كتاب توثيقي لقصص أبشع من أن تحتمل

سمر يزبك في «بوابات أرض العدم» تقودنا إلى اليأس والرحيل

غلاف الكتاب
غلاف الكتاب
TT

كتاب توثيقي لقصص أبشع من أن تحتمل

غلاف الكتاب
غلاف الكتاب

من المجحف جدًا لكتاب سمر يزبك «بوابات أرض العدم» الذي أسال حبرًا كثيرًا، أن يقيّم، على أنه رواية، أو يقارن بروايات سورية كتبت حول الثورة.. فهو أقرب إلى تحقيق صحافي طويل من 270 صفحة، يوثق حكايات سوريين، صمدوا في الشمال الغربي السوري وفي أرياف إدلب، ويصف حال البلاد والعباد والمقاتلين وتبدلات أوضاعهم، من خلال ثلاث زيارات تقوم بها الكاتبة لوطنها، عائدة من المنفى، حيث تجتاز متسللة الحدود التركية إلى سوريا. تبدأ الزيارة الأولى في أغسطس (آب) من عام 2012، فيما تبدأ الأخيرة في الشهر نفسه من 2013. وهو ما يتيح ليزبك، خلال ما يقارب السنة، أن ترصد وتكتب عن الانقلابات التدريجية التي حلت، أثناء هذه الفترة الحاسمة، منها الازدياد التدريجي في عدد المقاتلين المتشددين وسيطرتهم المتفاقمة على مفاصل الحياة، وهروب مزيد من العائلات، وبطبيعة الحال، تعاظم الخراب والموت وتلاشي الأمل.
على أي حال، لا تدّعي سمر يزبك أنها تقدم رواية لقرائها؛ إذ يخلو غلاف الكتاب من هذه الصفة، كما أن «دار الآداب» تعده «سيرة أدبية»، لأنه يروي الأحداث، من خلال عيني الكاتبة، وغير خال من انفعالاتها وتدخلها الشخصي في التعليق على الوقائع.
وبالتالي، يأتي «بوابات أرض العدم»، كجزء ثان، أو كاستكمال لما كانت قد روته سمر يزبك في كتابها «نيران متقاطعة» الذي لم يدّع هو الآخر انضواءه ضمن النوع الروائي، وإنما قدم نفسه على أنه «يوميات من الانتفاضة السورية».
التحري والتقصّي وتسجيل اليوميات في «بوابات أرض العدم»، متواصل، من قبل سمر يزبك التي تعود من منفاها في محاولة لاستكشاف الأوضاع عن كثب. ويختلط في المؤلّف، دور الكاتبة الصحافية التي تستجوب المقاتلين، وتجري التحقيقات، وتستنطق المعذبين، بدور الناشطة القادمة لمد يد العون للمحتاجين، بثالث لا يقل أهمية، هو دور المواطنة التي تجد نفسها في مآزق قد تؤدي بها إلى الموت لمجرد أنها من الطائفة العلوية، في وسط سني، ولو كانت معارضة للنظام.
الكتاب صعب القراءة، فانتقال الراوية من منزل إلى آخر، ودخول البيوت للاختباء من القصف والرصاص، والتردد على المكاتب الإعلامية، والالتقاء بالناشطين والنساء، حكايات تتكرر لتدخل المتابع في رتابة، كما أن رواية المآسي المتناسلة، الفائقة المرارة، تجعل الكتاب موجعًا، ومفرملا لاستكمال النص. الكتاب جداريات دموية، مليئة بالقتلى والجرحى، ومبتوري الأطراف، والجوعى والمشردين، وأسماء لأناس كثر يروون شهاداتهم وحكايات ضياع أعمارهم، وأعمالهم، وفقدانهم فرص تقدمهم في دراسة، أو عمل أو ما يمكن أن يكسر حاجز اليأس. قصص تقسم ظهر القارئ العربي، الذي يعرف جيدًا، حد الاختناق، أن ما حوله أفظع من أن يحتمل، وأصعب من أن يتمكن من درئه. إنك أمام مزيد من حواضر المجازر العربية اليومية التي تمتلئ بها الصحف وصفحات التواصل الاجتماعي. وهذا تحديدًا ربما ما جعل مطبوعات فرنسية وحتى إنجليزية، تحتفي بالكتاب وترى فيه مادة لفهم أخبارنا وواقعنا الكارثي، وللتعرف، عن كثب، على أحوالنا وبؤسنا. فقد عدّت صحيفة «لوموند»، التي خصصت له صدارة ملحقها للكتب، أن «سمر يزبك.. الناطق باسم الجحيم السوري»، فيما رأت فيه «ليبراسيون».. «سردًا رهيبًا»، خصوصا أنه يأتي في وقت بدأت فيه أزمة المهاجرين تقسم أوروبا، التي يجب أن تغير نظرتها لما يحدث في ذلك البلد. النقاش الذي فتح، بعد ذلك، حول أحقية الكتاب بالاهتمام، من عدمه، خدمه عربيًا، وفتح الشهية لاقتنائه. وهو أمر ليس بالسيئ.
