الفكر الديني والإصلاح الدستوري الحديث

معالم من اجتهادات خير الدين التونسي ورفاعة الطهطاوي

الفكر الديني والإصلاح الدستوري الحديث
TT

الفكر الديني والإصلاح الدستوري الحديث

الفكر الديني والإصلاح الدستوري الحديث

مع تسابق بعض الحركات المتشدّدة مثل «القاعدة» و«داعش» الرافعة لواء الإسلام والزاعمة التكلم باسمه على احتكار المضامين السياسية للدين الحنيف، نعرض فيما يلي نموذجين مخالفين تمامًا لما يزعم المتطرّفون أنه يجسد مفهوم الإسلام لـ«الدولة»، ويقدمان نظرتين إصلاحيتين متبصّرتين للفكر الديني المستنير والإصلاح الدستوري الحديث.
بقي العالم الإسلامي، خصوصًا، في عهد النهضة الحديثة ودعوتها الدينية الإصلاحية، مترابط الحلقات ومتجاوزًا اختلافات المذهبية والطائفية ومستحضرًا بقوة التقدّم الأوروبي وأطماعه في المشرق والمغرب الإسلامي. وكانت الدعوات والمحاولات الإصلاحية قد بدأت منذ مطلع القرن الثامن عشر ترفع في عهد الدولة العثمانية تحت تأثير واضح بالإنجازات الغربية. ففي تونس دعا الإصلاحي خير الدين التونسي إلى تنظيم الدولة ومأسستها، واعتقد أن النظام السياسي يحتاج إلى الحرية السياسية، ومن ثمة، إلى المعارضة إذا لزم الأمر. والحرية عند خير الدين نوعان: الأول شخصي، والثاني سياسي، وهما معًا مقرران في التراث الإسلامي. بل إنها ترتقي إلى مرتبة الواجب، ويستشهد التونسي بقول عمر بن الخطاب (رضي الله عنه): «من رأى منكم فيّ اعوجاجًا فليقومه».
ولدعم أطروحته قدم خير الدين النموذج الأوروباوي، الذي زعم أن إطلاق أيدي الحاكمين والدولة قد يؤسس للظلم والخراب. لذلك «جزموا بلزوم مشاركة أهل الحل والعقد.. في كليات السياسة» مع جعل المسؤولية في إدارة الدول على الوزراء المباشرين. إلا أن التطور الدستوري التونسي لسنة 1860م، وما أعقبه من مطالب إصلاحية دستورية وسياسية شاملة لم تحقق التثبيت المرجو للفكر الدستوري في النظام السياسي القائم، ولم تغير من الفكر السياسي الشعبي التونسي حيال فكرة التنظيمات والدستور.
الدعوة الإصلاحية التونسية
إن الصورة التي يقدمها خير الدين التونسي في كتابه «أقوام المسالك في معرفة أحوال الممالك»، لا سيما في مقدمة هذا الكتاب، تظهر ذلك الأخذ بالمعطيات السياسية وانعكاسها على المستوى الفكري والبرنامجي للدعوة الإصلاحية، فعندما وضع خير الدين التونسي كتابه السابق، كانت تونس زمن أحمد الباي قد وضعت لنفسها أول دستور في تاريخها، يستلهم التجربة الغربية الدستورية، لكن هذه التجربة أنهاها الاستعمار الذي دخل البلاد سنة 1881م.
ينطلق المصلح التونسي من مُسلّمتين أساسيتين: الأولى تؤكد أن الدول «التي لا تنسج على منوال مجاوريها فيما يستحدثونه من الآلات الحربية، والتراتيب العسكرية توشك أن تكون غنيمة لهم ولو بعد حين». أما المُسلّمة الثانية فتقول «بضرورة أن التنظيم الدنيوي أساس متين، لاستقامة نظام الدين». والنظر إلى أحوال المسلمين يقع على خلل الدول خصوصًا دولة آل عثمان، فسلاطينها خالفوا قاعدة التنافس مع الأوروبيين، خصوصًا في استحداث مصادر القوة العسكرية وتجديدها صناعةً وتنظيمًا وتدريبًا للجند. كما أنهم لم يتمكنوا من حفظ سمو الشورى في المجال السياسي، وسعوا في تدبير أمور الحكم بهدى غير تلك المقررة.
