الفكر الديني والإصلاح الدستوري الحديث

معالم من اجتهادات خير الدين التونسي ورفاعة الطهطاوي

الفكر الديني والإصلاح الدستوري الحديث
TT

الفكر الديني والإصلاح الدستوري الحديث

الفكر الديني والإصلاح الدستوري الحديث

مع تسابق بعض الحركات المتشدّدة مثل «القاعدة» و«داعش» الرافعة لواء الإسلام والزاعمة التكلم باسمه على احتكار المضامين السياسية للدين الحنيف، نعرض فيما يلي نموذجين مخالفين تمامًا لما يزعم المتطرّفون أنه يجسد مفهوم الإسلام لـ«الدولة»، ويقدمان نظرتين إصلاحيتين متبصّرتين للفكر الديني المستنير والإصلاح الدستوري الحديث.
بقي العالم الإسلامي، خصوصًا، في عهد النهضة الحديثة ودعوتها الدينية الإصلاحية، مترابط الحلقات ومتجاوزًا اختلافات المذهبية والطائفية ومستحضرًا بقوة التقدّم الأوروبي وأطماعه في المشرق والمغرب الإسلامي. وكانت الدعوات والمحاولات الإصلاحية قد بدأت منذ مطلع القرن الثامن عشر ترفع في عهد الدولة العثمانية تحت تأثير واضح بالإنجازات الغربية. ففي تونس دعا الإصلاحي خير الدين التونسي إلى تنظيم الدولة ومأسستها، واعتقد أن النظام السياسي يحتاج إلى الحرية السياسية، ومن ثمة، إلى المعارضة إذا لزم الأمر. والحرية عند خير الدين نوعان: الأول شخصي، والثاني سياسي، وهما معًا مقرران في التراث الإسلامي. بل إنها ترتقي إلى مرتبة الواجب، ويستشهد التونسي بقول عمر بن الخطاب (رضي الله عنه): «من رأى منكم فيّ اعوجاجًا فليقومه».
ولدعم أطروحته قدم خير الدين النموذج الأوروباوي، الذي زعم أن إطلاق أيدي الحاكمين والدولة قد يؤسس للظلم والخراب. لذلك «جزموا بلزوم مشاركة أهل الحل والعقد.. في كليات السياسة» مع جعل المسؤولية في إدارة الدول على الوزراء المباشرين. إلا أن التطور الدستوري التونسي لسنة 1860م، وما أعقبه من مطالب إصلاحية دستورية وسياسية شاملة لم تحقق التثبيت المرجو للفكر الدستوري في النظام السياسي القائم، ولم تغير من الفكر السياسي الشعبي التونسي حيال فكرة التنظيمات والدستور.
الدعوة الإصلاحية التونسية
إن الصورة التي يقدمها خير الدين التونسي في كتابه «أقوام المسالك في معرفة أحوال الممالك»، لا سيما في مقدمة هذا الكتاب، تظهر ذلك الأخذ بالمعطيات السياسية وانعكاسها على المستوى الفكري والبرنامجي للدعوة الإصلاحية، فعندما وضع خير الدين التونسي كتابه السابق، كانت تونس زمن أحمد الباي قد وضعت لنفسها أول دستور في تاريخها، يستلهم التجربة الغربية الدستورية، لكن هذه التجربة أنهاها الاستعمار الذي دخل البلاد سنة 1881م.
ينطلق المصلح التونسي من مُسلّمتين أساسيتين: الأولى تؤكد أن الدول «التي لا تنسج على منوال مجاوريها فيما يستحدثونه من الآلات الحربية، والتراتيب العسكرية توشك أن تكون غنيمة لهم ولو بعد حين». أما المُسلّمة الثانية فتقول «بضرورة أن التنظيم الدنيوي أساس متين، لاستقامة نظام الدين». والنظر إلى أحوال المسلمين يقع على خلل الدول خصوصًا دولة آل عثمان، فسلاطينها خالفوا قاعدة التنافس مع الأوروبيين، خصوصًا في استحداث مصادر القوة العسكرية وتجديدها صناعةً وتنظيمًا وتدريبًا للجند. كما أنهم لم يتمكنوا من حفظ سمو الشورى في المجال السياسي، وسعوا في تدبير أمور الحكم بهدى غير تلك المقررة.
