داعش: انقلاب «التلميذ» على «الأستاذ»

لماذا أحلّ «البغدادي» دم أميره وشيخه السابق «أبو عبد الله المنصور»؟

صورة للبغدادي أخذت له في الموصل في يوليو الماضي («غيتي»)
صورة للبغدادي أخذت له في الموصل في يوليو الماضي («غيتي»)
TT

داعش: انقلاب «التلميذ» على «الأستاذ»

صورة للبغدادي أخذت له في الموصل في يوليو الماضي («غيتي»)
صورة للبغدادي أخذت له في الموصل في يوليو الماضي («غيتي»)

مع أن «أبو عبد الله المنصور»، الملقّب بـ«أمير جيش المجاهدين»، كان أول مَن استقبل «أبو مصعب الزرقاوي» في العراق عام 2003 ومَن قدمه لجماعته، كما أن تنظيمه هو أول تنظيم انضم له «البغدادي» وبايعه أواسط عام 2005 وتلقّى عنه خلال هذا العام، فإنه كان سببا رئيسيًا في خلاف تلميذه السابق «أبو بكر البغدادي» - أمير تنظيم داعش فيما بعد - مع «أبو محمد الجولاني» أمير «جبهة النصرة»، حين طلب الأول من الأخير قتله في سوريا وتباطأ، ثم رفض مبررا ذلك بأن شيوخ «القاعدة» لا يكفّرونه، فكان فصم العلاقة بين «داعش» و«النصرة»، ومن ثم بين «داعش» وأصله «القاعدة» وقادتها.
لكن لماذا «أبو عبد الله المنصور» تحديدًا؟ ولماذا أصرّ زعيم تنظيم داعش وأميرها على قتله رغم أنه كان أميرا عليه وأستاذا له، ويشهد له وأنصاره بـ«العلم الشرعي» و«سابقة الجهاد» فضلاً عن أنه من استقبل شيخهم «أبو مصعب الزرقاوي» (توفي عام 2006) في العراق عام 2003 وقدّمه لهم وعرّفه على سائر الفصائل الراديكالية؟ ولماذا كان «أبو عبد الله المنصور» أول من كتب ضد ما أعلنته «داعش» من خلافة ودولة في كتابه «الدولة الإسلامية بين الحقيقة والوهم» وكيف كانت ردود الدواعش عليه.
الاسم الحقيقي لـ«أبو عبد الله المنصور» هو محمد حردان العيساوي، وهو الذي أسّس «جيش المجاهدين في العراق» عام 2003 بعد حرب العراق، وله كنية ثانية هي «أبو سعيد العراقي». وعنه يقول عارفوه إنه كان قياديا معروفًا في تنظيم الإخوان المسلمين العراقي، إلا أنه غادر إلى أفغانستان للقتال مع الجماعات المتشدّدة هناك وعاد في بداية التسعينيات بميول راديكالية واضحة. ومن ثم، خرج من التنظيم الإخواني في العراق، مؤسّسًا تنظيمه في هذا التاريخ. واتهامًا له يصفه الدواعش بأنه من «سروريي العراق» وأحيانًا بأنه من «الصحوات» وغير ذلك مما يرونه تهما، ويتهمونه بالذات في علاقته بـ«الصحوات» والراحل حارث الضاري.
غير أنه مع هذا لم ينكر الدواعش دوره ومكانته الشرعية عند الجماعات المتشدّدة في العراق، كذلك لم ينكر منظّر «داعش» وفقيهه المهم «أبو الحسن الأزدي»، الذي نظنه صاحب دعوة حرق الطيار الأردني معاذ الكساسبة، مكانة العيساوي وعلمه في رده عليه - لكن من دون أن يسميه - في رده على كتابه المذكور الذي عنونه بـ«توبيخ الغالطين على إمام الحرمين». إذ يقول: «ثم إني وقفت على رسالة سماها صاحبها (الدولة الإسلامية بين الحقيقة والوهم)، فألفيتُ عمادها مقامًا على غلط ينتظم أمر الشرع والقدر في أغلاط أخر، قد يهيئ الله بيانها، إلا أن صاحبها قد نبأ عن الكثير من سقطات الأول، وأحسن إقامة الحرف، وإن كان لم يقملب رسالته إلا على شفا جرف».
