رمضان في الأحساء: متعة الصوم في حضن التراث

العادات الرمضانية ما زالت عابقة

رمضان في الأحساء: متعة الصوم في حضن التراث
TT

رمضان في الأحساء: متعة الصوم في حضن التراث

رمضان في الأحساء: متعة الصوم في حضن التراث

بين النخل والساقية امتد تراث الأحساء مطرزًا واحة النخيل بعادات عابقة بالمعاني، خصوصًا في شهر رمضان، حيث تكتنز الأحساء تراثًا زاخرًا بحسه الإنساني. ويعتبر تراث الأحسائيين في شهر رمضان الذي ما زالت سماته باقية حتى اليوم، وما زال الكثير منه خالدًا ومنتعشًا رغم السنوات الطويلة، دليلا على تمسك الناس في واحة الأحساء بتراثهم.
رمضان في الأحساء ممزوج بتراث الأرض وما تنتج من طعام وتراث وفلكلور، الباحث عبد الله الشايب المهتم بتوثيق الذاكرة التراثية في الأحساء، قال لـ«الشرق الأوسط» إن «لشهر رمضان المبارك، في الأحساء طعما آخر». ومضى يقول: «ينتظر الأحسائيون بشغف كبير شهر رمضان المبارك، ولذا فإن تأثير قدومه يكون مبكرا وأحيانا مبكرا جدًا، خاصة عندما يتعلق الموضوع بتخزين بعض الأطعمة كالدبس والتمر والبوبر وغيره».
يضيف: «لا يتوقف الأمر عند إعداد وتخزين الطعام، فالكثير من الأسر تبرم اتفاقات مبكرة مع مقرئين»، ويوضح: على أي حال يعتبر استهلال شهر شعبان مقدمة للاستهلال برمضان وهو عمل يشارك فيه طبقات المجتمع بمن فيهم الأطفال من فوق السطوح وأحيانا من فوق رؤوس النخيل الفارعة.
يكمل الشايب قائلاً: يُسمى آخر يوم من شعبان في الأحساء بيوم «القرش» وفيه يكون آخر غداء تكون مخلطة العيش الحساوي مع البيض، وهي الوجبة الرئيسة، وتقوم بعض الأسر بالذهاب إلى بلدة المطيرفي بجانب عين الحوار و«يقرشون» هناك، أي يتناولون الوجبة التقليدية المخصصة لآخر يوم من شهر شعبان.
ويضيف: قبل دخول الشهر يتم شراء المونة الرمضانية بما يكفي مثال البر والطحين، ونظرا لعدم وجود حافظات فإن شراء اللحم يظل آني وكذلك الخضار، وما إن يعلن دخول ليلة رمضان حتى تنفرج الأسارير ويبدأ الأهالي تبادل التباريك بدخول الشهر الفضيل، وتزداد أعداد المجالس المفتوحة للاستقبال التي تقدم التمر أو الرطب والقهوة المرة و«الشربت» عصير الليمون البارد، وخاصة جميد الليمون الحساوي. وتستهل ليالي رمضان في تلك المجالس بترتيل القرآن الكريم، وينتخب لقراءة القرآن أحد أبناء الحي ممن يحسنون القراءة ويمتلكون صوتًا جميلاً، خاصة إذا علمنا أن الغالبية منهم أميون لا يحسنون القراءة، ثم يُقرأ أحد أدعية شهر رمضان، وفي نهاية الشهر الكريم يقام حفل لختم القرآن الكريم.
عرفت الأحساء بعيون الماء المتدفقة عبر التاريخ، وفي نهار رمضان تصبح موئلاً للسكان الهاربين من حرارة الصيف، يشرح الشايب ذلك بالقول: عندما يكون الجو قيظًا (شديد الحرارة) فإن عيون الماء (كالأخدود، وأم سبعة، والحارة، وباهلة، وسليسل، والرقيع، والثبارة) تزخر بالمتسبحين من الرجال والصبيان.
وسكان الأحساء يمتهنون الزراعة وكانوا في الماضي يتهادون منتجاتهم من الحقول كالرطب والتمر والفجل وبعض الخضراوات، كما تتهادى الأسر عبر سلوك نسوي صواني الطعام ومن ضمنها رعاية الأسر المحتاجة، ومما يتهادونه، وجبات الفطور، كالهريسة، واللقيمات، والقيمة، وخبز المسح مع اللبن والتمر، وهي جميعًا من المواد الأساسية في سفرة الفطور، بينما يتناولون كبسة العيش (الرز) الحساوي مع اللحم أو الدجاج للسحور.
يشرح الشايب ليالي الصائمين في الأحساء بالقول إنها تتميز كذلك بإعمار المساجد لصلاة السنن وكذلك التهجد قبل الفجر، حيث يُسمع لها دوي في جو هادئ خال من الضوضاء، كما يُقام في مجالس الأسر عدد من الخطب التوجيهية ويقام معها فطور أو سحور أسري أو اجتماعي.
ويهتم الأحسائيون بالناشئة من خلال تدريبهم تربويا على الصوم وعندما يصل إلى سن التكليف يصبح جاهزًا للصوم بعد أن تمرن أو تمرنت على أداء الصوم وأيضا تشجيعهم على ختم القرآن.
ومن مظاهر رمضان والتي ما زالت باقية لليوم هو يوم النصف من الشهر ويسمى «القرقيعان»، وهو احتفال يشارك فيه الأولاد والبنات حيث يمرون على المنازل وكنوا يعطوهم في الماضي حبّ «نخج» (مكسرات) وحلويات وزردة وينشدون أهزوجتهم «قرقع قرقع قرقيعان»، واليوم أصبحت أكثر تنظيمًا ويتلقى الأطفال المكسرات والحلويات والهدايا.
أما الباحث في التراث الشعبي أحمد البقشي، فقد ذكر لـ«الشرق الأوسط»، أن رمضان المبارك يمتاز في الأحساء منذ القدم بأجواء حميمية، حيث يتطلع له الأحسائيون ويستعدون لمقدمه قبل مدة كافية.
ويوضح: التهيؤ لشهر العبادة يبدأ قبل حلول الشهر حيث يبدأ البعض مشوار الصوم لأيام تسبق شهر رمضان، لتعويد النفس على الصوم، كما يحرص رب الأسرة على توفير (حاجات رمضان) وهي المواد الأولية التي تعد منها الأطعمة الرمضانية كالحبّ الحساوي (القمح) والعيش الحساوي (نوع من الرز الأحمر) والساغو والبقوليات وغيرها لاعتبارات زراعية عرفت بها الأحساء.
يتحدث البقشي عن عادة التزاور بين الأهالي في الأحساء، يقول: مع بداية الشهر يفتح الأعيان والوجهاء مجالسهم لاستقبال المهنئين بقدوم الشهر الكريم، ويتم تبادل الزيارات بينهم في مدن الأحساء وقراها، ويتكاثر إقامة مجالس درس القرآن وتلاوته في مجالس البيوت والتي كان الأحسائيون وما زالوا يهتمون بها، كما تتلى الابتهالات والأدعية الرمضانية.. ومن المظاهر الرمضانية اليومية أو مدفع الإفطار الذي يؤذن بحلول موعد الإفطار.
ويشير البقشي لواحدة من العادات الشعبية المتوارثة في رمضان، وهي «المسحراتي» أو ما يسميه الأحسائيون (بو طبيلة) وهو الذي يدور بطبلته منبها الناس للسحور وهو يتلو أهازيجه الجميلة التي يوقظ من خلالها الصائمين النيام (سابقًا) لتناول السحور.
يتذكر البقشي أن سوق «القيصرية» التراثي الشعبي يصبح عامرًا خصوصًا قبيل منتصف شهر رمضان بمناسبة احتفال الأهالي بيوم «القرقيعان» حيث يستعدون له قبلها بأسبوع أو خمس أيام، كما ينشط فيها سوق رديف للقيصرية يمتد على طول القيصرية ثم انتقل في الستينات إلى الوطاة ثم إلى «دروازة الخباز» شرقي الهفوف ويرتاد الأهالي هذا السوق للتبضع من المكسرات والحلويات، كما ينشط في ذلك الموسم بيع الأقمشة لأن السيدات يحرصن على التجهيز للقرقيعان كما التجهيز للعيد.



