كتاب فلسطينيون في «عرين الأسد»

كتاب فلسطينيون في «عرين الأسد»
TT

كتاب فلسطينيون في «عرين الأسد»

كتاب فلسطينيون في «عرين الأسد»

لا يعدم التاريخ الأدبي للأسف، وخاصة في البلدان العربية، كتابا خدموا الديكتاتورية. ولكن لحسن الحظ أن أغلبهم كتاب فاشلون، حتى لو ملأوا الدنيا وشغلوا الناس في مرحلة ما، ذلك أن الأدب الباقي هو الأدب الإنساني، الذي يمجد القيم الإيجابية في الحياة، ويناصر الإنسان، أينما كان هذا الإنسان، في صراعه ضد القبح والبشاعة والقمع، وفي كفاحه المضني من أجل الحق والخير، والحرية والجمال. هذه هي مهمة الكاتب الحقيقي، وهنا تكمن قيمته. وعكس ذلك، خيانة عظمى للنفس أولا، قبل أن تكون خيانة للكلمة التي اعتدنا أن نسميها مقدسة.
إذن، كيف يمكن أن نفسر تواطؤ قسم كبير من المثقفين العرب مع الطغاة، كما حصل، مثلا، مع صدام حسين، ويحصل الآن مع بشار الأسد؟ كيف يتحول «حملة الثقافة الطليعية»، والرافعون ليل نهار شعارات الحرية والتنوير، إلى دببة ترقص، إذا استعرنا تعبير ايميه سيزير، على إيقاعات مذابح قل نظيرها في التاريخ الحديث، مذابح لا تجري في مكان ما، وضد بشر في الواق واق، وإنما في أماكنهم هم، وضد ناسهم؟ كيف يتحول المثال الثقافي والجمالي، الذي طالما سعى المثقف إلى تحقيقه، أو هكذا كان يبدو، إلى تواطؤ مخز مع الطغاة؟
هناك بالطبع كتاب مرتزقون، كما في مهنة أخرى، ولكننا لا نستطيع أن نتهم الجميع بالارتزاق. ارتزق كثيرون من نظام صدام حسين، وذهبت كتاباتهم وأناشيدهم المنافقة معه، ولكن كثيرين أيضًا انطلقوا من ثقافة زائفة ارتدت مسوح ما يسمى بـ«الفكر القومي التقدمي» في أسوأ نسخه، التي ضحك منها الناس البسطاء، وما زالوا، قبل أن تثبت الحياة والتاريخ بطلانها وتهافتها.
آخر الأمثلة الصارخة على ذلك، ما ردده وفد اتحاد الكتاب والأدباء الفلسطينيين برئاسة أمينه العام أثناء زيارته العاصمة السورية لمباركة القاتل القابع في قصره على «صموده بوجه إسرائيل والإمبريالية العالمية والإرهاب»، والتغني بما تريد أن تسمعه آذانه، الطرشاء أمام صراخ الأطفال والأمهات، من أن «دمشق هي آخر حصون العرب وسوف تنتصر»، وأن «الفلسطينيين - هكذا بحسب التصريح! - يراهنون عليها وستكون منطلق ثقافة المقاومة بمواجهة التطبيع والغدر». وأضفى أحد أعضاء الوفد، وعضو الأمانة العامة للاتحاد، بهارا فلسفيا على هذا الكذب بقوله: إن «هناك علاقة عضوية بين الكتاب الفلسطينيين والسوريين في حربهم الوجودية المشتركة»، متجاهلا أن قسما من الكتاب السوريين قد تعفن في سجون النظام منذ السبعينات، والقسم الآخر مشرد في المنافي حفاظا على شرفه المهني والأدبي والوطني، وما يزال قسم قريب جدا من القصر الجمهوري الذي زاره وتغنى بأمجاد ساكنه بأعلى صوته، لا يستطيع حتى التفوه بحرف واحد. لا توجد خيانة أعظم من خيانة الكلمة.
نحن نعرف أن بعض أعضاء هذا الوفد قد ساهم مساهمة فعالة في انشقاق الاتحاد العام للكتاب والأدباء الفلسطينيين أثناء رئاسة محمود درويش له في الثمانينات، ليبقى تحت الخيمة السورية، وحينها أطلق ياسر عرفات تصريحه الشهير ردا على هذا الانشقاق، وعلى دور النظام السوري فيه: «أنا عندي محمود درويش، وليس خالد أبو خالد». ونعرف أيضا أن العضو الآخر من أعضاء الوفد، وهو كاتب بائس حقا، كان من طبّالي صدام حسين. ولا نستغرب أن يتغنى الآن بطاغية آخر، رغم العداوة البعثية التاريخية بين الطاغيتين. إنه شيء مفهوم، ولا بأس أن يستبدل هذا بذاك، فطاغية حي أفضل من طاغية ميت.
ولكن أن يتحدث هذا الوفد، الذي يرأسه الأمين العام للاتحاد، باسم الكتاب الفلسطينيين، فهو شيء لا يمكن هضمه، ولا يمكن تبريره بأي صورة من الصور - ولنترك الآن التساؤل عن كيفية انتخاب أناس مثل هؤلاء، فهذا شأن المثقفين الفلسطينيين.
هذه الزيارة الرسمية ليست فقط إساءة للشعب السوري، الذي لم تُبق منه، إلا القليل، براميل وطائرات حاكم «سوريا العروبة»، الجار الأكثر وفاء لإسرائيل منذ 1967. وخيانة لزملائهم الكتاب والمثقفين السوريين الذين شردهم «راعي ثقافة المقاومة»، وإنما، قبل كل شيء، إهانة للشعب الفلسطيني الذي فعل به النظام السوري ما فعل منذ السبعينات، ولكرامة كتابه ومثقفيه الذين عرفوا حقا معنى التشريد والقمع والقتل.
ليست كافية أبدا الاحتجاجات المتصاعدة على مواقع التواصل الاجتماعي، ضد زيارة هذا الوفد لجلاد سوريا ومباركة مجازره. والمطلوب صرخة «ليس باسمي» عالية لغسل هذا العار، وإزاحة مثل هؤلاء من قيادة وعضوية منظمة ينبغي أن تكون حساسة أكثر من غيرها تجاه الظلم والقهر.



