من التاريخ: «ثلاثي» إيطاليا الموحّدة

تفتتت إيطاليا على مدار ما يقرب من 15 قرنًا من الزمان إلى قرابة 15 مملكة وولاية - كما تابعنا في الأسبوع الماضي - إلا أن القرن التاسع عشر الميلادي شهد منذ مطلعه بداية ظهور الروح القومية الإيطالية الهادفة إلى توحيد هذه الممالك خاصة بعد استيلاء نابليون بونابرت عليها كلها وإخضاعها للحكم الفرنسي لأقاربه. ولقد ترك الاحتلال الفرنسي مرارة كبيرة لدى هذا الشعب، خاصة بعدما تعرّض للفكر القومي الفرنسي، وهو ما دفعه لإنشاء بعض الكيانات القومية كالجماعة المعروفة باسم «الكارابينيري» (يطلق هذا الاسم اليوم الدرك أو الشرطة، ويعني حرفيًا «حملة البنادق») التي على الرغم من انتشارها فشلت. وذلك بسبب التدخلات النمساوية التي كانت تفرض على الدويلات الإيطالية فكرًا محافظًا بعد هزيمة فرنسا الثورية. إلا أن الإيطاليين وجدوا في كتابات القائد الوطني جيوزيبي ماتزيني وحركة «إيطاليا الفتاة» التي أسسها تجسيدًا لمفهوم القومية والدولة الموحدة، وبالتالي، بات يعد الأب الروحي للقومية الإيطالية الحديثة بكتاباته وأفكاره. ولكن مع هذا باءت كل محاولات توحيد التراب الإيطالي خلال الربيع الأوروبي عام 1848 بالفشل لتناثر الحركات وانعدام القوة السياسية والعسكرية الكفؤة.
بعدها ابتسمت الظروف عندما باشرت مملكة بييدمونت (بييمونته) – بشمال غرب البلاد - عبر رئيس وزرائها المحنك الكونت كاميلو كافور تلعب هذا الدور الهام، إذ بدأ كافور يجهز مملكته لهذه المهمة قبل الشروع في تنفيذها من خلال تطويرها اقتصاديًا وسياسيًا والقضاء على نفوذ الباباوية فيها، كما أنه انخرط بالكثير من المناورات الدبلوماسية التي جعلت من بييدمونت جزءًا من النسيج الدبلوماسي الأوروبي بعد انضمامها كحليف لفرنسا وبريطانيا في «حرب القرم» ضد روسيا بهدف استخدام الأخيرة للقضاء على النفوذ النمساوي المتفشي في البلاد.
بدأ كافور مهمة التوحيد من خلال افتعاله الصدام مع النمسا وجرّها إلى حرب مفتوحة عام 1859 بعدما ضمن تحالف فرنسا معه على أساس أن تحصل الأخيرة على إمارتي تي السافوا ونيس (في شرق فرنسا حاليًا) مقابل حصول بييدمونت على ممالك شمال ووسط شبه الجزيرة الإيطالية التي كانت تحتلها النمسا. وأسفرت الحرب عن انتصار جيش كافور وهزيمة النمساويين في معركتي ماجنتا وسولفيرينو، ومع أن فرنسا تخلت عنه بصلح منفر، فإن الانتصارات كانت كفيلة بضم أراض إيطالية كبيرة إلى مملكته، كذلك أدت إلى نشوب ثورات في ولايات أربع كانت تخضع لحكم الدولة البابوية منها بارما ومودينا. وعلى الفور دعمهما كافور ودخل مرة أخرى في مفاوضات مع فرنسا وعقد مع نابليون الثالث «اتفاق بلومبييه» عام 1859 الذي على أساسه سمحت فرنسا لبييدمونت بضم الممالك الأربع مقابل حصول فرنسا على نيس والسافوا، كما كان متفقًا عليه من قبل.
