بلدة الفن «راشانا» تفقد منحوتاتها وسط صمت الخائفين

بعد 10 سنوات على رحيل اللبناني ألفريد بصبوص.. أسرار تغلف المكان

الفنان ألفريد بصبوص -  «راشانا».. متحف في الهواء الطلق
الفنان ألفريد بصبوص - «راشانا».. متحف في الهواء الطلق
TT

بلدة الفن «راشانا» تفقد منحوتاتها وسط صمت الخائفين

الفنان ألفريد بصبوص -  «راشانا».. متحف في الهواء الطلق
الفنان ألفريد بصبوص - «راشانا».. متحف في الهواء الطلق

هل نحر مشروع الأخوة بصبوص؟
ما يحدث في راشانا لا يُصدق. البلدة التي بقيت أكثر من خمسين سنة قبلة لعشاق الفن بفضل نحاتيها الثلاثة، الإخوة ميشال وألفريد ويوسف بصبوص، فقدت ألقها، وذوت حتى لم يعد يسمع بها أحد. الحديقة التي كانت تجتمع على أرضها منحوتات الفنانين الذين دعوا إلى «محترف راشانا الدولي للنحت»، من كل أنحاء الدنيا، طوال 11 عامًا وتركوا ما لا يقل عن 40 منحوتة، لتبقى هنا، تكاد تفرغ من محتوياتها، يبس عشبها ولم تعد تجد من يعنى بها. ليس هناك من يريد أن يتحدث علنًا، وباسمه المكشوف، عن سبب اختفاء منحوتات، يفترض أن أصحابها وقعوا عقدًا يمنع بيعها أو إعارتها، ومع ذلك لم تعد موجودة في مكانها. الفنانون اللبنانيون الذين كان يستضاف كل سنة منهم واحد في راشانا، ولهم منحوتات في الحديقة، اكتفى من سألناهم منهم بإجابات متشابهة وغاضبة، ومفادها: «نحن وقعنا عقدًا مع ألفريد بصبوص يمنع المساس بمنحوتاتنا التي تركناها هناك. وما بيع هو للنحاتين الأجانب الذين تمت استضافتهم، ونرجو أن تقف الأمور عند هذا الحد». يبدو أن هؤلاء يتابعون عن كثب ما يحدث في راشانا. قال أحد النحاتين رافضًا الكشف عن اسمه: «ما يحدث عيب، نحن نرى المنحوتات التي تباع ونعرفها، وقد بيعت منحوتة للمصري ناجي فريد من أقل من شهر، وانتقلت إلى مكان آخر، وأخرى قبلها لتشيكي وغيرها لياباني». يعرف النحاتون اللبنانيون بعض القطع التي يقولون إنهم شاهدوها عند تجار معروفين في مجال الفن يذكرونهم بالأسماء. نحات لبناني آخر كان قد شارك في السمبوزيوم في راشانا، يقول: «إذا باعوا منحوتتي لن يكون عسلا على قلبي، لكنني لن ألجأ للقضاء. تركت عملي هناك، ولا أستطيع أن أحمله على ظهري لأحميه. أنا لم أعد أذهب إلى راشانا، كي لا يوجعني قلبي، الذي يحدث لا يُحتمل». ويستدرك النحات الذي يرفض ذكر اسمه خشية عدائية ضده بالقول: «لا أستطيع أن ألوم ورثة ألفريد بصبوص الذين يفترض أنهم يتصرفون بالمنحوتات، لأنهم ليسوا فنانين، لكن ما يوجع القلب أن محترف عاليه للنحت الذي بدأ بعد محترف راشانا، محفوظة أعماله من قبل البلدية التي خصصت له طريقًا، تصطف المنحوتات على جانبيه، ولهذا أنا أحترم رئيس بلدية عاليه لأنه يقدر الفن». ويضيف: «أعرف أن بعض ما بيع من راشانا صار في غاليريهات وبيوت، حتى إنني سمعت أن احدهم جاء بطائرة خاصة لينقل منحوتة من راشانا على متنها». كلام كثير يتردد حول أن أعمالاً كثيرة لألفريد بصبوص بيعت هي الأخرى، وثمة منحوتات صغيرة يتم تكبيرها وتوقيعها، وكأن الفريد هو الذي وقعها. هناك من يقول أيضًا إن ثمة ما يتم نحته نقلاً عن صور ويصب بالبرونز ويوقع باسم ألفريد ويباع. هذا كلام يتناقله الفنانون. وحين نسأل الناقد التشكيلي سيزار نمور، ومدير متحف مقام، وهو كان صديقًا لألفريد بصبوص عما يحدث يكتفي بالقول: (آسف لأن الكثير من أعمال ألفريد بيعت. كنت قد نصحت العائلة بالاحتفاظ بنحو 120 قطعة، لتبقى في متحفه الخاص)». وحين نسأله إن كان من حق أحد بيع منحوتات الفنانين الأجانب التي تركت في راشانا يقول: «بمقدور من تباع منحوتته أن يحتج لكنهم لا يفعلون».