قصة «أيمن» الحقيقي بطل القصيدة والأغنية

قصة «أيمن» الحقيقي بطل القصيدة والأغنية
TT

قصة «أيمن» الحقيقي بطل القصيدة والأغنية

قصة «أيمن» الحقيقي بطل القصيدة والأغنية

لطالما كانت كلمات الأغاني محل اهتمام البشر بمختلف أجناسهم وأعمارهم وشرائحهم الاجتماعية والثقافية. وإذا كانت القلة القليلة من الباحثين وأهل الاختصاص تحصر تعاملها مع الأغاني في الإطار النقدي، فإن معظم الناس يبحثون في كلماتها، كما في اللحن والصوت عما يحرّك في دواخلهم أماكن الرغبة والحنين وترجيعات النفس والذاكرة. لا، بل إن بعض الأغاني التي تعجز عن لفت انتباه سامعيها بسبب سذاجتها أو مستواها الهابط سرعان ما تكتسب أبعاداً وتأثيرات لم تكن لها من قبل، حين يمرون في تجربة سفر أو فراق أو حب عاصف أو خيانة غير متوقعة.

وحيث لا يُظهر البعض أي اهتمام يُذكر بالدوافع التي أملت على الشعراء كتابة النصوص المغناة، فإن البعض الآخر يجدُّون بدافع الفضول أو المعرفة المجردة، في الوقوف على حكايات الأغاني ومناسباتها وظروف كتابتها. وهو فضول يتضاعف منسوبه إذا ما كانت الأغنية تدور حول حدث بعينه، أو اسم علم مبهم الملامح وغير مكتمل الهوية.

