أثر الترجمة في اللغة ودرجة استيعابها العلوم

تبقى أوعية وتتبدل بوصفها دلالات جراء فعل التاريخ والتلاقحات

أثر الترجمة في اللغة ودرجة استيعابها العلوم
TT

أثر الترجمة في اللغة ودرجة استيعابها العلوم

أثر الترجمة في اللغة ودرجة استيعابها العلوم

استطاعت اللغة العربية أن تستوعب العلوم اليونانية والفارسية والهندية بسرعة هائلة. وبمجرد أن بدأت عملية الترجمة، وبخاصة في عصرها الذهبي مع الخليفة العباسي المأمون، أصبحت العربية تتخذ شكلا مطواعا لتستجيب لما ندبت إليه، حيث اتسع صدرها للكثير من الكلمات والمعاني الاصطلاحية والتراكيب الفنية والألفاظ العلمية الأجنبية، إلى درجة أن تحولت من لغة ضيقة ذات طابع قبلي، إلى لغة عالمية. فأصبحت لغة العرب هي لغة الدين والحكمة، والقانون والسياسة، والإدارة والتجارة، والكتابة والتأليف. بكلمة واحدة، أصبحت هي لغة الحضارة بامتياز، حيث اكتسحت اللغات المحلية آنذاك، واستطاعت أن تحد من أخواتها الساميات. وكانت اللغة السريانية (وريثة الآرامية لغة المسيح) إحدى ضحاياها، رغم أنها كانت الوسيط المعتمد لعملية نقل العلوم آنذاك.
ولمعرفة حال العربية في القرون الوسطى، نذكر بشغف الأندلسيين بالعربية، إلى درجة نسيانهم اللاتينية، بل تسربت العربية إلى الكنائس، حتى اضطر أحد القساوسة من أهل اشبيلية، إلى نقل الكتاب المقدس إلى العربية ليقرأه تلاميذه. ولتوضيح الأمر أكثر، نستحضر تلك القصة التي يستشهد بها الباحثون، وهي، أن كاهن قرطبة إلفارو، في أواسط القرن التاسع للميلاد، كان يستغيث ويجأر بالشكوى من أبناء دينه الذين يطالعون أشعار العرب، ويستغرقون في دراسة كتابات الفقهاء وعلماء الكلام المسلمين وفلاسفتهم. لا لتفنيدها، بل لتعلم أسلوب عربي بليغ. وهكذا نسي المسيحيون لغتهم، وحذقوا اللسان العربي، وأقبلوا على كتب العرب في نهم وشغف، بل كتبوا بها وبتفوق عن العرب أنفسهم.
هذا يدل على المستوى الرفيع الذي بلغته العربية، وكيف أن جواز مرور العلمية كان لا يتم إلا بها، بل حتى العلماء المسلمون الكبار ذوو الجذور الفارسية، كانوا يكتبون بالفارسية، لكن وقصد الذيوع والانتشار والحصول على القبول العلمي كانوا يخصصون نسخة أخرى بالعربية. وهو ما قام به مثلا الخواجة نصير الدين الطوسي في القرن الثالث عشر الميلادي، بل هو ما قام به، وفي وقت مبكر، المترجم المتميز والحذق، المسيحي النسطوري، حنين بن إسحاق. فإبان القرن التاسع للميلاد، كان ينقل، أحيانا، التراث اليوناني إلى السريانية في نسخة، وٳلى العربية في نسخة أخرى. لكن رغم ذلك، احتضرت السريانية أمام قوة العربية، فلم تعد الكتب المنتشرة إلا بها.
بعد الاصطدام بالمختلف عن طريق الرغبة في اقتحام عوالمه بالترجمة، كانت العربية مطالبة بمواجهة الأمر بأفق رحب يعمل على توسيع رداء اللغة، وعلى المزيد من الاشتقاق فيها، ونحت مصطلحات جديدة، وتكييف لبنيتها كي تلبي حاجات الحضارة. وبالفعل، أصبحت تعبر وبسلاسة عن جميع ما تفرضه العلوم، من طب ونبات وفلك وفلسفة ومنطق. وإذا ما أردنا معرفة ما تركته الترجمة من أثر في اللغة العربية، فلنقارن بين الأدب العباسي والأدب الجاهلي لنكتشف ما حصل من تبدل. فالتلاقح الحضاري لا يبقي الأمور كما هي، بل يخصبها ويجعلها تدخل في تركيبات جديدة، ويقحمها في مواضيع لم تكن معهودة. وطبعا لم يكن الثمن سهلا، بل إن التطور في اللغة أفقدها صفاءها ونقاءها الأول. يقول الجاحظ في هذا الصدد: «فاللغة إذا دخلت على أختها أفسدتها».
إن العلوم والفلسفة كانت تعد أعجمية، وهي دخيلة تم استيرادها واستجلابها من الحضارات القديمة. ومع إرادة تأسيسها من طرف السلطة، وبخاصة زمن الخلافة العباسية، وإقحامها في التربة الإسلامية، كان لزاما أن يحدث تجديد في اللغة نفسها كي تستوعب المعاني غير المألوفة. وهذا ما حدث بالفعل، بحيث اكتسبت العربية سلاسة وجزالة ومرونة، فأصبحت قادرة على أن تعبر عن منطق أرسطو وفلسفة أفلاطون وطب أبقراط وغالينوس، وفلك ٳبرخس وبطلميوس ورياضيات ٳقليدس.
لقد مكن الاختلاط بالشعوب الأخرى، عن طريق الترجمة، من جعل الكثير من الكلمات اليونانية والفارسية والقبطية والسريانية، تتسرب إلى العربية وتصبح جزءا منها، حيث بقيت على حالها مع بعض التحوير، لكي تتناسب والوزن والجرس العربي. فمثلا، أخذ العرب عن اليونانية كلمة (هيولي)، بمعنى مادة و(ٳسطقس) بمعنى عنصر، وعن السريانية (الميمر) بمعنى الباب أو الفصل، وعن الفارسية (الهندسة)، لقد نفذت الكثير من الكلمات الأجنبية مثل كيمياء وموسيقى وزنديق وديباج وٳزميل وإبريق وغيرها، بل تم الاشتقاق منها وفق الأوزان العربية، فنجد: تفلسف وتزندق وتمنطق.
إن الترجمات الأولى كانت في بداياتها رديئة وضعيفة إلى درجة أن بعض الكلمات نقلت كما هي، وتم الاحتفاظ بها بأصلها الأجنبي. لكن مع مزيد من النضج في عمليات الترجمة، تم تعويض بعض تلك الكلمات رويدا رويدا بألفاظ عربية خالصة أكثر دلالة ورشاقة، بحيث يستسيغها اللسان العربي. ولتوضيح الأمر نضرب المثال التالي: أنالوتيقا: التحليل - سوفستيقا: المغالطة - كاتيغورياس: المقولات - أرتماتيقا: التعاليم (الرياضيات) - ياري أرمينياس: العبارة - توبيكا: الجدل - ريتوريكا: الخطابة - بولتيكا: السياسة.
إذن، وكما نلاحظ من المثال أعلاه، فإن المترجمين الأوائل تركوا بعض الألفاظ كما هي في لغاتها الأجنبية. لكن سرعان ما ستتحول هذه الكلمات الأجنبية إلى ترجمات عربية مبينة، عندما اكتشف العرب أن العربية قادرة على أن تعبر عنها بيسر وبدلالات أعمق.
وفي الحقيقة، تجب الإشارة إلى أن هذه الطفرة التي وقعت للعربية جراء الترجمة، لم تكن هي الأولى، بل هي الثانية. فمع ظهور الإسلام ونزول القرآن الكريم، وقع تغير دلالي هائل لبعض الكلمات، وتم ضخها بشحنات جديدة لم تكن معهودة من قبل: فالصلاة والزكاة والجهاد والإيمان والكفر والجنة والنار، كلها أخذت معاني تتلاءم والدين الجديد. بل حتى النحاة استخدموا ألفاظا كالرفع والجر والنصب والضم وغيرها، والمبتدأ والخبر والفاعل والمفعول به والإسناد. بالتأكيد لن يفهمها العربي في الجاهلية بالمعنى نفسه، فالأفق اختلف مما يلزم عنه تغيير في المعنى أيضا.
وبعودتنا إلى الترجمة وتخصيبها للعربية، سنجد أن الكلمات قد تناسلت بطريقة متسارعة. قيل مثلا: مادة وصورة، جوهر وعرض، ماهية وهوية، كم وكيف وأين، وموضوع ومحمول، وقضية وفصل، وحد ورسم، وتصور وتصديق، ومقدمة ونتيجة، وقوة وفعل، وعلة ومعلول، وهيئة وكواكب متحيرة وأفلاك تدوير وأزياج ومعدل مسير. وهكذا من الألفاظ التي كثرت سواء جراء نضج العلوم المسماة شرعية وحاجتها إلى الضبط والتدقيق، أو جراء الترجمة التي أغرقت العربية بمصطلحات وألفاظ جديدة، إلى درجة كان من الطبيعي أن تبدأ عملية وضع معاجم متخصصة لضبط هذا السيل من الكلمات التي تحتاج إلى تفسير، وما «كشاف اصطلاحات الفنون» للتهانوي و«التعريفات» للجرجاني و«مفاتيح العلوم» للخوارزمي، إلا أمثلة على ذلك.
ما أشبه اليوم بالبارحة، فما تزال لغتنا تحدث فيها التغيرات على الدوام، جراء التلاقح مع الغير. فلغتنا العربية الحالية، هي أيضا، قد حدث لها طفرات وتغيرات ضخمة جراء الاقتحام الأوروبي لثقافتنا. فمثلا لم تعد السيارة لها فقط معنى القافلة. وهكذا يقال عن الدبابة والمسدس، والذرة والجرثومة، والعنصر والهاتف، والصاروخ والطائرة، والمكتب والمحافظة، وغيرها من الألفاظ التي تغلفت بطبقات جديدة من المعاني لم يعهدها السابقون أبدا. فبالتأكيد لن يفهم الجاحظ ولا ابن المقفع ما المقصود منها.
إذن، اللغة بصفتها أوعية تبقى، لكن بصفتها دلالات تتبدل جراء فعل التاريخ والتلاقحات مع المختلف. فمع مرور القرون والتجارب والخبرات، نجد أن اللفظ يشحن ويعبأ، وتعلق به معان تكون مختلفة أحيانا عن الأصل، فيصبح اللفظ بدلالات مغايرة كأنها طبقات فوق طبقات، وكل طبقة تشوش على الأخرى. وتظهر مشكلات في المعنى. فنجد أنفسنا نردد الألفاظ نفسها، لكن ليس بالدلالة نفسه. وهذا تكون انعكاساته وخيمة على التواصل السليم. وأكيد هنا تصبح اللغة قاتلة. فالمشكلة على الدوام ليست في المبنى، بل في المعنى.



قصة «أيمن» الحقيقي بطل القصيدة والأغنية

قصة «أيمن» الحقيقي بطل القصيدة والأغنية
TT

قصة «أيمن» الحقيقي بطل القصيدة والأغنية

قصة «أيمن» الحقيقي بطل القصيدة والأغنية

لطالما كانت كلمات الأغاني محل اهتمام البشر بمختلف أجناسهم وأعمارهم وشرائحهم الاجتماعية والثقافية. وإذا كانت القلة القليلة من الباحثين وأهل الاختصاص تحصر تعاملها مع الأغاني في الإطار النقدي، فإن معظم الناس يبحثون في كلماتها، كما في اللحن والصوت عما يحرّك في دواخلهم أماكن الرغبة والحنين وترجيعات النفس والذاكرة. لا، بل إن بعض الأغاني التي تعجز عن لفت انتباه سامعيها بسبب سذاجتها أو مستواها الهابط سرعان ما تكتسب أبعاداً وتأثيرات لم تكن لها من قبل، حين يمرون في تجربة سفر أو فراق أو حب عاصف أو خيانة غير متوقعة.

وحيث لا يُظهر البعض أي اهتمام يُذكر بالدوافع التي أملت على الشعراء كتابة النصوص المغناة، فإن البعض الآخر يجدُّون بدافع الفضول أو المعرفة المجردة، في الوقوف على حكايات الأغاني ومناسباتها وظروف كتابتها. وهو فضول يتضاعف منسوبه إذا ما كانت الأغنية تدور حول حدث بعينه، أو اسم علم مبهم الملامح وغير مكتمل الهوية.

وإذا كان لموت الأبطال في الملاحم والأساطير وحركات المقاومة تأثيره البالغ في النفوس، فإن موت الأطفال في الحروب يكتسب تأثيره المضاعف لأنه ينتقل من الخاص إلى العام فيصيب البراءة في عمقها ويسدد طعنته القاتلة إلى نحر الأحلام ووعود المستقبل. وهو ما جسّدته بشكل جلي أعداد وافرة من الروايات واللوحات التشكيلية والقصائد والأغاني، بدءاً من قصيدة «الأسلحة والأطفال» لبدر شاكر السياب، وليس انتهاءً بشخصية «شادي» المتزلج فوق ثلوج الزمن الذي حولته الأغنية الفيروزية رمزاً أيقونياً لتراجيديا البراءة الطفولية التي قصفتها الحرب في ريعانها.

ولم تكن مأساة «أيمن» الذي قتلته الطائرات الإسرائيلية المغيرة على الجنوب اللبناني في نهاية عام 1977 والتي استوحيت من حادثة استشهاده القصيدة التي تحمل الاسم نفسه، سوى حلقة من حلقات التراجيديا الإنسانية التي تجدد نفسها مع كل صراع قومي وإثني، أو مواجهة قاسية مع الطغاة والمحتلين. تجدر الإشارة في هذا السياق إلى أن الفارق بين شادي وأيمن هو أن الأول قد اخترعه الرحبانيان بخيالهما المحض، في حين أن أيمن كان طفلاً حقيقياً من لحم ودم، قضى في ظل الظروف نفسها والصراع إياه.

أما الفارق الآخر الذي لا ينبغي إغفاله، فيتمثل في كون النص الرحباني كُتب في الأساس ليكون جزءاً من مسرح الأخوين الغنائي، في حين أن قصيدة أيمن لم تُكتب بهدف الغناء، رغم أن جرسها الإيقاعي سهّل أمر تلحينها وغنائها في وقت لاحق. ومع ذلك، فإن ما يثير العجب في تجربة الرحبانيين هو أن كتابة النص أغنيةً لم تنقص بأي وجه من رشاقته وعوالمه الساحرة وأسلوبه التلقائي.

والواقع أنني ما كنت أعود لقصة أيمن بعد 47 عاماً من حدوثها، لو لم تكن هذه القصة محلّ أخذ ورد على مواقع التواصل الاجتماعي في الآونة الأخيرة، فهوية الطفل القتيل قد حُملت من قِبل المتحدثين عنها على غير رواية ووجه. على أن تبيان وقائع الحدث المأساوي لا بد أن تسبقه الإشارة إلى أن الفنان مرسيل خليفة الذي كانت تربطني به ولا تزال صداقة وطيدة، كان قد فاتحني بشأن كتابة نص شعري يعكس مأساة لبنان الرازح تحت وطأة حربه الأهلية، أو معاناة الجنوبيين وصمودهم في وجه العدو الإسرائيلي. ومع أنني عبّرت لمرسيل عن حماسي الشديد للتعاون معه، وهو الذي اعتُبر أحد الرموز الأبرز لما عُرف بالأغنية الوطنية أو الملتزمة، أبديت في الآن ذاته توجسي من أن يقع النص المطلوب في مطب الحذق التأليفي والصنعة المفتعلة. وإذ أجاب خليفة الذي كان قد أنجز قبل ذلك أغنيات عدة مقتبسة من نصوص محمود درويش، بأن المسألة ليست شديدة الإلحاح وأنه ينتظر مني الاتصال به حالما ينجز الشيطان الذي يلهمني الشعر مهماته.

ولم يكد يمرّ أسبوعان اثنان على لقائي صاحب «وعود من العاصفة»، حتى كنت أتصل هاتفياً بمرسيل لأسمعه دون إبطاء النص الذي كتبته عن أيمن، والذي لم يتأخر خليفة في تلحينه وغنائه. لكن مَن هو أيمن؟ وفي أي قرية وُلد وقضى نَحْبَه؟ وما هي قصته الحقيقية وسبب معرفتي به وبمصيره الفاجع؟

في أوائل سبعينات القرن المنصرم وفي قرية «العزّية» الجنوبية القريبة من الطريق الساحلية الواقعة بين صور والبيّاضة وُلد أيمن علواني لأب فلسطيني وأم لبنانية من بلدة برجا اللبنانية الشوفيّة. وإذ كانت معظم أراضي القرية ملكاً لعائلة سلام البيروتية المعروفة، فقد قدُمت العائلة إلى المكان بهدف العمل في الزراعة شأنها في ذلك شأن عائلات قليلة أخرى، ليؤلف الجميع مجمعاً سكنياً صغيراً لا يتجاوز بيوته العشرين بيتاً، ولا يبلغ سكانه المائة نسمة. أما البساتين الممتدة هناك على مرمى البصر، فقد كان يتعهدها بالنمو والخصوبة والاخضرار نبع دائم الجريان يحمل اسم القرية، ويختتم سلسلة الينابيع المتقطعة الذي يتفتح أولها في كنف الجليل الفلسطيني دون أن يتمكن آخرها من بلوغ البحر.

شكَّل نبع العزية جزءاً حيوياً من مسرح طفولتي الأولى، حيث كان سكان قريتي زبقين الواقعة على هضبة قريبة من مكان النبع يقصدونه للسباحة والاستجمام ويلوذون بمياهه المنعشة من حر الصيف، كما أن معرفتي بأيمن وذويه تعود إلى عملي في التدريس في ثانوية صور الرسمية، حيث كان من بين تلامذتي خالة الطفل وبعض أقاربه الآخرين. وحين قصف الإسرائيليون بيوت القرية الوادعة بالطائرات، متسببين بتدمير بيوتها وقتل العشرات من سكانها الآمنين، ومتذرعين بوجود معسكر تدريب فلسطيني قريب من المكان، فقد بدا اغتيال أيمن ذي الوجه القمري والعينين الخرزيتين بمثابة اغتيال لطفولتي بالذات، ولكل ذلك العالم المصنوعة فراديسه من قصاصات البراءة ونثار الأحلام. وفي حين لم أجد ما أردّ به على موت أيمن سوى كتابة القصيدة التي تحمل اسمه، فإن ذوي الطفل القتيل قرروا الذهاب إلى أبعد من ذلك، فأنجبوا طفلاً آخر يحمل اسم ابنهم الراحل وملامحه، ويواصل حتى الساعة الحياة بالأصالة عن نفسه ونيابة عن أخيه.

بعد ذلك بات اسم أيمن بالنسبة لي محفوراً في مكان عميق من القلب والذاكرة إلى حد أنني كلما قرأته في جريدة أو كتاب، أو قابلت أحداً بهذا الاسم تناهت إلي أصداء ضحكات الطفل القديم وأطيافه المدماة على ضفاف نبع العزية. ومع ذلك، فإن السيناريو الذي ضجت به في الأسابيع الأخيرة مواقع التواصل الاجتماعي في لبنان، ومفاده أن قصيدة أيمن قد استوحيتْ من مقتل الطفل أيمن رحال إثر غارة إسرائيلية على قرية طير حرفا الجنوبية عام 1978، لم يكن هو وحده ما أصابني بالذهول، بل معرفتي بأن الرقيب في الجيش اللبناني الذي استُشهد مؤخراً بفعل غارة مماثلة هو الشقيق البديل لأيمن الأول.

ومع أنه لم يسبق لي معرفة أيّ من «الأيمنين» الآخرين، إلا أن نسبة القصيدة إليهما لا تضير الحقيقة في شيء، بل تؤكد مرة أخرى على أن الشعر كما الأغنية والفن على نحو عام يتجاوز الحدث الباعث على كتابته ليلد نفسه في كل زمن، وليتجدد مع كل مواجهة غير عادلة بين الأطفال والطائرات. لكن كم من أيمن عليه أن يسقط، وكم من قصيدة ينبغي أن تُكتب لكي يرتوي القتلة من دم القتلى وتأخذ الحرية طريقها إلى التفتح؟