وإصلاحًا لهذا التردّي العام لم يتوانَ خير الدين التونسي في «بيان الأدلة الكافية لوجوب التنظيمات السياسية التي لو لم يكن إلا تنفير الأجنبي والمتوظفين منها، لكان كافيًا في الدلالة على حسنها ولياقتها بمصالح المملكة، كان ذلك من أهم الواجبات على أمراء الإسلام ووزرائهم وعلماء الشريعة، الاتحاد في ترتيب تنظيمات مؤسسة على دعائم العدل والمشورة.. غير معتبرين مقال بعض المجازفين بأن تلك التنظيمات لا تناسب حالة الأمة الإسلامية» (مقدمة أقوام المسالك في معرفة أحوال الممالك، ص 160).
ثم إن القيام بالتنظيمات لا يعني النجاح، بل يلزم أن يقوم بها وعليها إشرافًا وتصريفًا، من يحسنون «ترتيب التنظيمات»، ويغلبون ما تنتجه من همة وحرية، وما توفره من مصالح للرعية على «ما عسى أن يكتسبوه بالاستبداد من المنح الخصوصية». ومن متطلبات النجاح في الأمور السياسية، معرفة الحاكمين بكليات الأمور، واختيار الرجال «اللائقين بالخطط». ولذلك فإن سعادة الدول وشقاءها في أمورها الدنيوية إنما تكون بقدر ما تيسر لحاكميها من ذلك، وبقدر ما لديها من التنظيمات السياسية المؤسسة على العدل، ومعرفتها واحترامها من رجالها المباشرين لها «ولا يتوقف الموقف على تأسيس القوانين المتنوعة».
وتبعًا لذلك تطور النظام السياسي الأوروبي، وظهرت مجالس تمثيلية تسن القوانين، وتراقب الحكومة «وتقع المجادلة بالمجلس علنًا بين القادح والمدافع»، وبهذا التطور المؤسساتي يستقيم حال الدولة والبلاد. وأصبح التقرير في أمور السياسة العامة الذي تقوم به الدولة - الوزراء أو الحاكم - في حاجة إلى موافقة إرادة المجلس، التي تعبر في الحقيقة عن إرادة أهل المملكة.
التجربة المصرية
وكغيرها من الدول الإسلامية، شهدت مصر نوعًا من إعادة تكوين الفكر السياسي والاجتماعي، استهدف مناقشة أحوال الدولة ونظام الحكم، في ظل متغيّرات دولية عرضت مصر للتدخلات العسكرية الغربية، ولـ«زوابع» تياراتها الفكرية، مما ساهم في بروز ثقافة سياسية يقظة دافعت عن النظام الديمقراطي والدستور.
وترى الكتابات السياسية حول الحركة الدستورية المصرية، أن التبلوُر الفكري للمسألة الدستورية يعود إلى عهد الخديوي إسماعيل. غير أن الدكتور لويس عوض والمؤرخ عبد الرحمن الرافعي يتحدثان عن سوابق للاتجاه الدستوري المصري. أما من الناحية الفكرية فإن كتاب رفاعة الطهطاوي «تخليص الإبريز في تلخيص باريز» الذي يضم تسجيله للأحوال الاجتماعية والسياسية للفرنسيين في زمانه كما شاهدها في رحلته إلى باريس، يُعد من الكتب الأولى التي نادت بالإصلاح البرلماني. غير أن رفاعة الطهطاوي سينقل أفكاره السياسية والدستورية إلى مستوى عميق وأكثر تنظيرية في المجال السياسي في كتابه «مناهج الألباب».
وإلى ذلك نهج الطهطاوي منهج خير الدين التونسي في «تأطير» الفكر الإصلاحي السياسي ذي المنزع الدستوري، بل إنه يفوقه وضوحًا وجرأة في الطرح. إذ يرى الطهطاوي ضرورة تكييف منظورنا للشريعة مع المنفعة السياسية، وهو ما يسمى عند الفقهاء بالمصلحة العامة، فيذكر في كتابه «مناهج الألباب» أنه قد لا تقتضي الأوضاع الشرعية المتأدب بها في الدولة «عين المنفعة السياسية إلا بتأويلات للتطبيق على الشريعة».
