داعش: انقلاب «التلميذ» على «الأستاذ»

لماذا أحلّ «البغدادي» دم أميره وشيخه السابق «أبو عبد الله المنصور»؟

صورة للبغدادي أخذت له في الموصل في يوليو الماضي («غيتي»)
صورة للبغدادي أخذت له في الموصل في يوليو الماضي («غيتي»)
TT

داعش: انقلاب «التلميذ» على «الأستاذ»

صورة للبغدادي أخذت له في الموصل في يوليو الماضي («غيتي»)
صورة للبغدادي أخذت له في الموصل في يوليو الماضي («غيتي»)

مع أن «أبو عبد الله المنصور»، الملقّب بـ«أمير جيش المجاهدين»، كان أول مَن استقبل «أبو مصعب الزرقاوي» في العراق عام 2003 ومَن قدمه لجماعته، كما أن تنظيمه هو أول تنظيم انضم له «البغدادي» وبايعه أواسط عام 2005 وتلقّى عنه خلال هذا العام، فإنه كان سببا رئيسيًا في خلاف تلميذه السابق «أبو بكر البغدادي» - أمير تنظيم داعش فيما بعد - مع «أبو محمد الجولاني» أمير «جبهة النصرة»، حين طلب الأول من الأخير قتله في سوريا وتباطأ، ثم رفض مبررا ذلك بأن شيوخ «القاعدة» لا يكفّرونه، فكان فصم العلاقة بين «داعش» و«النصرة»، ومن ثم بين «داعش» وأصله «القاعدة» وقادتها.
لكن لماذا «أبو عبد الله المنصور» تحديدًا؟ ولماذا أصرّ زعيم تنظيم داعش وأميرها على قتله رغم أنه كان أميرا عليه وأستاذا له، ويشهد له وأنصاره بـ«العلم الشرعي» و«سابقة الجهاد» فضلاً عن أنه من استقبل شيخهم «أبو مصعب الزرقاوي» (توفي عام 2006) في العراق عام 2003 وقدّمه لهم وعرّفه على سائر الفصائل الراديكالية؟ ولماذا كان «أبو عبد الله المنصور» أول من كتب ضد ما أعلنته «داعش» من خلافة ودولة في كتابه «الدولة الإسلامية بين الحقيقة والوهم» وكيف كانت ردود الدواعش عليه.
الاسم الحقيقي لـ«أبو عبد الله المنصور» هو محمد حردان العيساوي، وهو الذي أسّس «جيش المجاهدين في العراق» عام 2003 بعد حرب العراق، وله كنية ثانية هي «أبو سعيد العراقي». وعنه يقول عارفوه إنه كان قياديا معروفًا في تنظيم الإخوان المسلمين العراقي، إلا أنه غادر إلى أفغانستان للقتال مع الجماعات المتشدّدة هناك وعاد في بداية التسعينيات بميول راديكالية واضحة. ومن ثم، خرج من التنظيم الإخواني في العراق، مؤسّسًا تنظيمه في هذا التاريخ. واتهامًا له يصفه الدواعش بأنه من «سروريي العراق» وأحيانًا بأنه من «الصحوات» وغير ذلك مما يرونه تهما، ويتهمونه بالذات في علاقته بـ«الصحوات» والراحل حارث الضاري.
غير أنه مع هذا لم ينكر الدواعش دوره ومكانته الشرعية عند الجماعات المتشدّدة في العراق، كذلك لم ينكر منظّر «داعش» وفقيهه المهم «أبو الحسن الأزدي»، الذي نظنه صاحب دعوة حرق الطيار الأردني معاذ الكساسبة، مكانة العيساوي وعلمه في رده عليه - لكن من دون أن يسميه - في رده على كتابه المذكور الذي عنونه بـ«توبيخ الغالطين على إمام الحرمين». إذ يقول: «ثم إني وقفت على رسالة سماها صاحبها (الدولة الإسلامية بين الحقيقة والوهم)، فألفيتُ عمادها مقامًا على غلط ينتظم أمر الشرع والقدر في أغلاط أخر، قد يهيئ الله بيانها، إلا أن صاحبها قد نبأ عن الكثير من سقطات الأول، وأحسن إقامة الحرف، وإن كان لم يقملب رسالته إلا على شفا جرف».
