلاسفة يبررون أطروحتهم بإحالتهم على الشعوب البدائية التي تعيش في ود وسلام، فإن كانط يستمد أمثلة من شعوب بدائية عاشت المأساة في عصره، بل حالات إبادة بدائية جدا لا تعود إلى قرارات سياسية أو إلى حروب دينية أو سياسية. فهؤلاء الناس مدفوعون بالطبيعة نحو الشر. غير أن التبرير الكانطي هنا يعود بنا إلى الأطروحة الفلسفية التي تعتبر أن الشر أمر غير معروف أو غير مفهوم، والتي نجدها عند لايبنيز Leibniz وعند شوبنهاور Schopenhauer.
يؤكد كانط أنه «من وجهة نظر أخلاقية، الإنسان هو إمّا خيّر أو شرّير، ومن الضروري أن يصبح كذلك بفضل إرادته الحرّة». فالإنسان يميل دوما نحو الخير، رغم أن طبيعته شريرة، فإن سلوكه وأفعاله الأخلاقية يحملان في ذاتهما الخير والشر معا. ما يعني أن السلوك البشري متناقض بطبعه، أي لا يمكن أن ننزع عنه المسؤولية الأخلاقية عن فعله ذاك فـ «كيف يمكن للإنسان ذي الميل الطبيعي الشرّير أن يصبح خيّرا من ذاته؟» يمكننا أن نحدس مسبقا، الإجابة: «هذا شيء يتخطى كل مفاهيمنا»! هذه العبارة الفلسفية هي ما جعل حنا آرنت، تنتفض في وجه كانط، وفي وجه طبيعة الأحكام التي تصدر عن الإنسان. فالحكم لا يمت صلة بالتفكير، لأن الحكم مرتبط بالمعاش بالأشياء المحيطة بالبشر، في حين أن التفكير، كما تؤكد ذلك، هو مجرد تمثل، هو استحضار لأشياء كصور ذهنية. ولا شيء يمكن أن يكون غير قابل للفهم.
فحتى الظواهر الميتافيزيقية تقبل التأمل ويقربها الفكر إلى الفهم، إلا إذا اعتبرنا أن الفهم ملكة متعالية ومحدودة. الشر فعل مرتبط بالوجود بالمعيش بالحياة اليومية.
هو فعل محايث لوجودنا ولا ينبغي أن نعده أمرا غير مفهوم. لذلك تقول آرنت: «موضوع التفكير هو دوما تمثل، بمعني شيء أو شخص غائب فعليا، ويتم استحضاره فقط في الفكر بفضل الخيال الذي يستحضره على شكل صورة».
«الأمل في نزع الشر: أو نحو حالة إثيقية مدنية»: على الرغم مما يظهر في تحليل مسألة الشر الجذري عند كانط من صعوبات، وأحيانا من انتقالات بين هذه الدروب وتلك، فإن كانط يسعى في كتابه «الدين في حدود مجرد العقل»، إلى عقد الأمل في ثورة دينية، إن لم نقل جذرية في الطبيعة البشرية، من أجل تخليص الإنسان من قلقه الوجودي ومن طبعه السيئ، ومن ميوله الدائمة ونزوعه نحو الشر والأفعال الشنيعة، إيمانا منه أن كونية الشر وانغراسه في الطبع الإنساني لا يعنيان أنه مطلق أو أنه قدر محتوم لا مفر منه. بل على العكس من ذلك، يمكن تجنبه بإصلاح أخلاقي للأفراد والجماعة معا، وبالسعي نحو دين واحد (...) شريطة الاقتداء بالعبادة الصحيحة بعد تطهير الدين من الترهات والخرافات التي تحيط به وتشوبه. فالإنسان الأمثل موجود في نظره، ويمكن الاقتداء به. وقد تعرض كانط إلى نقد لاذع بخصوص هذا الأمل المسيحاني، كما يرى جاك دريدا (الدين في عالمنا ص، 18)، ما يضعه هنا في تعارض تام مع أنواريته. وهو الأمر الذي يبرره شراحه وتلامذته بالتوبة الأخيرة، بعد أن تلقى صفعة من الملك وهو في مرحلة الشيخوخة، مخافة أن يكرر ولربما قصة سقراط.



«عملية تجميل»... فانتازيا سردية على وتر الثورة العلمية

«عملية تجميل»... فانتازيا سردية على وتر الثورة العلمية
TT

«عملية تجميل»... فانتازيا سردية على وتر الثورة العلمية

«عملية تجميل»... فانتازيا سردية على وتر الثورة العلمية

من خلال رؤية فانتازية تطرح رواية «عملية تجميل» للروائية المصرية زينب عفيفي مفهوم الجمال من خلال لعبة مع الزمن، حيث العُمر يعود أدراجه الأولى، مخالفاً سنن الحياة، وهو يُراوغ الكمال وأساطيره، فتنطلق الرواية من مدينة تتبدّل وجوه أصحابها ليصبحوا جميعاً في عمر الشباب، كأنما تم صبهم في قالب عمري واحد، لتجمعهم تجربة جماعية أقرب في تأثيرها لما يفعله الوباء.

