الناقد المسكين

الناقد المسكين
TT

الناقد المسكين

الناقد المسكين

* أحد الأصدقاء لديه قناعة بأنه «لا يوجد نقد سينمائي عربي»، كما يقول، ويضيف مؤكدًا: «ما هو موجود، هو نقد انطباعي».
* آخرون قبله قالوا الشيء نفسه. قطعوا بأنه «لا يوجد نقد سينمائي عربي». لم يضيفوا أن النقد الموجود انطباعي. هو غير موجود بالمرّة.
* بعض هذا القول يأتي من باب «النقد الذاتي». بعضه الآخر، من اعتقاد يصل إلى حد الإيمان بأن النقد السينمائي العربي ليس موجودًا. في الحالتين هناك إجحاف كبير بحق الذين يمارسون النقد السينمائي باللغة العربية. طوال هذه السنوات الممتدة من الأربعينات وحتى اليوم كانوا يعتقدون بأنهم يكتبون النقد السينمائي - الآن يكتشف (من بقي منهم حيًا على الأقل) أنهم كانوا يكتبون شيئًا آخر.
* حتى يكون النقد انطباعيًا، ولنبدأ بالصديق الذي أحترم رأيه كثيرًا، فإن هناك سبيلاً واحدًا لذلك، وهو أن يكتب الناقد تأثير الفيلم عليه إيجابًا أو سلبًا ويصل سريعًا أو ببطء شديد، إلى نتيجة مفادها، وملخصها، أن الفيلم أعجبه أو لم يعجبه. هذا ممارس بالفعل وهناك كتاب يعمدون إلى ذلك، وهم - قبل سواهم - يدركون أن هذا ليس نقدًا لكن معظمهم لا يستطيع الاعتراف بذلك حتى ولو أراد.
* إذ نتجاوز هؤلاء، فإن هناك نصيبًا كبيرًا من الذين يكتبون النقد السينمائي وهم نقاد فعلاً. ما يكتبونه لا يرد من باب الانطباعية وإن فعل ففي مرّات محدودة. هؤلاء، ولا داعي لذكر أسماء، يكتبون النص الذي نستطيع جميعًا الاتفاق على أنه نص نقدي. لكن، وككل كتابة أخرى في أي مجال، هناك من يجيد الكتابة أفضل من سواه. يصيب خانات التحليل على نحو صائب ويثير من المعلومات ومن الحيثيات ما يكفي لتأييد فكرته، فلا يتوقف الحديث عند إبداء الرأي لأن النقد غير إبداء الرأي أساسًا، بل إن الرأي في العملية النقدية كلها ليس مهمًا.
* ثم هناك حقيقة أن النقاد يكتبون لجمهور عريض في صحف يومية وليس في مجلات أكاديمية. والتحليل السينمائي، إذا ما كان البرهان على وجود نقد أم لا، يحتاج إلى مساحة. ما يفعله الناقد (وليس الانطباعي) هو أنه يختار ما يبقي مادته شاملة من دون أن يدخل في كل تفصيلة ليس لأنه عاجزًا، بل لأن هناك منهجًا تفرضه الصحيفة اليومية، أو حتى المطبوعة الأسبوعية، لا بد من احترامه.
* هذا ليس من باب الدفاع مطلقًا، بل من باب التقييم المحايد. لدينا نقاد سينما، كما ‬لدينا من يكتب ما يعتبره نقدًا وهو على بعد سنوات ضوئية منه. لدينا مخلصون يلتقطون المهنة باحتراف وجدية ويعرفون لغة النقد وتقنياته، وأكثر منهم من يكتب شيئًا يحسبه نقدًا بينما هو، في أفضل الأحوال، كتابة تعريفية بالفيلم لا تخرج عن ترجمة المعلومات و - بل أحيانًا - الآراء ذاتها.
* أما أولئك الذين ينفون وجود أي نقد (انطباعي أو غير انطباعي) فيبدو أنهم يصدرون أحكامًا جاهزة محلاة بما بات منتشرًا في دنيانا وهو إلباس آرائهم بثياب النقد الذاتي كما لو أنهم فجأة أصبحوا في غاية الإلمام، بحيث يمكن لهم تمرير أحكام كهذه.
* كل هذا والنقد السينمائي يبدو مثل هواية جمع الطوابع أيام انتشارها. كثيرون يريدونها وقليلون يحتفظون بها. جمهور واسع يقرأ وجمهور أوسع يهمل ويبقى النقد وأصحابه على الحافة الدقيقة بين إيفائه حقه من التقدير وصرف النظر عنه جملة وتفصيلاً.