في بداية «بوابات أرض العدم»، وبعد الدخول الأول للكاتبة إلى سوريا، تظهر الحوارات التي تنقلها.. كم أن النفوس كانت أكثر صفاء والتركيز قويا لمواجهة النظام. الإسلاميون الذين تلتقي بهم، يكررون أكثر من مرة مطالبتهم وإصرارهم على الدولة المدنية. والراوية تحكي عن تسامح هؤلاء معها، لا بل مساعدتها وحمايتها، رغم اختلاف طائفتها. سمر يزبك التي أشهرت معارضتها للنظام منذ البداية، تنقلنا خلال صفحات كتابها إلى عالم تنقلب معالمه تدريجيًا.. «فمع خروج النظام من المناطق (تقول) ليس الجيش الحر هو الذي يحل مكانه، وإنما الكتائب (الجهادية) التي تقيم دويلات تحاول أن تجعل أوضاعها منظمة قدر الممكن، وهي سرعان ما تتصارع في ما بينها».
في معرة النعمان، ترى الراوية رأس أبي العلاء مقطوعة عن تمثاله.. أناسا يعيشون في السراديب والكهوف. تتحدث عن الإجحاف الذي لحق بالنساء بعد أن حلت محل الجيش تنظيمات «داعش» و«جبهة النصرة» و«أحرار الشام».. وغيرها من المجموعات المتطرفة، وما فرضته على سيدات يحتجن المساعدات والمعونات حتى الصغيرة منها التي تقدم لهن، وهن مرغمات على تنفيذ ما يطلب منهن.
في جولتها الثالثة، «حيث أصبح المرتزقة أكثر من الثوار» تلتقي بأمير «أحرار الشام» في المعرة، ويشرح لها تفاصيل بنيتهم التنظيمية، وتسمع من هؤلاء أيضًا: «العلويون لا بقاء لهم في سوريا، المسيحيون يعاملون معاملة النصارى في الإسلام، ونحن نعلن أننا نبشر بإمارة راشدة». وحين تستفهم عمن هم مع الثورة من هؤلاء، يأتيها الجواب: «إنهم قلائل، فليخرجوا، سنقاتل العلويين والأكراد حتى آخر قطرة دم». هذه النزعة الإلغائية التي تسمعها أثناء حوارها مع «أحرار الشام»، لا تستثني «الإسماعيلية» أو حتى النساء والأطفال الذين لن يحيدوا بدورهم، لأن «النساء يلدن الأطفال، والأطفال يصيرون رجالا، والرجال يقتلوننا».
يبدأ الكتاب بالأمل وينتهي باليأس.. «لا شيء واضح، كتائب تتصارع مع كتائب. العسكر يأكل الثورة. العسكر الديني، بكافة كتائبه يصير وحشًا.. الأطفال الذين نلحق بهم وهم يحملون السلاح، ويختفون بين الأزقة ليلاً، والذين لا تتجاوز أعمارهم السادسة عشرة. عصابات السرقة تنتحل أسماء كتائب وهمية وتتحول إلى شبيحة. البلاد لم تعد بلادًا، وتحول كل جزء فيها إلى منطقة تحت سيطرة ألوية متناحرة، تخضع جميعها لسيطرة مطلقة لسماء قاتلة، ووحشية المتطرفين الدينيين الجدد» حيث طائرات النظام لا تتوقف عن قصف المناطق التي تركتها، فيما القذائف البينية، التي يتبادلها المعارضون، تدمر ما لا يستطيعه النظام.
«بوابات أرض العدم» رغم رشاقته الأسلوبية، ليس كتابًا للمتعة الأدبية، هو تسجيل لوقائع.. أرشفة لأحداث.. رواية لقصص حية.. قبض على زمن يفلت من الجميع دون أن يجد من يحكيه. بين رواية النظام ورواية المعارضة، التي يحاول كل منهما أن يسجل فيها نقاطًا لصالحه في السياسة، تقف سمر يزبك في لحظ انعدام الوزن، لترى أن الجميع وصل إلى حائط مسدود، ولا تجد من حل سوى أن توضّب حقيبتها من جديد وترحل.. عن أرض صارت فيها الحياة تعانق الموت، إن لم تكن الموت نفسه.



