«الانتظار».. سيد الموقف في ليبيا

مع دخول الكوماندوز الأميركي في المعركة.. تحركات «داعش» المفاجئة أربكت خطط الجيش والميليشيات

«الانتظار».. سيد الموقف في ليبيا
TT

«الانتظار».. سيد الموقف في ليبيا

«الانتظار».. سيد الموقف في ليبيا

أكثر المقولات شيوعا هذه الأيام بين المتحاربين الليبيين هي أن من ينتظر أكثر يمكنه أن يكسب المعركة في النهاية، خاصة بعد تأكد وجود قوات خاصة أميركية كوماندوز، على أرض المعارك الآن في مصراتة وبنغازي، وفق ما أكده البنتاغون.
وتعج الدولة الغنية بالنفط ببضع مجموعات قتالية كبرى، أهمها الجيش الوطني بقيادة الفريق أول خليفة حفتر، وقوات الزنتان وقوات مصراتة وقوات «داعش». ويدور في فلك هذه القوى العسكرية وشبه العسكرية المتناحرة مئات من المجموعات المسلحة الصغيرة. لكن هناك من لا يمكنه الانتظار؛ لأن النار بدأت تشتعل في أطراف الثوب، مثل جبهة مدينة مصراتة التي بدأت منذ نحو أسبوع تشهد اشتباكات عنيفة بين عدد من ميليشياتها وقوات تنظيم داعش القادمة من مدينة سرت المجاورة. وبدأ التنظيم الدموي يسيطر على أراض ومواقع جديدة واقترب من مصراتة بمسافة ثمانين كيلومترا، بعد أن كانت آخر مواقعه في سرت تبعد عن مصراتة بنحو 160 كيلومترا. وأدى اندفاع هذين الفريقين المتحاربين إلى ارتباك في صفوف المجموعات المسلحة.