لكن خصومه وعناصر «داعش» دأبوا على اتهام العيساوي بالغرور والذاتية وتذبذب المواقف والفتاوى والغيرة من «الزرقاوي». ولكن التهمة الأخطر كانت اتهامه بالسقوط والخيانة، وأنه خرج من السجن عام 2007 بصفقة مع الأميركان والحكومة العراقية، لضرب «القاعدة» و«دولتها» حينئذ، وأنه استمر توظيفه حربا على «الزرقاوي» ثم قادة «القاعدة في العراق» حتى «البغدادي»، وأنه شارك في هذه الصفقة مع العيساوي مسؤول الهيئة الشرعية لـ«أنصار الإسلام» (سعدون القاضي) وبالفعل انشقّ الأخير عن «الأنصار» وانضم إلى المجلس السياسي للمقاومة العراقية، الذي كان يمثل «الصحوات»، حسب أحد مؤرخي «داعش» من عناصر «جيش المجاهدين» السابقين.
«الزرقاوي» وانقلاب العلاقة
في عام 2003، كما سبقت الإشارة، استقبل العيساوي «أبو مصعب الزرقاوي» في العراق، كما قدّمه لتنظيمه وعرفه بسائر المقاتلين المتشددين هناك، وأثنى عليه واعتبره حينها نصرة أو «رجلا من السماء»، لكنه بعد فترة ظهر الخلاف بينهما متهمًا إياه بالتشدد والغلو.
وبالفعل، أقام «الزرقاوي» في بيت العيساوي لمدة طويلة، ولكن مع الوقت دبّ الخلاف بين الرجلين في مسألتين رئيسيتين، هما:
أولا: تكفير الشرطة العراقية: إذ رفض العيساوي تكفير الشرطة، بينما منهج «الزرقاوي» منذ البداية كان اعتبار رجال الشرطة مرتدين.
ثانيا: تكفير عوام الشيعة: رفض العيساوي تكفير عوام الشيعة، وكان ذلك موقف شيخ «الزرقاوي» السابق أيضًا «أبو محمد المقدسي» وعدد من شيوخ «القاعدة»، القائل بتكفير علمائهم وسادتهم فقط دون عوامهم، على عكس ما ذهب إليه «الزرقاوي» ومن بعده قادة «القاعدة في العراق» من تكفير عوامهم وقتالهم.
ومما كان يأخذه أنصار «الزرقاوي» على العيساوي (أبو عبد الله المنصور) ضعف القيادة وارتباك وتذبذب الفتوى عنده، فأحيانًا كان يرفض منهم استهداف حسينيات الشيعة، لكنه سمح بها لعناصر تنظيمه. وكما يروى أحد أنصار «داعش» أنه استفتاه أحد أتباعه في ضرب حسينيات الشيعة، فكان جوابه «اضربوها ولا تستفتوني بهذه الأمور، فأنا لا أرى قتل عوام الروافض (الشيعة)».
في ضوء ما تقدم رمى العيساوي لهذه الأسباب وغيرها «الزرقاوي» بالتشدد والغلو، ولقد وجه رسائل متتالية لزعيم «القاعدة» الراحل أسامة بن لادن وكذلك لخلفه أيمن الظواهري شاكيًا منه، ومطالبا إياهما بالتدخل لوقف غلوه وتشدده، منها تلك الرسالة في أبوت آباد -غير مؤرخة وغير موقعة- التي تضمنت عتابا لبن لادن وقادة «القاعدة» على اختزال واختصار المتشددين في العراق بـ«أبي مصعب الزرقاوي» دون غيره، وقال فيها إن هذا مخالف لخريطة «القوى الجهادية» في العراق، كما انتقد لبن لادن وقادة «القاعدة» على وقوفهم وصمتهم على «تكفير المخالف واستباحة دمه» كما يفعل «الزرقاوية» معتبرًا هذا النهج المتطرف مخالفًا لمذهب أهل السنة. وهذا الأمر كرره العيساوي (أبو عبد الله المنصور) في نقده لـ«داعش» فيما بعد، وكما انتقد أنصار «الزرقاوي» إعلانهم «دولة العراق الإسلامية» المزعومة رغم عدم وجود التمكين، كان هذا الشرط -أي عدم وجود التمكين- هو نفسه الذي كرّره في نقده «داعش» و«خلافتها» المزعومة عام 2013، ورد عليه فيه «أبو الحسن الأزدي» وغيره.
