علي النعيمي..حارس النفط الأمين

لقد رأيت كل شيء.. ومرّ عليّ كل شيء

علي النعيمي..حارس النفط الأمين
TT

علي النعيمي..حارس النفط الأمين

علي النعيمي..حارس النفط الأمين

يكرّم وزير النفط السعودي السابق علي النعيمي يوم 24 مايو (أيار) الحالي في قطر، وكان النعيمي قد غادر المنصب بموجب تعديل وزاري في وقت سابق من الشهر الحالي. وكان الوزير السابق من علامات صناعة النفط في المملكة العربية السعودية، إذ بدأ العمل في صناعة النفط قبل نحو 70 سنة. وبلغ القمة مع تعيينه وزيرًا، واحتفظ بهذا المنصب لمدة 20 سنة.
في ديسمبر (كانون الأول) الماضي وأثناء إحدى الجولات الصباحية في شتاء فيينا البارد، خرج وزير البترول والثروة المعدنية السابق علي النعيمي من البوابة الرئيسية لفندق غراند حياة في السادسة فجرًا كالمعتاد وخرج خلفه الصحافيون الذين اعتادوا الخروج معه لسنوات طويلة.
بالنسبة لبعض الصحافيين الذين يعرفون قراءة معالم وجه الوزير، فإنه لم يكن النعيمي الذي اعتادوا عليه، إذ لم يكن بشوشًا ومرحبًا بالصحافيين كما كانت عادته طيلة السنوات الماضية. ودار بخلد القليل منهم في ذلك الحين، أن هذه قد تكون هي المرة الأخيرة التي سيرافقون فيها الوزير في المشي داخل أزقة العاصمة النمساوية وشوارعها مرورًا بجادتي شوتنرينغ وكيرتنر رينغ. ووسط البرد القارس سأله الصحافيون عن سبب إحجامه عن إعطاء حوارات لأي جهة إعلامية من فترة طويلة، فكان رده ساخنًا في ذلك البرد القارس، حين قال: «لقد مرت علي 20 سنة وأنا وزير. لقد رأيت كل شيء ومر علي كل شيء، وأعطيت حوارات للكثير من الصحف والنشرات والقنوات، وفي نهاية المطاف لم يتغير شيء.. الكل ينقل عني كلامًا لم أقله أو يحوّر كلامي بطريقة تناسب أهداف الجهة التي يعمل فيها».
نعم لقد رأى الوزير المحبوب من قبل الصحافيين، والمعروف بين كل العاملين في القطاع باسم «أبو رامي»، كل شيء منذ أن بدأ العمل في أرامكو (شركة الزيت العربية الأميركية) في عقد الأربعينات من القرن الماضي وحتى مغادرته منصبه الوزاري خلال وقت سابق من شهر مايو الحالي.
لقد بدأ علي النعيمي العمل في أرامكو في منتصف الأربعينات عندما كانت الشركة لا تزال «أميركية».. وشهد تحولها إلى شركة سعودية، وكان هو أول من ترأسها. أيضًا شهد تقلبات شديدة لأسعار النفط، كما يقول هو، إذ رآها وهي أقل من 10 دولارات في أواخر التسعينات وكان شاهدًا عليها عندما وصلت إلى 147 دولارا في منتصف عام 2008. وشهد إنتاج المملكة عندما كان يعمل في أرامكو وهو يصل إلى 3 ملايين برميل يوميًا، ورآه مرات كثيرة وهو فوق حاجز الـ10 ملايين برميل.
وقبل خروجه من منصبه، قاد النعيمي واحدة من أشرس معارك «أوبك» عندما أقنع الجميع في نوفمبر (تشرين الثاني) 2014 بالتخلي عن الدفاع عن الأسعار التي تدهورت بسبب فائض المعروض في السوق العالمية، وتبني استراتيجية للدفاع عن الحصة السوقية للمنظمة أمام المنتجين أصحاب التكلفة العالية، الذين كانوا قد زادوا إنتاجهم كثيرًا في السنوات الأخيرة بفضل بقاء أسعار النفط عند 100 دولار. ولا تزال هذه الاستراتيجية هي القائمة حاليًا.
وهنا يقول أنس الصالح، وزير المالية وزير النفط المكلف في الكويت، عن علي النعيمي: «لقد كان لي الشرف أن ألتحق بالوزير في آخر أيامه (بالوزارة) وأعمل معه وأراه وهو يدافع عن مصالح دول الخليج والمملكة في أوبك وعن استراتيجية الحصة السوقية. إنه أستاذنا ولقد تعلمت الكثير منه رغم قصر المدة بيننا»..