بادر عدد من القيادات العسكرية المرتبطة بالميليشيات في مصراتة بالتحفظ على هذه الطريقة في الحرب، قائلين إن الحرب على «داعش» تحتاج إلى جيش وخطط وتعاون، وإن ميليشيات المدينة وحدها لن تستطيع مواجهة التنظيم، محذرين من كوارث مماثلة لتلك التي وقعت في العراق وسوريا على يد التنظيم؛ بسبب خوض حروب متعجلة ومن دون استراتيجية مع «داعش». وأخذت عائلات ليبية تفر من مناطق الصراع إلى الصحراء بعيدا عن مصراتة وسرت، في ظروف مأساوية.
ومن جانبه لم يسلم التنظيم الدموي أيضا من وجود خلافات بين قادته بشأن الاتجاه غربا أم جنوبا. فقد كانت خطط «داعش» تتركز على احتلال مدينة بني وليد في الجنوب، والتمركز في مناطق ودان والقلعة القريبتين من منجم الحديد الرئيسي في البلاد، وهي منطقة مهمة تقع جنوب بني وليد أيضا، ويمكن من خلالها التحكم في الطريق الرئيسي «سبها - طرابلس». ووفقا للمعلومات التي حصلت عليها «الشرق الأوسط» فقد وافق قطاع كبير من الدواعش على الاتجاه غربا ومهاجمة مصراتة، بينما انشقت مجموعات «داعشية» أخرى وانتقلت إلى الجنوب.
وتتخوف الميليشيات في مصراتة وطرابلس من وصول الجيش إليها ونزع أسلحتها إذا ما حقق انتصارا في سرت. ويقول العقيد أحمد المسماري، المتحدث باسم القيادة العامة للجيش الليبي الذي يرأسه حفتر، في بيان حول «معركة تحرير سرت الكبرى»، إن الخطة الموضوعة هي أن هذه المعركة «لن تتخطى الحدود الإدارية لسرت ولا تستهدف إلا مواقع تنظيم داعش الإرهابي»، مشيرا إلى أن العملية لا تخفي وراءها أي أبعاد، وليست موجهة ضد أي مدينة أو قبيلة أو جهة». ويضيف أن معركة تحرير سرت تعد ورقة عسكرية وليس ورقة سياسية، مشيرا إلى أن الجيش لا علاقة له بالسياسة، وأنه ترك الأمور السياسية لمجلس النواب (البرلمان الذي يعتقد جلساته في طبرق).
يبدو أن ما يجري في ليبيا هذه الأيام ليس له علاقة بما يظهر على السطح من تأويلات سياسية. مجريات الحرب والتحركات المسلحة على الأرض يمكنها أن تعطي مساحة لفهم ما يدور وما يمكن أن يحدث في قابل الأيام. توجد تقريبا سبع تكتلات عسكرية وشبه عسكرية كبيرة مسلحة تسليحا جيدا. لديك الجيش الذي زادت إمكانياته التنظيمية بشكل لافت في الشهور الأخيرة، وعندك قوات مصراتة (الفرع الموالي للمجلس الرئاسي) إضافة إلى قوات القبائل، ومجموعات الزنتان (الفرع الميليشياوي)، ومجموعات طرابلس (الجماعة المقاتلة فرع أبو حازم وجماعة أبو سليم وجماعة الصمود وغيرها)، بالإضافة إلى قوات «داعش» وقوات ما يسمى بـ«مجالس الثوار (مجموعات متطرفة في أغلبها)».
«يا شيخ.. السراج دخل طرابلس» فيرد الشيخ: «انتظر»، ثم مرة أخرى: يا شيخ.. قوات من مصراتة دخلت طرابلس لحماية المجلس الرئاسي»، فيجيب الشيخ: «انتظر». وبعد أسبوع: «يا شيخ الجيش انتصر علينا في درنة وبنغازي ويريد اقتحام سرت»، فيرد الشيخ: «انتظر».
ملخص مثل هذا النقاش الذي يجري رصده في العاصمة الليبية، كان يدور بين زعيم «داعش» فيما يسمى بـ«ولاية طرابلس»، والملقب بـ«المدهوني»، وأحد قيادات جماعة أبو سليم المسلحة في العاصمة التي تتعاون معه، ويلقب بـ«غنيوة». ووجهة نظر «المدهوني» التي صرح بها لكل من «غنيوة» وقائد آخر في تنظيم «جند الحق» المتعاون مع «داعش» ويلقب بـ«رشيد»، هو أن يترك «داعش» من يسميهم بالعلمانيين والإخوان وغيرهم من الميليشيات في طرابلس، ليبدأوا في الاحتراب فيما بينهم، حتى إذا أضعف كل طرف منهم الطرف الآخر، أصبح في إمكان «داعش» السيطرة على العاصمة وإعلانها «إمارة» للتنظيم.