المدن والقرى السعودية ترسم «فرائحية العيد»... بالحديث والقديم

من مظاهر الفرح في العيد (أرشيفية - واس)
من مظاهر الفرح في العيد (أرشيفية - واس)
TT

المدن والقرى السعودية ترسم «فرائحية العيد»... بالحديث والقديم

من مظاهر الفرح في العيد (أرشيفية - واس)
من مظاهر الفرح في العيد (أرشيفية - واس)

حافظ السعوديون على مظاهر عيد الفطر السعيد التي كانت سائدة في الماضي، كما حرص المقيمون في البلاد من المسلمين على الاحتفال بهذه المناسبة السنوية وفق عاداتهم وتقاليدهم في بلدانهم، أو مشاركة السكان في احتفالاتهم بهذه المناسبة السنوية، علماً بأن السعودية تحتضن مقيمين من نحو 100 جنسية مختلفة.
ويستعد السكان لهذه المناسبة قبل أيام من حلول عيد الفطر، من خلال تجهيز «زكاة الفطر»، وهي شعيرة يستحب استخراجها قبل حلول العيد بيوم أو يومين، ويتم ذلك بشرائها مباشرة من محال بيع المواد الغذائية أو الباعة الجائلين، الذين ينتشرون في الأسواق أو على الطرقات ويفترشون الأرض أمام أكياس معبئة من الحبوب من قوت البلد بمقياس الصاع النبوي، والذي كان لا يتعدى القمح والزبيب، ولكن في العصر الحالي دخل الأرز كقوت وحيد لاستخراج الزكاة.
وفي كل عام يتكرر المشهد السائد ذاته منذ عقود في الاحتفال بعيد الفطر السعيد ومع حلوله اليوم في السعودية تستعيد ذاكرة السكان، وخصوصاً من كبار السن ذكريات عن هذه الفرائحية السنوية أيام زمان، وفق استعدادات ومتطلبات خاصة وبعض المظاهر الاحتفالية التي تسبق المناسبة.