وإذا كان لموت الأبطال في الملاحم والأساطير وحركات المقاومة تأثيره البالغ في النفوس، فإن موت الأطفال في الحروب يكتسب تأثيره المضاعف لأنه ينتقل من الخاص إلى العام فيصيب البراءة في عمقها ويسدد طعنته القاتلة إلى نحر الأحلام ووعود المستقبل. وهو ما جسّدته بشكل جلي أعداد وافرة من الروايات واللوحات التشكيلية والقصائد والأغاني، بدءاً من قصيدة «الأسلحة والأطفال» لبدر شاكر السياب، وليس انتهاءً بشخصية «شادي» المتزلج فوق ثلوج الزمن الذي حولته الأغنية الفيروزية رمزاً أيقونياً لتراجيديا البراءة الطفولية التي قصفتها الحرب في ريعانها.

ولم تكن مأساة «أيمن» الذي قتلته الطائرات الإسرائيلية المغيرة على الجنوب اللبناني في نهاية عام 1977 والتي استوحيت من حادثة استشهاده القصيدة التي تحمل الاسم نفسه، سوى حلقة من حلقات التراجيديا الإنسانية التي تجدد نفسها مع كل صراع قومي وإثني، أو مواجهة قاسية مع الطغاة والمحتلين. تجدر الإشارة في هذا السياق إلى أن الفارق بين شادي وأيمن هو أن الأول قد اخترعه الرحبانيان بخيالهما المحض، في حين أن أيمن كان طفلاً حقيقياً من لحم ودم، قضى في ظل الظروف نفسها والصراع إياه.

أما الفارق الآخر الذي لا ينبغي إغفاله، فيتمثل في كون النص الرحباني كُتب في الأساس ليكون جزءاً من مسرح الأخوين الغنائي، في حين أن قصيدة أيمن لم تُكتب بهدف الغناء، رغم أن جرسها الإيقاعي سهّل أمر تلحينها وغنائها في وقت لاحق. ومع ذلك، فإن ما يثير العجب في تجربة الرحبانيين هو أن كتابة النص أغنيةً لم تنقص بأي وجه من رشاقته وعوالمه الساحرة وأسلوبه التلقائي.

والواقع أنني ما كنت أعود لقصة أيمن بعد 47 عاماً من حدوثها، لو لم تكن هذه القصة محلّ أخذ ورد على مواقع التواصل الاجتماعي في الآونة الأخيرة، فهوية الطفل القتيل قد حُملت من قِبل المتحدثين عنها على غير رواية ووجه. على أن تبيان وقائع الحدث المأساوي لا بد أن تسبقه الإشارة إلى أن الفنان مرسيل خليفة الذي كانت تربطني به ولا تزال صداقة وطيدة، كان قد فاتحني بشأن كتابة نص شعري يعكس مأساة لبنان الرازح تحت وطأة حربه الأهلية، أو معاناة الجنوبيين وصمودهم في وجه العدو الإسرائيلي. ومع أنني عبّرت لمرسيل عن حماسي الشديد للتعاون معه، وهو الذي اعتُبر أحد الرموز الأبرز لما عُرف بالأغنية الوطنية أو الملتزمة، أبديت في الآن ذاته توجسي من أن يقع النص المطلوب في مطب الحذق التأليفي والصنعة المفتعلة. وإذ أجاب خليفة الذي كان قد أنجز قبل ذلك أغنيات عدة مقتبسة من نصوص محمود درويش، بأن المسألة ليست شديدة الإلحاح وأنه ينتظر مني الاتصال به حالما ينجز الشيطان الذي يلهمني الشعر مهماته.