وهكذا بدأت بييدمونت (عاصمتها مدينة تورينو) تُجمّع الممالك الواحدة تلو الأخرى إلى حكمها الملكي الدستوري وسط فرحة إيطالية غامرة، في حين ظل الجنوب الإيطالي بعيدًا عن سطوة المملكة الشمالية الطموحة، كما ظلت النمسا تحتفظ بدويلات في وسط وشمال شبه الجزيرة الإيطالية، على رأسها البندقية (فينيتزيا) بينما كانت فرنسا تحمي الدولة البابوية عسكريًا، وهنا أصبح الوضع صعبًا بالنسبة لكافور. إلا أن القدر تدخل مرة أخرى ومنح القومية الإيطالية شخصيتها الثالثة بعد «فكر» ماتزيني و«سياسة» كافور.. ممثلةً بالقائد الثوري جيوزيبي غاريبالدي.
غاريبالدي كان محاربًا ثوريًا وعضوًا في «إيطاليا الفتاة»، لكنه اضطر بعد صدور حكم بالإعدام بحقه إلى الهروب من إيطاليا إلى أميركا اللاتينية حيث استقر في أوروغواي. وهناك انضم إلى الحركات التحرّرية فيها بعدما تزوج من ثورية برازيلية ثورية، وقاد قوات ثوار أوروغواي إلى انتصار حاسم على الأرجنتين بعد حملات مضنية تعلم خلالها إدارة الجيوش وحروب العصابات. بعدها عاد غاريبالدي إلى إيطاليا عام 1847، غير أنه اضطر إلى الهروب مرة أخرى بعد فشل «الربيع الإيطالي» عام 1849، لكنه هذه المرة فرّ إلى نيويورك بالولايات المتحدة، وهناك عمل بالتجارة إلى أن عاد مرة أخرى عام 1854، فاشترى جزيرة كابريرا الصغيرة، قبالة شاطئ جزيرة سردينيا، واستقر فيها.
والحقيقة أنه كان بمقدور غاريبالدي الخلود إلى الراحة، بيد أن روحه الثورية كانت أقوى من ذلك، إذ سرعان ما جمع جيشًا من ألف شخص ألبسهم جميعًا قمصانًا حمراء، فعرفوا بعد ذلك بهذا الاسم، وقادهم أولاً إلى جزيرة صقلية التي انتزعها من حاميتها الفرنسية من دون عناء يذكر. ثم أنزل قواته إلى جنوب شبه الجزيرة الإيطالية ومنها انطلقت شمالاً لتحرير ما تبقى من إيطاليا، وقد وقف الرجل بـ«الكاريزما» الاستثنائية التي يتمتع بها، واعدًا جنوده بأنه لن يقدم لهم لا الأكل ولا المأوى.. بل فقط حلم توحيد إيطاليا، وهذا ما كان كافيًا لإلهاب روحهم القتالية. وعلى الفور بدأت انتصاراته تتوالى، مما ترك كافور في حالة ذهول، خاصة، أنه لم يكن هناك أي تنسيق بينه وبين غاريبالدي. غير كافور كان من الحكمة، بل الدهاء، للسعي لاستيعاب غاريبالدي فعرض عليه التحالف بعدما حرّر الأخير مملكة نابولي بالكامل وأجبر ملكها الفرنسي على الفرار إلى فرنسا.
ولم يتردد غاريبالدي، من جانبه، بقبول التحالف، لأنه لم تكن له أي أهداف شخصية سوى توحيد إيطاليا، وحقًا كان هذا السبب الأساسي لقبوله عرض كافور وتسليمه حكم الممالك والدويلات المحرّرة إلى حكم بييدمونت. ومن ثم، بعدما صوّت الشعب في استفتاء للانضمام إلى بييدمونت، وافق غادريبالدي وضُمت هذه الممالك والدويلات لبييدمونت عام 1861 تحت حكم الملك فيكتور عمانويل الثاني (فيتوريو إيمانويله). وعلى الأثر، اجتمع البرلمان الإيطالي في تورينو وأقرّ المملكة الدستورية الجديدة لإيطاليا، ورفض الثوري غاريبالدي أي تكريم لشخصه من أحد، بل عاد إلى جزيرته الصغيرة بعدما حرر جزءًا كبيرًا من بلاده مؤثرًا العزلة على المغانم السياسية أو المادية في موقف إنساني ووطني لا يتكرر كثيرًا في التاريخ.