القطاع الثقافي ضحية سياسات التقشف الأوروبية

المتحف الفني "تيت بريتن" بلندن
المتحف الفني "تيت بريتن" بلندن
TT

القطاع الثقافي ضحية سياسات التقشف الأوروبية

المتحف الفني "تيت بريتن" بلندن
المتحف الفني "تيت بريتن" بلندن

الأزمات الخانقة التي أصبحت تثقل كاهل الدول الغربية، وصعود الأنظمة اليمينية المتطرفة، لم تعد سراً على أحد، لكن اللافت للانتباه التداعيات الخطيرة لكل هذه التطورات على القطاع الثقافي، فزيادة على ضعف الاهتمام تخلّ كثير من الحكومات عن اتباع سياسات حماية لثقافتها. إنه وضع القارة العجوز الآن؛ حيث نجحت ديون الحكومات المتراكمة، ومشكلات البطالة، والتضخم، والتوقعات المتشائمة لمعدلات النمو، في تغييب الإشكاليات الثقافية، والدفع بها إلى الصفوف الخلفية. الوضع في تدهور مستمر، حتى أصبحنا لا نستطيع مواكبة الأخبار التي تُفيد بقصّ الدعم، وخفض الميزانيات الثقافية لكثرتها.

في فرنسا، دعم الحكومة للمؤسسات الثقافية الكبرى لا يزال قائماً باعتبارها تُسهم بقوة في إنعاش قطاع السياحة، خصوصاً المتاحف والمكتبات الوطنية والمسارح، لكن الميزانية في تراجع مستمر. فمع مطلع 2025 تفقد وزارة الثقافة أكثر من 200 مليون يورو، معظمها اقتطعت من التمويل الذي كان يخصص للتراث والإبداع، وبعضها يخص أعرق المؤسسات الفرنسية؛ كأوبرا باريس، التي خسرت 6 ملايين يورو، ومسرح كوميدي فرنسييز، الذي انخفض تمويله العام بنحو 5 ملايين، ومتحف اللوفر بـ3 ملايين يورو. إلا أن المشكلة ليست في الوزارة فقط، لأنها ليست الداعم الأهم للقطاع الثقافي في البلاد، فمن بين الـ13 ملياراً التي تُشكلها ميزانية القطاع الثقافي في فرنسا لا تمنح الوزارة سوى 4 مليارات، أما البقية، أي أكثر من 9 مليارات، فهي الحصّة التي تسهم بها السلطات المحلية، أي المحافظات «Collectivités locales»، التي تتمتع بميزانيات خاصة بها. والجديد هو أن بعضاً من مسؤولي هذه الهيئات الرسمية شرعوا في تطبيق سياسة التقشف إلى أقصى الحدود، بدءاً بالمؤسسات والمرافق الثقافية والمبدعين؛ حيث حرمتهم من الدعم المادي، عملاً بالمنطق الذي يقول تغذية البطن قبل تغذية العقل.