ومن ثم، بعد انقلاب العلاقة وتحوّلها من التقدير إلى الاتهامات المتبادلة، ظلت علاقة العيساوي بـ«الزرقاوي» سيئة حتى مقتل الأخير في يونيو (حزيران) 2006. كما ظلت كذلك مع من خلفائه على رأس «القاعدة في العراق» وفي مقدمتهم «أبو عمر البغدادي» و«أبو حمزة المهاجر» (قتلا عام 2010) الذي كان يراهم أكثر غلوًا وتطرّفًا واستحلالاً للدماء منه، وأنهم محكومون بالتأويلات والرؤى. وهنا يروي «أبو عبد الله المنصور» في كتابه «الدولة الإسلامية بين الحقيقة والوهم» أن «أبو حمزة المهاجر» كان «يخاطب الحاضرين معه بأنه أعد منبر المهدي ليستعد للصعود عليه معلنا دولة الإسلام في آخر الزمان!». ومن ثم يقول: «هكذا كان مستوى قادة (القاعدة) في العراق وهكذا كانت عقولهم..»، واستمر الاستخفاف بخلفاء «الزرقاوي» حتى الوصول إلى «البغدادي» التلميذ السابق والأمير الحالي الذي يطلب رأسه.
لم ينضم «أبو عبد الله المنصور» أو محمد حردان العيساوي وتنظيمه إلى «مجلس شورى المجاهدين» الذي أسّسه «الزرقاوي» في يناير (كانون الثاني) 2006، كما أنه لم يشهد ما أعلنه من «دولة العراق الإسلامية» في أكتوبر (تشرين الأول) من العام نفسه، وظل على خلافه مع «الزرقاوي» رغم تعاطفه مع «القاعدة». ثم توجّه العيساوي بعد خروجه من السجن عام 2007 إلى سوريا لفترة، وشارك بتنظيمه «جيش المجاهدين» -حسب رواية «القاعدة»- في جيوش ومجالس «الصحوات» ضد دولة «القاعدة في العراق» إلى أن سقطت عاصمتها الأنبار عام 2007 وسقطت تمامًا عام 2008. بيد أن العيساوي نفى التهم ومنها أنه كان يفتي ضد «الصحوات»، وألف رسالة في اتهام العشائر وردّها عن مواجهة تنظيمات «القاعدة» بعنوان «العار على العشيرة» كما يذكر. ومما يذكره بعض المقربين أن «أبو محمد الجولاني»، زعيم «جبهة النصرة»، كان رفيقًا للعيساوي أثناء فترة سجنه، وأنه كان يسمي نفسه «أوس الموصلي» وأنه كانت مودة بينهما، ولذا رفض طلب «البغدادي» له بقتله كمهمة أولى في سوريا.
في أواسط عام 2005 بايع «أبو بكر البغدادي» العيساوي وانضم لتنظيمه «جيش المجاهدين»، وتلقى على يديه -كما يقول- عددًا من الدروس في الفقه، منها كتاب «زاد المستنقع»، إلا أن رأي العيساوي (أبو عبد الله المنصور) فيه سلبي، كما ذكر في كتابه، إذ رآه «غبيًا مفتقدًا للذكاء، وغير مؤهل للقيادة».
من جهة ثانية، المرجح أنه كانت بين الرجلين علاقة سابقة، فكلاهما كان عضوًا بجماعة الإخوان المسلمين، ثم تركها «البغدادي» منضما للمجموعات المتشددة والعنيفة، واستمر كلاهما معا فترة، ولكن بعد دخول العيساوي السجن عام 2006 أسس «البغدادي» مجموعة أخرى باسم «جيش السنة والجماعة» وانضم في يناير لـ«مجلس شورى المجاهدين» بقيادة «الزرقاوي» في يناير 2006، واستمر به المسار حتى بلغ رأس «القاعدة في العراق» وصار المدعو بالخلافة عندها.
لقد ذكر العيساوي في كتابه «الدولة الإسلامية بين الحقيقة والوهم»، كما سبقت الإشارة، أن البغدادي «سيئ الخلق، جاهل، ومن أهل الأهواء، محدود الذكاء، لا يصلح للقيادة أبدا، متكبّر.. وللفائدة أقول إن عمره في نهاية الثلاثينيات..» وجاء الرد الداعشي أنه ليس كذلك وأن ما بينهما في العمر عام واحد حسب مدونة داعشية.