والواقع أن النعيمي، الذي أمضى 70 سنة في قطاع النفط، كان ولا يزال أحد أهم رموز المنظمة بعد وزير البترول السعودي السابق الشيخ أحمد زكي يماني الذي استمر في منصبه الوزاري 24 سنة وهو الرقم الذي لم يكسره أي شخص بعده حتى الآن. أما المنظمة فلقد تغيرت كثيرًا منذ عام 1995. وانتقلت من ضعف وفوضى إلى قوة ونظام في فترة النعيمي، ثم عادت إلى الضعف مجددًا كما هو الحال حاليًا. وهذا ما يفسر ضجر النعيمي من وضع المنظمة التي لم تعد تؤثر كثيرًا في السوق لأن الدول الأعضاء لم تعد متضامنة مترابطة، بل غدا كل منها يمشي في طريق منفصل. كذلك ولم يعد إنتاج «أوبك» مؤثرًا كما كان في السابق لأن العالم اليوم يغرق في بحر من النفط.
لكن ماذا عن أول اجتماع لـ«أوبك» حضره النعيمي؟
لقد كان في نوفمبر 1995 وحينها كانت «أوبك» تحتفظ بسقف إنتاج قدره 24.5 مليون برميل يوميًا، وكانت أسعار نفط برنت حينها حول 16 دولارا.
في ذلك الوقت كانت المنظمة في حالة لا بأس بها وكان هناك مستوى مرضٍ من التعاون بين الدول، كما كان وزراء دول المنظمة من الشخصيات المؤثرة في القطاع، مثل الليبي عبد الله البدري الذي يعمل اليوم أمينًا عامًا للمنظمة، وعبد الله بن حمد العطية الوزير القطري، وكان الأمين العام يومذاك النيجيري الراحل ريلوانو لقمان. ومع أن النعيمي كان جديدًا على وزراء المنظمة ذلك اليوم، فإنه كان معروفًا لدى الجميع لأنه كان رئيس أرامكو السعودية وأمضى نحو 40 سنة في الشركة، وأصبح وزيرا وهو في سن الـ62 تقريبًا.
بداية صعبة
معروف عن علي النعيمي أنه رجل عصامي شق طريقه نحو القمة بمثابرة وإصرار وهمة عالية. وفي إحدى الجولات الصباحية في فيينا قال: «المراهقون اليوم في السعودية أكثر ترفًا من السابق. عندما كنت مراهقًا كان لدي هدف واحد وهو كيف أدبّر قوت يومي. كان تدبير قوت اليوم أمرا صعبًا في ذلك الوقت، وعندما عملت في أرامكو في البداية كان مرتبي 3 ريالات، ولم يرتفع مرتبي إلا بعدما أصبحت مهندسًا ورجعت إلى المملكة».
وعن مشوار العمر، فإن النعيمي تحدث عنه في حوار أجرته معه مجلة «عالم أرامكو» في مطلع الثمانينات. وفيه قال إن بداية قصته في الحياة كانت في عام 1936 عندما جاءت أمه الحامل به إلى الخُبَر من البحرين، حيث جرت العادة أن تذهب المرأة إلى أهلها عند الوضع ثم تعود إلى بيت زوجها بعد فترة من الوقت. لكنه أردف قائلا إن أمه التي تعود أصولها إلى قبيلة العجمان لم تعد لزوجها في البحرين لأنها تطلقت منه قبل أن يولد.
وتابع النعيمي الحديث عن طفولته الصعبة قائلاً: «لقد أمضيت أول ثماني سنوات من عمري مع قبيلة والدتي، العجمان، وكنا نجول من الأحساء إلى الكويت. ومن المهام التي كانت موكلة لي في تلك السن هي رعاية الأغنام الصغيرة. ومن التعليمات التي لا يمكن لي مخالفتها أبدا هي ألا أبتعد عن مرمى نظر من في الخيمة». وأردف: «لقد قابلت والدي للمرة الأولى عندما كان عمري ثماني سنوات. كانت أسرته تعمل في صناعة اللؤلؤ في البحرين، وكانوا يمتلكون مراكب الداو الخاصة بهم لصيد اللؤلؤ. ولكن عندما جاء اليابانيون باللؤلؤ الصناعي انهارت صناعة اللؤلؤ في البحرين ورجع والدي في عام 1941 ليستقر في المنطقة الشرقية بالسعودية».
من مراسل إلى رئيس أرامكو
أما بداية عمله في أرامكو وارتباطه بها، فقد كانت لها قصة مختلفة رواها أيضًا لمجلة «عالم أرامكو» كالتالي: «في وقت ما في عام 1944 أو 1945، قال لي أحد إخواني الكبار الذين كانوا يعملون في أرامكو: لم لا تأتي معي وتنضم لمدرسة أرامكو؟ لا يوجد هناك أي شروط ولا يجب أن تعمل في الشركة.. لقد كان شيئا مذهلاً».
واقتنع النعيمي كما يقول بكلام أخيه وذهب إلى مدرسة أرامكو وهناك «شاهدت ذلك المعلم. كانت لديه لحية حمراء كثيفة، وعلى ما يبدو كان من الجنسية الأيرلندية. دخلت إلى الصف وسجلت ولم يسألني أحد عن شيء واستمر هذا الوضع لمدة سنتين. لكن أخي توفي بعد ذلك وكان عمري وقتها 11 سنة، فأخذت مكانه كمراسل في الشركة. وفي عام 1947 أصدرت الحكومة السعودية قانونًا يمنع أي أحد من العمل وهو أقل من 18 سنة فتم فصلي».