عندما تصل إلى راشانا وترى هذا المشهد، تشعر وكأنك غُدِرت في ذاكرتك، تتذكر النحات ألفريد بصبوص، خلال تلك المحترفات، وهو يجول بين الفنانين، سنة بعد أخرى، وهو يردد أمام الصحافيين: «أريد أن أحول راشانا إلى متحف مفتوح في الهواء الطلق، أريد أن أجمع العالم على حبة عدس (يقصد على أرض بلدته الصغيرة التي تعد 250 نسمة). وقد فعل ألفريد، وصارت راشانا مزارًا يُقصد، ومقامًا يُرتجى. نهاية عام 2005 رحل ألفريد الأخ الأوسط، وقبله بأربع سنوات كان قد رحل الأخ الأصغر يوسف، وبغيابهما، صمت صوت الأزاميل والمطارق التي كانت تلعلع كل سنة، وغابت راشانا عن الذكر. رفض فادي ابن ألفريد بصبوص، أن يجيب عن أسئلتنا الأكثر حساسية. قال خلال اتصال هاتفي: «أنا أسعى لجعل أعمال والدي عالمية، لا نريده أن يبقى حبيس راشانا، ونرتب حاليًا لعمل معرض استعادي له في (تيت مودرن) في لندن، وأماكن أخرى، وسنعيد إحياء الحركة في راشانا حين يتحسن الوضع في لبنان».
يتحدث فادي بصبوص عن مؤسسة لألفريد بصبوص كانت قد أنشئت ويتم إحياؤها، وهو رئيسها، وحين نسأله إن كان بمقدوره تزويدنا باسم أحد أفراد المؤسسة لنأخذ رأيه أيضًا يجيب: «أنا من المؤسسة وأتحدث معك، فلماذا السؤال عن شخص آخر». نسأل أيضًا عن المنحوتات الخاصة بالسمبوزيوم التي كانت في الحديقة وما الذي حل بها؟ يجيب بغضب: «هذا كلام لا يقال بالتليفون من يريد أن يسأل فليتفضل إلى راشانا». وحين نوافق ونطلب موعدًا يجيب بنبرة أعلى: «اتصلي بداية شهر يوليو (تموز) لنرى إن كان ثمة موعد»، ويغلق الخط.
تبقى الأسئلة معلقة والكلام خطيرًا وكثيرًا، ويستحق اهتمام وزارة الثقافة. فراشانا إرث لبناني، وليس خاصية عائلية، حتى لو كان المشروع برمته بدأ عائليًا.
الإخوة الثلاثة كانوا يعملون في مهنة العمار، من «معمرجية» كما يقال بالعامية اللبنانية، إلى رواد في الفن. الأخ الأكبر ميشال بصبوص بدأ المسار. ولم يكتفِ الفنان النشط بالنحت وحده، عام 1962 أسس لمهرجان صغير في راشانا، تلك القرية المنسية الوادعة، ولم تصل إليها الكهرباء بعد. جاء بمولد من زحلة، وأحيا ليلة مسرحية، مطلقًا مهرجانا للمسرح، أخذ يكبر سنة بعد أخرى. بفعل زنود البصابصة وأزاميلهم، صارت راشانا الصغيرة متحفًا حقيقًا. من مدخلها تبدأ ترى منحوتاتها منتصبة على جانبي الطريق. تمر ببيت ميشال فترى حديقته مزروعة بأعماله المتطاولة والبيوت الصغيرة النموذجية التي بناها لاستقبال الفنانين الذين يودون الإقامة هنا، وتكمل الطريق لتصل إلى بيت ألفريد حامل الشعلة بعد رحيل ميشال ومطلق المحترف الذي أخذ شهرة واسعة وسمعة طيبة، وإلى جانبه منزل أخيه يوسف، بحديقته الصغيرة ومحترفه الجميل، وفي آخر المسار متحف في الهواء الطلق يحتضن المنحوتات لفنانين من كل حدب وصوب. المشهد اليوم اختلف كليًا، الحديقة تفرغ تدريجيًا، إلى جانبها يسكن نبيل ابن يوسف بصبوص، ينحت بصمت منتظرًا قيامة راشانا من جديد، ويحتفظ بمنحوتات والده متحينًا الفرصة والإمكانات المادية ليقيم ليوسف متحفًا خاصًا، وفي منزل الابن المؤسس ميشال ابنه أناشار الذي ينطلق في عالم النحت ويطور متحف والده بهدوء. كل ينام على مشروعه الخاص الصغير، ويشعر بالعجز واللاجدوى.
لا يزال في راشانا ما يستحق عناء الاهتمام والسؤال عما يحدث، وعن صحة كل الكلام الذي يتناقله الفنانون، وعن مصير منحوتات ليس من حق أحد أن يحركها من مكانها، لكنها اختفت.



