داعش: انقلاب «التلميذ» على «الأستاذ»

لماذا أحلّ «البغدادي» دم أميره وشيخه السابق «أبو عبد الله المنصور»؟

صورة للبغدادي أخذت له في الموصل في يوليو الماضي («غيتي»)
صورة للبغدادي أخذت له في الموصل في يوليو الماضي («غيتي»)
TT

داعش: انقلاب «التلميذ» على «الأستاذ»

صورة للبغدادي أخذت له في الموصل في يوليو الماضي («غيتي»)
صورة للبغدادي أخذت له في الموصل في يوليو الماضي («غيتي»)

مع أن «أبو عبد الله المنصور»، الملقّب بـ«أمير جيش المجاهدين»، كان أول مَن استقبل «أبو مصعب الزرقاوي» في العراق عام 2003 ومَن قدمه لجماعته، كما أن تنظيمه هو أول تنظيم انضم له «البغدادي» وبايعه أواسط عام 2005 وتلقّى عنه خلال هذا العام، فإنه كان سببا رئيسيًا في خلاف تلميذه السابق «أبو بكر البغدادي» - أمير تنظيم داعش فيما بعد - مع «أبو محمد الجولاني» أمير «جبهة النصرة»، حين طلب الأول من الأخير قتله في سوريا وتباطأ، ثم رفض مبررا ذلك بأن شيوخ «القاعدة» لا يكفّرونه، فكان فصم العلاقة بين «داعش» و«النصرة»، ومن ثم بين «داعش» وأصله «القاعدة» وقادتها.
لكن لماذا «أبو عبد الله المنصور» تحديدًا؟ ولماذا أصرّ زعيم تنظيم داعش وأميرها على قتله رغم أنه كان أميرا عليه وأستاذا له، ويشهد له وأنصاره بـ«العلم الشرعي» و«سابقة الجهاد» فضلاً عن أنه من استقبل شيخهم «أبو مصعب الزرقاوي» (توفي عام 2006) في العراق عام 2003 وقدّمه لهم وعرّفه على سائر الفصائل الراديكالية؟ ولماذا كان «أبو عبد الله المنصور» أول من كتب ضد ما أعلنته «داعش» من خلافة ودولة في كتابه «الدولة الإسلامية بين الحقيقة والوهم» وكيف كانت ردود الدواعش عليه.
الاسم الحقيقي لـ«أبو عبد الله المنصور» هو محمد حردان العيساوي، وهو الذي أسّس «جيش المجاهدين في العراق» عام 2003 بعد حرب العراق، وله كنية ثانية هي «أبو سعيد العراقي». وعنه يقول عارفوه إنه كان قياديا معروفًا في تنظيم الإخوان المسلمين العراقي، إلا أنه غادر إلى أفغانستان للقتال مع الجماعات المتشدّدة هناك وعاد في بداية التسعينيات بميول راديكالية واضحة. ومن ثم، خرج من التنظيم الإخواني في العراق، مؤسّسًا تنظيمه في هذا التاريخ. واتهامًا له يصفه الدواعش بأنه من «سروريي العراق» وأحيانًا بأنه من «الصحوات» وغير ذلك مما يرونه تهما، ويتهمونه بالذات في علاقته بـ«الصحوات» والراحل حارث الضاري.
غير أنه مع هذا لم ينكر الدواعش دوره ومكانته الشرعية عند الجماعات المتشدّدة في العراق، كذلك لم ينكر منظّر «داعش» وفقيهه المهم «أبو الحسن الأزدي»، الذي نظنه صاحب دعوة حرق الطيار الأردني معاذ الكساسبة، مكانة العيساوي وعلمه في رده عليه - لكن من دون أن يسميه - في رده على كتابه المذكور الذي عنونه بـ«توبيخ الغالطين على إمام الحرمين». إذ يقول: «ثم إني وقفت على رسالة سماها صاحبها (الدولة الإسلامية بين الحقيقة والوهم)، فألفيتُ عمادها مقامًا على غلط ينتظم أمر الشرع والقدر في أغلاط أخر، قد يهيئ الله بيانها، إلا أن صاحبها قد نبأ عن الكثير من سقطات الأول، وأحسن إقامة الحرف، وإن كان لم يقملب رسالته إلا على شفا جرف».