وإصلاحًا لهذا التردّي العام لم يتوانَ خير الدين التونسي في «بيان الأدلة الكافية لوجوب التنظيمات السياسية التي لو لم يكن إلا تنفير الأجنبي والمتوظفين منها، لكان كافيًا في الدلالة على حسنها ولياقتها بمصالح المملكة، كان ذلك من أهم الواجبات على أمراء الإسلام ووزرائهم وعلماء الشريعة، الاتحاد في ترتيب تنظيمات مؤسسة على دعائم العدل والمشورة.. غير معتبرين مقال بعض المجازفين بأن تلك التنظيمات لا تناسب حالة الأمة الإسلامية» (مقدمة أقوام المسالك في معرفة أحوال الممالك، ص 160).
ثم إن القيام بالتنظيمات لا يعني النجاح، بل يلزم أن يقوم بها وعليها إشرافًا وتصريفًا، من يحسنون «ترتيب التنظيمات»، ويغلبون ما تنتجه من همة وحرية، وما توفره من مصالح للرعية على «ما عسى أن يكتسبوه بالاستبداد من المنح الخصوصية». ومن متطلبات النجاح في الأمور السياسية، معرفة الحاكمين بكليات الأمور، واختيار الرجال «اللائقين بالخطط». ولذلك فإن سعادة الدول وشقاءها في أمورها الدنيوية إنما تكون بقدر ما تيسر لحاكميها من ذلك، وبقدر ما لديها من التنظيمات السياسية المؤسسة على العدل، ومعرفتها واحترامها من رجالها المباشرين لها «ولا يتوقف الموقف على تأسيس القوانين المتنوعة».
وتبعًا لذلك تطور النظام السياسي الأوروبي، وظهرت مجالس تمثيلية تسن القوانين، وتراقب الحكومة «وتقع المجادلة بالمجلس علنًا بين القادح والمدافع»، وبهذا التطور المؤسساتي يستقيم حال الدولة والبلاد. وأصبح التقرير في أمور السياسة العامة الذي تقوم به الدولة - الوزراء أو الحاكم - في حاجة إلى موافقة إرادة المجلس، التي تعبر في الحقيقة عن إرادة أهل المملكة.
التجربة المصرية
وكغيرها من الدول الإسلامية، شهدت مصر نوعًا من إعادة تكوين الفكر السياسي والاجتماعي، استهدف مناقشة أحوال الدولة ونظام الحكم، في ظل متغيّرات دولية عرضت مصر للتدخلات العسكرية الغربية، ولـ«زوابع» تياراتها الفكرية، مما ساهم في بروز ثقافة سياسية يقظة دافعت عن النظام الديمقراطي والدستور.
وترى الكتابات السياسية حول الحركة الدستورية المصرية، أن التبلوُر الفكري للمسألة الدستورية يعود إلى عهد الخديوي إسماعيل. غير أن الدكتور لويس عوض والمؤرخ عبد الرحمن الرافعي يتحدثان عن سوابق للاتجاه الدستوري المصري. أما من الناحية الفكرية فإن كتاب رفاعة الطهطاوي «تخليص الإبريز في تلخيص باريز» الذي يضم تسجيله للأحوال الاجتماعية والسياسية للفرنسيين في زمانه كما شاهدها في رحلته إلى باريس، يُعد من الكتب الأولى التي نادت بالإصلاح البرلماني. غير أن رفاعة الطهطاوي سينقل أفكاره السياسية والدستورية إلى مستوى عميق وأكثر تنظيرية في المجال السياسي في كتابه «مناهج الألباب».
وإلى ذلك نهج الطهطاوي منهج خير الدين التونسي في «تأطير» الفكر الإصلاحي السياسي ذي المنزع الدستوري، بل إنه يفوقه وضوحًا وجرأة في الطرح. إذ يرى الطهطاوي ضرورة تكييف منظورنا للشريعة مع المنفعة السياسية، وهو ما يسمى عند الفقهاء بالمصلحة العامة، فيذكر في كتابه «مناهج الألباب» أنه قد لا تقتضي الأوضاع الشرعية المتأدب بها في الدولة «عين المنفعة السياسية إلا بتأويلات للتطبيق على الشريعة».