ولم يكد يمرّ أسبوعان اثنان على لقائي صاحب «وعود من العاصفة»، حتى كنت أتصل هاتفياً بمرسيل لأسمعه دون إبطاء النص الذي كتبته عن أيمن، والذي لم يتأخر خليفة في تلحينه وغنائه. لكن مَن هو أيمن؟ وفي أي قرية وُلد وقضى نَحْبَه؟ وما هي قصته الحقيقية وسبب معرفتي به وبمصيره الفاجع؟

في أوائل سبعينات القرن المنصرم وفي قرية «العزّية» الجنوبية القريبة من الطريق الساحلية الواقعة بين صور والبيّاضة وُلد أيمن علواني لأب فلسطيني وأم لبنانية من بلدة برجا اللبنانية الشوفيّة. وإذ كانت معظم أراضي القرية ملكاً لعائلة سلام البيروتية المعروفة، فقد قدُمت العائلة إلى المكان بهدف العمل في الزراعة شأنها في ذلك شأن عائلات قليلة أخرى، ليؤلف الجميع مجمعاً سكنياً صغيراً لا يتجاوز بيوته العشرين بيتاً، ولا يبلغ سكانه المائة نسمة. أما البساتين الممتدة هناك على مرمى البصر، فقد كان يتعهدها بالنمو والخصوبة والاخضرار نبع دائم الجريان يحمل اسم القرية، ويختتم سلسلة الينابيع المتقطعة الذي يتفتح أولها في كنف الجليل الفلسطيني دون أن يتمكن آخرها من بلوغ البحر.

شكَّل نبع العزية جزءاً حيوياً من مسرح طفولتي الأولى، حيث كان سكان قريتي زبقين الواقعة على هضبة قريبة من مكان النبع يقصدونه للسباحة والاستجمام ويلوذون بمياهه المنعشة من حر الصيف، كما أن معرفتي بأيمن وذويه تعود إلى عملي في التدريس في ثانوية صور الرسمية، حيث كان من بين تلامذتي خالة الطفل وبعض أقاربه الآخرين. وحين قصف الإسرائيليون بيوت القرية الوادعة بالطائرات، متسببين بتدمير بيوتها وقتل العشرات من سكانها الآمنين، ومتذرعين بوجود معسكر تدريب فلسطيني قريب من المكان، فقد بدا اغتيال أيمن ذي الوجه القمري والعينين الخرزيتين بمثابة اغتيال لطفولتي بالذات، ولكل ذلك العالم المصنوعة فراديسه من قصاصات البراءة ونثار الأحلام. وفي حين لم أجد ما أردّ به على موت أيمن سوى كتابة القصيدة التي تحمل اسمه، فإن ذوي الطفل القتيل قرروا الذهاب إلى أبعد من ذلك، فأنجبوا طفلاً آخر يحمل اسم ابنهم الراحل وملامحه، ويواصل حتى الساعة الحياة بالأصالة عن نفسه ونيابة عن أخيه.

بعد ذلك بات اسم أيمن بالنسبة لي محفوراً في مكان عميق من القلب والذاكرة إلى حد أنني كلما قرأته في جريدة أو كتاب، أو قابلت أحداً بهذا الاسم تناهت إلي أصداء ضحكات الطفل القديم وأطيافه المدماة على ضفاف نبع العزية. ومع ذلك، فإن السيناريو الذي ضجت به في الأسابيع الأخيرة مواقع التواصل الاجتماعي في لبنان، ومفاده أن قصيدة أيمن قد استوحيتْ من مقتل الطفل أيمن رحال إثر غارة إسرائيلية على قرية طير حرفا الجنوبية عام 1978، لم يكن هو وحده ما أصابني بالذهول، بل معرفتي بأن الرقيب في الجيش اللبناني الذي استُشهد مؤخراً بفعل غارة مماثلة هو الشقيق البديل لأيمن الأول.

ومع أنه لم يسبق لي معرفة أيّ من «الأيمنين» الآخرين، إلا أن نسبة القصيدة إليهما لا تضير الحقيقة في شيء، بل تؤكد مرة أخرى على أن الشعر كما الأغنية والفن على نحو عام يتجاوز الحدث الباعث على كتابته ليلد نفسه في كل زمن، وليتجدد مع كل مواجهة غير عادلة بين الأطفال والطائرات. لكن كم من أيمن عليه أن يسقط، وكم من قصيدة ينبغي أن تُكتب لكي يرتوي القتلة من دم القتلى وتأخذ الحرية طريقها إلى التفتح؟