«الانتظار».. سيد الموقف في ليبيا

مع دخول الكوماندوز الأميركي في المعركة.. تحركات «داعش» المفاجئة أربكت خطط الجيش والميليشيات

«الانتظار».. سيد الموقف في ليبيا
TT

«الانتظار».. سيد الموقف في ليبيا

«الانتظار».. سيد الموقف في ليبيا

أكثر المقولات شيوعا هذه الأيام بين المتحاربين الليبيين هي أن من ينتظر أكثر يمكنه أن يكسب المعركة في النهاية، خاصة بعد تأكد وجود قوات خاصة أميركية كوماندوز، على أرض المعارك الآن في مصراتة وبنغازي، وفق ما أكده البنتاغون.
وتعج الدولة الغنية بالنفط ببضع مجموعات قتالية كبرى، أهمها الجيش الوطني بقيادة الفريق أول خليفة حفتر، وقوات الزنتان وقوات مصراتة وقوات «داعش». ويدور في فلك هذه القوى العسكرية وشبه العسكرية المتناحرة مئات من المجموعات المسلحة الصغيرة. لكن هناك من لا يمكنه الانتظار؛ لأن النار بدأت تشتعل في أطراف الثوب، مثل جبهة مدينة مصراتة التي بدأت منذ نحو أسبوع تشهد اشتباكات عنيفة بين عدد من ميليشياتها وقوات تنظيم داعش القادمة من مدينة سرت المجاورة. وبدأ التنظيم الدموي يسيطر على أراض ومواقع جديدة واقترب من مصراتة بمسافة ثمانين كيلومترا، بعد أن كانت آخر مواقعه في سرت تبعد عن مصراتة بنحو 160 كيلومترا. وأدى اندفاع هذين الفريقين المتحاربين إلى ارتباك في صفوف المجموعات المسلحة.