وفي نقاشه للمنظومة القانونية الفرنسية لاحظ أنها قوانين غير مستمدة من الكتب السماوية، إلا أنه لا يجد كبير فرق بينها وبين ما هو معروف في الفقه الإسلامي، لذلك يخلص في هذه المسألة إلى أن «جميع الاستنباطات العقلية التي وصلت إلى عقول أهالي باقي الأمم المتمدّنة وجعلوها أساسًا لوضع قوانين تمدنهم وأحكامهم قلَّ أن تخرج عن تلك الأصول التي بنيت عليها الفروع الفقهية التي عليها مدار المعاملات، فما يسمى عندنا بعلم الفقه يسمى ما يشبهه عندهم بالحقوق الطبيعية أو النواميس الفطرية. وهي عبارة عن قواعد عقلية تحسينًا أو تقبيحًا يؤسِّسون عليها أحكامهم المدنية، وما يسمى عندنا بفروع الفقه يسمى عندهم بالحقوق أو الأحكام المدنية».
وفي هذا السياق، يرى رفاعة الطهطاوي أن هناك مشتركًا آخر مع الغرب، خصوصًا مع الآداب الفرنساوية، هو الحرية. فهي متأصلة في الفكر الإسلامي، ودليله المفاخرة التي وقعت بين النعمان بن المنذر ملك العرب وكسرى ملك الفرس. وللحسم في هذه المسألة يستدعي رفاعة قول عمر بن الخطاب (رضي الله عنه): «متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا». ولهذا اجتهد المصلح المصري لإيجاد بديل إسلامي للمصطلحات الغربية، «فالحرية والمساواة هما العدل والإنصاف، ونظام الحكم الغربي المقيد بالدستور بمثابة الشورى التي حث عليها الدين الإسلامي، والنواب هم أهل الحل والعقد وأحكام الشريعة والقانون الغربي متماثلة، مع أن هذا من وضع البشر وتلك منزلة».
ولقد ساهمت مثل هذه الثقافة في تحريك الوضع السياسي المصري، وظهر دور الشباب في العمل السياسي. حيث عقد «الشباب المصريون» اجتماعًا لهم، وقدّموا للخديوي عريضة تتضمن موقفهم من مبدأ الاقتراع العام والاقتراع المشروط، وكذلك في الانتخاب المباشر والانتخاب غير المباشر. ويرى أنور عبد الملك، أن مجموعة الشباب المصريين هم ممّن تتلمذوا على يد الطهطاوي (نهضة مصر، الهيئة المصرية للكتاب، طبعة 1983 ص 290).
إن مثل هذه الثقافة لم تكن معدومة في الثقافة السياسية المصرية، فقد أدت الثورة التي خرجت من الأزهر ضد خورشيد باشا التي أزاحته عن السلطة، وولّت محمد علي في 13 مايو (أيار) 1805م، إلى ثورة على مستوى التعاقد السياسي، إذ بويع محمد علي «بيعة مشروطة»، في موقف تاريخي من علماء مصر، وحرّر الشيخ الأزهري محمد المهدي هذه البيعة التي تقول: «إن للشعوب طبقًا لما جرى به العرف قديمًا ولما تقضي به أحكام الشريعة الإسلامية الحق في أن يقيموا الولاة ولهم أن يعزلوهم إذا انحرفوا عن سنن العدل وساروا بالظلم، لأن الظالمين خارجون عن الشريعة» (لويس عوض: الفكر المصري الحديث، ص 88). وغير خافٍ أن هذا النص يجعل مصدر السلطة الأمة، وكذلك كان الوضع الإسلامي قبل الثورة الفرنسية.
لقد استطاع الفقه والفكر الديني الإسلامي أن يدافع زمن النهضة عن دستورية وديمقراطية السلطة، واعتبر ذلك ضمن دفاعه عن الشريعة، والاستقلال الحضاري والترابي. ويبدو أن معركة الفكر الديني المتنور ما زالت مستمرة بآليات معاصرة رغم الاختلاف الواضح في الزمان وطبيعة الأفكار المطروحة.
* دكتور العلوم السياسة جامعة محمد الخامس - الرباط