لكن خصومه وعناصر «داعش» دأبوا على اتهام العيساوي بالغرور والذاتية وتذبذب المواقف والفتاوى والغيرة من «الزرقاوي». ولكن التهمة الأخطر كانت اتهامه بالسقوط والخيانة، وأنه خرج من السجن عام 2007 بصفقة مع الأميركان والحكومة العراقية، لضرب «القاعدة» و«دولتها» حينئذ، وأنه استمر توظيفه حربا على «الزرقاوي» ثم قادة «القاعدة في العراق» حتى «البغدادي»، وأنه شارك في هذه الصفقة مع العيساوي مسؤول الهيئة الشرعية لـ«أنصار الإسلام» (سعدون القاضي) وبالفعل انشقّ الأخير عن «الأنصار» وانضم إلى المجلس السياسي للمقاومة العراقية، الذي كان يمثل «الصحوات»، حسب أحد مؤرخي «داعش» من عناصر «جيش المجاهدين» السابقين.
«الزرقاوي» وانقلاب العلاقة
في عام 2003، كما سبقت الإشارة، استقبل العيساوي «أبو مصعب الزرقاوي» في العراق، كما قدّمه لتنظيمه وعرفه بسائر المقاتلين المتشددين هناك، وأثنى عليه واعتبره حينها نصرة أو «رجلا من السماء»، لكنه بعد فترة ظهر الخلاف بينهما متهمًا إياه بالتشدد والغلو.
وبالفعل، أقام «الزرقاوي» في بيت العيساوي لمدة طويلة، ولكن مع الوقت دبّ الخلاف بين الرجلين في مسألتين رئيسيتين، هما:
أولا: تكفير الشرطة العراقية: إذ رفض العيساوي تكفير الشرطة، بينما منهج «الزرقاوي» منذ البداية كان اعتبار رجال الشرطة مرتدين.
ثانيا: تكفير عوام الشيعة: رفض العيساوي تكفير عوام الشيعة، وكان ذلك موقف شيخ «الزرقاوي» السابق أيضًا «أبو محمد المقدسي» وعدد من شيوخ «القاعدة»، القائل بتكفير علمائهم وسادتهم فقط دون عوامهم، على عكس ما ذهب إليه «الزرقاوي» ومن بعده قادة «القاعدة في العراق» من تكفير عوامهم وقتالهم.
ومما كان يأخذه أنصار «الزرقاوي» على العيساوي (أبو عبد الله المنصور) ضعف القيادة وارتباك وتذبذب الفتوى عنده، فأحيانًا كان يرفض منهم استهداف حسينيات الشيعة، لكنه سمح بها لعناصر تنظيمه. وكما يروى أحد أنصار «داعش» أنه استفتاه أحد أتباعه في ضرب حسينيات الشيعة، فكان جوابه «اضربوها ولا تستفتوني بهذه الأمور، فأنا لا أرى قتل عوام الروافض (الشيعة)».
