مع أن «أبو عبد الله المنصور»، الملقّب بـ«أمير جيش المجاهدين»، كان أول مَن استقبل «أبو مصعب الزرقاوي» في العراق عام 2003 ومَن قدمه لجماعته، كما أن تنظيمه هو أول تنظيم انضم له «البغدادي» وبايعه أواسط عام 2005 وتلقّى عنه خلال هذا العام، فإنه كان سببا رئيسيًا في خلاف تلميذه السابق «أبو بكر البغدادي» - أمير تنظيم داعش فيما بعد - مع «أبو محمد الجولاني» أمير «جبهة النصرة»، حين طلب الأول من الأخير قتله في سوريا وتباطأ، ثم رفض مبررا ذلك بأن شيوخ «القاعدة» لا يكفّرونه، فكان فصم العلاقة بين «داعش» و«النصرة»، ومن ثم بين «داعش» وأصله «القاعدة» وقادتها.
لكن لماذا «أبو عبد الله المنصور» تحديدًا؟ ولماذا أصرّ زعيم تنظيم داعش وأميرها على قتله رغم أنه كان أميرا عليه وأستاذا له، ويشهد له وأنصاره بـ«العلم الشرعي» و«سابقة الجهاد» فضلاً عن أنه من استقبل شيخهم «أبو مصعب الزرقاوي» (توفي عام 2006) في العراق عام 2003 وقدّمه لهم وعرّفه على سائر الفصائل الراديكالية؟ ولماذا كان «أبو عبد الله المنصور» أول من كتب ضد ما أعلنته «داعش» من خلافة ودولة في كتابه «الدولة الإسلامية بين الحقيقة والوهم» وكيف كانت ردود الدواعش عليه.
الاسم الحقيقي لـ«أبو عبد الله المنصور» هو محمد حردان العيساوي، وهو الذي أسّس «جيش المجاهدين في العراق» عام 2003 بعد حرب العراق، وله كنية ثانية هي «أبو سعيد العراقي». وعنه يقول عارفوه إنه كان قياديا معروفًا في تنظيم الإخوان المسلمين العراقي، إلا أنه غادر إلى أفغانستان للقتال مع الجماعات المتشدّدة هناك وعاد في بداية التسعينيات بميول راديكالية واضحة. ومن ثم، خرج من التنظيم الإخواني في العراق، مؤسّسًا تنظيمه في هذا التاريخ. واتهامًا له يصفه الدواعش بأنه من «سروريي العراق» وأحيانًا بأنه من «الصحوات» وغير ذلك مما يرونه تهما، ويتهمونه بالذات في علاقته بـ«الصحوات» والراحل حارث الضاري.
غير أنه مع هذا لم ينكر الدواعش دوره ومكانته الشرعية عند الجماعات المتشدّدة في العراق، كذلك لم ينكر منظّر «داعش» وفقيهه المهم «أبو الحسن الأزدي»، الذي نظنه صاحب دعوة حرق الطيار الأردني معاذ الكساسبة، مكانة العيساوي وعلمه في رده عليه - لكن من دون أن يسميه - في رده على كتابه المذكور الذي عنونه بـ«توبيخ الغالطين على إمام الحرمين». إذ يقول: «ثم إني وقفت على رسالة سماها صاحبها (الدولة الإسلامية بين الحقيقة والوهم)، فألفيتُ عمادها مقامًا على غلط ينتظم أمر الشرع والقدر في أغلاط أخر، قد يهيئ الله بيانها، إلا أن صاحبها قد نبأ عن الكثير من سقطات الأول، وأحسن إقامة الحرف، وإن كان لم يقملب رسالته إلا على شفا جرف».
لكن خصومه وعناصر «داعش» دأبوا على اتهام العيساوي بالغرور والذاتية وتذبذب المواقف والفتاوى والغيرة من «الزرقاوي». ولكن التهمة الأخطر كانت اتهامه بالسقوط والخيانة، وأنه خرج من السجن عام 2007 بصفقة مع الأميركان والحكومة العراقية، لضرب «القاعدة» و«دولتها» حينئذ، وأنه استمر توظيفه حربا على «الزرقاوي» ثم قادة «القاعدة في العراق» حتى «البغدادي»، وأنه شارك في هذه الصفقة مع العيساوي مسؤول الهيئة الشرعية لـ«أنصار الإسلام» (سعدون القاضي) وبالفعل انشقّ الأخير عن «الأنصار» وانضم إلى المجلس السياسي للمقاومة العراقية، الذي كان يمثل «الصحوات»، حسب أحد مؤرخي «داعش» من عناصر «جيش المجاهدين» السابقين.