وفي نقاشه للمنظومة القانونية الفرنسية لاحظ أنها قوانين غير مستمدة من الكتب السماوية، إلا أنه لا يجد كبير فرق بينها وبين ما هو معروف في الفقه الإسلامي، لذلك يخلص في هذه المسألة إلى أن «جميع الاستنباطات العقلية التي وصلت إلى عقول أهالي باقي الأمم المتمدّنة وجعلوها أساسًا لوضع قوانين تمدنهم وأحكامهم قلَّ أن تخرج عن تلك الأصول التي بنيت عليها الفروع الفقهية التي عليها مدار المعاملات، فما يسمى عندنا بعلم الفقه يسمى ما يشبهه عندهم بالحقوق الطبيعية أو النواميس الفطرية. وهي عبارة عن قواعد عقلية تحسينًا أو تقبيحًا يؤسِّسون عليها أحكامهم المدنية، وما يسمى عندنا بفروع الفقه يسمى عندهم بالحقوق أو الأحكام المدنية».
وفي هذا السياق، يرى رفاعة الطهطاوي أن هناك مشتركًا آخر مع الغرب، خصوصًا مع الآداب الفرنساوية، هو الحرية. فهي متأصلة في الفكر الإسلامي، ودليله المفاخرة التي وقعت بين النعمان بن المنذر ملك العرب وكسرى ملك الفرس. وللحسم في هذه المسألة يستدعي رفاعة قول عمر بن الخطاب (رضي الله عنه): «متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا». ولهذا اجتهد المصلح المصري لإيجاد بديل إسلامي للمصطلحات الغربية، «فالحرية والمساواة هما العدل والإنصاف، ونظام الحكم الغربي المقيد بالدستور بمثابة الشورى التي حث عليها الدين الإسلامي، والنواب هم أهل الحل والعقد وأحكام الشريعة والقانون الغربي متماثلة، مع أن هذا من وضع البشر وتلك منزلة».
ولقد ساهمت مثل هذه الثقافة في تحريك الوضع السياسي المصري، وظهر دور الشباب في العمل السياسي. حيث عقد «الشباب المصريون» اجتماعًا لهم، وقدّموا للخديوي عريضة تتضمن موقفهم من مبدأ الاقتراع العام والاقتراع المشروط، وكذلك في الانتخاب المباشر والانتخاب غير المباشر. ويرى أنور عبد الملك، أن مجموعة الشباب المصريين هم ممّن تتلمذوا على يد الطهطاوي (نهضة مصر، الهيئة المصرية للكتاب، طبعة 1983 ص 290).
إن مثل هذه الثقافة لم تكن معدومة في الثقافة السياسية المصرية، فقد أدت الثورة التي خرجت من الأزهر ضد خورشيد باشا التي أزاحته عن السلطة، وولّت محمد علي في 13 مايو (أيار) 1805م، إلى ثورة على مستوى التعاقد السياسي، إذ بويع محمد علي «بيعة مشروطة»، في موقف تاريخي من علماء مصر، وحرّر الشيخ الأزهري محمد المهدي هذه البيعة التي تقول: «إن للشعوب طبقًا لما جرى به العرف قديمًا ولما تقضي به أحكام الشريعة الإسلامية الحق في أن يقيموا الولاة ولهم أن يعزلوهم إذا انحرفوا عن سنن العدل وساروا بالظلم، لأن الظالمين خارجون عن الشريعة» (لويس عوض: الفكر المصري الحديث، ص 88). وغير خافٍ أن هذا النص يجعل مصدر السلطة الأمة، وكذلك كان الوضع الإسلامي قبل الثورة الفرنسية.
لقد استطاع الفقه والفكر الديني الإسلامي أن يدافع زمن النهضة عن دستورية وديمقراطية السلطة، واعتبر ذلك ضمن دفاعه عن الشريعة، والاستقلال الحضاري والترابي. ويبدو أن معركة الفكر الديني المتنور ما زالت مستمرة بآليات معاصرة رغم الاختلاف الواضح في الزمان وطبيعة الأفكار المطروحة.
* دكتور العلوم السياسة جامعة محمد الخامس - الرباط



تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
TT

تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)

غداة الزيارة المريبة التي قام بها الوالي العثماني المنحول إردوغان إلى تونس، علا صوت الكثير من الأحزاب التونسية والاتحادات العامة للشغل وغيرها من جماعات المجتمع المدني بالرفض لأن تكون تونس ممراً أو مستقراً لنقل «الدواعش» من سوريا إلى ليبيا بواسطة تركيا عبر بلادهم».
المطالب المتقدمة تعني أمراً واحداً، وهو يقين الشرفاء والنبلاء من الشعب التونسي بأن بعض من نوايا إردوغان الحقيقية بالنسبة لليبيا موصول بإعادة إنتاج التنظيم الإرهابي الأشرس في العقود الأخيرة (داعش)، وربما في طبعة جديدة أسوأ مما شهده العالم في العراق وسوريا خلال النصف الثاني من العقد الماضي.