في ضوء ما تقدم رمى العيساوي لهذه الأسباب وغيرها «الزرقاوي» بالتشدد والغلو، ولقد وجه رسائل متتالية لزعيم «القاعدة» الراحل أسامة بن لادن وكذلك لخلفه أيمن الظواهري شاكيًا منه، ومطالبا إياهما بالتدخل لوقف غلوه وتشدده، منها تلك الرسالة في أبوت آباد -غير مؤرخة وغير موقعة- التي تضمنت عتابا لبن لادن وقادة «القاعدة» على اختزال واختصار المتشددين في العراق بـ«أبي مصعب الزرقاوي» دون غيره، وقال فيها إن هذا مخالف لخريطة «القوى الجهادية» في العراق، كما انتقد لبن لادن وقادة «القاعدة» على وقوفهم وصمتهم على «تكفير المخالف واستباحة دمه» كما يفعل «الزرقاوية» معتبرًا هذا النهج المتطرف مخالفًا لمذهب أهل السنة. وهذا الأمر كرره العيساوي (أبو عبد الله المنصور) في نقده لـ«داعش» فيما بعد، وكما انتقد أنصار «الزرقاوي» إعلانهم «دولة العراق الإسلامية» المزعومة رغم عدم وجود التمكين، كان هذا الشرط -أي عدم وجود التمكين- هو نفسه الذي كرّره في نقده «داعش» و«خلافتها» المزعومة عام 2013، ورد عليه فيه «أبو الحسن الأزدي» وغيره.
ومن ثم، بعد انقلاب العلاقة وتحوّلها من التقدير إلى الاتهامات المتبادلة، ظلت علاقة العيساوي بـ«الزرقاوي» سيئة حتى مقتل الأخير في يونيو (حزيران) 2006. كما ظلت كذلك مع من خلفائه على رأس «القاعدة في العراق» وفي مقدمتهم «أبو عمر البغدادي» و«أبو حمزة المهاجر» (قتلا عام 2010) الذي كان يراهم أكثر غلوًا وتطرّفًا واستحلالاً للدماء منه، وأنهم محكومون بالتأويلات والرؤى. وهنا يروي «أبو عبد الله المنصور» في كتابه «الدولة الإسلامية بين الحقيقة والوهم» أن «أبو حمزة المهاجر» كان «يخاطب الحاضرين معه بأنه أعد منبر المهدي ليستعد للصعود عليه معلنا دولة الإسلام في آخر الزمان!». ومن ثم يقول: «هكذا كان مستوى قادة (القاعدة) في العراق وهكذا كانت عقولهم..»، واستمر الاستخفاف بخلفاء «الزرقاوي» حتى الوصول إلى «البغدادي» التلميذ السابق والأمير الحالي الذي يطلب رأسه.
لم ينضم «أبو عبد الله المنصور» أو محمد حردان العيساوي وتنظيمه إلى «مجلس شورى المجاهدين» الذي أسّسه «الزرقاوي» في يناير (كانون الثاني) 2006، كما أنه لم يشهد ما أعلنه من «دولة العراق الإسلامية» في أكتوبر (تشرين الأول) من العام نفسه، وظل على خلافه مع «الزرقاوي» رغم تعاطفه مع «القاعدة». ثم توجّه العيساوي بعد خروجه من السجن عام 2007 إلى سوريا لفترة، وشارك بتنظيمه «جيش المجاهدين» -حسب رواية «القاعدة»- في جيوش ومجالس «الصحوات» ضد دولة «القاعدة في العراق» إلى أن سقطت عاصمتها الأنبار عام 2007 وسقطت تمامًا عام 2008. بيد أن العيساوي نفى التهم ومنها أنه كان يفتي ضد «الصحوات»، وألف رسالة في اتهام العشائر وردّها عن مواجهة تنظيمات «القاعدة» بعنوان «العار على العشيرة» كما يذكر. ومما يذكره بعض المقربين أن «أبو محمد الجولاني»، زعيم «جبهة النصرة»، كان رفيقًا للعيساوي أثناء فترة سجنه، وأنه كان يسمي نفسه «أوس الموصلي» وأنه كانت مودة بينهما، ولذا رفض طلب «البغدادي» له بقتله كمهمة أولى في سوريا.