«المراجعات»... فكرة غائبة يراهن عليها شباب «الإخوان»

جانب من اعتصام «الإخوان» في ميدان «رابعة» بالقاهرة عام 2013 عقب عزل مرسي (الشرق الأوسط)
جانب من اعتصام «الإخوان» في ميدان «رابعة» بالقاهرة عام 2013 عقب عزل مرسي (الشرق الأوسط)
TT

«المراجعات»... فكرة غائبة يراهن عليها شباب «الإخوان»

جانب من اعتصام «الإخوان» في ميدان «رابعة» بالقاهرة عام 2013 عقب عزل مرسي (الشرق الأوسط)
جانب من اعتصام «الإخوان» في ميدان «رابعة» بالقاهرة عام 2013 عقب عزل مرسي (الشرق الأوسط)

بين الحين والآخر، تتجدد فكرة «مراجعات الإخوان»، الجماعة التي تصنفها السلطات المصرية «إرهابية»، فتثير ضجيجاً على الساحة السياسية في مصر؛ لكن دون أي أثر يُذكر على الأرض. وقال خبراء في الحركات الأصولية، عن إثارة فكرة «المراجعة»، خصوصاً من شباب الجماعة خلال الفترة الماضية، إنها «تعكس حالة الحيرة لدى شباب (الإخوان) وشعورهم بالإحباط، وهي (فكرة غائبة) عن قيادات الجماعة، ومُجرد محاولات فردية لم تسفر عن نتائج».
ففكرة «مراجعات إخوان مصر» تُثار حولها تساؤلات عديدة، تتعلق بتوقيتات خروجها للمشهد السياسي، وملامحها حال البدء فيها... وهل الجماعة تفكر بجدية في هذا الأمر؟ وما هو رد الشارع المصري حال طرحها؟
خبراء الحركات الأصولية أكدوا أن «الجماعة ليست لديها نية للمراجعات». وقال الخبراء لـ«الشرق الأوسط»: «لم تعرف (الإخوان) عبر تاريخها (مراجعات) يُمكن التعويل عليها، سواء على مستوى الأفكار، أو السلوك السياسي التنظيمي، أو على مستوى الأهداف»، لافتين إلى أن «الجماعة تتبنى دائماً فكرة وجود (محنة) للبقاء، وجميع قيادات الخارج مُستفيدين من الوضع الحالي للجماعة». في المقابل لا يزال شباب «الإخوان» يتوعدون بـ«مواصلة إطلاق الرسائل والمبادرات في محاولة لإنهاء مُعاناتهم».

مبادرات شبابية
مبادرات أو رسائل شباب «الإخوان»، مجرد محاولات فردية لـ«المراجعة أو المصالحة»، عبارة عن تسريبات، تتنوع بين مطالب الإفراج عنهم من السجون، ونقد تصرفات قيادات الخارج... المبادرات تعددت خلال الأشهر الماضية، وكان من بينها، مبادرة أو رسالة اعترف فيها الشباب «بشعورهم بالصدمة من تخلي قادة جماعتهم، وتركهم فريسة للمصاعب التي يواجهونها هم وأسرهم - على حد قولهم -، بسبب دفاعهم عن أفكار الجماعة، التي ثبت أنها بعيدة عن الواقع»... وقبلها رسالة أخرى من عناصر الجماعة، تردد أنها «خرجت من أحد السجون المصرية - بحسب من أطلقها -»، أُعلن فيها عن «رغبة هذه العناصر في مراجعة أفكارهم، التي اعتنقوها خلال انضمامهم للجماعة». وأعربوا عن «استعدادهم التام للتخلي عنها، وعن العنف، وعن الولاء للجماعة وقياداتها».
وعقب «تسريبات المراجعات»، كان رد الجماعة قاسياً ونهائياً على لسان بعض قيادات الخارج، من بينهم إبراهيم منير، نائب المرشد العام للجماعة، الذي قال إن «الجماعة لم تطلب من هؤلاء الشباب الانضمام لصفوفها، ولم تزج بهم في السجون، ومن أراد أن يتبرأ (أي عبر المراجعات) فليفعل».
يشار إلى أنه كانت هناك محاولات لـ«المراجعات» عام 2017 بواسطة 5 من شباب الجماعة المنشقين، وما زال بعضهم داخل السجون، بسبب اتهامات تتعلق بـ«تورطهم في عمليات عنف».
من جهته، أكد أحمد بان، الخبير في شؤون الحركات الأصولية بمصر، أن «(المراجعات) أو (فضيلة المراجعات) فكرة غائبة في تاريخ (الإخوان)، وربما لم تعرف الجماعة عبر تاريخها (مراجعات) يُمكن التعويل عليها، سواء على مستوى الأفكار، أو على مستوى السلوك السياسي التنظيمي، أو على مستوى أهداف الجماعة ومشروعها»، مضيفاً: «وحتى الآن ما خرج من (مراجعات) لم تتجاوز ربما محاكمة السلوك السياسي للجماعة، أو السلوك الإداري أو التنظيمي؛ لكن لم تطل (المراجعات) حتى الآن جملة الأفكار الرئيسية للجماعة، ومقولتها الرئيسية، وأهدافها، وأدبياتها الأساسية، وإن كانت هناك محاولات من بعض شباب الجماعة للحديث عن هذه المقولات الرئيسية».