لكن خصومه وعناصر «داعش» دأبوا على اتهام العيساوي بالغرور والذاتية وتذبذب المواقف والفتاوى والغيرة من «الزرقاوي». ولكن التهمة الأخطر كانت اتهامه بالسقوط والخيانة، وأنه خرج من السجن عام 2007 بصفقة مع الأميركان والحكومة العراقية، لضرب «القاعدة» و«دولتها» حينئذ، وأنه استمر توظيفه حربا على «الزرقاوي» ثم قادة «القاعدة في العراق» حتى «البغدادي»، وأنه شارك في هذه الصفقة مع العيساوي مسؤول الهيئة الشرعية لـ«أنصار الإسلام» (سعدون القاضي) وبالفعل انشقّ الأخير عن «الأنصار» وانضم إلى المجلس السياسي للمقاومة العراقية، الذي كان يمثل «الصحوات»، حسب أحد مؤرخي «داعش» من عناصر «جيش المجاهدين» السابقين.
«الزرقاوي» وانقلاب العلاقة
في عام 2003، كما سبقت الإشارة، استقبل العيساوي «أبو مصعب الزرقاوي» في العراق، كما قدّمه لتنظيمه وعرفه بسائر المقاتلين المتشددين هناك، وأثنى عليه واعتبره حينها نصرة أو «رجلا من السماء»، لكنه بعد فترة ظهر الخلاف بينهما متهمًا إياه بالتشدد والغلو.
وبالفعل، أقام «الزرقاوي» في بيت العيساوي لمدة طويلة، ولكن مع الوقت دبّ الخلاف بين الرجلين في مسألتين رئيسيتين، هما:
أولا: تكفير الشرطة العراقية: إذ رفض العيساوي تكفير الشرطة، بينما منهج «الزرقاوي» منذ البداية كان اعتبار رجال الشرطة مرتدين.
ثانيا: تكفير عوام الشيعة: رفض العيساوي تكفير عوام الشيعة، وكان ذلك موقف شيخ «الزرقاوي» السابق أيضًا «أبو محمد المقدسي» وعدد من شيوخ «القاعدة»، القائل بتكفير علمائهم وسادتهم فقط دون عوامهم، على عكس ما ذهب إليه «الزرقاوي» ومن بعده قادة «القاعدة في العراق» من تكفير عوامهم وقتالهم.
ومما كان يأخذه أنصار «الزرقاوي» على العيساوي (أبو عبد الله المنصور) ضعف القيادة وارتباك وتذبذب الفتوى عنده، فأحيانًا كان يرفض منهم استهداف حسينيات الشيعة، لكنه سمح بها لعناصر تنظيمه. وكما يروى أحد أنصار «داعش» أنه استفتاه أحد أتباعه في ضرب حسينيات الشيعة، فكان جوابه «اضربوها ولا تستفتوني بهذه الأمور، فأنا لا أرى قتل عوام الروافض (الشيعة)».
في ضوء ما تقدم رمى العيساوي لهذه الأسباب وغيرها «الزرقاوي» بالتشدد والغلو، ولقد وجه رسائل متتالية لزعيم «القاعدة» الراحل أسامة بن لادن وكذلك لخلفه أيمن الظواهري شاكيًا منه، ومطالبا إياهما بالتدخل لوقف غلوه وتشدده، منها تلك الرسالة في أبوت آباد -غير مؤرخة وغير موقعة- التي تضمنت عتابا لبن لادن وقادة «القاعدة» على اختزال واختصار المتشددين في العراق بـ«أبي مصعب الزرقاوي» دون غيره، وقال فيها إن هذا مخالف لخريطة «القوى الجهادية» في العراق، كما انتقد لبن لادن وقادة «القاعدة» على وقوفهم وصمتهم على «تكفير المخالف واستباحة دمه» كما يفعل «الزرقاوية» معتبرًا هذا النهج المتطرف مخالفًا لمذهب أهل السنة. وهذا الأمر كرره العيساوي (أبو عبد الله المنصور) في نقده لـ«داعش» فيما بعد، وكما انتقد أنصار «الزرقاوي» إعلانهم «دولة العراق الإسلامية» المزعومة رغم عدم وجود التمكين، كان هذا الشرط -أي عدم وجود التمكين- هو نفسه الذي كرّره في نقده «داعش» و«خلافتها» المزعومة عام 2013، ورد عليه فيه «أبو الحسن الأزدي» وغيره.