ويبدو أن تأثير تنظيم «جيش المجاهدين» تراجع وتأخر كثيرًا بعد اعتقال العيساوي وصحوة «الزرقاوية» ومؤسساتها، من «مجلس شورى المجاهدين» إلى «دولة» تحكم بعض المناطق، فسافر مؤسسه إلى سوريا وأقام في عاصمتها دمشق ولبث هناك فترة. ثم عاد مستقرًا فيها حتى قبل الثورة بقليل، وكانت علاقته طيبة بـ«الجولاني» الذي صدمه «البغدادي» بأمره له بقتله. وحسب حذيفة عبد الله عزام نقلا عن «أبي عبد الله الحموي» فإن هذا القتل كان المهمة الأولى لـ«الجولاني» في سوريا!
وزاد الكراهية أن «أبو عبد الله المنصور» كان أول من انتقد «الخلافة» المزعومة التي أعلنها «البغدادي» بكتابه المذكور سابقا، عن خبرة شخصية بالخليفة التلميذ السابق، ثم بوعيه بغياب شرط التمكين وإجماع الأمة عنها وعنه.
إنه انقلاب «التلاميذ على الأساتذة»، و«قتل الأب» في المسار الآيديولوجي والراديكالي.
فعله الدواعش مع «القاعدة»، وفعلها منظروهم مع شيوخهم السابقين شأن «المقدسي» و«أبو قتادة» و«الحدوشي» وغيرهم. إذ لا بد من قتل الأب حتى يرث الابن كل شيء، رمزًا أو واقعًا، وخاصة إذا كان يمثل خطرًا على مستقبله.



ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
TT

ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)

عندما وصف رجل ألماني في شريط على «يوتيوب» سوسن شبلي، السياسية الألمانية الشابة من أصل فلسطيني، والتي تنتمي للحزب الاشتراكي الديمقراطي، بأنها: «دمية متحدثة باسم الإسلاميين»، ظنت أن محكمة ألمانية سترد لها حقها بعد «الإهانة» التي تعرضت لها، ولكنها فوجئت عندما حكمت المحكمة بأن هذه الصفة وغيرها من التي ألصقها بها الرجل، هي «ضمن حرية التعبير التي يصونها القانون الألماني»، وليست إهانة ولا تحريضاً على الكراهية.

في الواقع، لم تكن تلك المرة الأولى التي تتعرض لها شبلي لتوصيفات عنصرية كهذه. فهي وغيرها من السياسيين المسلمين القلائل في ألمانيا، والسياسي الأسود الوحيد كرامبا ديابي، معتادون على سماع كثير من الإهانات، بسبب ديانتهم ولونهم فقط؛ حتى أنهم يتلقون تهديدات عبر البريد الإلكتروني والاتصالات، تصل أحياناً لحد التهديد بالقتل.
ورغم أن هذه التهديدات التي يتعرض لها السياسيون المسلمون في ألمانيا تجلب لهم التضامن من بقية السياسيين الألمان، فإن أكثر من ذلك لا يُحدث الكثير.
في ألمانيا، تصنف السلطات ما يزيد على 12 ألف شخص على أنهم من اليمين المتطرف، ألف منهم عنيفون، وهناك خطر من أن ينفذوا اعتداءات داخل البلاد.
يشكل اليمينيون المتطرفون شبكات سرية، ويتواصلون عادة عبر الإنترنت، ويتبادلون الأحاديث داخل غرف الـ«تشات» الموجودة داخل الألعاب الإلكترونية، تفادياً للمراقبة.
وفي السنوات الماضية، ازداد عنف اليمين المتطرف في ألمانيا، وازداد معه عدد الجرائم التي يتهم أفراد متطرفون بارتكابها. وبحسب الاستخبارات الألمانية الداخلية، فإن اعتداءات اليمين المتطرف زادت خمسة أضعاف منذ عام 2012.
وفي دراسة لمعهد «البحث حول التطرف» في جامعة أوسلو، فإن ألمانيا على رأس لائحة الدول الأوروبية التي تشهد جرائم من اليمين المتطرف، وتتقدم على الدول الأخرى بفارق كبير جداً. فقد سجل المعهد حوالي 70 جريمة في هذا الإطار بين عامي 2016 و2018، بينما كانت اليونان الدولة الثانية بعدد جرائم يزيد بقليل عن العشرين في الفترة نفسها.