بادر عدد من القيادات العسكرية المرتبطة بالميليشيات في مصراتة بالتحفظ على هذه الطريقة في الحرب، قائلين إن الحرب على «داعش» تحتاج إلى جيش وخطط وتعاون، وإن ميليشيات المدينة وحدها لن تستطيع مواجهة التنظيم، محذرين من كوارث مماثلة لتلك التي وقعت في العراق وسوريا على يد التنظيم؛ بسبب خوض حروب متعجلة ومن دون استراتيجية مع «داعش». وأخذت عائلات ليبية تفر من مناطق الصراع إلى الصحراء بعيدا عن مصراتة وسرت، في ظروف مأساوية.
ومن جانبه لم يسلم التنظيم الدموي أيضا من وجود خلافات بين قادته بشأن الاتجاه غربا أم جنوبا. فقد كانت خطط «داعش» تتركز على احتلال مدينة بني وليد في الجنوب، والتمركز في مناطق ودان والقلعة القريبتين من منجم الحديد الرئيسي في البلاد، وهي منطقة مهمة تقع جنوب بني وليد أيضا، ويمكن من خلالها التحكم في الطريق الرئيسي «سبها - طرابلس». ووفقا للمعلومات التي حصلت عليها «الشرق الأوسط» فقد وافق قطاع كبير من الدواعش على الاتجاه غربا ومهاجمة مصراتة، بينما انشقت مجموعات «داعشية» أخرى وانتقلت إلى الجنوب.
وتتخوف الميليشيات في مصراتة وطرابلس من وصول الجيش إليها ونزع أسلحتها إذا ما حقق انتصارا في سرت. ويقول العقيد أحمد المسماري، المتحدث باسم القيادة العامة للجيش الليبي الذي يرأسه حفتر، في بيان حول «معركة تحرير سرت الكبرى»، إن الخطة الموضوعة هي أن هذه المعركة «لن تتخطى الحدود الإدارية لسرت ولا تستهدف إلا مواقع تنظيم داعش الإرهابي»، مشيرا إلى أن العملية لا تخفي وراءها أي أبعاد، وليست موجهة ضد أي مدينة أو قبيلة أو جهة». ويضيف أن معركة تحرير سرت تعد ورقة عسكرية وليس ورقة سياسية، مشيرا إلى أن الجيش لا علاقة له بالسياسة، وأنه ترك الأمور السياسية لمجلس النواب (البرلمان الذي يعتقد جلساته في طبرق).
يبدو أن ما يجري في ليبيا هذه الأيام ليس له علاقة بما يظهر على السطح من تأويلات سياسية. مجريات الحرب والتحركات المسلحة على الأرض يمكنها أن تعطي مساحة لفهم ما يدور وما يمكن أن يحدث في قابل الأيام. توجد تقريبا سبع تكتلات عسكرية وشبه عسكرية كبيرة مسلحة تسليحا جيدا. لديك الجيش الذي زادت إمكانياته التنظيمية بشكل لافت في الشهور الأخيرة، وعندك قوات مصراتة (الفرع الموالي للمجلس الرئاسي) إضافة إلى قوات القبائل، ومجموعات الزنتان (الفرع الميليشياوي)، ومجموعات طرابلس (الجماعة المقاتلة فرع أبو حازم وجماعة أبو سليم وجماعة الصمود وغيرها)، بالإضافة إلى قوات «داعش» وقوات ما يسمى بـ«مجالس الثوار (مجموعات متطرفة في أغلبها)».
«يا شيخ.. السراج دخل طرابلس» فيرد الشيخ: «انتظر»، ثم مرة أخرى: يا شيخ.. قوات من مصراتة دخلت طرابلس لحماية المجلس الرئاسي»، فيجيب الشيخ: «انتظر». وبعد أسبوع: «يا شيخ الجيش انتصر علينا في درنة وبنغازي ويريد اقتحام سرت»، فيرد الشيخ: «انتظر».
ملخص مثل هذا النقاش الذي يجري رصده في العاصمة الليبية، كان يدور بين زعيم «داعش» فيما يسمى بـ«ولاية طرابلس»، والملقب بـ«المدهوني»، وأحد قيادات جماعة أبو سليم المسلحة في العاصمة التي تتعاون معه، ويلقب بـ«غنيوة». ووجهة نظر «المدهوني» التي صرح بها لكل من «غنيوة» وقائد آخر في تنظيم «جند الحق» المتعاون مع «داعش» ويلقب بـ«رشيد»، هو أن يترك «داعش» من يسميهم بالعلمانيين والإخوان وغيرهم من الميليشيات في طرابلس، ليبدأوا في الاحتراب فيما بينهم، حتى إذا أضعف كل طرف منهم الطرف الآخر، أصبح في إمكان «داعش» السيطرة على العاصمة وإعلانها «إمارة» للتنظيم.