هل يمكن للترجمة أن تستعيد ما فقدته الجغرافيا؟

هيثم حسين
هيثم حسين
TT

هل يمكن للترجمة أن تستعيد ما فقدته الجغرافيا؟

هيثم حسين
هيثم حسين

رغم أن الأكراد هم أكبر مجموعة عرقية تعيش في محيط عربي نابض بالثقافة، وتشترك معه في الدين والتاريخ والجغرافيا، فإن التفاعل والتبادل الثقافي بين الجانبين ظلَّ محدوداً، ومسكوناً بهاجس الهويات ونزاعاتها.

ومع أن الكُرد شعبٌ يسكن مناطق متفرقة في عدة دول، فإنهم حافظوا على تراثهم الأدبي عبر القرون، وعلى لغتهم التي يتحدث بها أكثر من 30 مليون شخص. وتمتلك هذه اللغة تاريخاً أدبياً غنياً، وتُعد جسراً طبيعياً بين الثقافات في المنطقة.

لقد طُرحت مشاريع عدة لتقريب الثقافتين العربية والكردية؛ لكنها أُجهضت، فقد عملت السياسة كعنصر تخريب للتواصل الثقافي؛ بل أسهمت مشاريع التهميش من جانب والانغلاق من جانب آخر في توسيع الشقة حتى بين أبناء البلد الواحد.