ومن ثم، بعد انقلاب العلاقة وتحوّلها من التقدير إلى الاتهامات المتبادلة، ظلت علاقة العيساوي بـ«الزرقاوي» سيئة حتى مقتل الأخير في يونيو (حزيران) 2006. كما ظلت كذلك مع من خلفائه على رأس «القاعدة في العراق» وفي مقدمتهم «أبو عمر البغدادي» و«أبو حمزة المهاجر» (قتلا عام 2010) الذي كان يراهم أكثر غلوًا وتطرّفًا واستحلالاً للدماء منه، وأنهم محكومون بالتأويلات والرؤى. وهنا يروي «أبو عبد الله المنصور» في كتابه «الدولة الإسلامية بين الحقيقة والوهم» أن «أبو حمزة المهاجر» كان «يخاطب الحاضرين معه بأنه أعد منبر المهدي ليستعد للصعود عليه معلنا دولة الإسلام في آخر الزمان!». ومن ثم يقول: «هكذا كان مستوى قادة (القاعدة) في العراق وهكذا كانت عقولهم..»، واستمر الاستخفاف بخلفاء «الزرقاوي» حتى الوصول إلى «البغدادي» التلميذ السابق والأمير الحالي الذي يطلب رأسه.
لم ينضم «أبو عبد الله المنصور» أو محمد حردان العيساوي وتنظيمه إلى «مجلس شورى المجاهدين» الذي أسّسه «الزرقاوي» في يناير (كانون الثاني) 2006، كما أنه لم يشهد ما أعلنه من «دولة العراق الإسلامية» في أكتوبر (تشرين الأول) من العام نفسه، وظل على خلافه مع «الزرقاوي» رغم تعاطفه مع «القاعدة». ثم توجّه العيساوي بعد خروجه من السجن عام 2007 إلى سوريا لفترة، وشارك بتنظيمه «جيش المجاهدين» -حسب رواية «القاعدة»- في جيوش ومجالس «الصحوات» ضد دولة «القاعدة في العراق» إلى أن سقطت عاصمتها الأنبار عام 2007 وسقطت تمامًا عام 2008. بيد أن العيساوي نفى التهم ومنها أنه كان يفتي ضد «الصحوات»، وألف رسالة في اتهام العشائر وردّها عن مواجهة تنظيمات «القاعدة» بعنوان «العار على العشيرة» كما يذكر. ومما يذكره بعض المقربين أن «أبو محمد الجولاني»، زعيم «جبهة النصرة»، كان رفيقًا للعيساوي أثناء فترة سجنه، وأنه كان يسمي نفسه «أوس الموصلي» وأنه كانت مودة بينهما، ولذا رفض طلب «البغدادي» له بقتله كمهمة أولى في سوريا.
في أواسط عام 2005 بايع «أبو بكر البغدادي» العيساوي وانضم لتنظيمه «جيش المجاهدين»، وتلقى على يديه -كما يقول- عددًا من الدروس في الفقه، منها كتاب «زاد المستنقع»، إلا أن رأي العيساوي (أبو عبد الله المنصور) فيه سلبي، كما ذكر في كتابه، إذ رآه «غبيًا مفتقدًا للذكاء، وغير مؤهل للقيادة».