ويبدو أن «سلاح الانتظار» هو الخيار المفضل لدى معظم القادة العسكريين وشبه العسكريين. كل تكتل ينتظر قيام التكتل الآخر لكي يبادر بالاشتباك مع التكتل الثاني، وذلك أملا في إنهاك بعضهما بعضا. التكتل الوحيد الذي ظهر أنه لم تكن لديه قدرة على الانتظار والصبر هو الميليشيا المحسوبة على مصراتة (الفرع الذي انحاز للسراج). اختيارات هذا التكتل ربما ستؤدي إلى إرهاقه مبكرا، إذا لم يحصل على دعم قوي من الأطراف الدولية التي تدفع بالمجلس الرئاسي لكي يسحب البساط من تحت أقدام الجيش الوطني. لكن حتى لو حدث ذلك، فهل تستطيع ميليشيات تابعة لمدينة أن تهزم تنظيم داعش وخلاياه النائمة في كثير من المدن ومنها طرابلس ومصراتة نفسها.
«نعم.. الانتظار هو كلمة السر. هو السلاح الأقوى، في هذه الظروف». هكذا يقول الضابط بشير، أحد قيادات الجيش الليبي ممن كان يحارب في صفوف قوات معمر القذافي، ثم عاد أخيرا للانضواء تحت لواء الجيش بقيادة حفتر. وعاد عدة ألوف من الضباط والجنود الآخرين ممن كانوا يقيمون خارج ليبيا منذ مقتل القذافي في 2011. عادوا من دول الجوار وغيرها، خلال الشهور الماضية، للانضمام إلى الجيش الذي تمكن حفتر من تنظيم صفوفه في عام 2014 لمحاربة التنظيمات المسلحة التي سيطرت على مفاصل الدولة.
الجيش الليبي، كما يقول الضابط بشير، تحول إلى قوة ضاربة، وهو في ثوبه الجديد.. «أصبح يملك زمام المبادرة.. لهذا لفت الأنظار إليه بقوة، ليس في الأوساط المحلية داخل ليبيا، ولكن على المستوى الإقليمي والدولي»، مشيرا إلى أن الجيش كان يخطط لاجتياح سرت وتحريرها من تنظيم داعش، لكنه غيَّر تكتيكاته، وبعد أن تحركت قواته حتى وصلت إلى مشارف سرت من الجهتين الشرقية والجنوبية، قرر أن ينتظر «لأن هذا الانتظار يعطي للجيش أوراقا جديدة تساعده في الانتصار في نهاية المطاف. المهمة ليست سهلة، ونحن لا نحارب من أجل مدينة أو قبيلة أو جماعة، ولكن من أجل الدولة وكل الليبيين».
ووفقا لمصادر أخرى من قادة عسكريين في الجيش الوطني الليبي، فقد كانت الخطة تقضي بمهاجمة «داعش» في سرت يوم 29 أبريل (نيسان) الماضي، وهو اليوم الذي يوافق الذكرى السنوية رقم 101 لمعركة الليبيين التاريخية ضد الاحتلال الإيطالي التي وقعت أحداثها عام 1915، وتعرف باسم «معركة القرضابية» قرب سرت.
وقال أحد القادة إن اسم معركة سرت ضد «داعش» كانت تحمل اسم «معركة القرضابية الثانية» قبل أن يتقرر تغيير التكتيكات والانتظار من أجل إنهاك العدو. ولا يواجه الجيش الليبي «عدوا واحدا»، بل عدة «أعداء» فهو يحارب منذ عامين مجموعات متطرفة في درنة وبنغازي مدعومة من ميليشيات ذات توجهات متباينة، تتمركز في مصراتة وطرابلس، منها ما هو من جماعة الإخوان وأخرى تابعة للجماعة الليبية المقاتلة (الموالية لتنظيم القاعدة)، وثالثة مدعومة من تنظيم داعش نفسه.
ورغم إمكانات الجيش المحدودة، ورغم الحظر الدولي على تسليحه، لكنه تمكن من إعادة ترتيب صفوفه، وحشد جنوده، وهزيمة المتطرفين في درنة وبنغازي بمساعدة من شباب المدن الذين يحاربون مع الجيش تحت اسم «الصحوات». لكن أهم إجراء ساعد الجيش في أن يتحول إلى قوة مخيفة لباقي الجماعات المتطرفة سواء في سرت أو حتى في الغرب، هو قدرته على استيعاب آلاف من الضباط وصف الضباط والجنود، ممن كانوا قد تركوا الخدمة بعد مقتل القذافي وبعد انتهاء الحرب بين المسلحين المدعومين من حلف شمال الأطلسي «ناتو» والقوات المسلحة الليبية. كما تقول مصادر عسكرية أخرى إن الجيش تمكن من الحصول على آليات عسكرية وأسلحة رغم الحظر الدولي.