ولكن النعيمي ذلك الفتى الضئيل الحجم، كما تظهر كل صور أرشيف أرامكو، لم يستسلم. وبعد ذلك بقليل حاول العودة للعمل في الشركة، وقال للمسؤولين: «قد أبدو صغيرًا لكني أبلغ من العمر 20 سنة، فقالوا لي، اذهب إلى الطبيب وإذا أكد لنا أنك تبلغ 17 سنة فسوف نوظفك». وذهب النعيمي إلى الطبيب ولكن الطبيب تأكد أنه يبلغ من العمر 12 سنة فقط، وحينها «قلت (للطبيب) قصة حزينة وأني أعول أسرتي وأني قصير القامة لأني بدوي، فتأثر الطبيب وكتب لي أني أبلغ من العمر 17 سنة».
النعيمي يروي هذه الحادثة، ويوضح «لقد كنت محتاجًا لدخل بشدة. هذا الأمر لا يشعر به أولادي ولا أبناء هذا الجيل». وفعلاً، التحق النعيمي بالعمل، ولكن هذه المرة في وظيفة مكتبية في قسم شؤون الموظفين، وكان عليه تعلم الطباعة على الآلة الكاتبة. وتعلمها النعيمي بحماسة شديدة ووصلت سرعته إلى 100 كلمة في الدقيقة، كما يقول، حتى إنه كان يحلم في منامه أنه يطبع أحيانًا.
ولا يخجل النعيمي أبدا من تلك البدايات المتواضعة له في الشركة بل يفخر بها؛ إذ قال للصحافيين ممازحًا في إحدى المرات في فيينا: «ما زلت أنقل البريد أحيانًا معي من مكتب إلى مكتب» في إشارة لأول عمل له عندما كان مراسلاً.
نقطة التحول في مسيرة علي النعيمي جاءت في عام 1953. عندما أرسل إلى برنامج صيفي في الجامعة الأميركية في بيروت. كانوا 20 شخصًا وسيحصل العشرة الأوائل على منحة دراسية في كلية حلب الدولية في سوريا. واجتاز النعيمي الامتحانات في الجامعة ما عدا امتحان واحد.. هو امتحان الطول. ولكنه تعلم الجبر والفيزياء وتعلق كثيرًا بهذه العلوم. وعندما عاد إلى الظهران طلب نقله من قسم شؤون الموظفين، وخصوصًا أنه كان يطبع خطابات الخصم للموظفين وبذلك كان يحمل لهم الأخبار السيئة.
وذهب النعيمي بعدها إلى قسم الحفر والتنقيب. وهناك سأله المدير المساعد: «لماذا تريد الالتحاق بقسم الجيولوجيا؟ هذه الوظيفة متطلبة كما أنها ليست نظيفة». فأجابه ممازحًا وضاحكًا: «لأنني أريد أن أصبح رئيس الشركة». فنظر المدير المساعد إلى النعيمي وقال له إن هذا سبب معقول: «ولهذا وظفني في القسم وألحقني بإحدى منصات الحفر في شمال الربع الخالي كمساعد جيولوجي».
وفي شهادة من عثمان الخويطر، نائب رئيس أرامكو السابق لهندسة البترول، قال: «لقد كان النعيمي ذكيًا منذ صغره. لقد عرف من أين يشق طريقه نحو الأعلى في الشركة، لقد اختار الجيولوجيا والإنتاج إذ إن غالبية التنفيذيين الكبار في أرامكو حينها هم جيولوجيون ويعملون في الإنتاج».
التعليم الجامعي
ومن هناك بدأت رحلة النعيمي نحو القمة حيث أكمل تعليمه الثانوي في لبنان، ثم الجامعي في الولايات المتحدة حيث حصل على البكالوريوس في الجيولوجيا من جامعة ليهاي بولاية بنسلفانيا الأميركية، ثم حصل على الماجستير في التخصص ذاته من جامعة ستانفورد الشهيرة في ولاية كاليفورنيا، وكان حينها قد تزوج. وبعد عودته تنقل بين الأقسام الكثيرة من العلاقات العامة حتى أنظمة الكهرباء، حتى وصل إلى منصب نائب رئيس الشركة للإنتاج وحقن المياه في عام 1975، ثم تدرج حتى أصبح أول رئيس سعودي للشركة في الأول من يناير (كانون الثاني) عام 1984.
ويتذكر النعيمي بداياته، ويسرد في حوار قديم آخر: «أتصور أن ذلك الشخص الذي حدثته عن رغبتي في أن أكون رئيس الشركة على قيد الحياة. أتمنى لو أن أتحصل على عنوانه وأقول له. لقد تم إنجاز الهدف».
علي النعيمي، قصة النجاح المتميز، سيكرّم في العاصمة القطرية الدوحة يوم 24 مايو بمنحه جائزة «شخصية العام في قطاع الطاقة» من قبل وزير الطاقة والصناعة القطري السابق عبد الله العطية، الذي تربطه بالنعيمي صداقة قديمة وعلاقة حميمة.
بعد السيرة الطويلة للنعيمي والحياة الاستثنائية، لا عجب عندما يقول العطية عنه: «لن يكون هناك أبدا نعيمي آخر».



كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
TT

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين

رجل واحد حمله المستشار الألماني أولاف شولتس مسؤولية انهيار حكومته، وما نتج عن ذلك من فوضى سياسية دخلت فيها ألمانيا بينما هي بأمس الحاجة للاستقرار وتهدئة اقتصادها المتدهور. رجل وصفه المستشار بأنه «أناني»، وشن عليه هجوماً شخصياً نادراً ما يصدر عن شولتس المعروف بتحفظه وهدوئه. ذلك الرجل كان وزير ماليته كريستيان ليندنر، زعيم «الحزب الديمقراطي الحر» الذي كان شريكاً في الحكومة الائتلافية الثلاثية منذ عام 2021، برئاسة «الحزب الديمقراطي الاجتماعي» (الاشتراكي)، ومشاركة حزب «الخضر». ولقد طرده شولتس من الحكومة بعد خلافات حول ميزانية سنة 2025، ما تسبب بخروج الوزراء المتبقين من «الحزب الديمقراطي الحر»، ليبقى المستشار يقود حكومة أقلية حتى إجراء الانتخابات المبكرة في 23 فبراير المقبل. ثم إن شولتس تعرض لانتقادات كثيرة لهجومه الشخصي على ليندنر، خاصة من المستشارة السابقة أنجيلا ميركل التي وصفته بأنه كان «خارجاً عن السيطرة». لكن مع ذلك، فإن الصورة التي رسمها المستشار عن وزيره قد تحمل شيئاً من الواقع؛ إذ خرجت انتقادات من أوساط الديمقراطيين الأحرار لليندنر و«تصرفه بشكل أحادي» في دفع المستشار لإقالته. وقبل ذلك طالته انتقادات بعدما أصبح «الوجه الأوحد» لـ«الحزب الديمقراطي الحر» إبان الانتخابات الماضية عام 2021 وقبلها عام 2017. ولعل الحزب تسامح مع تصرفات ليندنر «الأنانية» تلك لنجاحه بإعادة الحزب إلى الخارطة السياسية بعد انهياره تقريباً عام 2013 وفشله بدخول البرلمان للمرة الأولى في تاريخه. إلا أن مستقبل الرجل الذي أعاد حزبه إلى الحياة... هو نفسه في خطر. فهل يستمر ليندنر بالبناء على تاريخه حتى اليوم للنهوض مجدداً؟