إدراكاً لهذا الواقع المؤسف، أخذت دار «رامينا» التي يديرها الكاتب والروائي الكردي السوري، المقيم في بريطانيا، هيثم حسين، على عاتقها إصدار أو ترجمة عدد من الكتب الكردية إلى اللغة العربية، أو ترجمة الكتب العربية إلى الكردية، في مسعى يهدف «لبناء الجسور بين شعوب المنطقة، وبناء قيم التسامح ونبذ الكراهية والتطرف والعنف، في سياق أدبي إنساني رحب»، كما تقول الدار في نشرة التعريف عن نفسها، على الموقع الإلكتروني. وتضيف أنها تركز «على ثقافات الأقليات والمجتمعات المهمشة في جميع أنحاء العالم، وذلك ضمن الفضاء الثقافي والحضاري والإنساني الأرحب».

الترجمة كجسر للتواصل

يقول صاحب الدار لـ«الشرق الأوسط»: إن هذا المشروع يستهدف إنشاء منطقة تواصل حقيقي: «نحن نريد للقارئ الكردي أن يجد في العربية امتداداً له، وللقارئ العربي أن يرى في الكردية مرآة تعكس جزءاً من روحه. إن تجربة دار النشر (رامينا) هي محاولة لاستعادة ما فقدته الجغرافيا من قدرة على جمع البشر. لقد بدأتُ في تأسيس الدار حين شعرت بأن العلاقة بين العربية والكردية تحتاج إلى عناية تُنقذها من التباعد التاريخي، وبأن الأدب قادر على أداء هذا الدور إذا أُتيح للنصوص أن تنتقل بحرية بين الضفتين».

انطلقت «رامينا» إلى الترجمة بوصفها عملاً يتجاوز التقنية، ولم تبحث عن «نقل الكلمات»، إنما عن نقل التجارب والمخيلات والوجدان، كما يقول مؤسسها. وكانت القفزة الأهم حين عملت -بدعم من مبادرة «ترجم» وبالتعاون مع وكالة «كلمات»- على مشروع ترجمة كتب عدة من الإبداعات السعودية إلى الكردية، وهو حدث يتحقق للمرة الأولى في تاريخ الأدبين العربي والكردي.

لقد قدَّمت «رامينا» للقارئ الكردي نصوصاً عربية خليجية وسورية وعُمانية وبحرينية، مترجمة إلى لغته الأم. وكذلك قدَّمت للقارئ العربي نصوصاً كردية بأصوات متنوعة تمثِّل جغرافيات كردية متعددة، وأعادت فتح نافذة على الأدب السرياني ضمن سلسلة النشر السريانية التي خصصتها لإحياء هذا الإرث الموشَّى بالروحانية والشعر، وهو من أعمق طبقات تاريخ المنطقة، كما أطلقت شراكات ترجمة إلى الإنجليزية، لحاجة الأدب الكردي والعربي إلى هذا الأفق العالمي كي لا يبقى أسير لغته أو مكانه.

من الأعمال التي شكَّلت نقطة تحول في هذا المشروع: سلسلة الإبداعات السعودية المترجمة إلى الكردية؛ وهو مشروع غير مسبوق فتح باباً واسعاً لفهم جديد بين القارئ الكردي والمشهد السعودي، فقد نقلت «رامينا» للقارئ الكردي أعمالاً لأدباء ونقاد سعوديين، منهم: سعد البازعي، ويوسف المحيميد، وأميمة الخميس، وأمل الفاران، وطارق الجارد، وعزيز محمد، وغيرهم.

والثاني، مشروع الترجمات العُمانية والبحرينية، مثل رواية «بدون» ليونس الأخزمي و«الطواف حيث الجمر» لبدرية الشحي؛ و«دخان الورد» لأحمد الحجيري، وهي نصوص أدخلت القارئ الكردي إلى سرديات لم يكن يصل إليها.

والثالث، مشروع الترجمة من الكردية إلى العربية، الذي قدَّم للعربي أصواتاً كردية ذات حساسية عالية، تنقل الهويات المتعددة والمعاناة المتراكمة في كردستان سوريا والعراق وتركيا وإيران؛ حيث تُرجمت إلى العربية عشرات الأعمال الكردية لكُتَّاب كُرد، مثل: عبد القادر سعيد، وسيد أحمد حملاو، وصلاح جلال، وعمر سيد، وكوران صباح... وغيرهم.