شاشة الناقد: تضحيات صحافيين وانتهاكات انظمة

 «موعد مع بُل بوت» (سي د ب)
«موعد مع بُل بوت» (سي د ب)
TT

شاشة الناقد: تضحيات صحافيين وانتهاكات انظمة

 «موعد مع بُل بوت» (سي د ب)
«موعد مع بُل بوت» (سي د ب)

RENDEZ‪-‬VOUS AVEC POL‪-‬POT ★★★

* إخراج: ريثي بَنه (فرنسا/ كمبوديا)

يأتي فيلم «موعد مع بُل بوت» في وقت تكشف فيه الأرقام سقوط أعداد كبيرة من الصحافيين والإعلاميين قتلى خلال تغطياتهم مناطق التوتر والقتال حول العالم. ويُذكّر الفيلم أن الصحافة في تاريخها العريق، دائماً ما وجدت نفسها أمام مسؤوليات وتحديات عديدة. في هذا الفيلم الذي أخرجه ريثي بَنه عن الأحداث التي عصفت في بلاده سنة 1978 اقتباسات عن كتاب الصحافية إليزابيث بَكَر (Becker) وعن تجربتها بصفتها واحدة من 3 صحافيين دُعوا لمقابلة بُل بوت، رئيس وزراء كمبوديا وأحد قادة منظمة «الخمير الحمر» (Khmer Rouge) المتهمة بقتل ما لا يقل عن مليون و500 كمبودي خلال السبعينات. الصحافيان الآخران هما الأميركي ريتشارد دودمان، والأسكوتلندي مالكوم كالدويل.

لا يبدو أن المخرج اتّبع خُطى الكتاب كاملةً بل تدخّل بغايةِ ولوج الموضوع من جانب الحدث الذي وضع حياة الثلاثة في خطر بعدما جاءوا للتحقيق ومقابلة بُل بوت. في الواقع دفع الأميركي حياته ثمناً لخروجه عن جدول الأعمال الرسمي والتقاطه صوراً تكشف عن قتلٍ جماعي. وفي الفيلم لحظة مختصرة لكنها قاسية التأثير عندما يَلقى الصحافي حتفه غرقاً في نهر دُفع إليه.

الفرنسية إيرين جاكوب التي تؤدي شخصية الكاتبة بَكَر تُعايش بدورها الوضع بكل مأساته. تُفصل عن زميلها ولم تعد تعرف عنه شيئاً، وتمر بدورها بتجربة مخيفة لم تكن تعلم إذا ما كانت ستخرج منها حية.

في باطن هذا الفيلم الجيد على تواضع إنتاجه، تُطرح أسئلة فيما إذا كان الصحافي يستطيع أن يقبل التحوّل إلى جزءٍ من البروباغاندا. وهل هو أداة لنقل الرأي الرسمي بغياب حرية التعبير؟ وماذا لو فعل ذلك وماذا لو لم يفعل؟

هو ليس بالفيلم السّهل متابعته من دون معرفة ذلك التاريخ ودلالاته حول العلاقة بين النُّظم الفاشية والإعلام. والحرية التي لا تُمنح لصحافيين محليين هي نفسها التي لا تُمنح كذلك للأجانب ما دام عليهم نقل ما يُقال لهم فقط.

* عروض: موسم الجوائز ومهرجان «آسيا وورلد فيلم فيستيڤال».

‪THE‬ WRESTLE‪R‬ ★★

* إخراج: إقبال حسين شودهوري (بنغلاديش).

يقترب الرجل المسن موجو (ناصر أودين خان) وسط أشجار ليست بعيدة عن شاطئ البحر وينتقل من واحدة لأخرى ماداً يديه إليها كما لو كان يريد أن يدفعها بعيداً أو أن يُزيحها من مكانها. ومن ثَمّ يتركها ويركض صوب أخرى ليقوم بالفعل نفسه قبل أن يعود إليها. يبعث هذا المشهد على تكراره سخرية غير مقصودة. قد تكون طريقة قديمة لممارسة تمارين المصارعة أو التدريب الوحيد المُتاح في تلك القرية، لكن موجو جادٌ في محاولته لدفع الأشجار إلى الخلف أو تغيير مواقعها، استعداداً لملاقاة مصارع أصغر منه سنّا وأكبر حجماً في المباراة المقبلة.