قد يكون كريستيان ليندنر أصغر زعيم انتُخب ليرأس حزبه «الديمقراطي الحر»، عن عمر 34 سنة فقط عام 2013، بيد أنه لم يكن ناجحاً على الدوام. وبعكس حياته السياسية وصعوده السريع إلى القمة، فشل ليندنر في مشاريع أعمال أطلقها عندما كانت السياسة ما زالت هواية بالنسبة إليه. واعترف لاحقاً بإخفاقاته تلك، مستعيناً بعبارة «المشاكل هي مجرد فرص شائكة» لكي يدفع نفسه إلى الأمام.

وبين عامَي 1997 و2001 أسس شركات خاصة مع أصدقاء له، انتهت بالفشل آخرها شركة «موماكس» التي انهارت وأفلست بعد أقل من سنة على إطلاقها.

هذه «الإخفاقات» التي طبعت مغامراته التجارية وهو في مطلع العشرينات قد تكون دفعته للتوجه إلى السياسة بجدية أكبر. وبالفعل، نجح عام 2001 بدخول البرلمان المحلي في ولايته شمال الراين-وستفاليا وهو ابن 21 سنة ليغدو أصغر نائب يدخل برلمان الولاية. ولصغر سنه وقسمات وجهه الخجولة كسب ليندنر آنذاك لقب «بامبي» بين أعضاء الحزب نسبة للغزال الصغير عند «ديزني».

«بامبي» في «البوندستاغ»

في عام 2009، فاز ليندنر بمقعد في البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) ليعود عام 2012 إلى ولايته أميناً عاماً للحزب في الولاية ونائباً محلياً مرة أخرى.

وبعدها ساعدت إخفاقات الديمقراطيين الأحرار في الانتخابات العامة عام 2013 بتسليط الضوء على ليندنر، الشاب الكاريزماتي الطموح الذي وجد فرصة سانحة أمامه للصعود داخل الحزب. ويومذاك فشل الحزب بتخطي عتبة الـ5 في المائة من أصوات الناخبين التي يحددها القانون شرطاً لدخول «البوندتساغ». وعقد أعضاؤه اجتماعاً خاصاً لمناقشة النتائج الكارثية التي لم يسبق للحزب أن سجلها في تاريخه، وانتخب ليندنر، وهو في سن الـ34، زعيماً للحزب مكلفاً بتأهيله وإعادته للحياة... وبذلك بات أصغر زعيم ينتخب لـ«الحزب الديمقراطي الحر».

شاب أنيق وجذّاب

شكّل سن ليندنر وأناقته وشخصيته عاملاً جاذباً للناخبين الشباب خاصة. وقاد حملة مبنية على أساس جذب الشباب ونفض صورة الحزب القديم التقليدي عنه، كما ساعده حضوره على وسائل التواصل الاجتماعي في التواصل مع مستخدميها من الشباب وتقريبهم إلى الحزب.

وغالباً ما نُشرت له صور من حياته الشخصية على «إنستغرام»، منها صورة لإجازة مع فرانكا ليهفيلدت، زوجته الصحافية التي كانت تعمل في قناة «دي فيلت»، ولقد عقدا قرانهما وهو في الحكومة عام 2022 في حفل ضخم وباذخ بجزيرة سيلت حضره عدد كبير من السياسيين. وينتظر الزوجان مولودهما الأول في الربيع المقبل.

للعلم، كان ليندر متزوجاً قبل ذلك من صحافية أخرى كانت نائبة رئيس تحرير «دي فيلت» أيضاً، هي داغمار روزنفلت، التي تكبره سناً ولم ينجبا أطفالاً معاً. لكنهما ظلا متزوجين من 2011 وحتى 2018 عندما أعلن طلاقهما وكشف عن علاقته مع ليهفيلدت.