«الزرقاوي» وانقلاب العلاقة
في عام 2003، كما سبقت الإشارة، استقبل العيساوي «أبو مصعب الزرقاوي» في العراق، كما قدّمه لتنظيمه وعرفه بسائر المقاتلين المتشددين هناك، وأثنى عليه واعتبره حينها نصرة أو «رجلا من السماء»، لكنه بعد فترة ظهر الخلاف بينهما متهمًا إياه بالتشدد والغلو.
وبالفعل، أقام «الزرقاوي» في بيت العيساوي لمدة طويلة، ولكن مع الوقت دبّ الخلاف بين الرجلين في مسألتين رئيسيتين، هما:
أولا: تكفير الشرطة العراقية: إذ رفض العيساوي تكفير الشرطة، بينما منهج «الزرقاوي» منذ البداية كان اعتبار رجال الشرطة مرتدين.
ثانيا: تكفير عوام الشيعة: رفض العيساوي تكفير عوام الشيعة، وكان ذلك موقف شيخ «الزرقاوي» السابق أيضًا «أبو محمد المقدسي» وعدد من شيوخ «القاعدة»، القائل بتكفير علمائهم وسادتهم فقط دون عوامهم، على عكس ما ذهب إليه «الزرقاوي» ومن بعده قادة «القاعدة في العراق» من تكفير عوامهم وقتالهم.
ومما كان يأخذه أنصار «الزرقاوي» على العيساوي (أبو عبد الله المنصور) ضعف القيادة وارتباك وتذبذب الفتوى عنده، فأحيانًا كان يرفض منهم استهداف حسينيات الشيعة، لكنه سمح بها لعناصر تنظيمه. وكما يروى أحد أنصار «داعش» أنه استفتاه أحد أتباعه في ضرب حسينيات الشيعة، فكان جوابه «اضربوها ولا تستفتوني بهذه الأمور، فأنا لا أرى قتل عوام الروافض (الشيعة)».
في ضوء ما تقدم رمى العيساوي لهذه الأسباب وغيرها «الزرقاوي» بالتشدد والغلو، ولقد وجه رسائل متتالية لزعيم «القاعدة» الراحل أسامة بن لادن وكذلك لخلفه أيمن الظواهري شاكيًا منه، ومطالبا إياهما بالتدخل لوقف غلوه وتشدده، منها تلك الرسالة في أبوت آباد -غير مؤرخة وغير موقعة- التي تضمنت عتابا لبن لادن وقادة «القاعدة» على اختزال واختصار المتشددين في العراق بـ«أبي مصعب الزرقاوي» دون غيره، وقال فيها إن هذا مخالف لخريطة «القوى الجهادية» في العراق، كما انتقد لبن لادن وقادة «القاعدة» على وقوفهم وصمتهم على «تكفير المخالف واستباحة دمه» كما يفعل «الزرقاوية» معتبرًا هذا النهج المتطرف مخالفًا لمذهب أهل السنة. وهذا الأمر كرره العيساوي (أبو عبد الله المنصور) في نقده لـ«داعش» فيما بعد، وكما انتقد أنصار «الزرقاوي» إعلانهم «دولة العراق الإسلامية» المزعومة رغم عدم وجود التمكين، كان هذا الشرط -أي عدم وجود التمكين- هو نفسه الذي كرّره في نقده «داعش» و«خلافتها» المزعومة عام 2013، ورد عليه فيه «أبو الحسن الأزدي» وغيره.
ومن ثم، بعد انقلاب العلاقة وتحوّلها من التقدير إلى الاتهامات المتبادلة، ظلت علاقة العيساوي بـ«الزرقاوي» سيئة حتى مقتل الأخير في يونيو (حزيران) 2006. كما ظلت كذلك مع من خلفائه على رأس «القاعدة في العراق» وفي مقدمتهم «أبو عمر البغدادي» و«أبو حمزة المهاجر» (قتلا عام 2010) الذي كان يراهم أكثر غلوًا وتطرّفًا واستحلالاً للدماء منه، وأنهم محكومون بالتأويلات والرؤى. وهنا يروي «أبو عبد الله المنصور» في كتابه «الدولة الإسلامية بين الحقيقة والوهم» أن «أبو حمزة المهاجر» كان «يخاطب الحاضرين معه بأنه أعد منبر المهدي ليستعد للصعود عليه معلنا دولة الإسلام في آخر الزمان!». ومن ثم يقول: «هكذا كان مستوى قادة (القاعدة) في العراق وهكذا كانت عقولهم..»، واستمر الاستخفاف بخلفاء «الزرقاوي» حتى الوصول إلى «البغدادي» التلميذ السابق والأمير الحالي الذي يطلب رأسه.