في العام التالي، توفي كافور عن 51 سنة، وكانت إيطاليا يومذاك موحّدة باستثناء مملكة البندقية وروما. وكانت الأخيرة تمثل حلمًا يداعب الإيطاليين لتكون العاصمة الجديدة للبلاد لما تمثله من قيمة قومية وتاريخية منذ سقوط الدولة الرومانية. ولم يطل انتظار المؤمنين بالقومية الإيطالية، إذ سرعان ما بدأت الظروف الأوروبية تدفع نحو تحقيق ما تبقى من الحلم الإيطالي بضم البندقية وروما بعدما تواجهت بروسيا الموحّدة بقيادة زعيمها الفذ أوتو فون بسمارك في صراع مع النمسا لاقتلاع نفوذها من الولايات الألمانية تمهيدًا لميلاد دولة ألمانيا. إذ تحالفت بييدمونت مع بروسيا ورغم هزيمة الأولى أمام القوات النمساوية، فإن هزيمة الجيوش النمساوية أمام آلة الحرب البروسية في معركة سادوفا الشهيرة عام 1866 تركت الباب مفتوحًا لاستغلال الضعف النمساوي وانتزاع البندقية من الحكم النمساوي بدعم بسمارك. وظل الحلم الإيطالي بالوحدة الكاملة ينتظر نهاية الحرب البروسية - الفرنسية، عام 1871، لانتزاع روما من السيطرة الفرنسية بعدما سحبت فرنسا قواتها للدفاع عن باريس خلال تلك الحرب. وهكذا أصبحت إيطاليا موحدة عام 1871. ثم في عام 1872 أعلنت روما عاصمة الدولة الإيطالية الموحدة محققة بذلك حلمًا داعب الإيطاليين لأربع عشر قرنًا من الزمان.
حقيقة الأمر أن ملحمة توحيد إيطاليا لا تخلو من التأمل لاستلهام العبر، وفيما يلي بعض الأفكار التي تتدافع في هذا الصدد:
أولاً: منح القدر حلم القومية الإيطالية لثلاث شخصيات متتالية زمنيًا ووظيفيًا لتحقق هذا الحلم، وصدق أحد الشعراء إذ قال: «ماتزيني... وكافور... وغاريبالدي، روح إيطاليا وعقلها وسيفها»، فلقد أثبت التاريخ الإيطالي أن الثورات من دون هذه العناصر الثلاثة غالبًا ما ستفشل.
ثانيا: كانت إيطاليا أول دولة كبرى في أوروبا تُبنى على أسس قومية في القرن التاسع عشر على أشلاء الإمبراطوريات والدول الكبرى.
ثالثا: امتد هذا الحلم القومي زمنيًا أكثر من أي حلم قومي أوروبي آخر، إذ طال أمده قرابة 14 قرنًا من الزمان، وذلك رغم وجود النيات والفكر والروح التي لا يمكن إخفاؤها منذ القرن السادس عشر، ويكفينا هنا الإشارة إلى أن المفكر السياسي الداهية نيكولو ماكيافيلي كتب كتابه الشهير «الأمير» ليكون وسيلة للأمير والسياسي تشيزاري بورجيا (سيزار بورجيا) لأنه كان يرى فيه الشخصية القادرة على توحيد إيطاليا، ولعل ماكيافيلي كتب جملته الشهيرة «الغاية تبرر الوسيلة» كتبرير لهدفه القومي في وحدة إيطاليا.