وأما الرابع فهو مشروع النشر السرياني، الذي يعيد الاعتبار لطبقة ثقافية مهمَّشة، ولغة أصيلة من تراث منطقتنا، ويمنحها موضعها الطبيعي داخل المشهد الأدبي.

والخامس، إطلاق الترجمات إلى اللغة الإنجليزية.

يقول هيثم حسين إنه «بهذه الحركة المتبادلة، صار مشروع الترجمة في (رامينا) مشروعاً لإعادة النسج بين لغتين، وتأسيس حوار ثقافي طال غيابه».

«نريد للقارئ الكردي أن يجد في العربية امتداداً له وللقارئ العربي أن يرى في الكردية مرآة تعكس جزءاً من روحه»

هيثم حسين

التراث الأدبي المشترك

وردّاً على سؤال لـ«الشرق الأوسط» عما يمكن أن يضيفه هذا المشروع إلى التراث الأدبي المشترك، يقول هيثم حسين إن مشروع التواصل الأدبي الذي تقوم به «رامينا»، يضيف ما يشبه «الخيط المفقود»، فالتراث العربي والكردي والسرياني ظلَّ متجاوراً دون أن يتشابك بما يكفي.

ويضيف: «الآن، حين يقرأ كردي نصاً سعودياً بلُغته، أو يقرأ عربي رواية كردية، أو قارئ إنجليزي عملاً مترجماً من هذه البيئات، تظهر طبقة جديدة من التراث؛ طبقة عابرة للغات والانتماءات، ترى الإنسان قبل كل شيء. نحن لا ندَّعي أننا بصدد صنع أو تصدير تراث بديل، إنما نحاول أن نعيد توزيع الضوء على تراث موجود، ولكنه كان منسياً في الظلال والهوامش».

أما الثيمات التي تتكرر في إصدارات «رامينا»، فهي تكاد تتقاطع حول هوية تبحث عن مكانها في عالم مضطرب: الذاكرة، بصفتها محاولة لمقاومة النسيان. الكتابات السيرية الذاتية والغيرية. المنفى، باعتباره إعادة تكوين للذات. اللغة، بما تحمله من فجيعة وحماية في آن واحد. الهوامش التي تتحول إلى مركز حين يُكتب عنها بصدق. الأمكنة المحروقة والقرى المطموسة والطفولة المهددة بالمحو. وهذه الثيمات امتداد لتجارب الكُتاب أنفسهم: كرداً، وعرباً، وسرياناً، ومهاجرين.

وعن الحركة الأدبية الكردية في سوريا، يقول هيثم حسين: «إن القوة الأدبية الكردية في سوريا نابعة من صدق التجربة وعمق الجرح. هناك كُتَّاب يمتلكون لغة عربية متماسكة، وأخرى كردية راسخة، ما يجعل أصواتهم قادرة على الوصول إلى جمهورَين. من خلال الترجمة والتوزيع في كردستان العراق، ومن خلال النشر في لندن، أصبح لهذه الأصوات مسار يصل بها إلى مَن لم يكن يسمعها. أرى أن هذا الامتداد عابر للحدود، وأن الكتابة الكردية السورية مرشَّحة لأن تكون أحد أهم أصوات الأدب القادم من المنطقة».