في أواسط عام 2005 بايع «أبو بكر البغدادي» العيساوي وانضم لتنظيمه «جيش المجاهدين»، وتلقى على يديه -كما يقول- عددًا من الدروس في الفقه، منها كتاب «زاد المستنقع»، إلا أن رأي العيساوي (أبو عبد الله المنصور) فيه سلبي، كما ذكر في كتابه، إذ رآه «غبيًا مفتقدًا للذكاء، وغير مؤهل للقيادة».
من جهة ثانية، المرجح أنه كانت بين الرجلين علاقة سابقة، فكلاهما كان عضوًا بجماعة الإخوان المسلمين، ثم تركها «البغدادي» منضما للمجموعات المتشددة والعنيفة، واستمر كلاهما معا فترة، ولكن بعد دخول العيساوي السجن عام 2006 أسس «البغدادي» مجموعة أخرى باسم «جيش السنة والجماعة» وانضم في يناير لـ«مجلس شورى المجاهدين» بقيادة «الزرقاوي» في يناير 2006، واستمر به المسار حتى بلغ رأس «القاعدة في العراق» وصار المدعو بالخلافة عندها.
لقد ذكر العيساوي في كتابه «الدولة الإسلامية بين الحقيقة والوهم»، كما سبقت الإشارة، أن البغدادي «سيئ الخلق، جاهل، ومن أهل الأهواء، محدود الذكاء، لا يصلح للقيادة أبدا، متكبّر.. وللفائدة أقول إن عمره في نهاية الثلاثينيات..» وجاء الرد الداعشي أنه ليس كذلك وأن ما بينهما في العمر عام واحد حسب مدونة داعشية.
ويبدو أن تأثير تنظيم «جيش المجاهدين» تراجع وتأخر كثيرًا بعد اعتقال العيساوي وصحوة «الزرقاوية» ومؤسساتها، من «مجلس شورى المجاهدين» إلى «دولة» تحكم بعض المناطق، فسافر مؤسسه إلى سوريا وأقام في عاصمتها دمشق ولبث هناك فترة. ثم عاد مستقرًا فيها حتى قبل الثورة بقليل، وكانت علاقته طيبة بـ«الجولاني» الذي صدمه «البغدادي» بأمره له بقتله. وحسب حذيفة عبد الله عزام نقلا عن «أبي عبد الله الحموي» فإن هذا القتل كان المهمة الأولى لـ«الجولاني» في سوريا!
وزاد الكراهية أن «أبو عبد الله المنصور» كان أول من انتقد «الخلافة» المزعومة التي أعلنها «البغدادي» بكتابه المذكور سابقا، عن خبرة شخصية بالخليفة التلميذ السابق، ثم بوعيه بغياب شرط التمكين وإجماع الأمة عنها وعنه.
إنه انقلاب «التلاميذ على الأساتذة»، و«قتل الأب» في المسار الآيديولوجي والراديكالي.
فعله الدواعش مع «القاعدة»، وفعلها منظروهم مع شيوخهم السابقين شأن «المقدسي» و«أبو قتادة» و«الحدوشي» وغيرهم. إذ لا بد من قتل الأب حتى يرث الابن كل شيء، رمزًا أو واقعًا، وخاصة إذا كان يمثل خطرًا على مستقبله.



«حزب الله»... خلايا قائمة وقادمة

متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي  (أ.ب)
متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي (أ.ب)
TT

«حزب الله»... خلايا قائمة وقادمة

متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي  (أ.ب)
متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي (أ.ب)

قبل نحو شهر تقريباً أدرجت السلطات البريطانية جماعة «حزب الله» بمؤسساتها المختلفة السياسية والعسكرية كمنظمة إرهابية، ومن قبلها مضت ألمانيا في الطريق عينه، الأمر الذي دفع المراقبين لشأن الميليشيات اللبنانية الجنسية الإيرانية الولاء والانتماء للتساؤل: «ما الجديد الذي جعل الأوروبيين يتصرفون على هذا النحو؟»

الشاهد أن الأمر لا يقتصر فقط على الجانب الأوروبي، بل أيضاً تبدو الولايات المتحدة الأميركية في حالة تأهب غير مسبوقة، وسباق مع الزمن في طريق مواجهة الخلايا النائمة «لحزب الله» على أراضيها، ناهيك عن تلك المنتشرة في الفناء اللوجيستي الخلفي، لها أي في أميركا اللاتينية.