ويبدو أن «سلاح الانتظار» هو الخيار المفضل لدى معظم القادة العسكريين وشبه العسكريين. كل تكتل ينتظر قيام التكتل الآخر لكي يبادر بالاشتباك مع التكتل الثاني، وذلك أملا في إنهاك بعضهما بعضا. التكتل الوحيد الذي ظهر أنه لم تكن لديه قدرة على الانتظار والصبر هو الميليشيا المحسوبة على مصراتة (الفرع الذي انحاز للسراج). اختيارات هذا التكتل ربما ستؤدي إلى إرهاقه مبكرا، إذا لم يحصل على دعم قوي من الأطراف الدولية التي تدفع بالمجلس الرئاسي لكي يسحب البساط من تحت أقدام الجيش الوطني. لكن حتى لو حدث ذلك، فهل تستطيع ميليشيات تابعة لمدينة أن تهزم تنظيم داعش وخلاياه النائمة في كثير من المدن ومنها طرابلس ومصراتة نفسها.
«نعم.. الانتظار هو كلمة السر. هو السلاح الأقوى، في هذه الظروف». هكذا يقول الضابط بشير، أحد قيادات الجيش الليبي ممن كان يحارب في صفوف قوات معمر القذافي، ثم عاد أخيرا للانضواء تحت لواء الجيش بقيادة حفتر. وعاد عدة ألوف من الضباط والجنود الآخرين ممن كانوا يقيمون خارج ليبيا منذ مقتل القذافي في 2011. عادوا من دول الجوار وغيرها، خلال الشهور الماضية، للانضمام إلى الجيش الذي تمكن حفتر من تنظيم صفوفه في عام 2014 لمحاربة التنظيمات المسلحة التي سيطرت على مفاصل الدولة.
الجيش الليبي، كما يقول الضابط بشير، تحول إلى قوة ضاربة، وهو في ثوبه الجديد.. «أصبح يملك زمام المبادرة.. لهذا لفت الأنظار إليه بقوة، ليس في الأوساط المحلية داخل ليبيا، ولكن على المستوى الإقليمي والدولي»، مشيرا إلى أن الجيش كان يخطط لاجتياح سرت وتحريرها من تنظيم داعش، لكنه غيَّر تكتيكاته، وبعد أن تحركت قواته حتى وصلت إلى مشارف سرت من الجهتين الشرقية والجنوبية، قرر أن ينتظر «لأن هذا الانتظار يعطي للجيش أوراقا جديدة تساعده في الانتصار في نهاية المطاف. المهمة ليست سهلة، ونحن لا نحارب من أجل مدينة أو قبيلة أو جماعة، ولكن من أجل الدولة وكل الليبيين».
ووفقا لمصادر أخرى من قادة عسكريين في الجيش الوطني الليبي، فقد كانت الخطة تقضي بمهاجمة «داعش» في سرت يوم 29 أبريل (نيسان) الماضي، وهو اليوم الذي يوافق الذكرى السنوية رقم 101 لمعركة الليبيين التاريخية ضد الاحتلال الإيطالي التي وقعت أحداثها عام 1915، وتعرف باسم «معركة القرضابية» قرب سرت.
وقال أحد القادة إن اسم معركة سرت ضد «داعش» كانت تحمل اسم «معركة القرضابية الثانية» قبل أن يتقرر تغيير التكتيكات والانتظار من أجل إنهاك العدو. ولا يواجه الجيش الليبي «عدوا واحدا»، بل عدة «أعداء» فهو يحارب منذ عامين مجموعات متطرفة في درنة وبنغازي مدعومة من ميليشيات ذات توجهات متباينة، تتمركز في مصراتة وطرابلس، منها ما هو من جماعة الإخوان وأخرى تابعة للجماعة الليبية المقاتلة (الموالية لتنظيم القاعدة)، وثالثة مدعومة من تنظيم داعش نفسه.
ورغم إمكانات الجيش المحدودة، ورغم الحظر الدولي على تسليحه، لكنه تمكن من إعادة ترتيب صفوفه، وحشد جنوده، وهزيمة المتطرفين في درنة وبنغازي بمساعدة من شباب المدن الذين يحاربون مع الجيش تحت اسم «الصحوات». لكن أهم إجراء ساعد الجيش في أن يتحول إلى قوة مخيفة لباقي الجماعات المتطرفة سواء في سرت أو حتى في الغرب، هو قدرته على استيعاب آلاف من الضباط وصف الضباط والجنود، ممن كانوا قد تركوا الخدمة بعد مقتل القذافي وبعد انتهاء الحرب بين المسلحين المدعومين من حلف شمال الأطلسي «ناتو» والقوات المسلحة الليبية. كما تقول مصادر عسكرية أخرى إن الجيش تمكن من الحصول على آليات عسكرية وأسلحة رغم الحظر الدولي.