متحف برلين

من الشخصيات التي واجهت انتقاد الدوائر الثقافية بهذا الخصوص كريستال مورونسي، رئيسة منطقة بايي دو لا روار (pays de la Loire) الواقعة غرب فرنسا، وهذا بعد أن أقرّت خفض ميزانية الثقافة بنسبة 73 في المائة، أي أكثر من 200 مليون يورو، وهي سابقة خطيرة في فرنسا علّقت عليها وسائل الإعلام الفرنسية بكثرة تحت شعار «الثقافة من الضعيف إلى الأضعف». فإجراء مثل هذا يعني توجيه ضربة قاضية لكثير من المؤسسات والمرافق الصغيرة التي تُعوّل في استمرار نشاطها على الأموال العامة، ومنها المهرجانات المحلية والمسارح، والمتاحف، وفرق الرقص والجمعيات. النقابات الثقافية وصفت هذا الإجراء بـ«العنيف». أما رئيسة المنطقة كريستال مورونسي فقد بررته بالديون المتراكمة التي تملي على ضمير أي مسؤول اعتماد التقشف لإنقاذ الوضع.

الوضع ليس أحسن حالاً في ألمانيا؛ حيث قررت حكومة ولاية برلين خفض التمويل المخصص للفنون والثقافة بنسبة 12 في المائة، وهو ما يعادل 130 مليون يورو. القرار أدّى إلى مخاوف من أن تفقد المدينة مكانتها، كونها واحدة من العواصم الثقافية الرائدة في أوروبا، حتى إن بعض المؤسسات أصبحت تواجه خطر الإغلاق، أهمها متحف برلين للفنون التشكيلية، ودار أوبرا كوميش. أما البقية فهي في حالة يُرثى لها، فمتحف برغام الشهير اضطر للغلق بسبب ترميمات طويلة الأمد (14 سنة)، علماً بأنه لم ينفذ فيه أي إصلاحات منذ 1930. عمدة برلين كاي فيغنر برّر تخفيضات الميزانية بوصفها ضرورية لضمان استمرارية برلين المالية بعد عام صعب اتسّم بانخفاض الإيرادات. ونصح المؤسسات الثقافية بالتفكير في إيجاد وسائل تمويل خاصة، على غرار النموذج الأميركي الذي يعتمد على الرعاية، مضيفاً أن «العقليات يجب أن تتغير؛ لأن خزائن الدولة أصبحت فارغة حتى بالنسبة للثقافة»، علماً بأن هذا التخفيض في ميزانية الثقافة يتعارض بشكل حاد مع نهج برلين السابق، المتمثل في تعزيز الاستثمار في فضاءاتها الثقافية. ففي عام 2021، وافقت ألمانيا على مبلغ قياسي قدره 2.1 مليار يورو تمويلاً فيدرالياً للثقافة، بزيادة قدرها 155 مليون يورو على العام السابق. شخصيات من الوسط الثقافي والفني انتقدت بشدة هذه التخفيضات، منها المخرج الألماني المعروف وين واندرز، الذي صرح لقناة «أورو نيوز» بأن «سحب التمويل العام قرار سيئ، أعتقد أن عليهم الاستثمار في الثقافة بدلاً من القيام بالعكس؛ لأنهم على المدى الطويل رابحون».

القطاع الثقافي في بريطانيا يعيش هو الآخر أزمة حادة؛ حيث نقل كثير من التقارير الإعلامية الانخفاض الشديد الذي سجلته الميزانيات المخصصة للثقافة منذ 2017 ولعدة سنوات على التوالي حتى وصلت نسبة الانخفاض إلى 48 في المائة، حسب موقع «أرت نيوز» البريطاني، الذي نشر مقالاً بعنوان: «لماذا تُموّل الحكومة البريطانية تمثالاً للملكة إليزابيث بـ46 مليون جنيه إسترليني، في حين القطاع الثقافي على ركبتيه». وجاء فيه: «عدد من المؤسسات الفنية والثقافية في جميع أنحاء المملكة المتحدة يُكافح من أجل البقاء، بسبب توقف التمويلات، كشبكة متاحف (التيت) التي تسهم فيها الحكومة بنسبة 35 في المائة، التي أصبحت تعاني من عجز في الميزانية للعام الثاني على التوالي، بسبب انخفاض الدعم، وإن كانت شبكة متاحف (التيت) ما زالت تنشط ولو بصعوبة فإن مؤسسات أخرى لم يحالفها الحظ؛ حيث تم إغلاق أكثر من 500 متحف بريطاني منذ سنة 2000، منها متحف إيستلي (Eastleigh) في هامبشاير، ومتحف كرانوك تشيس (Crannock Chase) في ويست ميدلاندز، بالرغم من الحملات الكثيرة التي نظمت لإنقاذ هذه المؤسسات».