غير أن الجديد والذي دفع جانبي الأطلسي لإعلان مواجهة شاملة لميليشيات «حزب الله» هو ما توفر لأجهزة الاستخبارات الغربية، والشرقية الآسيوية أيضاً، لا سيما تلك التي ترتبط بعلاقات تبادل أمني مع بروكسل وواشنطن، من معلومات تفيد بأن «حزب الله» ينسج خيوطاً إرهابية جديدة في دول أوروبية وأميركية وآسيوية، من أجل الاستعداد للمواجهة القادمة حكماً في تقديره بين طهران والغرب.
ليس من الجديد القول إن ميليشيات «حزب الله» هي أحد أذرع الإيرانيين الإرهابية حول العالم، وقد أعدت منذ زمان وزمانين من أجل اللحظة المرتقبة، أي لتكون المقدمة الضاربة في إحداث القلاقل والاضطرابات، ومحاولة ممارسة أقصى وأقسى درجات الضغط النفسي والمعنوي على الأوروبيين والأميركيين، مع الاستعداد التام للقيام بعمليات عسكرية سواء ضد المدنيين أو العسكريين في الحواضن الغربية حين تصدر التعليمات من نظام الملالي.
مؤخراً أشارت عدة مصادر استخباراتية غربية لعدد من وسائل الإعلام الغربية إلى الخطة الجديدة لـ«حزب الله» لإنشاء شبكات موالية له في العديد من مدن العالم شرقاً وغرباً، الأمر الذي أماطت عنه اللثام صحيفة «لوفيغارو» الفرنسية بنوع خاص والتي ذكرت في تقرير مطول لـ«نيكولا باروت»، أن فكر التقية الإيراني الشهير يمارس الآن على الأرض، بمعنى أن البحث يجري على قدم وساق من أجل تجنيد المزيد من العناصر لصالح ميليشيات «حزب الله»، لكن المختلف هو انتقاء عناصر نظيفة السجلات الأمنية كما يقال، أي من غير المعروفين للأجهزة الأمنية والاستخباراتية سواء الأوروبية أو الآسيوية أو الأميركية.
هل الحديث عن عناصر «حزب الله» في الغرب قضية حديثة أم محدثة؟
الواقع أنهما الأمران معا، بمعنى أن ميليشيات «حزب الله» كثفت حضورها الخارجي في الأعوام الأخيرة، لا سيما في أميركا اللاتينية، وهناك جرى إنشاء «كارتلات» تعمل على تهريب البشر والسلاح والمخدرات من جهة، وتتهيأ لمجابهة أميركا الشمالية من ناحية أخرى.
ولعل المثال الواضح على قصة هذا الاختراق لدول القارة اللاتينية يتمثل في قضية الإرهابي سلمان رؤوف سلمان، الذي شوهد مؤخراً في بوغوتا بكولومبيا، والذي ترصد الولايات المتحدة الأميركية عدة ملايين من الدولارات لاقتناصه، بوصفه صيداً ثميناً يحمل أسرار ميليشيات «حزب الله» في القارة الأميركية الجنوبية برمتها.
أما المثال الآخر على الخلايا النائمة في الولايات المتحدة الأميركية فيتمثل في شخص علي كوراني الذي تم القبض عليه في نيويورك بعد أن تم تجنيده لصالح «حزب الله» لتنفيذ هجمات إرهابية، حال تعرض إيران أو «حزب الله» في لبنان لهجمات من جانب الولايات المتحدة الأميركية، ولاحقاً أكدت التحقيقات التي جرت معه من قبل المباحث الاتحادية الأميركية أنه أحد أعضاء وحدة التخطيط للهجمات الخارجية في الحزب والمعروفة بـ«الوحدة 910».