وفي المقابل تمكنت الميليشيات المتطرفة، منذ انتهاء النظام السابق، من الاستيلاء على كميات ضخمة من أسلحة الجيش الليبي، وجرت أكبر عملية نهب لمخازن القوات المسلحة طوال السنوات الخمس الماضية، وفقا للتحقيقات التي تجريها المخابرات العسكرية الليبية. هذا بالإضافة إلى استيراد الميليشيات المتطرفة التي وضعت يدها على خزائن أموال الدولة الليبية، لشحنات حديثة من الأسلحة عبر سماسرة يعملون في منطقة البحر المتوسط. ولهذا أدى انتصار الجيش على جبهة بنغازي ودرنة، وتحركه لتحرير سرت، إلى إرباك صفوف الميليشيات وتغير ولاءات بعضها ضد البعض الآخر.
تحرَّك الجيش بالفعل لكنه اكتفى حتى الآن بتطويق سرت من الشرق، بعد أن تمكن من ترويض قادة شبه عسكريين في القطاع الغربي من بلدة إجدابيا التي تعد بوابة مهمة في اتجاه سرت. وتمكن أيضا من تطويق سرت من الجنوب. ويهدف بهذا التحرك إلى خنق تنظيم داعش من جانب، ومن الجانب الآخر منع التنظيم من السيطرة على حقول النفط المنتشرة في هذه المنطقة المعروفة باسم «الهلال انفطي» التي تحوي نحو 60 في المائة من البترول في البلاد. وسيطر الجيش لأول مرة على الحقول النفطية بالاستعانة بالكتيبة 152 وسرية حرس المنشآت النفطية التابعة للجيش. وتحولت تخوم سرت الشرقية والجنوبية إلى مناطق عسكرية ممنوع دخولها إلا بإذن من القوات المسلحة.
ومن جانبه، ومن مقر إقامته في القاعدة العسكرية على بحر طرابلس، أصدر رئيس المجلس الرئاسي، فايز السراج، قرارا يوم 29 الماضي أيضا، بأن يتولى هو نفسه منصب القائد الأعلى للجيش الليبي في خطوة مفاجئة من شأنها أن تزيد من تأزم الموقف في هذا البلد المنقسم على نفسه. ومن المعروف أن القائد الأعلى للجيش الليبي، وفقا للإعلان الدستوري المعمول فيه في البلاد، هو رئيس البرلمان الحالي، المستشار عقيلة صالح. وتعد مسألة من يتولى أمور الجيش من النقاط الخلافية في اتفاق الصخيرات الذي انتهى بتشكيل المجلس الرئاسي تحت رعاية دولية.
وتنص المادة الثامنة في الاتفاق على أن رئيس المجلس الرئاسي هو من يعين قادة الجيش والمخابرات وغيرها من المواقع السيادية. ويرفض نواب في البرلمان الموافقة على هذه المادة، ويسعون إلى حذفها من الاتفاق أو تعديلها، قبل أن يتم تضمين الاتفاق في الإعلان الدستوري. كما أن المجلس الرئاسي لم يتمكن حتى الآن من الحصول على ثقة البرلمان بحكومته التي لم تعلن بعد ولم تحظ بشرعية العمل حتى الآن. ورفض صالح الإجراء الذي قام به السراج بشأن الجيش، كما استنكره عدد من نواب البرلمان.
لكن، وبصفته التي أعطاها لنفسه كقائد أعلى للجيش الليبي، طلب السراج كذلك «الانتظار» علانية في مسألة تحرير سرت من «داعش». ووجه تحذيرا غير مباشر للجيش الذي يقوده حفتر، من مغبة تنفيذ عملية ضد سرت. كما طلب السراج من كل القوى العسكرية انتظار تعليماته بتعيين قيادة مشتركة للعمليات في سرت وتوحيد الجهود تحت قيادته. لكن القيادة المشتركة يبدو أنها تخلو من اسم حفتر ومن أسماء ضباط كبار من زملاء حفتر، وتتجه لأن تقتصر على قيادات يبدو أنها موالية للمجلس الرئاسي بوضعه الحالي، وعلى علاقة جيدة مع ميليشيات مصراتة.