أسئلة كثيرة تطل برأسها من نافذة الأحداث المتسارعة عن أحوال «داعش» وعن الفوضى والارتباك اللذين تتسبب فيهما تركيا في ليبيا، وفي الوسط تسعى لنقل معركتها إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط، وإلى العمق الأفريقي لأهداف سنأتي على تفصيلها.
علامة الاستفهام الأولى في هذا الحديث: «ما هو وضع الدواعش في الوقت الحاضر في موطن النشوء الأول ومن حول بلاد الشام التاريخية؟».
الجواب نجده بالتفصيل والأرقام عند هارون ي زيلين، الباحث في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، وعنده أنه في عام 2019 قدر البنتاغون أن ما بين 14 و18 ألف من مقاتلي تنظيم «داعش» لا يزالون في العراق وسوريا، والتساؤل ما الذي يفعلونه هناك؟
بلا شك مواصلة العمل كتنظيم إرهابي متمرد يكرس أعضاؤه جل وقتهم لمحاولة تهريب السجناء، وربما إعادة السيطرة على الأراضي، ومن خلال حرب استنزاف يعتقدون أنهم سيرهقون أعداءهم، كما أنهم يستفيدون من أي مساحات لا تسيطر عليها الحكومة المركزية أو يلعبون على وتر خطوط الصدع السياسية أو العرقية أو الدينية آملين في استغلالها لصالحهم.
> هل لدى التنظيم حتى الساعة مقدرة مالية على إدارة شؤونه بنفسه والإنفاق على عملياته الإرهابية؟
ــــ من الواضح أن الدواعش لا يزالون قابضين على ثروة تقدر بنحو 300 مليون دولار، ووفقاً لتقرير صادر عن الأمم المتحدة في يوليو (تموز) 2019، فإن «داعش» استثمر مجدداً أمواله في أعمال مشروعة، وربما بأسماء وهمية لا علاقة لها بأعضائه الإرهابين، أي من خلال عناصر نائمة، وذلك عبر العقارات، ووكلاء السيارات، ويوجد عدد منها في تركيا وفقاً لوزارة الخزانة الأميركية التي صنفت أفراداً من تنظيم «داعش» وشركات تحويل وصرافة على لائحة الإرهاب.
> ماذا تعني تلك البيانات المتقدمة؟
ــــ باختصار غير مخل، تشير إلى أن التنظيم لا يزال باقياً وفاعلاً، وأن الأيادي التركية السوداء تقف وراءه في أقصى الشرق، وها هي تجد فرصة غير مسبوقة ليعبر المتوسط جهة الغرب ويحل برحاله في ليبيا.
لم ينس إردوغان للحظة واحدة أنه في الشرق من ليبيا، توجد مصر الكنانة التي أسقطت مشروعه في عام 2013؛ فقد خيل له أنه قد أضحى الخليفة الجديدة بعد سنوات الربيع المغشوش؛ ولهذا فإن ملامح وعلامات الانتقام من مصر لا تغيب عن ناظريه، وقد حاول كثيراً استخدام الطابور الخامس من الإخوان المسلمين في مصر في زعزعة استقرار المحروسة وأخفق؛ ولهذا فقد بدا واضحاً أن الرجل المقهور يود نقل معركته إلى الداخل المصري بالاقتراب الكبير والمؤثر والفاعل؛ الأمر الذي لا يغيب عن أعين صقور المؤسسة العسكرية المصرية التي تقف له بالمرصاد.
وجد إردوغان ضالته المنشودة في جماعة الوفاق المنحلة، التي هي مزيج من الإخوان المسلمين والدواعش و«القاعدة» والجماعات الإرهابية كافة الشاردة والواردة، ومن خلال عمليات لوجيستية تتضح ساعة بعد أخرى، يمضي في إحياء التنظيم القاتل وله في ذلك أيضاً مأربان، أحدهما جهة الشمال والآخر ناحية الجنوب...ماذا عن ذلك؟
أما الشمال، فالمقصود به أوروبا، حيث العداء التاريخي المستحكم من تركيا تجاه أوروبا، وإردوغان يشعر بالغدر والخيانة من جراء رفض الاتحاد الأوروبي قبوله تحت سقفه؛ ولهذا أطلق تصريحات ذات طبيعة دوجمائية أكثر من مرة، حاول بها تفعيل مشاعر ديماجوجية في وسط الأتراك ليكتسب شعبية، رغم أن الأمر ارتد عليه مؤخراً بالسلب.