كارثة كوراني تبين التخطيط الدقيق لإيران وأذرعها لإصابة الدول الغربية في مقتل، ذلك أنه كان دائم التنقل بين كندا والولايات المتحدة، حيث حاول تهريب متفجرات من كندا إلى الداخل الأميركي.
كان كوراني مثالاً على الخلايا النائمة التابعة «لحزب الله» في دول العالم، لا سيما أنه ينتمي لعائلة معروفة بصلاتها الوثيقة مع الحزب، وقد التحق بمعسكر تدريب تابع للحزب عندما كان في السادسة عشرة من عمره، وتعلم إطلاق النار، والقذائف الصاروخية قبل أن يجند كجزء من خطة للانتقام لمقتل عماد مغنية أحد قادة «حزب الله» رفيعي المستوى الذي قضى بسيارة مفخخة في دمشق عام 2008.
هل كان القبض على كوراني المدخل للخطط الجديدة لميليشيات «حزب الله» لنسج خيوط شبكات إرهابية جديدة غير معروفة لقوى الأمن والاستخبارات الدولية؟
يمكن أن يكون ذلك كذلك بالفعل، ولهذا تقضي الآلية الجديد تجنيد عناصر غير عربية، وغالباً ما يكون المعين المفضل من دول شرق وجنوب آسيا، والتي تكثر فيها الحواضن المشبعة بالإرهاب الأصولي، وقد كان آخر شخص تم الاشتباه فيه مهندس باكستاني لا يتجاوز الثلاثة عقود من عمره، وبدا أنه على اتصال «بحزب الله».
ويعزف القائمون على الميليشيات الخاصة «بحزب الله» على الأوتار الدوغمائية الشيعية تحديداً، ويستغلون الكراهية التقليدية تجاه الولايات المتحدة الأميركية والقارة الأوروبية، ويلعبون على أوتار القضايا الدينية، مظهرين الصراع بين إيران والغرب على أنه صراع ديني وليس آيديولوجياً، وفي الوسط من هذا يقومون بتجنيد من يقدرون على تعبئتهم، وفي هذا تكون الكارثة لا الحادثة، أي من خلال استخدام جوازات سفرهم الأجنبية أو تزويد بعضهم الآخر بجوازات سفر قد تكون حقيقية مسروقة، أو مزورة، ليمثلوا حصان طروادة في الجسد الأوروبي أو الأميركي.
لا تكتفي خطط ميليشيات «حزب الله» الخاصة بإعداد شبكات إرهابية جديدة في الغرب بالطرق التقليدية في تجنيد عناصر جديدة من الصعب متابعتها، بل يبدو أنها تمضي في طريق محاكاة تنظيم «داعش» في سعيه لضم عناصر إرهابية إضافية لصفوفه عبر استخدام وسائط التواصل الاجتماعي الحديثة من مخرجات الشبكة العنكبوتية الإنترنت، مثل «فيسبوك» و«تويتر» و«إنستغرام».
في هذا السياق تبدو الخطط الجديدة لـ«حزب الله» كمن ينسج شبكات إرهابية في العالم الرقمي، بمعنى أنها خطط لتجنيد المزيد من «الذئاب المنفردة»، تلك التي يمكن أن يتفتق ذهنها عن وسائل انتقام غير مدرجة من قبل على خارطة الأعمال الإرهابية، فكما كان استخدام الشاحنات للدهس في أوروبا أداة غير معروفة، فمن الجائز جداً أن نرى آليات جديدة تمارس بها الجماعة الإيرانية الخطى طريقها في إقلاق الحواضن الغربية.