وجاءت تحذيرات السراج انطلاقا مما قال إنها مخاوف من أن تتحول معركة سرت إلى حرب أهلية ومواجهات بين قوى عسكرية مختلفة. وعدَّ من يخالف تعليماته منتهكا للقوانين العسكرية، ومعرقلا للجهود المبذولة في توحيد الصف لمحاربة الإرهاب. لكن تنظيم داعش يبدو أنه لم ينتظر، واختار أن ينقل معركته إلى الجبهة التي يرى أنها «الأضعف»، وهي جبهة مصراتة، وقام باقتحام عدة بوابات، وقتل وجرح العشرات من ميليشيات المدينة، وهو يتوعد باحتلالها قبل حلول شهر رمضان في يونيو (حزيران) المقبل. وفي استجابة من بعض قادة ميليشيات مصراتة لتوجيهات السراج، بدأ على عجل تكوين لجنة عسكرية مشتركة، للتصدي للتنظيم، لكن كبار القادة في عدة ميليشيات رفضوا أن تكون الحرب ضد «داعش» بهذه الطريقة التي يمكن أن تؤدي إلى تداعيات خطيرة ليست في صالح مصراتة.
وبينما تدور معارك طاحنة على الجبهة الجديدة بين مصراتة وسرت، تقول المصادر إن كثيرا من التكتلات الأخرى بدأت تعيد الخطط للتعامل مع الواقع الجديد. وزار قادة كبار من الجيش ممن تتمركز قواتهم في جنوب غربي وشمال غربي العاصمة، الفرق أول حفتر في مقره في بنغازي، ومن شأن هذه الزيارات وعمليات التنسيق أن تضيف إلى الجيش باقي المقاتلين فيما كان يعرف بـ«ميليشيات الزنتان» وعددا من الضباط وضباط الصف والجنود من أبناء القبائل الذين كانوا يعملون في الميليشيات في مدن جنوب العاصمة وغربها، بينما أخذت قيادات سابقة في الجيش داخل طرابلس، في التحرك للعمل تحت راية حفتر، ما أدى إلى استهداف عدد منهم بالقتل على يد بعض الميليشيات.
ومنذ دخوله إلى طرابلس يسعى السراج إلى بناء قوة أمنية قادرة على تأمين المقار الحكومية والحدود، ويساعده في ذلك البعثة الأممية برئاسة مارتن كوبلر، وسط ترقب دولي وإقليمي لما يمكن أن تسفر عنه الأوضاع. بيد أن عدم وضوح الرؤية فيما يتعلق بالفريق أول حفتر، والجيش الوطني الليبي الذي تقع قيادته العسكرية قرب بنغازي، يجعل خطط السراج تراوح مكانها.
وتعهدت كثير من الدول بالوقوف مع المجلس الرئاسي وحكومة الوفاق الوطني، بما في ذلك مد يد العون لمحاربة «داعش» ورفع الحظر عن توريد السلاح، دون أن يكون هناك تحديد عن الجهة التي سيكون مخولا لها شراء السلاح من الخارج. لكن، وبشكل عام، تربط معظم دول العالم مساعدة السراج بحصول حكومته على ثقة البرلمان، وهو أمر لم يحدث بعد. وفي محاولة لاستمالة قادة عسكريين سواء من العاملين مع الجيش بشكل مباشر أو من المتعاونين معه، طلب كوبلر لقاء حفتر لبحث مستقبل البلاد، لكن حفتر رفض مقابلته، وقالت المصادر إن القائد العسكري يشعر بانحياز المبعوث الدولي لطرف ضد الآخر.
أما المستشار العسكري لـ«كوبلر»، الجنرال الإيطالي باولو سيرا، فقد توجه قبل ثلاثة أيام في طائرة تابعة للأمم المتحدة إلى مدينة الزنتان الواقعة جنوب غربي طرابلس، من أجل الضغط على القوات العسكرية التابعة للجيش وقوات المجلس العسكري للمدينة، لكن الزيارة يبدو أنها لم تحقق النتائج التي كانت مرجوة منها. وبدلا من العمل تحت سلطة السراج، أخبر القادة العسكريون في الزنتان، الجنرال سيرا، بأن الجهة التي يمكن أن يسمحوا لها بحماية هذه المناطق هي «الجيش والشرطة».
ووفقا لمصدر عسكري في سرايا الزنتان، فقد قاطع أكثر من عشرة (نحو 85 في المائة) من قادة المدينة الجنرال الإيطالي، وجرى مع ذلك إبلاغه بعدم موافقة غالبية زعماء الزنتان على ما يقوم به السراج من إجراءات قبل أن يحصل على الشرعية الكاملة من مجلس النواب. وبينما يستمر الخلاف السياسي ودخول أطراف في حروب ضد «داعش» دون تعضيد أو تنسيق مع الأطراف الأخرى، تبقى جميع الخيارات مفتوحة حول مستقبل ليبيا.