ورداً على سؤال بشأن كيفية تقديم التراث الكردي والهوية الكردية للآخرين، قال مؤسس «رامينا»: «إن الدار قدَّمت التراث عبر نصوصه؛ لا عبر خطاب خارجي عنه. فحين يقرأ قارئ عربي أو إنجليزي أو كردي نصاً مترجماً أو أصلياً، يكتشف مفردات الهوية الكردية كما تعيش في الحياة اليومية: في الأغاني، في اللغة، في القرى، في القصص العائلية، وفي تفاصيل الفقد والحنين. بهذا يصبح التراث الكردي جزءاً من المشهد الثقافي العام، لا معزولاً ولا مؤطَّراً. كما أن النصوص الأدبية تثبت العناصر المشتركة بين الثقافات؛ حيث تكشف النصوص أن الألم واحد، والحنين واحد، وأسئلة الإنسان واحدة. وتُظهر أن الاختلافات اللغوية لا تزيل جوهر التجربة الإنسانية؛ بل توسِّعها. حين يتجاور الأدب الكردي والعربي والسرياني والإنجليزي في سلسلة نشر واحدة، تتكوَّن منطقة مشتركة؛ بلا حدود، يتقاطع فيها الإنسان مع الإنسان. وهذا هو جوهر المشروع الذي أردتُ لـ(رامينا) أن تكون منصته».


«ثلاث نساء في غرفة ضيقة»... قصص عن الحزن والعزلة

«ثلاث نساء في غرفة ضيقة»... قصص عن الحزن والعزلة
TT

«ثلاث نساء في غرفة ضيقة»... قصص عن الحزن والعزلة

«ثلاث نساء في غرفة ضيقة»... قصص عن الحزن والعزلة

عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، صدرت المجموعة القصصية «ثلاث نساء في غرفة ضيقة» للكاتبة هناء متولي، التي تضم 22 نصاً يهيمن عليها الحضور الأنثوي في فضاءات واقعية تتراوح بين المدينة والقرية على خلفية عوامل من القهر والإحباط التي تجعل من حواء لقمة سائغة في فم وحش الوحدة والعزلة والشجن والحنين.

تعتمد المجموعة تقنيات سردية تستكشف كذلك قضايا الوجود والهوية والاختيارات الصعبة والأحزان العميقة عبر أعمال تمزج بين أشكال مختلفة من السرد مثل السيناريو والمونتاج والفلاش باك والمشهدية البصرية بهدف تسجيل لحظات نسائية خاصة، عبر تجربة أدبية تجمع بين العمق الإنساني والتجريب الفني.

تتنوع النماذج التي تدعو للتأمل في المجموعة القصصية من الخالة التي تجلس وقت الغروب تمضغ التبغ وهى تزعم أن الموتى يبعثون برسائل عبرها كوسيطة، إلى المصابات بالاكتئاب السريري، وليس انتهاء بالأديبة الشابة التي تواجه أديباً شهيراً اعتاد السخرية من الكتابات النسوية.

تميزت عناوين المجموعة بوقع صادم يعبر عن فداحة ما تتعرض له المرأة في المجتمعات الشرقية، بحسب وجهة نظر المؤلفة، مثل «السقوط في نفق مظلم»، «نزع رحم»، «يوميات امرأة تشرب خل التفاح»، «الناس في بلاد الأفيون»، «البكاء على حافة اليقظة».

ولم يكن قيام هناء متولي بإهداء العمل إلى الشاعرة الأميركية سيلفيا بلاث، التي ماتت منتحرة عام 1963 عن 30 عاماً، فعلاً عشوائياً، حيث سبق انتحار الأديبة الشهيرة سنوات طويلة من الاضطرابات النفسية والاكتئاب السريري وهو ما يبدو ملمحاً أساسياً من ملامح المجموعة.

وجاء في الإهداء:

«إلى سيلفيا بلاث... التي عرفتْ جيداً كيف يبدو الألم حين يصبح مألوفاً، أستمعُ إلى صدى كلماتك بين همسات الوحدة وأصوات الكتابة، كأنك تركتِ لي خريطة في دفاترك، تشير إلى تلك الأماكن العميقة داخل النفس حيث تختبئ الظلال خلف الضوء».