في الصيف الماضي، شكل اغتيال سياسي ألماني يدعى فالتر لوبكه، في حديقة منزله برصاصة أطلقت على رأسه من الخلف، صدمة في ألمانيا. كانت الصدمة مضاعفة عندما تبين أن القاتل هو يميني متطرف استهدف لوبكه بسبب سياسته المؤيدة للاجئين. وتحدث كثيرون حينها عن «صرخة يقظة» لأخذ خطر اليمين المتطرف بجدية. ودفن لوبكه ولم يحدث الكثير بعد ذلك.
فيما بعد اغتياله بأشهر، اعتقل رجل يميني متطرف في ولاية هسن، الولاية نفسها التي اغتيل فيها السياسي، بعد أن قتل شخصين وهو يحاول الدخول إلى معبد لليهود، أثناء وجود المصلين في الداخل بهدف ارتكاب مجزرة. أحدثت تلك المحاولة صرخة كبيرة من الجالية اليهودية، وعادت أصوات السياسيين لتعلو: «لن نسمح بحدوثها مطلقاً مرة أخرى»، في إشارة إلى ما تعرض له اليهود في ألمانيا أيام النازية. ولكن لم يحدث الكثير بعد ذلك.
وقبل بضعة أيام، وقعت مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة في مدينة هاناو في الولاية نفسها، استهدفا من قبل يميني متطرف لأن من يرتادهما من المسلمين. أراد الرجل أن يقتل مسلمين بحسب رسالة وشريط فيديو خلَّفه وراءه بعد أن قتل 9 أشخاص، ثم توجه إلى منزله ليقتل والدته، ثم نفسه. أسوأ من ذلك، تبين أن الرجل كان يحمل سلاحاً مرخصاً، وينتمي لنادي الرماية المحلي.
بات واضحاً بعد استهداف هاناو، أن السلطات الألمانية لم تولِ اليمين المتطرف اهتماماً كافياً، وأنها لا تقدر حقيقة خطره على المجتمع، رغم أنها كشفت قبل أيام من جريمة هاناو عن شبكة يمينية متطرفة، كانت تعد لاعتداءات على مساجد في أنحاء البلاد، أسوة بما حصل في كرايستشيرش في نيوزيلندا.
وجاء الرد على اعتداء هاناو بتشديد منح رخص السلاح، وبات ضرورياً البحث في خلفية من يطلب ترخيصاً، على أن يرفض طلبه في حال ثبت أنه ينتمي لأي مجموعة متطرفة، ويمكن سحب الترخيص لاحقاً في حال ظهرت معلومات جديدة لم تكن متوفرة عند منحه. كما يبحث وزراء داخلية الولايات الألمانية تأمين حماية للمساجد وللتجمعات الدينية للمسلمين واليهود.
ولكن كل هذه الإجراءات يعتقد البعض أنها لا تعالج المشكلة الأساسية التي تدفع باليمين المتطرف لارتكاب أعمال عنف. وفي كل مرة تشهد ألمانيا اعتداءات، يوجه سياسيون من اليسار الاتهامات لحزب «البديل لألمانيا» اليميني المتطرف، بالمسؤولية عنها بشكل غير مباشر. ويواجه الحزب الذي دخل البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) للمرة الأولى عام 2018، وبات أكبر كتلة معارضة، اتهامات بأنه «يطبِّع سياسة الكراهية»، وبأنه يحرض على العنف ضد اللاجئين والمهاجرين، من خلال ترويجه لخطاب الكراهية. وحتى أن البعض ذهب أبعد من ذلك بالدعوة إلى حظر الحزب للتصدي للعنف المتزايد لليمين المتطرف.
والواقع أن مشكلة اليمين المتطرف تزداد منذ أن دخل «البديل لألمانيا» إلى «البوندستاغ». فهو - كما حملته الانتخابية - يركز خطابه على مواجهة سياسة اللاجئين التي اعتمدتها حكومة المستشارة أنجيلا ميركل. وكثير من الأسئلة التي يتقدم بها نوابه في البرلمان تهدف لإثبات خطأ هذه السياسة، وعدم قدرة اللاجئين على الاندماج. ورغم أن نوابه في البرلمان يحرصون على عدم تخطي القانون في خطاباتهم، فإن كثيراً من السياسيين المنتمين لهذا الحزب؛ خصوصاً في الولايات الشرقية، لا يترددون في الحديث بلغة لا يمكن تمييزها عن لغة النازيين. أبرز هؤلاء السياسيين بيورغ هوكيه الذي لم يستطع أعضاء في حزبه تمييز ما إذا كانت جمل قرأها صحافي لهم، هي مقتطفات من كتاب «كفاحي» لهتلر، أم أنها أقوال لهوكيه.