وفي المقابل تمكنت الميليشيات المتطرفة، منذ انتهاء النظام السابق، من الاستيلاء على كميات ضخمة من أسلحة الجيش الليبي، وجرت أكبر عملية نهب لمخازن القوات المسلحة طوال السنوات الخمس الماضية، وفقا للتحقيقات التي تجريها المخابرات العسكرية الليبية. هذا بالإضافة إلى استيراد الميليشيات المتطرفة التي وضعت يدها على خزائن أموال الدولة الليبية، لشحنات حديثة من الأسلحة عبر سماسرة يعملون في منطقة البحر المتوسط. ولهذا أدى انتصار الجيش على جبهة بنغازي ودرنة، وتحركه لتحرير سرت، إلى إرباك صفوف الميليشيات وتغير ولاءات بعضها ضد البعض الآخر.
تحرَّك الجيش بالفعل لكنه اكتفى حتى الآن بتطويق سرت من الشرق، بعد أن تمكن من ترويض قادة شبه عسكريين في القطاع الغربي من بلدة إجدابيا التي تعد بوابة مهمة في اتجاه سرت. وتمكن أيضا من تطويق سرت من الجنوب. ويهدف بهذا التحرك إلى خنق تنظيم داعش من جانب، ومن الجانب الآخر منع التنظيم من السيطرة على حقول النفط المنتشرة في هذه المنطقة المعروفة باسم «الهلال انفطي» التي تحوي نحو 60 في المائة من البترول في البلاد. وسيطر الجيش لأول مرة على الحقول النفطية بالاستعانة بالكتيبة 152 وسرية حرس المنشآت النفطية التابعة للجيش. وتحولت تخوم سرت الشرقية والجنوبية إلى مناطق عسكرية ممنوع دخولها إلا بإذن من القوات المسلحة.
ومن جانبه، ومن مقر إقامته في القاعدة العسكرية على بحر طرابلس، أصدر رئيس المجلس الرئاسي، فايز السراج، قرارا يوم 29 الماضي أيضا، بأن يتولى هو نفسه منصب القائد الأعلى للجيش الليبي في خطوة مفاجئة من شأنها أن تزيد من تأزم الموقف في هذا البلد المنقسم على نفسه. ومن المعروف أن القائد الأعلى للجيش الليبي، وفقا للإعلان الدستوري المعمول فيه في البلاد، هو رئيس البرلمان الحالي، المستشار عقيلة صالح. وتعد مسألة من يتولى أمور الجيش من النقاط الخلافية في اتفاق الصخيرات الذي انتهى بتشكيل المجلس الرئاسي تحت رعاية دولية.
وتنص المادة الثامنة في الاتفاق على أن رئيس المجلس الرئاسي هو من يعين قادة الجيش والمخابرات وغيرها من المواقع السيادية. ويرفض نواب في البرلمان الموافقة على هذه المادة، ويسعون إلى حذفها من الاتفاق أو تعديلها، قبل أن يتم تضمين الاتفاق في الإعلان الدستوري. كما أن المجلس الرئاسي لم يتمكن حتى الآن من الحصول على ثقة البرلمان بحكومته التي لم تعلن بعد ولم تحظ بشرعية العمل حتى الآن. ورفض صالح الإجراء الذي قام به السراج بشأن الجيش، كما استنكره عدد من نواب البرلمان.
لكن، وبصفته التي أعطاها لنفسه كقائد أعلى للجيش الليبي، طلب السراج كذلك «الانتظار» علانية في مسألة تحرير سرت من «داعش». ووجه تحذيرا غير مباشر للجيش الذي يقوده حفتر، من مغبة تنفيذ عملية ضد سرت. كما طلب السراج من كل القوى العسكرية انتظار تعليماته بتعيين قيادة مشتركة للعمليات في سرت وتوحيد الجهود تحت قيادته. لكن القيادة المشتركة يبدو أنها تخلو من اسم حفتر ومن أسماء ضباط كبار من زملاء حفتر، وتتجه لأن تقتصر على قيادات يبدو أنها موالية للمجلس الرئاسي بوضعه الحالي، وعلى علاقة جيدة مع ميليشيات مصراتة.