السعوديون يحرصون على الإفطار الجماعي يوم العيد (أرشيفية - واس)

وحافظت بعض المدن والمحافظات والقرى والهجر في السعودية على مظاهر العيد التي كانت سائدة في الماضي؛ إذ حرص السكان على إبقاء هذه المظاهر ومحاولة توريثها للأبناء. ولوحظ خلال الأعوام الماضية حرص السكان على إحياء المظاهر الاحتفالية بعيد الفطر من خلال موائد العيد بمشاركة جميع سكان الحي، وتمثلت هذه المظاهر في تخصيص أماكن بالقرب من المساجد أو الأراضي الفضاء ونصب الخيام داخلها وفرشها بالسجاد ليبدأ سكان الأحياء بُعيد الصلاة بالتجمع في هذه الأماكن وتبادل التهنئة بالعيد، ثم تناول القهوة والتمر وحلاوة العيد، بعدها يتم إحضار موائد العيد من المنازل أو المطابخ، التي لا تتعدى الكبسة السعودية والأكلات الشعبية الأخرى المصنوعة من القمح المحلي، وأبرزها الجريش والمرقوق والمطازيز، علماً بأن ربات البيوت يحرصن على التنسيق فيما يتعلق بهذه الأطباق لتحقيق التنوع في مائدة العيد وعدم طغيان طبق على آخر.
ويحرص السكان على المشاركة في احتفالية العيد التي تبدأ بتناول إفطار العيد في ساعة مبكرة بعد أن يؤدي سكان الحي صلاة العيد في المسجد يتوجه السكان إلى المكان المخصص للإفطار، الذي يفرش عادة بالسجاد (الزوالي) مع وضع بعض المقاعد لكبار السن ليتسنى لهم المشاركة في هذه الاحتفالات وفي المكان يتم تبادل التهاني بالعيد وتناول القهوة والتمر وحلاوة العيد، وبعدها يبدأ إخراج موائد العيد من المنازل وتوزيعها على السفرة التي تفرش عادة في الساحات القريبة من المسجد أو في الأراضي الفضاء داخل الحي أو حتى في الشوارع الفرعية، كما تقيم إمارات المناطق والمحافظات إفطاراً في مقراتها في ساعة مبكرة من الصباح يشارك بها السكان من مواطنين ومقيمين.

الأطفال أكثر فرحاً بحلول العيد (أرشيفية - واس)

وبعد انتهاء إفطار العيد يتوجه أرباب الأسر مع عائلاتهم إلى الأقارب للتهنئة بالعيد ضمن اعتبارات تتعلق بأعمار المزارين ودرجة القرابة، حيث الأولوية لعمداء الأسر وكبار السن منهم، ولأن الساعة البيولوجية للسكان يصيبها الخلل خلال شهر الصوم، فإن البعض يحرص على أخذ قسط من الراحة قبيل صلاة الظهر أو بعدها، ثم يبدأ بعد العصر بزيارة الأقارب والأصدقاء حتى المساء، حيث يخيّم الهدوء على المنازل، ويحرص المشاركون في الإفطار على تذوق جميع الأطباق التي غالباً ما يتم إعدادها داخل المنازل، التي لا تتعدى أطباق الكبسة والجريش وأحياناً القرصان أو المرقوق أو المطازيز، خصوصاً في أيام الصيف، حيث كانت موائد العيد خلال الشتاء تزين بالأكلات الشعبية مثل الحنيني والفريك.
وفي الوقت الذي اختفت فيه بعض مظاهر العيد القديمة عادت هذه الأجواء التي تسبق يوم عيد الفطر المبارك بيوم أو يومين للظهور مجدداً في بعض المدن والقرى بعد أن اختفت منذ خمسة عقود والمتمثلة في المناسبة الفرحية المعروفة باسم العيدية، التي تحمل مسميات مختلفة في مناطق السعودية، منها «الحوامة» أو «الخبازة» أو «الحقاقة» أو «القرقيعان» في المنطقة الشرقية ودول الخليج، كما تم إحياء هذا التراث الذي اندثر منذ سنوات الطفرة وانتقال السكان من منازلهم الطينية إلى منازل حديثة، وقد ساهمت الحضارة الحديثة وانتقال السكان من الأحياء والأزقة الطينية في القرى والمدن في اختفاء هذا المظهر الفرحي للصغار في شهر رمضان ومع حلول العيد. يشار إلى أن المظاهر الاحتفالية لعيدية رمضان قبل عقود عدة تتمثل في قيام الأطفال بطرق الأبواب صباح آخر يوم من أيام رمضان وطلب العيدية التي كانت لا تتعدى البيض المسلوق أو القمح المشوي مع سنابله والمعروف باسم «السهو»، ثم تطور الأمر إلى تقديم المكسرات والحلوى، خصوصاً القريض والفصفص وحب القرع وحب الشمام والحبحب، وحلّت محلها هدايا كألعاب الأطفال أو أجهزة الهاتف المحمول أو النقود.