يتساءل المراقبون أيضاً هل من دافع جديد يقودها في طريق شهوة الانتقام غير المسبوقة هذه؟
من الواضح جداً أن قيام الولايات المتحدة الأميركية باغتيال قاسم سليماني، والتهديدات التي أطلقها «إسماعيل قاآني»، قائد فيلق القدس الجديد، ضمن صفوف الحرس الثوري الإيراني، بأن تملأ جثث الأميركيين الشوارع، هي وراء تسريع إيران في طريق دفع ميليشيات «حزب الله» في تغيير طرق تجنيد واكتساب عملاء جدد يكونون بمثابة رؤوس حراب في المواجهة القادمة.
خلال صيف العام الماضي كشفت مصادر استخباراتية لصحيفة «ديلي تليغراف» البريطانية عن أن الأزمة مع إيران قد تتسبب في إيقاظ خلايا إرهابية نائمة، وتدفعها إلى شن هجمات إرهابية على بريطانيا، ولفتت المصادر عينها إلى الخلايا يديرها متشددون مرتبطون بـ«حزب الله» اللبناني.
ولم تكن هذه تصريحات جوفاء أو عشوائية، وإنما جاءت بعد أن كشفت شرطة محاربة الإرهاب في عام 2015 في بريطانيا عن خلية جمعت أطناناً من المتفجرات في متاجر بضواحي لندن، موضحة أن إيران وضعت عملاءها في «حزب الله» على استعداد لشن هجمات في حالة اندلاع نزاع مسلح، وهذا هو الخطر الذي تشكله إيران على الأمن الداخلي في بريطانيا.
والثابت أنه لا يمكن فصل مخططات ميليشيات «حزب الله» الخاصة بتجنيد عناصر ونسج شبكات جديدة عن الموقف الواضح لـ«حزب الله» من الصراع الدائر بين أميركا وإيران، فهي ترغب في القتال، وهو ما أشار إليه حسن نصر الله أمين عام الحزب في مقابلة تلفزيونية مع قناة المنار التابعة لجماعته عندما أجاب على سؤال حول ما ستفعله الجماعة في حال نشوب حرب بين إيران والولايات المتحدة، إذ أجاب بسؤال استفهامي أو استنكاري على الأصح في مواجهة المحاور: «هل تظن أننا سنقف مكتوفي الأيدي؟ إيران لن تحارب وحدها، هذا أمر واضح وضوح الشمس، هكذا أكد نصر الله».
هل قررت إيران إذن شكل المواجهة القادمة مع الولايات المتحدة الأميركية، طالما ظلت العقوبات الاقتصادية الأميركية قائمة وموجعة لهيكل إيران التكتوني البنيوي الرئيسي؟
فوفقا لرؤية «ماثيو ليفيت» مدير برنامج ستاين لمكافحة الإرهاب والاستخبارات في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، يبدو أن إيران و«حزب الله» لن يعتمدا المواجهة المباشرة مع الولايات المتحدة في حال نشوب حرب بين واشنطن طهران، إذ سيتم إيقاظ «الخلايا النائمة» من سباتها في الداخل الأميركي الشمالي والجنوبي أولاً، عطفاً على ذلك إعطاء الضوء الأخضر للعناصر والشبكات الجديدة بإحداث أكبر خسائر في صفوف الأوروبيين، وتجاه كل ما يشكل أهدافاً ومصالح أميركية من شمال الأرض إلى جنوبها، ومن شرقها إلى غربها دفعة واحدة.
الخلاصة... العالم أمام فصل جديد مقلق من تنامي مؤامرات «حزب الله» والتي ظهرت خلال السنوات القليلة الماضية خارج الشرق الأوسط، ربما بشكل لا يقل إقلاقاً عن الدور الذي يلعبه على التراب الوطني اللبناني في حاضرات أيامنا، ما يجعل التفكير في حصار هذا الشر أمراً واجب الوجود كما تقول جماعة الفلاسفة، من غير فصل مشهده عن حجر الزاوية الذي يستند إليه، أي إيران وملاليها في الحال والمستقبل.