صدرت الرواية أخيراً عن «الدار المصرية اللبنانية» بالقاهرة، وفيها تبدو البطلة العجوز كأنما تم استثناؤها من هذا الوباء الذي أصاب الطبيعة البشرية وتفاعلها مع الزمن، حيث يعود الناس لسن الشباب بدلاً من التقدم في العُمر، كأن البطلة بتجاعيد وجهها تقف خارج أسوار هذا الزمن الجديد، فيما يقف طبيب التجميل «الساحِر» كما يُطلق عليه الأهالي، في بؤرة تلك المدينة بتكوينها الإنساني والنفسي الجديد، في ثنائية تصنعها الرواية عبر بطليها الرئيسين؛ التمسّك بالحقيقة من جهة، واحتراف صناعة الزيف من جهة أخرى. كما أنها تروج للجمال وتقدمه منزوع التجاعيد، بينما تقف آثار الزمن على أعلى سلم المُغريات، فيُسلّم أهل المدينة وجوههم سواء كانوا نساء أو رجالاً مسلوبي الإرادة إلى يد «الطبيب» الذي يصطفون أمام عيادته بالطوابير ليهبهم ذوات جديدة، بوجوه بلاستيكية لامعة تتمرد على الشيخوخة العالقة في خلاياهم، وتترك كل واحد منهم في صراع عنيف بين صورته الخارجية وشعوره الداخلي بالعُمر، مما يُحرك دوافع أبطال العمل في اتجاهات متباينة.

تفريغ المدينة

تربط الكاتبة بين الثورة العلمية التي تركت بصمتها على وجوه أهل المدينة والتغييرات التي بدأت تمسخ وجه المدينة نفسها من تغييرات في معمارها، وتجريد لأشجارها، وعبث بدروبها القديمة، فيما تبدو كأنها «استراتيجية» كاملة لتخليص البشر والحجر من هُويتهم، وتفريغ التاريخ الحيّ من جوهره: «عادت الاحتجاجات إلى شوارع المدينة وعلى منصات التواصل الاجتماعي تهاجم بشكل ساخر طرق التشويه التي عَلَت الوجوه، مثلما نالت من جمال المدينة بتحويل بعض الحدائق العامة إلى ميادين خالية من الأشجار، أو تقاطِع التراجع للخلف للسيارات في الاتجاه العكسي، وغاب اللون الأخضر الذي ظلّ يميزها منذ سنوات طويلة».

وتكشف شخصيات الرواية عن وجهات النظر التي تتراوح بين دعاوى التغيير والتحديث، وكثير من المجادلة حول مفهوم «الجمال»، و«القبح»، و«التجميل» الذي تتمسك بطلة الرواية وراوِيتها الرئيسية «شيريهان» بنظرتها «المثالية» حياله، متجردةً من ماديته، والانحياز للزمن ورومانسيته، وجماليات مروره: «تجاعيد جبيني هي دهشتي أمام الحياة، وتلك المحيطة بفمي لأنها تُظهر كم ضحكت وكم قبّلت».

يفرض هذا الواقع «العبثي» الجديد بصمته على تلقي أهل المدينة للحياة والحب، فتسود حالة من الاختلاط والتشويش، التي تجعل الشباب ينجذبون لسيدات في عمر أمهاتهن بعد أن صرن يُشبهن بناتهن، فتختلط التركيبة العمرية للمدينة، ويبدو «التصابي» أسلوب الحياة الاصطناعي المهيمن، حيث الصور «الكاذبة» تبدو بمثابة واجهة مجتمعية جديدة، ويبدو الدكتور «ماهر» طبيب التجميل وصاحب الاختراع الذي يُعيد الكهل شاباً، يبدو أقرب إلى صورة «المُخلّص» الذي يتدافع الناس في طوابير من أجل «إكسير» الشباب الذي قام باختراعه، ثم سرعان ما ينفض يديه من التبعات الكارثية التي تحلّ على أهل هذه المدينة نتيجة تشويه هذا الإكسير لطبيعتهم البشرية.

تجربة جماعية

تضع الرواية هذا الاختراع الطبي المستخدم في عمليات التجميل التي يتسارع من أجلها الناس، معادلاً للتخريب التكنولوجي والرأسمالي الذي يتهرب من مسؤوليته الأخلاقية، وذلك بعد أن تجعل المدينة تخوض «التجميل» بوصفه تجربة جماعية كبرى، بدأت كتجربة مُغوية، وانتهت بالعبث بالأوضاع الاقتصادية والاجتماعية للمدينة، علاوة على تفجير الجنون والصراع النفسي العنيف لدى أصحابه، وجعلت الرواية الطبيب «الساحِر» ممثلاً لهذا التهرب من المسؤولية الأخلاقية، وهو الطبيب الذي يخطو نحو الستين من عمره فيما وجهه في الثلاثين، ويتحدث عن اختراعه على أنه انتصار لم يتم تقديره من سكان المدينة: «نيتي كانت نشر الجمال والسعادة، عيوب التطبيق ليست من شأني، لم يكن هدفي تدمير المدينة وتحويلها إلى مشفى للأمراض النفسية».

ومن ثم، يبرز «الهروب» من العُمر، والحقيقة، والذاكرة، بوصفه أحد مرتكزات الرواية، في مقابل ما بدا كأنه مزاد على «الحق في الحياة» حيث تسود الفوضى، مع تمسك «المتصابين» بعد عمليات التجميل، بالخروج إلى ساحة ميدان المدينة للمطالبة بحقهم في الاستمرار في وظائفهم ما داموا شباباً، فيما الشباب يرفعون صور هؤلاء المتصابين قبل وبعد تناولهم إكسير الشباب في احتجاج على حقهم في «فرص الحياة»، أما بطلة الرواية التي تجاوزتها الحياة والحُب فتطل على هذا المشهد الجمعي المستعِر، عبر صوتها «الفرد» في مواجهة جنون الخارج: «ما أجده غريباً ليس تقدمي في السن، ليس أنني صرت عجوزاً، ولا تحوّل كل صديقاتي إلى شابات... ما يزعجني أنني أشعر بالحزن لأنني تقدمت في العمر بنفس الطريقة التي تقدم بها من حولي وصاروا كلهم شباباً، ومات الحلم بداخلي أن أعيش حياة طبيعية».