يسعى إردوغان من تأصيل وجود «الدواعش» على الشاطئ المتوسطي المواجه لأوروبا إلى استخدام الإرهاب الأصولي كأحدى أوراق نفوذه ضد ألمانيا، وفرنسا، وإيطاليا، والبرتغال، وقبلهما اليونان وقبرص، وهو أمر ليس بجديد عليه، فقد صرح قبل فترة بأنه قادر على فتح بوابات الوصول إلى أوروبا أمام اللاجئين والدواعش لإغراق أوروبا، وربما إحراقها بنيران الدواعش ومن لفّ لفّهم.
إردوغان أيضاً له مأرب آخر يتصل بعمق القارة الأفريقية، وهو يدرك أن ما فقده من أوهام الخلافة في الشرق الأوسط، ربما يجد له صدى في وسط أفريقيا، حيث يغيب الأمن كثيراً عن بعض الدول من جهة، ولا سيما المفككة اجتماعياً، وحيث تنتشر جماعات الإرهاب المشابهة من «حركة الشباب» و«بوكو حرام» وما شابه، وغالبيتها قد أعلنت ولاءها وانضواءها تحت راية تنظيم «داعش» الإرهابية وليس الإسلامية قبل نحو عامين.
والشاهد، أن إردوغان لا ينشئ فرعاً جديداً لـ«داعش» في ليبيا، وإنما يسعى لإيقاظ المؤتلفة قلوبهم، إن جاز التعبير، أولئك الذين هم دواعش في الباطن وإن أبدوا خلاف ذلك في العلن، والمعروف أن الأرضية الأصولية الإخوانية في ليبيا كانت قد انتهزت فرصة الإطاحة بمعمر القذافي عام 2011، حيث أقام المقاتلون مثل سوريا والعراق حكماً دينياً، غير أنه وفي عام 2016 استطاعت قوات الحكومة ومقاتلون من مصراتة بدعم من القوات الأميركية الخاصة وطائرات «إف 16» إخراج مقاتلي التنظيم من سرت في ديسمبر (كانون الأول) 2016.
في ذلك الهجوم قُتلت أعداد كبيرة من المتشددين، في حين هرب البقية إلى الجنوب بحثاً عن ملاجئ آمنة، وأقاموا معسكرات تدريب استخدموها للسطو على شاحنات النفط، وحصلوا على موارد من خلال التهريب، وهرب بعضهم إلى النيجر، حيث انضموا إلى فرع التنظيم هناك. ورغم عددهم القليل فإنهم استمروا في هجماتهم السريعة.
مؤخراً، وحتى قبل التدخل الإردوغاني المسموم، بدأ القلق يتزايد في سرت مرة أخرى، حيث تم اعتقال عشرة أشخاص يشتبه بتعاطفهم مع التنظيم، منهم مهندسة عثر على جهاز لاسلكي في بيتها، كما قبض على رجل قابل أعضاء في «خلية نائمة»، وأقاموا حاجز تفتيش خارج المدينة لإظهار أنهم لا يزالون فيها.
> هل بدأت مرحلة إحياء «داعش» ليبيا بشكل رسمي الأيام الأخيرة وبدعم علني من تركيا لا يواري ولا يداري أهدافه الآثمة؟
ــــ من الواضح أن ذلك كذلك، ولا سيما في ضوء ما رصده «المرصد السوري لحقوق الإنسان» في سوريا، والذي أشار قبل أيام إلى أن الفصائل السورية الموالية لتركيا قد افتتحت هناك مراكز تسجيل أسماء الأشخاص الراغبين بالذهاب للقتال في ليبيا.
> هل بدأ الحشد «الداعشي» التركي طريقه إلى ليبيا بالفعل؟
ــــ الشاهد، أنه، ومن أسف، قد بدأ عشرات الأشخاص يقصدون تلك المراكز للالتحاق بالمعارك في ليبيا للعمل تحت الحماية التركية هناك، كما نقلت مصادر محلية قولها إن الفصائل الموالية لتركيا تشجع الشباب على الالتحاق بالحرب الليبية، وتقدم مغريات ورواتب مجزية تراوح بين 1800 و2000 دولار أميركي لكل مسلح شهرياً، علاوة عل تقديم خدمات إضافية تتكفل بها الدولة المضيفة.