من جهة ثانية، المرجح أنه كانت بين الرجلين علاقة سابقة، فكلاهما كان عضوًا بجماعة الإخوان المسلمين، ثم تركها «البغدادي» منضما للمجموعات المتشددة والعنيفة، واستمر كلاهما معا فترة، ولكن بعد دخول العيساوي السجن عام 2006 أسس «البغدادي» مجموعة أخرى باسم «جيش السنة والجماعة» وانضم في يناير لـ«مجلس شورى المجاهدين» بقيادة «الزرقاوي» في يناير 2006، واستمر به المسار حتى بلغ رأس «القاعدة في العراق» وصار المدعو بالخلافة عندها.
لقد ذكر العيساوي في كتابه «الدولة الإسلامية بين الحقيقة والوهم»، كما سبقت الإشارة، أن البغدادي «سيئ الخلق، جاهل، ومن أهل الأهواء، محدود الذكاء، لا يصلح للقيادة أبدا، متكبّر.. وللفائدة أقول إن عمره في نهاية الثلاثينيات..» وجاء الرد الداعشي أنه ليس كذلك وأن ما بينهما في العمر عام واحد حسب مدونة داعشية.
ويبدو أن تأثير تنظيم «جيش المجاهدين» تراجع وتأخر كثيرًا بعد اعتقال العيساوي وصحوة «الزرقاوية» ومؤسساتها، من «مجلس شورى المجاهدين» إلى «دولة» تحكم بعض المناطق، فسافر مؤسسه إلى سوريا وأقام في عاصمتها دمشق ولبث هناك فترة. ثم عاد مستقرًا فيها حتى قبل الثورة بقليل، وكانت علاقته طيبة بـ«الجولاني» الذي صدمه «البغدادي» بأمره له بقتله. وحسب حذيفة عبد الله عزام نقلا عن «أبي عبد الله الحموي» فإن هذا القتل كان المهمة الأولى لـ«الجولاني» في سوريا!
وزاد الكراهية أن «أبو عبد الله المنصور» كان أول من انتقد «الخلافة» المزعومة التي أعلنها «البغدادي» بكتابه المذكور سابقا، عن خبرة شخصية بالخليفة التلميذ السابق، ثم بوعيه بغياب شرط التمكين وإجماع الأمة عنها وعنه.
إنه انقلاب «التلاميذ على الأساتذة»، و«قتل الأب» في المسار الآيديولوجي والراديكالي.
فعله الدواعش مع «القاعدة»، وفعلها منظروهم مع شيوخهم السابقين شأن «المقدسي» و«أبو قتادة» و«الحدوشي» وغيرهم. إذ لا بد من قتل الأب حتى يرث الابن كل شيء، رمزًا أو واقعًا، وخاصة إذا كان يمثل خطرًا على مستقبله.



2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
TT

2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)

مبكراً جداً بدأت العمليات الإرهابية في العام الجديد 2020، وربما استغلت الخلايا الإرهابية القائمة والنائمة حالة الارتباك الحادثة في الشرق الأوسط والخليج العربي وشمال أفريقيا، لا سيما أزمة المواجهة الإيرانية - الأميركية الأخيرة، وما يحدث على سطح البحر الأبيض المتوسط من أزمات، مثل المحاولات التركية لإرسال قوات عسكرية إلى ليبيا... نقول استغلت تلك الجماعات المشهد، وها هي آخذة في النمو السيئ السمعة مرة جديدة، وإن كانت كالعادة الأيادي التركية والقطرية وراءها وتدعمها لأهداف لا تخلو عن أعين الناظر المحقق المدقق في المشهد الآني: ماذا عن تلك العمليات؟ وما دلالاتها في الحال والاستقبال وتجاذباتها وتقاطعاتها مع الدعم التركي والقطري الذي لا يتوقف؟

المتابع لشأن الإرهاب حول العالم يمكنه -بسهولة ويسر- رصد الاعتداء الإرهابي الذي حدث على قاعدة عسكرية في مالي، وكذا تعرض مسجد في باكستان لعمل هجومي من جماعات متطرفة، وصولاً إلى مهاجمة معسكر للجيش في نيجيريا.