كل هذا خلق أجواء سلبية ضد المسلمين في ألمانيا، وحوَّل كثيرين من الذين ولدوا لأبوين مهاجرين إلى غرباء في بلدهم. في هاناو، يقول كثيرون من الذين فقدوا أصدقاءهم في المجزرة، بأنهم لم يعودوا يشعرون بالأمان، ولا بأنهم جزء مقبول من المجتمع. وبعضهم يرى أنه ما دام حزب «البديل لألمانيا» مقبولاً بين الأحزاب الأخرى، فإن خطاب الكراهية سيستمر، والجرائم كالتي حصلت في هاناو ستتكرر.
ما يزيد من هذه المخاوف ومن الشبهات، أن السلطات الألمانية لم تأخذ خطر اليمين المتطرف على محمل الجد طوال السنوات الماضية. وهناك فضائح متتالية داخل المؤسسات الأمنية تظهر أنها مليئة بمؤيدين أو متعاطفين مع اليمين المتطرف؛ خصوصاً داخل الشرطة والجيش. ويواجه رئيس المخابرات الداخلية السابق هانس يورغ ماسن اتهامات بأنه متعاطف مع اليمين المتطرف، وهو ما دفع جهازه لغض النظر عن تحركاتهم طوال السنوات الماضية، والتركيز عوضاً عن ذلك على خطر الإسلام المتطرف. ومنذ مغادرته المنصب، أصدرت المخابرات الداخلية تقييماً تقول فيه بأن خطر اليمين المتطرف بات أكبر من خطر الإسلام المتطرف في ألمانيا.
وطُرد ماسن الذي ينتمي للجناح المتطرف في حزب ميركل (الاتحاد المسيحي الديمقراطي) من منصبه، بعد اعتداءات كيمنتس في صيف عام 2018، بسبب رد فعله على التطورات هناك. وعارض ماسن ميركل في قولها بأن شريط فيديو من هناك أظهر ملاحقة نازيين جدد للاجئين، شتماً وضرباً. وخرج ماسن ليقول بأنه لم يتم التثبت من الشريط بعد، ويشكك في وجود نازيين جدد هناك. وكانت تظاهرات كبيرة قد خرجت ضد لاجئين في كيمنتس، بعد جريمة قتل ارتكبها لاجئان (عراقي وسوري) بحق أحد سكان البلدة.
وتعرض كذلك لانتقادات بعد جريمة هاناو لقوله بأن الرجل يعاني من اضطرابات عقلية، وهو الخط نفسه الذي اتخذه حزب «البديل لألمانيا» عندما رفض طبع المجرم بأنه يميني متطرف؛ خصوصاً أن الأخير تحدث في شريط الفيديو عن «التخلص» من جنسيات معينة من دول عربية ومسلمة.
ويعيد ماسن صعود عنف اليمين المتطرف لموجة اللجوء منذ عام 2015، إلا أن ألمانيا شهدت عمليات قتل وملاحقات عنصرية قبل موجة اللجوء تلك. ففي عام 2011 كشف عن شبكة من النازيين الجدد عملت بالسر طوال أكثر من 12 عاماً، من دون أن يكشف أمرها، ما سبب صدمة كبيرة في البلاد. ونجح أفراد هذه الشبكة في قتل تسعة مهاجرين لأسباب عنصرية بين عامي 2000 و2007، إضافة إلى تنفيذهم 43 محاولة قتل، و3 عمليات تفجير، و15 عملية سرقة.
وقبل اكتشاف الخلية، كانت الشرطة تستبعد أن تكون عمليات القتل ومحاولات القتل تلك تتم بدوافع عنصرية، رغم أن جميع المستهدفين هم من أصول مهاجرة. وعوضاً عن ذلك، كانت التخمينات بأن الاستهدافات تلك لها علاقة بالجريمة المنظمة والمافيات التركية.
ورغم أن الكشف عن ارتباط هذه الجرائم باليمين المتطرف زاد الوعي الألماني لخطر هذه الجماعات، وأطلق نقاشات في الصحافة والمجتمع والطبقة السياسية، فإن التعاطي مع الجرائم التي لحقت، والتي اشتبه بأن اليمين المتطرف وراءها، لم يكن تعاطياً يحمل كثيراً من الجدية.