وجاءت تحذيرات السراج انطلاقا مما قال إنها مخاوف من أن تتحول معركة سرت إلى حرب أهلية ومواجهات بين قوى عسكرية مختلفة. وعدَّ من يخالف تعليماته منتهكا للقوانين العسكرية، ومعرقلا للجهود المبذولة في توحيد الصف لمحاربة الإرهاب. لكن تنظيم داعش يبدو أنه لم ينتظر، واختار أن ينقل معركته إلى الجبهة التي يرى أنها «الأضعف»، وهي جبهة مصراتة، وقام باقتحام عدة بوابات، وقتل وجرح العشرات من ميليشيات المدينة، وهو يتوعد باحتلالها قبل حلول شهر رمضان في يونيو (حزيران) المقبل. وفي استجابة من بعض قادة ميليشيات مصراتة لتوجيهات السراج، بدأ على عجل تكوين لجنة عسكرية مشتركة، للتصدي للتنظيم، لكن كبار القادة في عدة ميليشيات رفضوا أن تكون الحرب ضد «داعش» بهذه الطريقة التي يمكن أن تؤدي إلى تداعيات خطيرة ليست في صالح مصراتة.
وبينما تدور معارك طاحنة على الجبهة الجديدة بين مصراتة وسرت، تقول المصادر إن كثيرا من التكتلات الأخرى بدأت تعيد الخطط للتعامل مع الواقع الجديد. وزار قادة كبار من الجيش ممن تتمركز قواتهم في جنوب غربي وشمال غربي العاصمة، الفرق أول حفتر في مقره في بنغازي، ومن شأن هذه الزيارات وعمليات التنسيق أن تضيف إلى الجيش باقي المقاتلين فيما كان يعرف بـ«ميليشيات الزنتان» وعددا من الضباط وضباط الصف والجنود من أبناء القبائل الذين كانوا يعملون في الميليشيات في مدن جنوب العاصمة وغربها، بينما أخذت قيادات سابقة في الجيش داخل طرابلس، في التحرك للعمل تحت راية حفتر، ما أدى إلى استهداف عدد منهم بالقتل على يد بعض الميليشيات.
ومنذ دخوله إلى طرابلس يسعى السراج إلى بناء قوة أمنية قادرة على تأمين المقار الحكومية والحدود، ويساعده في ذلك البعثة الأممية برئاسة مارتن كوبلر، وسط ترقب دولي وإقليمي لما يمكن أن تسفر عنه الأوضاع. بيد أن عدم وضوح الرؤية فيما يتعلق بالفريق أول حفتر، والجيش الوطني الليبي الذي تقع قيادته العسكرية قرب بنغازي، يجعل خطط السراج تراوح مكانها.
وتعهدت كثير من الدول بالوقوف مع المجلس الرئاسي وحكومة الوفاق الوطني، بما في ذلك مد يد العون لمحاربة «داعش» ورفع الحظر عن توريد السلاح، دون أن يكون هناك تحديد عن الجهة التي سيكون مخولا لها شراء السلاح من الخارج. لكن، وبشكل عام، تربط معظم دول العالم مساعدة السراج بحصول حكومته على ثقة البرلمان، وهو أمر لم يحدث بعد. وفي محاولة لاستمالة قادة عسكريين سواء من العاملين مع الجيش بشكل مباشر أو من المتعاونين معه، طلب كوبلر لقاء حفتر لبحث مستقبل البلاد، لكن حفتر رفض مقابلته، وقالت المصادر إن القائد العسكري يشعر بانحياز المبعوث الدولي لطرف ضد الآخر.
أما المستشار العسكري لـ«كوبلر»، الجنرال الإيطالي باولو سيرا، فقد توجه قبل ثلاثة أيام في طائرة تابعة للأمم المتحدة إلى مدينة الزنتان الواقعة جنوب غربي طرابلس، من أجل الضغط على القوات العسكرية التابعة للجيش وقوات المجلس العسكري للمدينة، لكن الزيارة يبدو أنها لم تحقق النتائج التي كانت مرجوة منها. وبدلا من العمل تحت سلطة السراج، أخبر القادة العسكريون في الزنتان، الجنرال سيرا، بأن الجهة التي يمكن أن يسمحوا لها بحماية هذه المناطق هي «الجيش والشرطة».
ووفقا لمصدر عسكري في سرايا الزنتان، فقد قاطع أكثر من عشرة (نحو 85 في المائة) من قادة المدينة الجنرال الإيطالي، وجرى مع ذلك إبلاغه بعدم موافقة غالبية زعماء الزنتان على ما يقوم به السراج من إجراءات قبل أن يحصل على الشرعية الكاملة من مجلس النواب. وبينما يستمر الخلاف السياسي ودخول أطراف في حروب ضد «داعش» دون تعضيد أو تنسيق مع الأطراف الأخرى، تبقى جميع الخيارات مفتوحة حول مستقبل ليبيا.



يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
TT

يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط

تشهد كوريا الجنوبية، منذ نحو أسبوعين، تطورات متلاحقة لا تلوح لها نهاية حقيقية، شهدت اهتزاز موقع رئيس الجمهورية يون سوك - يول بعد إعلانه في بيان تلفزيوني فرض الأحكام العرفية، وتعليق الحكم المدني، وإرساله قوة عسكرية مدعومة بالهيلوكوبترات إلى البرلمان. ثم اضطراره للتراجع عن قراره في وجه معارضة عارمة. بيد أن تراجع الرئيس خلال ساعات قليلة من هذه المغامرة لم يزد المعارضة إلا إصراراً على إطاحته، في أزمة سياسية غير مسبوقة منذ التحوّل الديمقراطي في البلاد عام 1980 بعد فترة من الحكم التسلطي. ولقد تطوّرت الأوضاع خلال الأيام والساعات الأخيرة من الاحتجاجات في الشوارع إلى تصويت برلماني على عزل يون. وبعدما أقر البرلمان عزل الرئيس ردّ الأخير بتأكيد عزمه على المقاومة والبقاء... في أزمة مفتوحة لا تخلو من خطورة على تجربة البلاد الديمقراطية الطريّة العود.

دبلوماسي مخضرم خدم في كوريا الجنوبية قال، قبل بضعة أيام، معلقاً على الأزمة المتصاعدة: «إذا تم تمرير اقتراح العزل، يمكن وقف (الرئيس) يون (سوك - يول) عن مباشرة مهام منصبه لمدة تصل إلى 180 يوماً، بينما تنظر المحكمة الدستورية في القضية. وفي هذا (السيناريو)، يتولى رئيس الوزراء هان دوك سو منصب الرئيس المؤقت، وتُجرى انتخابات جديدة في غضون 60 يوماً».

وبالفعل، دعا هان دونغ - هون، زعيم حزب «قوة الشعب»، الحاكم، إلى تعليق سريع لسلطات الرئيس مستنداً - كما قال - إلى توافر «أدلة موثوقة» على أن يون سعى إلى اعتقال القادة السياسيين بعد إعلانه الأحكام العرفية الذي لم يدُم طويلاً. ومما أورده هان - الذي كان في وقت سابق معارضاً للمساعي الرامية إلى عزل يون - إن «الحقائق الناشئة حديثاً قلبت الموازين ضد يون، بالتالي، ومن أجل حماية كوريا الجنوبية وشعبنا، أعتقد أنه من الضروري منع الرئيس يون من ممارسة سلطاته رئيساً للجمهورية على الفور». وتابع زعيم الحزب الحاكم أن الرئيس لم يعترف بأن إعلانه فرض الأحكام العرفية إجراء غير قانوني وخاطئ، وكان ثمة «خطر كبير» من إمكانية اتخاذ قرار متطرف مماثل مرة أخرى إذا ظل في منصبه.

بالتوازي، ذكرت تقارير إعلامية كورية أن يون يخضع حالياً للتحقيق بتهمة الخيانة إلى جانب وزير الدفاع المستقيل كيم يونغ - هيون، (الذي ذُكر أنه حاول الانتحار)، ورئيس أركان الجيش الجنرال بارك آن - سو، ووزير الداخلية لي سانغ - مين. وحقاً، تمثل الدعوة التي وجهها هان، وهو وزير العدل وأحد أبرز منافسي يون في حزب «قوة الشعب»، تحولاً حاسماً في استجابة الحزب الحاكم للأزمة.

خلفية الأزمة

تولى يون سوك - يول منصبه كرجل دولة جديد على السلطة، واعداً بنهج عصري مختلف في حكم البلاد. إلا أنه في منتصف فترة ولايته الرئاسية الوحيدة التي تمتد لخمس سنوات، شهد حكمه احتكاكات شبه دائمة مع البرلمان الذي تسيطر عليه المعارضة، وتهديدات «بالإبادة» من كوريا الشمالية، ناهيك من سلسلة من الفضائح التي اتهم وعائلته بالتورّط فيها.

وعندما حاول يون في خطابه التلفزيوني تبرير فرض الأحكام العرفية، قال: «أنا أعلن حالة الطوارئ من أجل حماية النظام الدستوري القائم على الحرية، وللقضاء على الجماعات المشينة المناصرة لنظام كوريا الشمالية، التي تسرق الحرية والسعادة من شعبنا»، في إشارة واضحة إلى الحزب الديمقراطي المعارض، مع أنه لم يقدم أي دليل على ادعائه.