ومن أجواء المجموعة القصصية نقرأ:

«شروق خجل للشمس بعد ليلة ممطرة، تهرول سناء في عباءتها الصوفية وشالها القطني الطويل، تقترب من البيت المطل على الترعة وحيداً ورغم أنه قد شُّيد من طوب لبن ومعرش بسقيفة من القش فإنه يشع دفئاً في وجه الزمن. تنادي بصوت مترقب: يا خالة، فتطل عليها المرأة قصيرة القامة ذات الجسد المنكمش بعينين يقظتين لتكرر على مسامعها جملتها المعتادة: لا رسائل لك.

تعاود الهرولة وقد أحكمت الشال حول كتفيها العريضتين وقوست قامتها الطويلة، يهاجمها البرد بقسوة ليزيد جفاف قلبها. تعود سناء إلى بيتها... تتكور في فراشها... تحاذر أن تلمس جسد زوجها السابح في النوم، لئلا توقظه برودتها فينكشف سرها.

في ليلة حناء شقيقتها، ارتدت سناء فستاناً بنفسجياً من القطيفة وحجاباً زهرياً خفيفاً، كانت تعجن الحناء وتراقب الرقص والتصفيق بعينين شاردتين، تفاجئها موجة جديدة من حزن كثيف يتلبس روحها ويقبض على قلبها بقسوة. تهرب وتحبس نفسها في مخزن الغلال لتغرق في بكاء لاينتهي. يرغمها والدها على تناول قطعة صغيرة من حلوى العروس وبمجرد ابتلاعها تتقيأ».


«مُعْجَمُ الحَواسِّ النَّاقِصَة» لعماد فؤاد

«مُعْجَمُ الحَواسِّ النَّاقِصَة» لعماد فؤاد
TT

«مُعْجَمُ الحَواسِّ النَّاقِصَة» لعماد فؤاد

«مُعْجَمُ الحَواسِّ النَّاقِصَة» لعماد فؤاد

عن دار «ديوان للنشر» بالقاهرة، صدر حديثاً العمل الشِّعري السابع للشَّاعر المصري عماد فؤاد تحت عنوان «مُعْجَمُ الحَواسِّ النَّاقِصَة».

جاء الديوان في 176 صفحة، مقسّمة إلى ثمانية فصول: «ما قبلَ»، ثم: «الصَّوت»، «الصُّورة»، «الرَّائحة»، «اللَّمس»، «الطَّعْم»، و«الألم»، «ما بعدَ».

جاء في كلمة الناشر أن «مُعْجَم الحَواسِّ النَّاقِصَة» يبدأ من لحظة التّأسيس الأسطوريّة الأولى؛ «المُصادفة» التي جعلتْ «الغابة» تلتهم «جَبلاً». كأنّه بالأحرى «سِفر تكوين» مكثَّف لـ«العلائق» بين الذَّكر والأنثى، التي تتجاوز الثنائيّات التقليديّة للقوّة والضعف، منذ بدء الخليقة وحتى يومنا هذا.

بهذا المعنى، فإن «المُعْجَم» الذي يبنيه عماد فؤاد هنا مشدودٌ بين قُطبي الكمال والنُّقصان، المرأة والرّجل، الإيروتيكيّة والصوفيّة، ما قبلَ.. وما بعدَ. لكنّه ليس بسيطاً كما يبدو من الوهلة الأولى، إنّه كون شاسع ومركّب. عالم معقّد تتعدّد أبعاده وتتراكم طبقاته الفلسفيّة والدّينية صفحة بعد صفحة، وقصيدة بعد أخرى... لذلك: تأبى لغة عماد فؤاد الاكتفاء بأداء مهمّتها الرئيسية، فتكون مجرَّد لغة هدفها «الإيصال» فحسب. لا... اللّغة هنا مثل شاعِرها؛ طامعة في أكثر من الممكن، في أكثر حتّى ممّا يستطيع الشِّعر أن يستخرجه من اللّغة نفسها، هذه ليست قصائد عن «الحواسِّ النَّاقصة» كما يدَّعي العنوان، بل قصائد كُتبتْ بـ«الحواسِّ النَّاقصة»، ستجد حروفاً لا تُرى.. بل تُلمَسْ. وكلماتٍ لا تُقال.. بل تُشَمّ. وجُمَلاً لا تُنْطَق.. بل «تُسْتطْعم». وقصائد لا تُقرأ.. بل تخترق اللحم كأسنّة الخناجر.