إرهاب 2020 إذن به مسحات جديدة من التعرض لدور العبادة الإسلامية، الأمر الذي أودى بحياة 12 شخصاً، وهو أمر وصفته الحواضن الإسلامية الشرعية في المنطقة بأنه عمل إجرامي آثم يخالف دين الإسلام، بل يخالف كل الأديان التي دعت إلى حماية دور العبادة وحرمتها والدفاع عنها، وهو ما يؤكد أيضاً أن الإرهاب لا يرعى حرمة دين أو وطن، كما أنه يهدف إلى زعزعة استقرار البلاد، والإضرار بالعباد في كل مكان وزمان.
ولعل التفجير الإرهابي الثاني في هذا الحديث هو ما يقودنا إلى قصة الساعة، وما يجري لتحويل أفريقيا إلى موقع وموضع لحاضنة إرهابية، حكماً ستكون الأكبر والأخطر من تجربة دولة الخلافة المزعومة في العراق وسوريا، المعروفة بـ«داعش».
وجرى ذلك العمل الإرهابي على أراضي جمهورية مالي التي باتت يوماً تلو الآخر تتحول إلى بؤرة إرهابية كبرى، لا سيما جراء تنوع وتعدد الجماعات الإرهابية القائمة على أرضها. فقد تم استهداف قاعدة عسكرية نهار الخميس التاسع من يناير (كانون الثاني) الحالي، وأسفر عن إصابة 20 شخصاً، بينهم 18 من قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة. وقد وقع التفجير في منطقة تساليت بإقليم كيدال، شمال جمهورية مالي.
هل كانت تلك العملية الأولى من نوعها في مالي؟
بالقطع الأمر ليس كذلك، ففي أوائل نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، أعلن تنظيم داعش في منطقة الصحراء الكبرى مسؤوليته عن الهجمات الإرهابية التي وقعت هناك، وأودت بحياة 53 جندياً مالياً ومدنياً واحداً، وفق حصيلة رسمية، و70 جندياً، وفق الحصيلة التي أعلن عنها التنظيم الإرهابي الذي تبنى أيضاً هجوماً في المنطقة نفسها، قتل فيه جندي فرنسي.
وكان واضحاً من بيان «داعش» أن مالي تحولت إلى مركز متقدم على صعيد عمليات الإرهاب، إذ أعلن التنظيم، في بيان له عبر تطبيق «تلغرام»، أن من يطلق عليهم «جنوده» استهدفوا رتل آليات للقوات الفرنسية بالقرب من قرية انديليمان، بمنطقة ميناكا، شمال شرقي مالي، بتفجير عبوة ناسفة. كما أعلن التنظيم في بيان منفصل أن مقاتليه «هاجموا قاعدة عسكرية يتمركز فيها جنود من الجيش المالي».
ولا يستهدف إرهابيو «داعش» وبقية الجماعات الإرهابية في تلك المنطقة القوات الفرنسية فحسب. ففي وقت سابق من سبتمبر (أيلول) من العام الماضي أيضاً، تم استهداف ثكنات عسكرية في بولكيسي، قتل فيها 40 جندياً مالياً، وفق الحصيلة الحكومية، وإن كانت هناك حصيلة أخرى غير رسمية تشير إلى أن الخسائر أكبر من ذلك بكثير.
ويخشى المراقبون من أن يكون الإرهاب قد جعل من مالي قاعدة متقدمة له، رغم الرفض والتنديد الشعبيين هناك بتلك الجماعات المارقة التي أضحت تتمركز على الشريط الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، الأمر الذي وصفه الإمام محمود ديكو بأنه «نزف تعيشه مالي، ولا يمكن أن يستمر طويلاً». وقد سبق أن دعا ديكو إلى ضرورة فتح حوار وطني يشارك فيه جميع الماليين لتوحيد الصفوف في وجه الإرهاب، وهو الذي سبق أن تفاوض مع الإرهابيين للإفراج عن رهائن، من ضمنهم جنود ماليون.