ألمانيا تعيش هاجس التعايش مع مطامح ترمب وماسك

الزعيم الكندي جاستن ترودو يعلن أن لا رغبة لبلاده في أن تصبح ولاية أميركية (أ.ب)
الزعيم الكندي جاستن ترودو يعلن أن لا رغبة لبلاده في أن تصبح ولاية أميركية (أ.ب)
TT

ألمانيا تعيش هاجس التعايش مع مطامح ترمب وماسك

الزعيم الكندي جاستن ترودو يعلن أن لا رغبة لبلاده في أن تصبح ولاية أميركية (أ.ب)
الزعيم الكندي جاستن ترودو يعلن أن لا رغبة لبلاده في أن تصبح ولاية أميركية (أ.ب)

لم يدخل الرئيس الأميركي العائد دونالد ترمب البيت الأبيض بعد... ومع ذلك تعيش أوروبا منذ أسابيع على وقع الخوف من الزلزال الآتي. وكلما اقترب موعد الـ20 من يناير (كانون الثاني)، يوم تنصيب ترمب، يزداد منسوب القلق في القارة العجوز. منذ أشهر تعيش دول أوروبية على هوى تصريحات ترمب «غير المفهومة»، بوصف المستشار الألماني أولاف شولتس، وتغريدات إيلون ماسك، مالك منصة «إكس» والمغرد سراً في أذن الرئيس ترمب. وفي حين اختار قادة أوروبا «تجاهل» الملياردير الأميركي في البداية خوفاً من زيادة رصيده، سرعان ما بدأت الانتقادات له تتسارع. إذ ما كان في البداية مجرد تغريدات سطحية من أغنى رجل في العالم، تنتقد رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر وتدعم حزب «البديل من أجل ألمانيا» اليميني المتطرف في ألمانيا، تطور ليصبح «تدخّلاً مباشراً في السياسات الداخلية» بات يهيمن على الأخبار في الدولتين الأوروبيتين اللتين تحولتا عند ماسك إلى ما يشبه الهوس. وبدوره، أضاف ترمب إلى هذا الأرق، إطلاقه تصريحات حول ضم كندا وغرينلاند التابعة للدنمارك، إلى الولايات المتحدة. ثم يتبعها بما يبدو وكأنه بداية هجوم على الدول الأوروبية، وألمانيا خاصة، بمطالبته دول حلف شمال الأطلسي «ناتو» بزيادة الإنفاق العسكري من 2 في المائة (التي يوصي بها الحلف) من الناتج العام لكل دولة عضو إلى 5 في المائة.

لم تنسَ أوروبا، خاصة ألمانيا، الفترة الرئاسية الأولى للرئيس الأميركي دونالد ترمب. فهي، ومستشارتها - آنذاك - أنجيلا ميركل، تحوّلتا إلى محط تركيز، بل «هدف» لترمب الذي دأب على توجيه انتقادات لا متناهية لميركل حول أي شيء وكل شيء... بدءاً من الإنفاق العسكري لألمانيا، مروراً بشراء الغاز من روسيا وتجارتها مع الولايات المتحدة... وصولاً إلى سياستها المتعلقة بالهجرة.

يومذاك، وجدت ميركل ذلك التركيز «من رئيس أميركي على مستشار ألماني مذهلاً»، بحسب وصفها في مذكراتها «حرية» التي نشرت في بداية نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي بالتزامن مع فوز ترمب بولايته الثانية. إذ كتبت عن علاقتها في حينه بترمب بأنه كان باستطاعتها طمأنة نفسها بشعار «كلما زادت المعارضة، زادت الهيبة»، لكنها استنتجت لاحقاً أن «الفكاهة الساخرة لن تساعد كثيراً» وأن من واجبها «بذل كل المستطاع للحرص على علاقة مريحة بين بلدينا من دون الرد على الاستفزازات».

من ميركل إلى شولتس

قد يكون المستشار الألماني الحالي أولاف شولتس قد قرأ كتاب ميركل والتحدي الذي لاقته في التعامل مع ترمب أو لا. غير أنه من دون شك اختار أن يسلك طريقاً مختلفاً في التعامل مع الرئيس الأميركي. وهو عوضاً عن خيار «تجنّب الرد على الاستفزازات»، اختار المواجهة.

وفعلاً، خرج يوم الأربعاء ليقرأ بياناً دعا الصحافيين إليه قبل ساعة من دون تحديد الموضوع، وانتقد فيه تصريحات ترمب حول غرينلاند وكندا، وأعطاه درساً في القانون الدولي. ومن دون أن يسميه، تكلّم شولتس عن «تصريحات غير مفهومة نسمعها من الولايات المتحدة بالنسبة لي ولشركائي الأوروبيين» فيما يتعلق بمبدأ حرمة حدود الدول. وأضاف أن هذا المبدأ «الذي يشكل أساس القانون الدولي ينطبق على كل دولة، بغض النظر عما إذا كانت في شرقنا أو غربنا»، في إشارة إلى روسيا وحربها على أوكرانيا.

ولكن، مع أن شولتس أشار إلى مشاورات أجراها مع نظرائه الأوروبيين حول تصريحات ترمب، لم يخرج بعد أي زعيم أوروبي آخر، باستثناء الدنمارك، للرد على ترمب... على الأرجح تفاديا لتعقيد العلاقات أكثر قبل أن تبدأ.