ولعل الذين تابعوا الأسبوع الماضي تصريحات المتحدث باسم الجيش الوطني الليبي اللواء أحمد المسماري قد وقر لديهم أن عجلة إحياء تنظيم «داعش» في ليبيا قد دارت بالفعل، وذلك من خلال الأصابع المشبوهة للمخابرات التركية التي تقوم بنقل عناصر التنظيم، عطفاً على القادمين والمنتمين الجدد والذين هم في غالبيتهم مرتزقة ومؤدلجون أصوليون، والنوعان معاً، ولا سيما من أعضاء «جبهة النصرة» من سوريا إلى ليبيا عبر مطار جربة في تونس، الأمر الذي يعود بنا إلى الحديث عن تونس مرة جديدة، ويربط بينها وبين ما يجري في ليبيا.
> هل تعرّض التونسيون إلى خدعة كبرى في اختيارهم الأخير؟
ــــ مهما يكن من أمر ساكن القصر الرئاسي، إلا أن المؤكد أن حزب «النهضة التونسي» ليس إلا وجهاً آخر من أوجه الإخوان المسلمين في تونس، وهو أحد فروع التنظيم الدولي لـ«الإخوان» المسلمين المنتشر حول العالم، يأتمر بأمرهم، ويتوجه كيفما يعنّ لبوصلتهم.
هنا يصبح من الحقيقي التسليم بالمعلومات التي رصدها الجيش الليبي من استخدام مطارات تونس لغرض إنشاء «داعش» جديدة على الأراضي الليبية، ومنها مطار جربة، حيث تم إنزال مجموعات إرهابية في تونس، وتم نقلهم إلى ليبيا عن طريق الجبل الغربي، ومطار مصراتة وزواره، ومعتيقة تحديداً التي استقبلت أعداداً كبيرة من «جبهة النصرة» وتنظيم «داعش».
في هذا السياق، يبقى من الطبيعي أن تنهض آمال «الدواعش» في تونس في الفترة المقبلة، أولئك الذين سيصبحون الجسر الواصل بين تونس وليبيا؛ الأمر الذي حذر منه البرلمان التونسي السابق قبل عودة النهضة الكارثية مرة أخرى، لكن في ظل السيطرة الإخوانية التونسية الأخيرة يكاد يكون الأمل سراباً في إعادة ضبط وتموضع «الدواعش» التونسيين.
حين نشير إلى أن دواعش ليبيا قد بدأوا مرحلة مغاير آخذة في التصاعد الإرهابي المؤلم، فإننا لا نرجم بالغيب، بل من خلال أدلة ليس آخرها الفيديو الذي أذاعوه نهار الخامس من ديسمبر 2019، وفيه ذبح لمواطنين ليبيين بينهم موظفون حكوميون سقطوا أسرى في أيدي التنظيم، ومشاهد بشعة لعمليات إعدام جماعية بالرصاص، في منطقة الفقهاء جنوب ليبيا.
الفيديو بثته وكالة «أعماق» التابعة لتنظيم «داعش» حمل اسم «وأخرجوهم من حيث أخرجوكم»، استمر نحو 31 دقيقة وأظهر معاملة مشينة من عناصر التنظيم للأسرى الذين وقع اختطافهم، أو المواطنين الذين تم اعتقالهم خلال عملياته الإرهابية على بلدة الفقهاء، حيث وثقت مقاطع عملية إعدام جماعية لأشخاص مكبلين رمياً بالرصاص على رؤوسهم.
الأسئلة الجوهرية في هذا السياق، هل ستبقى أوروبا مكتوفة الأيدي أمام تركيا وهي تعيد سيرة حروب القرون الوسطى من جديد، وهل ستكتفي بدور المشاهد بعد أن أسقطت نظام القذافي ولم يكن لها خطة لليوم التالي؟
ثم فيما يخص أميركا، لماذا يتسم موقفها بالميوعة السياسية، وهل يخشى إردوغان من التورط في الأزمة الليبية عسكرياً وهو في عام الانتخابات ولديه من الإشكاليات الداخلية ما يكفي؟
ألا تعد خطط إردوغان نوعاً من تهديد السلم العالمي، الأمر الذي يستوجب التنادي إلى البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة الخاص بالاتحاد من أجل السلم قبل أن يستفحل الضرر ويتحول المشهد إلى حرب إقليمية؟
ثم ما هو الدور الروسي في ليبيا وهي التي تسعى لاستعادة نفوذها هناك، وهل سيقدر لها قطع الطريق على الآغا العثمانلي بطريق مشابهة لما فعلته مع الدواعش في سوريا؟