لم ينضم «أبو عبد الله المنصور» أو محمد حردان العيساوي وتنظيمه إلى «مجلس شورى المجاهدين» الذي أسّسه «الزرقاوي» في يناير (كانون الثاني) 2006، كما أنه لم يشهد ما أعلنه من «دولة العراق الإسلامية» في أكتوبر (تشرين الأول) من العام نفسه، وظل على خلافه مع «الزرقاوي» رغم تعاطفه مع «القاعدة». ثم توجّه العيساوي بعد خروجه من السجن عام 2007 إلى سوريا لفترة، وشارك بتنظيمه «جيش المجاهدين» -حسب رواية «القاعدة»- في جيوش ومجالس «الصحوات» ضد دولة «القاعدة في العراق» إلى أن سقطت عاصمتها الأنبار عام 2007 وسقطت تمامًا عام 2008. بيد أن العيساوي نفى التهم ومنها أنه كان يفتي ضد «الصحوات»، وألف رسالة في اتهام العشائر وردّها عن مواجهة تنظيمات «القاعدة» بعنوان «العار على العشيرة» كما يذكر. ومما يذكره بعض المقربين أن «أبو محمد الجولاني»، زعيم «جبهة النصرة»، كان رفيقًا للعيساوي أثناء فترة سجنه، وأنه كان يسمي نفسه «أوس الموصلي» وأنه كانت مودة بينهما، ولذا رفض طلب «البغدادي» له بقتله كمهمة أولى في سوريا.
في أواسط عام 2005 بايع «أبو بكر البغدادي» العيساوي وانضم لتنظيمه «جيش المجاهدين»، وتلقى على يديه -كما يقول- عددًا من الدروس في الفقه، منها كتاب «زاد المستنقع»، إلا أن رأي العيساوي (أبو عبد الله المنصور) فيه سلبي، كما ذكر في كتابه، إذ رآه «غبيًا مفتقدًا للذكاء، وغير مؤهل للقيادة».
من جهة ثانية، المرجح أنه كانت بين الرجلين علاقة سابقة، فكلاهما كان عضوًا بجماعة الإخوان المسلمين، ثم تركها «البغدادي» منضما للمجموعات المتشددة والعنيفة، واستمر كلاهما معا فترة، ولكن بعد دخول العيساوي السجن عام 2006 أسس «البغدادي» مجموعة أخرى باسم «جيش السنة والجماعة» وانضم في يناير لـ«مجلس شورى المجاهدين» بقيادة «الزرقاوي» في يناير 2006، واستمر به المسار حتى بلغ رأس «القاعدة في العراق» وصار المدعو بالخلافة عندها.
لقد ذكر العيساوي في كتابه «الدولة الإسلامية بين الحقيقة والوهم»، كما سبقت الإشارة، أن البغدادي «سيئ الخلق، جاهل، ومن أهل الأهواء، محدود الذكاء، لا يصلح للقيادة أبدا، متكبّر.. وللفائدة أقول إن عمره في نهاية الثلاثينيات..» وجاء الرد الداعشي أنه ليس كذلك وأن ما بينهما في العمر عام واحد حسب مدونة داعشية.
ويبدو أن تأثير تنظيم «جيش المجاهدين» تراجع وتأخر كثيرًا بعد اعتقال العيساوي وصحوة «الزرقاوية» ومؤسساتها، من «مجلس شورى المجاهدين» إلى «دولة» تحكم بعض المناطق، فسافر مؤسسه إلى سوريا وأقام في عاصمتها دمشق ولبث هناك فترة. ثم عاد مستقرًا فيها حتى قبل الثورة بقليل، وكانت علاقته طيبة بـ«الجولاني» الذي صدمه «البغدادي» بأمره له بقتله. وحسب حذيفة عبد الله عزام نقلا عن «أبي عبد الله الحموي» فإن هذا القتل كان المهمة الأولى لـ«الجولاني» في سوريا!
وزاد الكراهية أن «أبو عبد الله المنصور» كان أول من انتقد «الخلافة» المزعومة التي أعلنها «البغدادي» بكتابه المذكور سابقا، عن خبرة شخصية بالخليفة التلميذ السابق، ثم بوعيه بغياب شرط التمكين وإجماع الأمة عنها وعنه.
إنه انقلاب «التلاميذ على الأساتذة»، و«قتل الأب» في المسار الآيديولوجي والراديكالي.
فعله الدواعش مع «القاعدة»، وفعلها منظروهم مع شيوخهم السابقين شأن «المقدسي» و«أبو قتادة» و«الحدوشي» وغيرهم. إذ لا بد من قتل الأب حتى يرث الابن كل شيء، رمزًا أو واقعًا، وخاصة إذا كان يمثل خطرًا على مستقبله.
داعش: انقلاب «التلميذ» على «الأستاذ»
لماذا أحلّ «البغدادي» دم أميره وشيخه السابق «أبو عبد الله المنصور»؟
داعش: انقلاب «التلميذ» على «الأستاذ»
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة