عقيدة «حزب الله» في انتخابات لبنان

مع تداعيات تورطه في سوريا.. والآفاق الاقتصادية الملبّدة

عناصر من حزب الله يحملون أعلام الحزب خلال تشييع أحد قادته العسكريين مصطفى بدر الدين الذي قتل في هجوم استهدفه في سوريا في 13 من مايو (أ.ف.ب)
عناصر من حزب الله يحملون أعلام الحزب خلال تشييع أحد قادته العسكريين مصطفى بدر الدين الذي قتل في هجوم استهدفه في سوريا في 13 من مايو (أ.ف.ب)
TT

عقيدة «حزب الله» في انتخابات لبنان

عناصر من حزب الله يحملون أعلام الحزب خلال تشييع أحد قادته العسكريين مصطفى بدر الدين الذي قتل في هجوم استهدفه في سوريا في 13 من مايو (أ.ف.ب)
عناصر من حزب الله يحملون أعلام الحزب خلال تشييع أحد قادته العسكريين مصطفى بدر الدين الذي قتل في هجوم استهدفه في سوريا في 13 من مايو (أ.ف.ب)

أظهرت الانتخابات البلدية التي أجريت في لبنان، خلال مايو (أيار) الحالي، تراجعًا كبيرًا في شعبيِّة الأحزاب السياسة اللبنانية، ومن بينها ما يسمى بـ«حزب الله». وكشف ظهور دور العائلات وبروز المستقلين والحزب الشيوعي اللبناني عن أن «القاعدة الشعبية» للحزب لها اهتماماتها الاقتصاديّة المنفصلة عن التركيز الرئيسي لقيادته على السياسة الإقليمية، لا بل كشفت أيضًا عن انحسار هامش المناورة لدى الحزب داخل حاضنته الشعبية الشيعية منذ دخوله الحرب السورية، وتزايد التحديات الاقتصادية التي يواجهها لبنان.
يرى كثيرون أن ما يسمى بحزب الله بني سمعته على محاربة إسرائيل. ويعتبر البعض أن عملياته المسلحة أدت إلى - أو أسهمت - في انسحابها من لبنان عام 2000. غير أن هذا التنظيم المرتبط دينيًا وفكريًا وسياسيًا وعسكريًا بإيران يواجه اليوم معضلة مُتنامية، إذ إنه مع «انفلاشه» أو تمدده خارج حدود لبنان، وتصويره على أنه غدًا أكثر قوة من أي وقت مضى إقليميًا، بات في الحقيقة أكثر هشاشة تحديدا نتيجة هذا الانفلاش والتمدد.
منذ عام 2012، تخلى الحزب فعليًا عن كفاحه الأساسي ضد إسرائيل، عبر انضمامه إلى جانب نظام الرئيس السوري بشار الأسد في حربه ضد الثوار، ومعظمهم من السنّة. ووفقًا لمصادر مقرّبة من الحزب، يتمركز حاليًا ما بين 5 إلى 7 آلاف مقاتل من رجال الحزب في سوريا، التي شهدت معاركها أيضًا مقتل ما يزيد عن 1500 من مقاتليه.
وفي حديث إلى «الشرق الأوسط»، قال أحد المستشارين السابقين لدى الحزب - مفضّلا عدم الكشف عن هويته - إن «القاعدة الشعبية لحزب الله لا تزال تدعم تدخله في سوريا، والذين يشكّكون في تداعيات مشاركته في الحرب السورية هم أقلية من المستنيرين». ويؤيد هذا الرأي كمال فغالي، خبير الإحصاءات والاستطلاعات الانتخابية، الذي اعتبر في حوار مع «الشرق الأوسط» أن «تحالف حزب الله وحركة أمل (الحزب الشيعي الرئيسي الثاني في لبنان) تحالف سياسي عقد تحت شعار المقاومة. وعلى الرغم من جميع الانتقادات للرئيس نبيه برّي (رئيس مجلس النواب اللبناني وزعيم حركة أمل)، لا يستطيع أحد أن ينكر الجهود والمشاريع التنموية في الجنوب، من طرقات ومدارس ومستشفيات.. فالجنوب من أفضل المحافظات على مستوى البنية التحتية. وهذا فضلاً عن أن حزب الله، من جانبه، يموِّل عددًا من الهيئات الأهلية التابعة له، وقد حققت هذه الهيئات والمؤسسات - ولا تزال تحقق - إنجازات تنموية كبيرة. ولقد تُرجم هذا الدعم في الانتصار الذي حقَّقه الحزب في المناطق التقليدية، أي بعلبك – الهرمل، والضاحية الجنوبية، وكثير من القرى والبلدات في جنوب لبنان».
ولكن، مع ذلك، يكمن الشيطان في التفاصيل.
ذلك أنه كردّة فعلٍ شعبية لافتة، وعلى الرغم من قبضة حزب الله المشدّدة على المناطق الشيعية، واحتكاره الأسلحة، وتحالفه مع الحزب الشيعي الآخر الرئيسي (أي حركة أمل)، تمكّن عدد لا بأس به من المستقلين وممثلي العائلات، بالإضافة إلى الحزب الشيوعي اللبناني، من الحصول على أعداد متزايدة من الأصوات خلال الانتخابات البلدية الأخيرة، بل وتمكّن من تحقيق مكاسب جزئية في بعض المناطق الأخرى.
وفي حسابات الأرقام، وفقًا لمقال نشر على موقع «لبنان الآن» تناول نتائج محافظة بعلبك – الهرمل (شمال شرقي لبنان)، شكّلت لائحة «بعلبك مدينتي» المدعومة من المجتمع المدني في مدينة بعلبك، المعقل الأبرز والأكبر لحزب الله في شرق لبنان، منافسة قوية للائحة الحزب وحلفائه، وحصدت ما يقارب الـ45 في المائة من الأصوات. وفي مدينة الهرمل، ثاني أكبر المعاقل في المنطقة، واجه الحزب أيضًا لائحة مؤلفة من المجتمع المدني، تشكلت من نشطاء أرادوا «التصدِّي لفساد» المجلس البلدي السابق، منهم مَن كان داعمًا لحزب الله، والبعض الآخر للحزب السوري القومي الاجتماعي. وبالنتيجة، نجح أحد المرشحين المعارضين في خرق لائحة حزب الله – أمل، وهذا المرشح مع أنه من مؤيدي الحزب، فقد ترشح كمستقل بسبب خلاف مع القيادة، بحسب جريدة «لوريان - لوجور».
ومن ثم، كان واضحًا أن ارتفاع الأصوات الشيعيِّة المستقلة في المناطق التي يسيطر عليها حزب الله وحركة أمل انسحب بدوره على مناطق أخرى، مثل الضاحية الجنوبية للعاصمة بيروت، حيث أعلنت لائحة «الغبيري للجميع»، الشبيهة بلائحة «بعلبك مدينتي»، ممثلة بفعاليات وشخصيات وعائلات. ولقد شكّلت هذه اللائحة في منطقة تعتبر، أو كانت تعتبر، أحد أقوى معاقل الأحزاب الشيعية على الإطلاق، وتمكّنت من الحصول على نسبة تربو على الـ35 في المائة من الأصوات.
ولدى الانتقال إلى محافظتي الجنوب والنبطية (جنوب لبنان)، لم يشكل الحراك المدني وحده مصدر التحدي الخطر لقيادتي حزب الله وحركة أمل، بل تمكن الحزب الشيوعي – الذي كان حتى الحرب اللبنانية (1975 – 1990) يتمتع بحضور كبير مؤثر في المناطق الشيعية – وكذلك كثير من اليساريين المستقلين، من الحصول على عدد غير مسبوق من الأصوات.
ووفقًا لبيان صادر عن الحزب الشيوعي، فازت اللوائح المدعومة من الحزب في بلدات عين بعال والهبارية وراشيا الفخار وكفرشوبا وإبل السقي. كذلك تمكّن الحزب الشيوعي من تحقيق انتصارات جزئية في بلدات صريفا وأنصار ودير الزهراني وكفررمّان والمية ومية وعدلون ودير سريان وصفد البطيخ وكفرحمام والطيبة وتفاحتا وأنصارية وطيردبا (مسقط رأس قيادي حزب الله العسكري الراحل عماد مغنية الذي اغتيل في العاصمة السورية دمشق، عام 2008) ودير ميماس وعيترون وروم وطيرحرفا وبليدا وبلاط وعزة والعباسية وبرج الملوك.
وحول هذه النتائج، علّق قاسم قصير، المحلّل والخبير في شؤون الحركات الإسلامية، في حديث إلى «الشرق الأوسط»، معتبرًا أن «حزب الله حافظ على قاعدته الشعبية. ومع ذلك، كان هناك حالات من التمرّد، مثل الهرمل، وذلك بسبب سوء إدارة العملية الانتخابية». ومن ناحية ثانية، لاحظ المحامي ماجد فياض، الذي ترشح غير مرة ضد ثنائي حزب الله - أمل في الانتخابات العامة، أن «التمرد» انطبق أيضًا على حارة صيدا، الضاحية الشيعية الأبرز لمدينة صيدا ذات الغالبية السنّية، حيث لم تؤيد حركة أمل رئيس البلدية السابق سميح الزين الذي شكل لائحته الخاصة، وتمكن من الفوز. ومن المثير للاهتمام أيضًا في هذه الانتخابات، كما أكد مصدر مقرب من الحزب، أنه على الرغم من حثّ حزب الله جمهوره على المشاركة في التصويت، لم يلتزم إلا القليل بهذا «التكليف الشرعي».
وفي هذه الأثناء، على صعيد آخر غير متّصل مباشرة بالانتخابات، يواجه حزب الله تحدّيات متزايدة مرتبطة بحربه في سوريا، خصوصًا مع اغتيال قياديه العسكري البارز مصطفى بدر الدين، قريب عماد مغنية، وأحد الخمسة الذين اتهمتهم المحكمة الدولية بالتورط في اغتيال رئيس وزراء لبنان الأسبق رفيق الحريري، عام 2005. وفي الوقت الذي تشير فيه أصابع الاتهام الأولية عند البعض إلى إسرائيل، كمشتبه به رئيسي في تصفية بدر الدين، يتهم حزب الله الثوار السوريين، أو – كما يقول أحد المصادر – مَن يصفهم الحزب بـ«التكفيريين». وفي هذا السياق، أشار الكاتب نيكولاس بلانفورد، الخبير في شؤون حزب الله، في مقال نشر أخيرًا إلى «أن اغتيال بدر الدين الذي نفّذ في منطقة أمنية مغلقة، يشير إلى أن حزب الله بات هدفًا أكثر سهولة للضربات الإسرائيلية المحدّدة خلال السنوات الماضية، إذ إنه مقابل الازدياد الكبير في عدد عناصره، تدنّى مستواه الأمني المحكَم الذي طالما اشتهر به».
وتجدر الإشارة إلى أن قتل بدر الدين جاء ليضاف إلى لائحة طويلة من الاغتيالات التي تُتهم بها إسرائيل. ففي وقت مبكر من هذا العام، قصفت طائرات حربية إسرائيلية منزل سمير القنطار في دمشق، وهو المقرب من حزب الله والميليشيات المرتبطة بنظام بشار الأسد. وفي يناير (كانون الثاني) من عام 2015، استهدفت إسرائيل جهاد مغنية (ابن عماد مغنية) وجنرالا إيرانيا، خلال غارة نفذتها طائرة من دون طيار (درون) فوق مرتفعات الجولان.
إن تزايد الخسائر في صفوف قيادات الحزب، وعجزه عن تحقيق النصر الشامل في سوريا، بالإضافة إلى الآفاق الاقتصادية الملبَّدة في لبنان، وتزايد التململ الجريء في حاضنته الشعبية – كما بيّنت الانتخابات البلدية الأخيرة – من شأنها وضع مزيد من الضغوط على حزب الله، الذي يبدو أنه دخل في نفق ضيِّق، وأخذ هامش المناورة لديه يتقلص شيئًا فشيئًا.



تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
TT

تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)

غداة الزيارة المريبة التي قام بها الوالي العثماني المنحول إردوغان إلى تونس، علا صوت الكثير من الأحزاب التونسية والاتحادات العامة للشغل وغيرها من جماعات المجتمع المدني بالرفض لأن تكون تونس ممراً أو مستقراً لنقل «الدواعش» من سوريا إلى ليبيا بواسطة تركيا عبر بلادهم».
المطالب المتقدمة تعني أمراً واحداً، وهو يقين الشرفاء والنبلاء من الشعب التونسي بأن بعض من نوايا إردوغان الحقيقية بالنسبة لليبيا موصول بإعادة إنتاج التنظيم الإرهابي الأشرس في العقود الأخيرة (داعش)، وربما في طبعة جديدة أسوأ مما شهده العالم في العراق وسوريا خلال النصف الثاني من العقد الماضي.
أسئلة كثيرة تطل برأسها من نافذة الأحداث المتسارعة عن أحوال «داعش» وعن الفوضى والارتباك اللذين تتسبب فيهما تركيا في ليبيا، وفي الوسط تسعى لنقل معركتها إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط، وإلى العمق الأفريقي لأهداف سنأتي على تفصيلها.
علامة الاستفهام الأولى في هذا الحديث: «ما هو وضع الدواعش في الوقت الحاضر في موطن النشوء الأول ومن حول بلاد الشام التاريخية؟».
الجواب نجده بالتفصيل والأرقام عند هارون ي زيلين، الباحث في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، وعنده أنه في عام 2019 قدر البنتاغون أن ما بين 14 و18 ألف من مقاتلي تنظيم «داعش» لا يزالون في العراق وسوريا، والتساؤل ما الذي يفعلونه هناك؟
بلا شك مواصلة العمل كتنظيم إرهابي متمرد يكرس أعضاؤه جل وقتهم لمحاولة تهريب السجناء، وربما إعادة السيطرة على الأراضي، ومن خلال حرب استنزاف يعتقدون أنهم سيرهقون أعداءهم، كما أنهم يستفيدون من أي مساحات لا تسيطر عليها الحكومة المركزية أو يلعبون على وتر خطوط الصدع السياسية أو العرقية أو الدينية آملين في استغلالها لصالحهم.
> هل لدى التنظيم حتى الساعة مقدرة مالية على إدارة شؤونه بنفسه والإنفاق على عملياته الإرهابية؟
ــــ من الواضح أن الدواعش لا يزالون قابضين على ثروة تقدر بنحو 300 مليون دولار، ووفقاً لتقرير صادر عن الأمم المتحدة في يوليو (تموز) 2019، فإن «داعش» استثمر مجدداً أمواله في أعمال مشروعة، وربما بأسماء وهمية لا علاقة لها بأعضائه الإرهابين، أي من خلال عناصر نائمة، وذلك عبر العقارات، ووكلاء السيارات، ويوجد عدد منها في تركيا وفقاً لوزارة الخزانة الأميركية التي صنفت أفراداً من تنظيم «داعش» وشركات تحويل وصرافة على لائحة الإرهاب.
> ماذا تعني تلك البيانات المتقدمة؟
ــــ باختصار غير مخل، تشير إلى أن التنظيم لا يزال باقياً وفاعلاً، وأن الأيادي التركية السوداء تقف وراءه في أقصى الشرق، وها هي تجد فرصة غير مسبوقة ليعبر المتوسط جهة الغرب ويحل برحاله في ليبيا.
لم ينس إردوغان للحظة واحدة أنه في الشرق من ليبيا، توجد مصر الكنانة التي أسقطت مشروعه في عام 2013؛ فقد خيل له أنه قد أضحى الخليفة الجديدة بعد سنوات الربيع المغشوش؛ ولهذا فإن ملامح وعلامات الانتقام من مصر لا تغيب عن ناظريه، وقد حاول كثيراً استخدام الطابور الخامس من الإخوان المسلمين في مصر في زعزعة استقرار المحروسة وأخفق؛ ولهذا فقد بدا واضحاً أن الرجل المقهور يود نقل معركته إلى الداخل المصري بالاقتراب الكبير والمؤثر والفاعل؛ الأمر الذي لا يغيب عن أعين صقور المؤسسة العسكرية المصرية التي تقف له بالمرصاد.
وجد إردوغان ضالته المنشودة في جماعة الوفاق المنحلة، التي هي مزيج من الإخوان المسلمين والدواعش و«القاعدة» والجماعات الإرهابية كافة الشاردة والواردة، ومن خلال عمليات لوجيستية تتضح ساعة بعد أخرى، يمضي في إحياء التنظيم القاتل وله في ذلك أيضاً مأربان، أحدهما جهة الشمال والآخر ناحية الجنوب...ماذا عن ذلك؟
أما الشمال، فالمقصود به أوروبا، حيث العداء التاريخي المستحكم من تركيا تجاه أوروبا، وإردوغان يشعر بالغدر والخيانة من جراء رفض الاتحاد الأوروبي قبوله تحت سقفه؛ ولهذا أطلق تصريحات ذات طبيعة دوجمائية أكثر من مرة، حاول بها تفعيل مشاعر ديماجوجية في وسط الأتراك ليكتسب شعبية، رغم أن الأمر ارتد عليه مؤخراً بالسلب.
يسعى إردوغان من تأصيل وجود «الدواعش» على الشاطئ المتوسطي المواجه لأوروبا إلى استخدام الإرهاب الأصولي كأحدى أوراق نفوذه ضد ألمانيا، وفرنسا، وإيطاليا، والبرتغال، وقبلهما اليونان وقبرص، وهو أمر ليس بجديد عليه، فقد صرح قبل فترة بأنه قادر على فتح بوابات الوصول إلى أوروبا أمام اللاجئين والدواعش لإغراق أوروبا، وربما إحراقها بنيران الدواعش ومن لفّ لفّهم.
إردوغان أيضاً له مأرب آخر يتصل بعمق القارة الأفريقية، وهو يدرك أن ما فقده من أوهام الخلافة في الشرق الأوسط، ربما يجد له صدى في وسط أفريقيا، حيث يغيب الأمن كثيراً عن بعض الدول من جهة، ولا سيما المفككة اجتماعياً، وحيث تنتشر جماعات الإرهاب المشابهة من «حركة الشباب» و«بوكو حرام» وما شابه، وغالبيتها قد أعلنت ولاءها وانضواءها تحت راية تنظيم «داعش» الإرهابية وليس الإسلامية قبل نحو عامين.
والشاهد، أن إردوغان لا ينشئ فرعاً جديداً لـ«داعش» في ليبيا، وإنما يسعى لإيقاظ المؤتلفة قلوبهم، إن جاز التعبير، أولئك الذين هم دواعش في الباطن وإن أبدوا خلاف ذلك في العلن، والمعروف أن الأرضية الأصولية الإخوانية في ليبيا كانت قد انتهزت فرصة الإطاحة بمعمر القذافي عام 2011، حيث أقام المقاتلون مثل سوريا والعراق حكماً دينياً، غير أنه وفي عام 2016 استطاعت قوات الحكومة ومقاتلون من مصراتة بدعم من القوات الأميركية الخاصة وطائرات «إف 16» إخراج مقاتلي التنظيم من سرت في ديسمبر (كانون الأول) 2016.
في ذلك الهجوم قُتلت أعداد كبيرة من المتشددين، في حين هرب البقية إلى الجنوب بحثاً عن ملاجئ آمنة، وأقاموا معسكرات تدريب استخدموها للسطو على شاحنات النفط، وحصلوا على موارد من خلال التهريب، وهرب بعضهم إلى النيجر، حيث انضموا إلى فرع التنظيم هناك. ورغم عددهم القليل فإنهم استمروا في هجماتهم السريعة.
مؤخراً، وحتى قبل التدخل الإردوغاني المسموم، بدأ القلق يتزايد في سرت مرة أخرى، حيث تم اعتقال عشرة أشخاص يشتبه بتعاطفهم مع التنظيم، منهم مهندسة عثر على جهاز لاسلكي في بيتها، كما قبض على رجل قابل أعضاء في «خلية نائمة»، وأقاموا حاجز تفتيش خارج المدينة لإظهار أنهم لا يزالون فيها.
> هل بدأت مرحلة إحياء «داعش» ليبيا بشكل رسمي الأيام الأخيرة وبدعم علني من تركيا لا يواري ولا يداري أهدافه الآثمة؟
ــــ من الواضح أن ذلك كذلك، ولا سيما في ضوء ما رصده «المرصد السوري لحقوق الإنسان» في سوريا، والذي أشار قبل أيام إلى أن الفصائل السورية الموالية لتركيا قد افتتحت هناك مراكز تسجيل أسماء الأشخاص الراغبين بالذهاب للقتال في ليبيا.
> هل بدأ الحشد «الداعشي» التركي طريقه إلى ليبيا بالفعل؟
ــــ الشاهد، أنه، ومن أسف، قد بدأ عشرات الأشخاص يقصدون تلك المراكز للالتحاق بالمعارك في ليبيا للعمل تحت الحماية التركية هناك، كما نقلت مصادر محلية قولها إن الفصائل الموالية لتركيا تشجع الشباب على الالتحاق بالحرب الليبية، وتقدم مغريات ورواتب مجزية تراوح بين 1800 و2000 دولار أميركي لكل مسلح شهرياً، علاوة عل تقديم خدمات إضافية تتكفل بها الدولة المضيفة.