محاولات فردية
وقال أحمد بان إن «الحديث عن (مراجعة) كما يبدو، لم تنخرط فيها القيادات الكبيرة، فالجماعة ليس بها مُفكرون، أو عناصر قادرة على أن تمارس هذا الشكل من أشكال (المراجعة)، كما أن الجماعة لم تتفاعل مع أي محاولات بحثية بهذا الصدد، وعلى كثرة ما أنفقته من أموال، لم تخصص أموالاً للبحث في جملة أفكارها أو مشروعها، أو الانخراط في حالة من حالات (المراجعة)... وبالتالي لا يمكننا الحديث عن تقييم لـ(مراجعة) على غرار ما جرى في تجربة (الجماعة الإسلامية)»، مضيفاً أن «(مراجعة) بها الحجم، وبهذا الشكل، مرهونة بأكثر من عامل؛ منها تبني الدولة المصرية لها، وتبني قيادات الجماعة لها أيضاً»، لافتاً إلى أنه «ما لم تتبنَ قيادات مُهمة في الجماعة هذه (المراجعات)، لن تنجح في تسويقها لدى القواعد في الجماعة، خصوصاً أن دور السلطة أو القيادة في جماعة (الإخوان) مهم جداً... وبالتالي الدولة المصرية لو كانت جادة في التعاطي مع فكرة (المراجعة) باعتبارها إحدى وسائل مناهضة مشروع الجماعة السياسي، أو مشروع جماعات الإسلام السياسي، عليها أن تشجع مثل هذه المحاولات، وأن تهيئ لها ربما عوامل النجاح، سواء عبر التبني، أو على مستوى تجهيز قيادات من الأزهر، للتعاطي مع هذه المحاولات وتعميقها».
وأكد أحمد زغلول، الباحث في شؤون الحركات الأصولية بمصر، أن «الجماعة لم تصل لأي شيء في موضوع (المراجعات)، ولا توجد أي نية من جانبها لعمل أي (مراجعات)»، مضيفاً: «هناك محاولات فردية لـ(المراجعات) من بعض شباب الجماعة الناقم على القيادات، تتسرب من وقت لآخر، آخرها تلك التي تردد أنها خرجت من داخل أحد السجون جنوب القاهرة - على حد قوله -، ومن أطلقها صادر بحقهم أحكام بالسجن من 10 إلى 15 سنة، ولهم مواقف مضادة من الجماعة، ويريدون إجراء (مراجعات)، ولهم تحفظات على أداء الجماعة، خصوصاً في السنوات التي أعقبت عزل محمد مرسي عن السلطة عام 2013... وتطرقوا في انتقاداتهم للجوانب الفكرية للجماعة، لكن هذه المحاولات لم تكن في ثقل (مراجعات الجماعة الإسلامية)... وعملياً، كانت عبارة عن قناعات فردية، وليس فيها أي توجه بمشروع جدي».
وأكد زغلول، أن «هؤلاء الشباب فكروا في (المراجعات أو المصالحات)، وذلك لطول فترة سجنهم، وتخلي الجماعة عنهم، وانخداعهم في أفكار الجماعة»، مضيفاً: «بشكل عام ليست هناك نية من الجماعة لـ(المراجعات)، بسبب (من وجهة نظر القيادات) (عدم وجود بوادر من الدولة المصرية نحو ذلك، خصوصاً أن السلطات في مصر لا ترحب بفكرة المراجعات)، بالإضافة إلى أن الشعب المصري لن يوافق على أي (مراجعات)، خصوصاً بعد (مظاهرات سبتمبر/ أيلول الماضي) المحدودة؛ حيث شعرت قيادات الجماعة في الخارج، بثقل مواصلة المشوار، وعدم المصالحة».
وفي يناير (كانون الثاني) عام 2015، شدد الرئيس عبد الفتاح السيسي، على أن «المصالحة مع من مارسوا العنف (في إشارة ضمنية لجماعة الإخوان)، قرار الشعب المصري، وليس قراره شخصياً».
وأوضح زغلول في هذا الصدد، أن «الجماعة تتبنى دائماً فكرة وجود (أزمة أو محنة) لبقائها، وجميع القيادات مستفيدة من الوضع الحالي للجماعة، وتعيش في (رغد) بالخارج، وتتمتع بالدعم المالي على حساب أسر السجناء في مصر، وهو ما كشفت عنه تسريبات أخيرة، طالت قيادات هاربة بالخارج، متهمة بالتورط في فساد مالي».