وما صدر من ردود لاحقاً جاء في سياق أسئلة من صحافيين، ولم تكن ردوداً معدة مسبقاً. وهنا قد يكون سبب عدم تردد شولتس بانتقاد ترمب، أنه لم يعد لديه الكثير ليخسره، لأن أيامه في السلطة باتت معدودة. ومن شبه المؤكد أنه لن يعود مستشاراً بعد الانتخابات المبكرة التي ستجرى يوم 23 فبراير (شباط) المقبل، بل سيترك مهمة ترميم العلاقات مع واشنطن للمستشار القادم والمرجح أن يكون فريدريش ميترز، زعيم حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي الذي كانت تقوده ميركل.

«ليست تصريحات ترمب فقط التي تثير القلق الأوروبي، بل هناك أيضاً مواقف إيلون ماسك الذي يبدو أنه يركّز كامل اهتمامه على أوروبا»

القلق المتصاعد أوروبياً

في أي حال، ومع أن باقي الزعماء الأوروبيين لم يردوا بالشكل نفسه على تصريحات ترمب، كان واضحاً أن قلقهم يتصاعد. فقد علّق وزير الخارجية الفرنسي جان نويل بارو على الموضوع عندما سئل بالقول: «من الواضح أن الاتحاد الأوروبي لن يدع أية دولة في العالم تعتدي على حدوده السيادية»، أما رئيسة وزراء الدنمارك ميته فريدريكسن فردت بالقول إن غرينلاند «ليست للبيع».

ولكن كلام ترمب ليس جديداً عن هذه الجزيرة الأكبر في نصف الكرة الأرضية الشمالي، والتي تتمتع بموقع استراتيجي بين الولايات المتحدة وروسيا. بل طرح الفكرة إبان فترته الأولى، ويومذاك رفضتها الدنمارك كذلك. وغرينلاند نفسها ترفض الدخول في النقاشات بين الدنمارك والولايات المتحدة حول مستقبلها، وقد عبر رئيس وزراء الجزيرة موتي إيغيدي عن ذلك بالقول: «غرينلاند لشعبها، ومستقبلنا وكفاحنا للحصول على الاستقلال هو من شأننا».

وسط هذا الجو، يأخذ المسؤولون الدنماركيون طرح ترمب جديَّاً، خاصة أنه رفض استبعاد استخدام القوة العسكرية لضم الجزيرة. وقد نقلت قناة الـ«سي إن إن» عن مسؤولين في الدنمارك أن ترمب «يبدو جاداً هذه المرة»، وقد يكون من الأفضل فتح نقاش صريح معه حول مستقبل غرينلاند عوضاً عن تجاهل كلامه. وبالفعل، لمح وزير الخارجية الدنماركي لوكي راسموسن قبل أيام إلى أن بلاده تريد فتح هذا النقاش مع إدارة ترمب لبحث كيف يمكن «زيادة التعاون أكثر لتأمين طموحات الولايات المتحدة». وللعلم للولايات المتحدة قاعدة عسكرية كبيرة في الجزيرة وثمة اتفاقية تعاون اقتصادي قديمة مع غرينلاند. ولكن طموح الجزيرة بالاستقلال عن الدنمارك قد يعرض الاتفاقيات مع الولايات المتحدة للخطر، خاصة إذا قررت الانسحاب من «الناتو» ووقعت تحت تأثير روسيا والصين.

كندا... وقناة بنما

من جهة ثانية، معلوم أن كلام ترمب «التوسعي» لا يقتصر على غرينلاند، بل يشمل أيضاً كلاً من قناة بنما وكندا، التي يكرّر أنها يجب أن تصبح الولاية الأميركية الـ51. ومع أن كلامه بدأ بمزحة أطلقها أمام رئيس الوزراء المستقيل جاستن ترودو عندما التقاه قبل بضعة أسابيع في منتجعه مارالاغو في ولاية فلوريدا، فإن تكرارها بدأ فعلاً يزعج الكنديين، ودفع المبعوث الخاص للعلاقات الكندية - الأميركية دومينيك لو بلان للقول: «المزحة انتهت!».

وهنا، مع أن كلام ترمب عن كندا قد يكون مزحة لكونه استبعد استخدام القوة العسكرية، فإن الاتجاه العام الذي يبدو بأن إدارته العتيدة ستسلكه في السنوات الأربع المقبلة، يثير مخاوف كثيرة وكبيرة.