أيضاً، لا يخفي ليندنر حبه للسيارات السريعة، وكان قال غير مرة قبل دخوله الحكومة مع حزب «الخضر» بأنه يهوى السيارات القديمة ويملك سيارة بورشه قديمة ومعها يملك رخصة للسباقات. وبجانب هذه الهواية يحب اليخوت ويملك رخصة للإبحار الرياضي وأخرى للصيد.

صورة شبابية عصرية

هذه الصورة التي رسمها ليندنر لنفسه، صورة الرجل الأنيق الذي يهتم بمظهره (لدرجة أنه خضع لزرع شعر) ويمارس هوايات عصرية، ساعدته على اجتذاب ناخبين من الشباب خاصة، وجعلته ينجح بإعادة حزبه إلى البرلمان عام 2017 بحصوله على نسبة أصوات قاربت 11 في المائة.

في حينه دخل في مفاوضات لتشكيل حكومة ائتلافية مع المستشارة أنجيلا ميركل التي فاز حزبها بالانتخابات، وكانت تبحث عن شركاء للحكم إثر حصولها على 33 في المائة من الأصوات. وفعلاً، بدأت ميركل مفاوضات مع الديمقراطيين الأحرار و«الخضر»، لكن ليندنر انسحب فجأة من المفاوضات بعد 4 أسابيع، ليعلن: «أفضل عدم الحكم من الحكم بشكل خاطئ».

ليندنر كان يختلف آنذاك مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين قبل سنتين. ويومها واجه الانتقاد لتفويته على حزبه فرصة الحكم، وهي فرصة خشي بعض الحزبيين ألا تُتاح مُجدداً.

ائتلاف مع اليسار

غير أن الفرصة أتيحت مرة أخرى في الانتخابات التالية عام 2021 عندما حقق «الحزب الديمقراطي الحر» نتائج أفضل من الانتخابات السابقة، حاصلاً على نسبة 11.5 في المائة من الأصوات. ومع أن «الحزب الديمقراطي الحر» حزب وسطي ليبرالي يؤيد الحريات الاقتصادية، ويعدّ شريكاً طبيعياً لحزب «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» (يمين معتدل)، قرر ليندنر عام 2021 الدخول في ائتلاف حاكم مع الاشتراكيين و«الخضر»؛ ذلك أن الأخير يعتبر نقيضاً فكرياً للديمقراطيين الأحرار الذين يرون سياساته البيئية مكلفة وكابحة للتقدم الاقتصادي.

وهكذا تسلم ليندنر إحدى أهم الوزرات؛ إذ عُيّن وزيراً للمالية وثاني نائب للمستشار. وحقق بذلك حلمه الذي غالباً ما كرره خلال الحملات الانتخابية بأنه يريد أن يصبح وزيراً للمالية، وحتى إنه عرّف نفسه في إحدى الحملات ممازحاً: «تعرّفوا على وزير ماليتكم المقبل!».

خلفيته العلمية والفكرية

اهتمام ليندنر بالسياسة الاقتصادية ينبع من اهتماماته منذ تخرّجه من الجامعة؛ حيث درس العلوم السياسية ثم القانون والفلسفة في جامعة بون المرموقة (واسمها الرسمي جامعة راينيشه فريدريش - فيلهامز).

ثم إنه لم ينضم فور مغادرته المدرسة للخدمة العسكرية التي كانت إجبارية آنذاك، وأجّلها للدراسة وإكمال مغامراته التجارية، لكنه عاد لاحقاً وانضم إلى جنود الاحتياط ووصل لرتبة رائد. ورغم فشل مغامراته التجارية، بقيت اهتماماته السياسية منصبّة على الجانب المالي، ومن هنا جاء طموحه بأن يصبح وزيراً للمالية في الحكومة الفيدرالية.

وفكرياً، يؤمن ليندنر وحزبه بتقليص الإنفاق العام وخفض الضرائب وفتح الأسواق أمام الشركات الخاصة. ودائماً عارض خططاً عدّها متطرفة يدعمها «الخضر» لاستثمارات أكبر في الطاقة النظيفة بحجة تكلفتها العالية وتأثيرها على الشركات والأعمال. وكانت المفارقة أنه تسلّم حكومة كانت مسؤولة عن تطبيق سياسات تروّج للطاقة البديلة وتزيد من النفقات الاجتماعية وترفع من الضرائب.