إلا أن محللين سياسيين رأوا في الأيام الأخيرة أن الرئيس خطّط على الأرجح لإصدار مرسوم «الأحكام العرفية الخرقاء» أملاً بحرف انتباه الرأي العام بعيداً عن الفضائح المختلفة والإخفاق في معالجة العديد من القضايا المحلية. ولذا اعتبروا أن عليه ألا يطيل أمد حكمه الفاقد الشعبية، بل يبادر من تلقاء نفسه إلى الاستقالة من دون انتظار إجراءات العزل، ومن ثم، السماح للبلاد بانتخاب رئيس جديد.

بطاقة هوية

ولد يون سوك - يول، البالغ من العمر 64 سنة، عام 1960 في العاصمة سيول لعائلة من الأكاديميين اللامعين. إذ كان أبوه يون كي - جونغ أستاذاً للاقتصاد في جامعة يونساي، وأمه تشوي سيونغ - جا محاضرة في جامعة إيوها للنساء قبل زواجها. وحصل يون على شهادته الثانوية عام 1979، وكان يريد في الأصل أن يدرس الاقتصاد ليغدو أستاذاً، كأبيه، ولكن بناءً على نصيحة الأخير درس الحقوق، وحصل على شهادتي الإجازة ثم الماجستير في الحقوق من جامعة سيول الوطنية - التي هي إحدى «جامعات النخبة الثلاث» في كوريا مع جامعتي يونساي وكوريا - وأصبح مدّعياً عاماً بارزاً قاد حملة ناجحة لمكافحة الفساد لمدة 27 سنة.

ووفق وسائل الإعلام الكورية، كانت إحدى محطات حياته عندما كان طالب حقوق عندما لعب دور القاضي في محاكمة صورية للديكتاتور (آنذاك) تشون دو - هوان، الذي نفذ انقلاباً عسكرياً وحُكم عليه بالسجن مدى الحياة. وفي أعقاب ذلك، اضطر يون إلى الفرار إلى الريف مع تمديد جيش تشون الأحكام العرفية ونشر القوات والمدرّعات في الجامعة.

بعدها، عاد يون إلى العاصمة، وصار في نهاية المطاف مدعياً عاماً، وواصل ترقيه الوظيفي ما يقرب من ثلاثة عقود، بانياً صورة له بأنه حازم وصارم لا يتسامح ولا يقدّم تنازلات.

مسيرته القانونية... ثم الرئاسة

قبل تولي يون سوك - يول رئاسة الجمهورية، كان رئيس مكتب الادعاء العام في المنطقة المركزية في سيول، وأتاح له ذلك محاكمة أسلافه من الرؤساء. إذ لعب دوراً فعالاً في إدانة الرئيسة السابقة بارك غيون - هاي التي أُدينت بسوء استخدام السلطة، وعُزلت وأودعت السجن عام 2016. كذلك، وجه الاتهام إلى مون جاي - إن، أحد كبار مساعدي خليفة الرئيسة بارك، في قضية احتيال ورشوة.

أما على الصعيد السياسي، فقد انخرط يون في السياسة الحزبية قبل سنة واحدة فقط من فوزه بالرئاسة، وذلك عندما كان حزب «قوة الشعب» المحافظ - وكان حزب المعارضة يومذاك - معجباً بما رأوه منه كمدّعٍ عام حاكم كبار الشخصيات، وأقنع يون، من ثم، ليصبح مرشح الحزب لمنصب رئاسة الجمهورية.

وفي الانتخابات الرئاسية عام 2022 تغلّب يون على منافسه الليبرالي لي جاي - ميونغ، مرشح الحزب الديمقراطي، بفارق ضئيل بلغ 0.76 في المائة... وهو أدنى فارق على الإطلاق في تاريخ الانتخابات في البلاد.

الواقع أن الحملة الانتخابية لعام 2022 كانت واحدةً من الحملات الانتخابية القاسية في تاريخ البلاد الحديث. إذ شبّه يون غريمه لي بـ«هتلر» و«موسوليني». ووصف حلفاء لي الديمقراطيون، يون، بأنه «وحش» و«ديكتاتور»، وسخروا من جراحة التجميل المزعومة لزوجته.

إضافة إلى ذلك، شنّ يون حملته الانتخابية بناء على إلغاء القيود المالية والموقف المناهض للمرأة. لكنه عندما وصل إلى السلطة، ألغى وزارة المساواة بين الجنسين والأسرة، قائلاً إنها «مجرد مقولة قديمة بأن النساء يُعاملن بشكل غير متساوٍ والرجال يُعاملون بشكل أفضل». وللعلم، تعد الفجوة في الأجور بين الجنسين في كوريا الجنوبية الأسوأ حالياً في أي بلد عضو في «منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية».