يعتبر عماد فؤاد أحد شعراء جيل التسعينات المصري، ومن أعماله الشِّعرية: «تقاعد زير نساء عجوز»، و«بكدمة زرقاء من عضَّة النَّدم»، و«حرير»، و«عشر طُرق للتّنكيل بجثَّة» و«أشباحٌ جرّحتها الإضاءة».

ومن كتبه الأخرى، «ذئب ونفرش طريقه بالفخاخ: الإصدار الثاني لأنطولوجيا النّص الشِّعري المصري الجديد»، وكان الإصدار الأول تحت عنوان «رعاة ظلال.. حارسو عزلات أيضاً»، و«على عينك يا تاجر، سوق الأدب العربي في الخارج... هوامش وملاحظات»، كما صدرت له مختارات شعرية بالفرنسية تحت عنوان «حفيف» (Bruissement) عام 2018.

من قصائد «مُعْجَم الحَواسِّ النَّاقِصَة»:

في البدْءِ كانت المُصادفةُ

كأنْ تُمْسِكَ طفلةٌ لاهيةٌ بالجبلِ في يدِهَا اليُمنى، وبالغابةِ في يدِهَا اليُسرى، وتمدَّ ذِراعيْها عن آخرهِمَا ناظرةً إلى أُمِّها في اعتدادٍ. فتنْهَرُها الأمُّ:

لماذا تُباعدين بينهُما؟

وتستغربُ الطِّفلةُ: «هذه صَحْراءُ.. وهذه غابةْ»!

المُصادفةُ وحْدها جعلتْ عينَ الأمِّ تنظرُ إلى الجَبَلِ، فتراهُ وحيداً، لا يُحِدُّهُ شَمالٌ أو جَنوبٌ، تُشرقُ الشَّمسُ فيعرفُ شرْقَهُ مِنْ غَرْبِهِ، لكن لا أحد علَّمَهُ ماذا يفعلُ كي لا يكونَ وحيداً.

علىٰ بُعْدِ نَظَرِه الكلِيْلِ، كان يرى نُقطةً خضراءَ فوقَها سُحُبٌ وأَبْخِرَةٌ وضَبابٌ، حينَ تُمْطرُ يعلوها قوسُ قُزَحٍ لامعٌ، لا تدْخلُ ألوانُهُ في عيْنيْهِ، إلَّا ويَرى دموعَهُ تَسيلُ على صُخُورِه، حتَّى أنَّها سمعتْهُ يتمتمُ مَرَّةً في نومِهِ:

«لو أنَّ جَبلاً.. ائْتَنَسَ بغابةْ»!

في البَدْءِ كانت المُصادفةُ

التي جعلتْ الطِّفلةَ تنظرُ بعيْنَيْها إلى الغابَةِ، فتجدُها مُكْتفيةً بذاتِها، مُدَوَّرةً ومَلْفُوفَةً وعندها ما يكفي مِن المَشاكِلِ والصِّراعاتِ الدَّاخليةِ، تنْهَبُها الحوافرُ والفُكُوكُ

قانونُها القوَّةُ وخَتْمُها الدَّمُ:

«فكيفَ يا ماما تَقْوى الغابةُ على حَمْلِ ظِلِّ جَبَلٍ مثل هذا؟».

لم تُجِبْ الأمُّ

وحدَها الغابةُ كانت تُفكِّرُ:

«نعم؛ ماذا لو أنَّ غابةً..

التهمتْ جَبَلاً؟».