هذا الأمر كان صعباً عليه تقبّله. ورغم وجود اتفاق حكومي حدّدت الأحزاب الثلاثة على أساسه العمل خلال السنوات الأربع من عمرها، عانى عمل الحكومات من الخلافات منذ اليوم الأول. وطبعاً لم تساعد الحكومة الأزمات المتتالية التي اضطرت لمواجهتها وكانت لها تأثيرات مباشرة على الاقتصاد، بدءاً بجائحة كوفيد-19 إلى الحرب الأوكرانية.

ولذا كان شولتس غالباً ما يعقد خلوات مع ليندنر وزعيم «الخضر»، روبرت هابيك، ويطول النقاش لساعات بأمل التوصل لحلول وسط يمكن للحكومة أن تكمل فيها عملها. وفي النهاية، كان من أبرز نقاط الخلاف التي رفض ليندنر المساومة فيها هي ما يُعرف في ألمانيا بـ«مكابح الدَّين العام»؛ إذ يرفض الدستور الألماني الاستدانة إلا في حالات الطوارئ، ولقد استخدمت الحكومة كوفيد-19 كطارئ للتخلي عن «مكابح الدَّين العام»، وبالتالي، الاستدانة والإنفاق للمساعدة عجلة الاقتصاد.

وأراد شولتس تمديد العمل بحالة الطوارئ كي تتمكن حكومته من الاستدانة وتمويل الحرب في أوكرانيا من دون الاقتطاع من الخدمات العامة، لكن ليندنر رفض مقترحاً تخفيض الإنفاق العام في المقابل، الأمر الذي اعتبره شولتس «خطاً أحمر».

تهم وشكوك

وحقاً، اتُّهم ليندنر بعد طرده بأنه كان يخطط للانسحاب من الحكومة منذ فترة، وبأنه وضع خطة لذلك بعدما وجد أن حزبه منهار في استطلاعات الرأي وأن نسبة تأييده عادت لتنخفض إلى ما دون عتبة الـ5 في المائة.

أيضاً، كُشف بعد انهيار الحكومة عن «وثيقة داخلية» أعدّها ليندنر وتداولها مع نفر من المقرّبين منه داخل الحزب، تحضّر للانسحاب من الحكومة بانتظار الفرصة المناسبة. وقيل إنه بدأ يخشى البقاء في حكومة فقدت الكثير من شعبيتها بسبب المشاكل الاقتصادية وارتفاع التضخّم خلال السنوات الثلاث الماضية، ما أثر على القدرة الشرائية للألمان. وبناءً عليه، خطّط ليندنر للخروج منها قبل موعد الانتخابات واستخدام ذلك انتخابياً لإعادة رفع حظوظ حزبه الذي يبدو الأكثر تأثراً من الأحزاب المشاركة في الحكومة، بخسارة الأصوات. وطرحت «الوثيقة» التي كُشف عنها مشكلة أخرى بالنسبة لليندنر - داخل حزبه هذه المرة - فواجه اتهامات بالتفرّد بالقرارات وحتى دعوات لإقالته.

طامح لمواصلة القيادة

حتى الآن، يبدو كريستيان ليندنر مصراً على قيادة حزبه في انتخابات فبراير (شباط)، وما زال لم يفقد الأمل العودة حتى إلى الحكومة المقبلة وزيراً للمالية في حكومة يقودها زعيم الديمقراطيين المسيحيين، فريدريش ميرتز، الذي يتقدّم حزبه في استطلاعات الرأي ومن المرجح أن يتولى المستشارية. وللعلم، ميرتز نفسه أبدى انفتاحاً على ضم ليندنر إلى حكومته المحتملة، وشوهد الرجلان بعد أيام من إقالة ليندنر يتهامسان بتفاهم ظاهر داخل «البوندستاغ».

ولكن عودة ليندنر للحكومة ستتطلب منه بدايةً تخطي عقبتين: الأولى أن يبقى على رأس حزبه لقيادته للانتخابات. والثانية أن ينجح بإقناع الناخبين بمنح الحزب أصواتاً كافية لتخطي عتبة الـ5 في المائة الضرورية لدخول البرلمان.