أيضاً، أدى استخدام يون «الفيتو» تكراراً إلى ركود في العمل الحكومي، بينما أدت تهم الفساد الموجهة إلى زوجته لتفاقم السخط العام ضد حكومته.

تراجع شعبيته

بالتالي، تحت ضغط الفضائح والخلافات، انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أجرته مؤسسة «غالوب كوريا» أن شعبيته انخفضت إلى 19 في المائة فقط. وتعد «كارثة» الأحكام العرفية الحلقة الأخيرة في سلسلة من الممارسات التي حددت رئاسة يون وأخطائها.

إذ ألقي باللوم على إدارة يون في التضخم الغذائي، وتباطؤ الاقتصاد، والتضييق المتزايد على حرية التعبير. وفي أواخر 2022، بعدما أسفر تدافع حشود في احتفال «الهالوين» (البربارة) في سيول عن سقوط 159 قتيلاً، تعرضت طريقة تعامل الحكومة مع المأساة لانتقادات واسعة.

زوجته في قلب مشاكله!

من جهة ثانية، كانت كيم كيون - هي، زوجة الرئيس منذ عام 2012، سبباً آخر للسخط والانتقادات في وسائل الإعلام الكورية الجنوبية. فقد اتهمت «السيدة الأولى» بالتهرب الضريبي، والحصول على عمولات لاستضافة معارض فنية عن طريق عملها. كذلك واجهت اتهامات بالانتحال الأدبي في أطروحتها لنيل درجة الدكتوراه وغيرها من الأعمال الأكاديمية.

لكن أكبر فضيحة على الإطلاق تورّطت فيها كيم، كانت قبولها عام 2023 هدية هي حقيبة يد بقيمة 1800 جنيه إسترليني سراً من قسيس، الأمر الذي أدى إلى مزاعم بالتصرف غير اللائق وإثارة الغضب العام، لكون الثمن تجاوز الحد الأقصى لما يمكن أن يقبله الساسة في كوريا الجنوبية وشركاؤهم قانونياً لهدية. لكن الرئيس يون ومؤيديه رفضوا هذه المزاعم وعدوها جزءاً من حملة تشويه سياسية.

أيضاً أثيرت تساؤلات حول العديد من القطع الثمينة من المجوهرات التي تملكها «السيدة الأولى»، والتي لم يعلَن عنها كجزء من الأصول الرئاسية الخاصة. وبالمناسبة، عندما فُتح التحقيق في الأمر قبل ست سنوات، كان زوجها رئيس النيابة العامة. أما عن حماته، تشوي يون - سون، فإنها أمضت بالفعل حكماً بالسجن لمدة سنة إثر إدانتها بتزوير وثائق مالية في صفقة عقارية.

يُضاف إلى كل ما سبق، تعرّض الرئيس يون لانتقادات تتعلق باستخدام «الفيتو» الرئاسي في قضايا منها رفض مشروع قانون يمهد الطريق لتحقيق خاص في التلاعب المزعوم بالأسهم من قبل زوجته كيم كيون - هي لصالح شركة «دويتشه موتورز». وأيضاً استخدام «الفيتو» ضد مشروع قانون يفوّض مستشاراً خاصاً بالتحقيق في مزاعم بأن مسؤولين عسكريين ومكتب الرئاسة قد تدخلوا في تحقيق داخلي يتعلق بوفاة جندي بمشاة البحرية الكورية عام 2023.

وهكذا، بعد سنتين ونصف السنة من أداء يون اليمين الدستورية عام 2022، وعلى أثر انتخابات رئاسية مثيرة للانقسام الشديد، انقلبت الأمور ضد الرئيس. وفي خضم ارتباك الأحداث السياسية وتزايد المخاوف الدولية يرزح اقتصاد كوريا الجنوبية تحت ضغوط مقلقة.

أمام هذا المشهد الغامض، تعيش «الحالة الديمقراطية» في كوريا الجنوبية أحد أهم التحديات التي تهددها منذ ظهورها في أواخر القرن العشرين.