ولعل المراقبين لشأن هذه الجمهورية الأفريقية التي باتت مصدر خوف وقلق لبقية القارة الأفريقية يتساءلون عن السبب الرئيسي الذي جعل منها خلفية للإرهاب الأممي، يخشى معها أن تمثل مع النيجر والصومال وكينيا مربع قوة ونفوذاً غير تقليدي يستنهض أوهام ما أطلق عليه الخلافة في فكر «الدواعش»، وغيرهم من جماعات التكفير، لا التفكير.
البداية في واقع الحال تنطلق من التركيبة الديموغرافية لهذا البلد، فهي مليئة بالأعراق التي تكاد عند نقطة بعينها تضحى متقاتلة، ففيها مجموعة الماندي التي تشكل نحو 50 في المائة من إجمالي السكان، والطوارق والعرب الذين يشكلون نحو 10 في المائة، والفولتايك الذين يشكلون 12 في المائة، والسنغاري بنسبة 6 في المائة، والبول الذين يشكلون 17 في المائة، بالإضافة إلى مجموعات عرقية أخرى تشكل ما نسبته 5 في المائة.
ويمكن القطع بأن الجماعات الأصولية المختلفة قد أجادت العزف السيئ على مسألة الأعراق المالية المختلفة، وجعلت منها نقطة انطلاق لتقسيم المجتمع المالي، وتجزئته عبر تنويع وتعدد الانتماءات الإرهابية، الأمر الذي أدى إلى وقوع 270 هجوماً إرهابياً في جمهورية مالي خلال الأشهر الثلاثة الماضية، والعهدة هنا على التقرير الأممي الصادر عن الأمم المتحدة الذي أشار إليه الأمين العام أنطونيو غوتيريش، مؤكداً أن حصيلة تلك الهجمات قد بلغت 200 قتيل من المدنيين، و96 مصاباً، إضافة إلى اختطاف 90 آخرين، لافتاً إلى أن 85 في المائة من الهجمات المميتة وقعت في منطقة موبتى، حيث قتل خلالها 193 من القوات المسلحة، وجرح 126.
وفي هذا الإطار، كان من الطبيعي أن تشهد مالي حالة من حالات انعدام الأمن، بعد أن سيطرت جماعات مرتبطة بتنظيم «القاعدة» على مناطق واسعة من شمال مالي، قبل أن يتدخل الفرنسيون والأفارقة لطرد هذه الجماعات من المدن الكبرى، وإن كانت الأخيرة تشن حرب عصابات منذ ذلك الوقت كبدت الفرنسيين والأفارقة والجيش المالي خسارة كبيرة.
ولم تكن مالي بطبيعتها المهترئة اجتماعياً لتغيب عن أعين الدواعش الذين دخلوا على الخط عام 2015، عندما أعلن المدعو أبو الوليد الصحراوي الانشقاق عن جماعة «المرابطون»، وتشكيل تنظيم جديد بايع تنظيم داعش، سماه «تنظيم داعش في الصحراء الكبرى».
وخذ إليك، على سبيل المثال، بعضاً من تلك الجماعات التي باتت تغطي ثلثي الجهورية المالية منذ عام 2012، وفي المقدمة منها «جماعة التوحيد والجهاد». وقد كان حصان طروادة بالنسبة إليها، وما تسبب في انتشارها في البلاد، حالة الفوضى والارتباك التي أعقبت الانقلاب العسكري الذي حدث في 22 مارس (آذار) 2012. فقد برزت على السطح في هذا التوقيت، وتمكنت من احتلال شمال مالي. ويرى محللو شؤون الإرهاب الدولي في القارة الأفريقية أنه أحد أكثر التنظيمات رعباً، لكونه مسلحاً وممولاً بشكل جيد، فضلاً عن قيامه بتكثيف عملياته الإرهابية منذ ظهوره، وتمركزه في الهضبة الصحراوية الشاسعة الممتدة في منطقة تساليت، وفرض سيطرته بلا منازع على عدد من القرى في تلك المنطقة.