جس نبض
وعن ظهور فكرة «المراجعات» على السطح من وقت لآخر من شباب الجماعة. أكد الخبير الأصولي أحمد بان، أن «إثارة فكرة (المراجعة) من آن لآخر، تعكس حالة الحيرة لدى الشباب، وشعورهم بالإحباط من هذا (المسار المغلق وفشل الجماعة)، وإحساسهم بالألم، نتيجة أعمارهم التي قدموها للجماعة، التي لم تصل بهم؛ إلا إلى مزيد من المعاناة»، موضحاً أن «(المراجعة أو المصالحة) فكرة طبيعية وإنسانية، وفكرة يقبلها العقل والنقل؛ لكن تخشاها قيادات (الإخوان)، لأنها سوف تفضح ضحالة عقولهم وقدراتهم ومستواهم، وستكشف الفكرة أمام قطاعات أوسع».
برلمانياً، قال النائب أحمد سعد، عضو مجلس النواب المصري (البرلمان)، إن «الحديث عن تصالح مع (الإخوان) يُطلق من حين لآخر؛ لكن دون أثر على الأرض، لأنه لا تصالح مع كل من خرج عن القانون، وتورط في أعمال إرهابية - على حد قوله -».
وحال وجود «مراجعات» فما هي بنودها؟ أكد زغلول: «ستكون عبارة عن (مراجعات) سياسية، و(مراجعة) للأفكار، ففي (المراجعات) السياسية أول خطوة هي الاعتراف بالنظام المصري الحالي، والاعتراف بالخلط بين الدعوة والسياسة، والاعتراف بعمل أزمات خلال فترة حكم محمد مرسي... أما الجانب الفكري، فيكون بالاعتراف بأن الجماعة لديها أفكار عنف وتكفير، وأنه من خلال هذه الأفكار، تم اختراق التنظيم... وعلى الجماعة أن تعلن أنها سوف تبتعد عن هذه الأفكار».
وعن فكرة قبول «المراجعات» من قبل المصريين، قال أحمد بان: «أعتقد أنه يجب أن نفصل بين من تورط في ارتكاب جريمة من الجماعة، ومن لم يتورط في جريمة، وكان ربما جزءاً فقط من الجماعة أو مؤمناً فكرياً بها، فيجب الفصل بين مستويات العضوية، ومستويات الانخراط في العنف».
بينما أوضح زغلول: «قد يقبل الشعب المصري حال تهيئة الرأي العام لذلك، وأمامنا تجربة (الجماعة الإسلامية)، التي استمرت في عنفها ما يقرب من 20 عاماً، وتسببت في قتل الرئيس الأسبق أنور السادات، وتم عمل (مراجعات) لها، وبالمقارنة مع (الإخوان)، فعنفها لم يتعدَ 6 سنوات منذ عام 2013. لكن (المراجعات) مشروطة بتهيئة الرأي العام المصري لذلك، وحينها سيكون قبولها أيسر».
يُشار إلى أنه في نهاية السبعينات، وحتى منتصف تسعينات القرن الماضي، اُتهمت «الجماعة الإسلامية» بالتورط في عمليات إرهابية، واستهدفت بشكل أساسي قوات الشرطة والأقباط والأجانب. وقال مراقبون إن «(مجلس شورى الجماعة) أعلن منتصف يوليو (تموز) عام 1997 إطلاق ما سمى بمبادرة (وقف العنف أو مراجعات تصحيح المفاهيم)، التي أسفرت بالتنسيق مع الأجهزة الأمنية وقتها، على إعلان الجماعة (نبذ العنف)... في المقابل تم الإفراج عن معظم المسجونين من كوادر وأعضاء (الجماعة الإسلامية)».
وذكر زغلول، أنه «من خلال التسريبات خلال الفترة الماضية، ألمحت بعض قيادات بـ(الإخوان) أنه ليس هناك مانع من قبل النظام المصري - على حد قولهم، في عمل (مراجعات)، بشرط اعتراف (الإخوان) بالنظام المصري الحالي، وحل الجماعة نهائياً».
لكن النائب سعد قال: «لا مجال لأي مصالحة مع (مرتكبي جرائم عنف ضد الدولة المصرية ومؤسساتها) - على حد قوله -، ولن يرضى الشعب بمصالحة مع الجماعة».