ولعل الذين تابعوا الأسبوع الماضي تصريحات المتحدث باسم الجيش الوطني الليبي اللواء أحمد المسماري قد وقر لديهم أن عجلة إحياء تنظيم «داعش» في ليبيا قد دارت بالفعل، وذلك من خلال الأصابع المشبوهة للمخابرات التركية التي تقوم بنقل عناصر التنظيم، عطفاً على القادمين والمنتمين الجدد والذين هم في غالبيتهم مرتزقة ومؤدلجون أصوليون، والنوعان معاً، ولا سيما من أعضاء «جبهة النصرة» من سوريا إلى ليبيا عبر مطار جربة في تونس، الأمر الذي يعود بنا إلى الحديث عن تونس مرة جديدة، ويربط بينها وبين ما يجري في ليبيا.
> هل تعرّض التونسيون إلى خدعة كبرى في اختيارهم الأخير؟
ــــ مهما يكن من أمر ساكن القصر الرئاسي، إلا أن المؤكد أن حزب «النهضة التونسي» ليس إلا وجهاً آخر من أوجه الإخوان المسلمين في تونس، وهو أحد فروع التنظيم الدولي لـ«الإخوان» المسلمين المنتشر حول العالم، يأتمر بأمرهم، ويتوجه كيفما يعنّ لبوصلتهم.
هنا يصبح من الحقيقي التسليم بالمعلومات التي رصدها الجيش الليبي من استخدام مطارات تونس لغرض إنشاء «داعش» جديدة على الأراضي الليبية، ومنها مطار جربة، حيث تم إنزال مجموعات إرهابية في تونس، وتم نقلهم إلى ليبيا عن طريق الجبل الغربي، ومطار مصراتة وزواره، ومعتيقة تحديداً التي استقبلت أعداداً كبيرة من «جبهة النصرة» وتنظيم «داعش».
في هذا السياق، يبقى من الطبيعي أن تنهض آمال «الدواعش» في تونس في الفترة المقبلة، أولئك الذين سيصبحون الجسر الواصل بين تونس وليبيا؛ الأمر الذي حذر منه البرلمان التونسي السابق قبل عودة النهضة الكارثية مرة أخرى، لكن في ظل السيطرة الإخوانية التونسية الأخيرة يكاد يكون الأمل سراباً في إعادة ضبط وتموضع «الدواعش» التونسيين.
حين نشير إلى أن دواعش ليبيا قد بدأوا مرحلة مغاير آخذة في التصاعد الإرهابي المؤلم، فإننا لا نرجم بالغيب، بل من خلال أدلة ليس آخرها الفيديو الذي أذاعوه نهار الخامس من ديسمبر 2019، وفيه ذبح لمواطنين ليبيين بينهم موظفون حكوميون سقطوا أسرى في أيدي التنظيم، ومشاهد بشعة لعمليات إعدام جماعية بالرصاص، في منطقة الفقهاء جنوب ليبيا.
الفيديو بثته وكالة «أعماق» التابعة لتنظيم «داعش» حمل اسم «وأخرجوهم من حيث أخرجوكم»، استمر نحو 31 دقيقة وأظهر معاملة مشينة من عناصر التنظيم للأسرى الذين وقع اختطافهم، أو المواطنين الذين تم اعتقالهم خلال عملياته الإرهابية على بلدة الفقهاء، حيث وثقت مقاطع عملية إعدام جماعية لأشخاص مكبلين رمياً بالرصاص على رؤوسهم.
الأسئلة الجوهرية في هذا السياق، هل ستبقى أوروبا مكتوفة الأيدي أمام تركيا وهي تعيد سيرة حروب القرون الوسطى من جديد، وهل ستكتفي بدور المشاهد بعد أن أسقطت نظام القذافي ولم يكن لها خطة لليوم التالي؟
ثم فيما يخص أميركا، لماذا يتسم موقفها بالميوعة السياسية، وهل يخشى إردوغان من التورط في الأزمة الليبية عسكرياً وهو في عام الانتخابات ولديه من الإشكاليات الداخلية ما يكفي؟
ألا تعد خطط إردوغان نوعاً من تهديد السلم العالمي، الأمر الذي يستوجب التنادي إلى البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة الخاص بالاتحاد من أجل السلم قبل أن يستفحل الضرر ويتحول المشهد إلى حرب إقليمية؟
ثم ما هو الدور الروسي في ليبيا وهي التي تسعى لاستعادة نفوذها هناك، وهل سيقدر لها قطع الطريق على الآغا العثمانلي بطريق مشابهة لما فعلته مع الدواعش في سوريا؟