ولم تكن جماعة «التوحيد والجهاد» بعيدة بحال من الأحوال عن تنظيم القاعدة، غير أنها انفصلت عنها وانتشرت في بلاد المغرب الإسلامي، تحت دعوة نشر فكر «الجهاد» في غرب أفريقيا، بدلاً من الاكتفاء فقط بمنطقة الغرب أو منطقة الساحل.
ويمكن للمرء أن يعدد أسماء كثيرة من التنظيمات الإرهابية على الأراضي المالية، مثل جماعة أنصار الدين، وهذه لها جذور عميقة في المجتمع المالي، ولذلك تضم ما بين 5 آلاف و10 آلاف عضو مزودين بأسلحة متقدمة.
وعطفاً على ذلك، يلاحظ المراقبون جماعات أصولية، وإن كانت أقل قوة من حيث العدة والعتاد، إلا أنها أخطر من جانب الأساس العقائدي، مما يجعل فرص ارتقائها أكبر وأوسع.
ومع تصاعد عمليات الإرهاب في مالي، وما حولها من دول جميعها مرتبطة بعقد واحد من الأصوليات الخبيثة، يبقى البحث عمن يزخمها ويساندها أمر واجب الوجود، كما تقول جماعة الفلاسفة.
أما الجواب فهو يسير. ففي 25 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، أعلنت الإدارة العامة للأمن الوطني في النيجر عن القبض على مجموعة إرهابية تتكون من 3 أشخاص، يحمل 2 منهم الجنسية التركية، بالإضافة إلى متعاون محلي من مواطني النيجر.
ويضحي من الطبيعي القول إن اعتقال أتراك في النيجر يفتح ملف الإرهاب التركي - القطري في العمق الأفريقي، ويثير من جديد قضية نقل الإرهابيين إلى طرابلس دعماً للميليشيات الموالية لقطر وتركيا في ليبيا، في مواجهة الجيش الوطني الليبي.
ويوماً تلو الآخر، يثبت للعالم أن هناك أكثر من ستار تختبئ تركيا من وراءه، وبتمويل قطري لا يغيب عن الأعين، في محاولة متجددة لا تنقطع من أجل إعادة إنتاج مشروع الخلافة الوهمي، حتى إن كلف ذلك أكثر من دولة أفريقية أمنها وأمانها.
ومن عينة الستر التي تختبئ تركيا وراءها: «الهلال الأحمر التركي»، و«الوكالة التركية للتعاون والتنسيق». أما قطر، فمنذ أمد بعيد تستخدم جمعية «قطر الخيرية» ستاراً لاستقطاب الإرهابيين والمرتزقة لدعم الميليشيات في طرابلس.
ومؤخراً، كان موقع «انفيستجتيف بروجكت» الأميركي المتخصص في إلقاء الضوء على القضايا الإرهابية يكشف عن العلاقة التي تربط بين المثلث الجهنمي الإخواني بأذرعه المختلفة، لا سيما في الولايات المتحدة الأميركية، وجمعيات تركيا الخفية التي تعمل تحت ستار الأعمال الخيرية، والرابط الأكبر المتمثل في الدعم المالي القطري لهما، وهي قصة يضيق المسطح المتاح للكتابة عن سردها وعرضها، وإن كانت باختصار تبين أن العمق الأفريقي هو مكمن خطر الإرهاب العالمي في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين.
ومؤخراً، تتحدث واشنطن عن انسحاب قواتها المسلحة من القارة الأفريقية، بذريعة التفرغ لملاقاة روسيا والصين حول العالم، وتالياً ترفض ألمانيا المشاركة بجنود في القوة الأوروبية التي تقودها فرنسا في الساحل الغربي الأفريقي لمواجهة خطر الإرهاب... فهل يعني ذلك أن هناك فصلاً جديداً من فصول نماء الإرهاب الدولي في ظل غض الطرف عنه؟!
آفة حارتنا النسيان. والذين لدغوا من ثعبان الإرهاب من قبل يبدو أنهم لم يتعلموا الدرس بعد.