«المصارع» (أبلبوكس فيلمز)

هناك كثير مما يتأمله المخرج شودهوري بطيئاً قبل تلك المباراة وما بعدها. بعضُ المشاهد لديها نسبة معقولة من الشِّعر الناتج عن تصوير الطبيعة (ماء، أشجار، حياة... إلخ) وبعضها الآخر لا يفضي إلى تقدير خاص. في نصف الساعة الأولى يعكس المخرج شغفاً ما بتصوير شخصياته من الخلف. عندما يتخلى المخرج عن هذه العادة لاحقاً، يستبدل بتلك اللقطات سلسلة من المشاهد البعيدة عن شخصياته في الغالب. هنا يتحسّن تأطير اللقطات على نحوٍ نافع ولو أن شغله على الدراما يبقى غير ذي مكانة.

يطرح الفيلم مشكلة رجلٍ لا يريد الاعتراف بالواقع ويتحدى من هو أكثر قوّة منه. يحقّق طموحه بلقاء المصارع الآخر ويخفق في التغلب عليه. في الواقع يسقط أرضاً مغشياً ومن ثمّ نراه لاحقاً في بيت العائلة قبل أن يعود إلى تلك الأشجار ليصارعها. المخرج (ثاني فيلم له) طموح، لكن أدواته التّعبيرية وإمكانياته التي تفرض نفسها على السيناريو وحجم الفيلم بأسره، محدودة.

* عروض: موسم الجوائز ومهرجان «آسيا وورلد فيلم فيستيڤال».

ONE OF THOSE DAYS WHEN HEMME DIES ★★★

* إخراج: مراد فرات أوغلو (تركيا).

قرب نهاية الفيلم يبدأ الشاب أيوب مراجعة ما مرّ به طوال اليوم. لقد انطلق غاضباً من المُشرِف على العمل عندما شتم أمّه. يعمل أيوب في حقلٍ لتجفيف الطاطم. ويعرف المخرج كيف يوظّف المكان، درامياً (سهل منبطح تحت شمس حامية وصعوبة العمل)، وجمالياً (تلك الثمار المقطوعة إلى نصفين والملقاة فوق شراشف على مد النظر).

«أحد تلك الأيام التي مات فيها هيمي» (مهرجان مراكش)

نقطة الخلاف أن أيوب يُطالب بأتعابه، لكن المُشرف على العمل لم يتقاضَ المال بعد ليدفع له، مما يؤجّج غضب أيوب فينشب شجار بينهما. يركب دراجته النارية وينطلق صوب بلدته. في منزله مسدسٌ سيتسلّح به وفي البال أن يعود لينتقم. معظم الفيلم هو رحلة على الدراجة التي تتعطل مرّتين قبل إصلاحها عند المساء. الأحداث التي تقع على الطريق وفي القرية الصغيرة تُزيّن الموضوع بشخصيات تدخل وتخرج من الحدث الرئيسي الماثل. في أحد هذه الأحداث الثانوية يُساعد أيوب رجلاً عجوزاً اشترى بطيخة ولا يستطيع حملها، فيوصله والبطيخة إلى داره. وفي مشهد آخر يستمع لتوبيخ زوج شقيقته لأنه كان عرض عليه العمل في شركته ورفض. لا يقول لنا الفيلم لماذا رفض ما ينتقص من بنية الموضوع وأسباب عزوف أيوب على تنفيذ وعده لنفسه بالانتقام.

اعتمد المخرج هذين المشهدين وسواهما لملء الوقت الممتد بين عزم أيوب على الانتقام وعزوفه عن ذلك. لكنه هذه المشاهد ضرورية رغم أن الفيلم ينتهي من دون أن يبني حجة دامغة لقرار أيوب النهائي. هذا الفيلم دراما مصوّرة جيداً ومكتوبة بدراية، رغم الهفوات المذكورة.

* عروض حالياً في مهرجان «مراكش»

★ ضعيف | ★★: وسط| ★★★: جيد | ★★★★ جيد جداً | ★★★★★: ممتاز