إيلون ماسك... يخوض معارك قوى اليمين المتطرف في أوروبا (رويترز)

تدخّلات ماسك

بل، ليست تصريحات ترمب فقط التي تثير القلق الأوروبي، بل هناك أيضاً مواقف إيلون ماسك الذي يبدو أنه يركّز كامل اهتمامه على أوروبا، وبالذات بريطانيا وألمانيا. فمنذ أسابيع وهو يهاجم رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر وينعته بأوصاف دونية، ويدعوه للاستقالة. وبعدما قرر ستارمر تجاهله في البداية، لكنه رد لاحقاً بعد تزايد الضغوط الداخلية عليه في قضية الخليّة المؤلفة من رجال من أصول باكستانية اغتصبوا فتيات بريطانيات. إذ اتهمه ستارمر بنشر الأكاذيب واختلاق الأضاليل. ومع هذا، لم يرتدع ماسك، بل ضاعف هجومه على رئيس الوزراء البريطاني، داعياً حتى الملك تشارلز للتدخل وحلّ البرلمان وإقالة الحكومة، الأمر الذي يخالف الأعراف في بريطانيا، حيث يلعب الملك دوراً رمزياً ولا يتدخل في السياسات الحزبية.

في سياق متصل، نشرت صحيفة «الفاينانشيال تايمز» موضوعاً حول مساعي ماسك للإطاحة بستارمر قبل نهاية ولايته التي بدأها قبل أشهر قليلة. وذكرت الصحيفة أن ماسك ناقش «مع حلفاء له» إمكانيات التخلص من ستارمر كونه رئيس الحكومة، نقلاً عن أشخاص قالت إنهم اطلعوا على النقاشات. وتابعت أن النقاشات شملت كيف يمكن زعزعة استقرار الحكومة العمالية في بريطانيا بوسائل أبعد من مجرد نشر تغريدات على منصة «إكس» تنتقد رئيس الحكومة.

وأيضاً، نقلت عن أحد المطلعين على النقاشات قوله إن «وجهة نظر ماسك أن الحضارة الغربية نفسها في خطر». وإن ماسك مهتم بمساندة حركة سياسية بديلة في السياسة البريطانية من خلال دعم «حزب الإصلاح» اليميني الذي يقوده حالياً نايجل فاراج، وهو الذي اجتمع مراراً بماسك وقال إنه ناقش معه تبرعات مالية كبيرة لحزبه.

ولكن في الأيام الماضية، بدا أن ماسك ما عاد راضياً حتى عن فاراج، إذ كتب تغريدة دعا فيها لتغييره كزعيم للحزب، على الأرجح بسبب الخلاف حول تومي روبنسون، اليميني المتطرف البريطاني الذي يقبع في السجن، الذي يطالب ماسك بإطلاق سراحه بينما يلقبه فاراج بـ«المجرم».

فايدل زعيمة حزب البديل من أجل ألمانيا اليميني المتطرف (أ.ب)

اهتمامات ماسك الألمانية

مع هذا، اهتمام ماسك الأكثر خطورة قد يكون ذلك الذي يبديه في سياسات ألمانيا الداخلية. وهو منذ أسابيع يتحمّس علناً لدعم حزب «البديل من أجل ألمانيا» المصنّف يمينياً متطرفاً إلى درجة أن كل الأحزاب الألمانية استبعدت فكرة التحالف معه بسبب تطرفه. وللعلم، تورط عدد كبير من أعضاء «البديل» بفضائح في السنوات الماضية لترويجهم لأفكار نازية، كما حوكم أحد قادة الحزب في شرق ألمانيا وأدين لاستخدامه شعارات وتعابير نازية محظورة.

ولكن بالنسبة لماسك، الذي دأب على مهاجمة المستشار الألماني، فإن حزب «البديل من أجل ألمانيا» هو الوحيد القادر على إنقاذ البلاد.

إنقاذها ممن تحديداً؟

ولكن الأرجح من اللاجئين والمهاجرين. إذ إن هذا الحزب المتطرف يروج لسياسات هجرة شديدة التطرف، ويدعو للخروج من الاتحاد الأوروبي الذي يعتبره أنه يقيد ألمانيا بقوانين تضرّها. ومع أن الحزب يحرص على تحاشي الترويج علناً لما قد يعدُّ مخالفاً للقوانين، شارك عدد من أعضائه في اجتماع سرّي نهاية عام 2023 ناقش ترحيل الملايين من ألمانيا، من المهاجرين... وحتى الألمان من أصول مهاجرة.