في عطلة نهاية الأسبوع الماضي، تلقيت اتصالاً من وزارة الخارجية الروسية يعرض علي المشاركة في جولة صحافية تستمر ثلاثة أيام برفقة الجيش الروسي داخل سوريا. كما تلقيت تحذيرًا خاصًا موجها إلى الصحافيين الأميركيين العاملين بالخارج، حيث أخبرني مسؤول بالوزارة إنه حال كتابتي عن الروس بصورة رديئة، فإن تلك «ستكون رحلتك الأولى والأخيرة».
الواضح أن المؤسسة العسكرية الروسية تعكف حاليًا على صياغة صورة جديدة لها صديقة للإعلام (أو على الأقل متسامحة تجاه الإعلام). ومن بين الأمور الجديدة التي أقرتها المؤسسة إصدار بيانات موجزة متلفزة، وسلسلة من متاجر الملابس تعرض سترات جلدية وقمصان للأطفال تحمل رموزًا وطنية. إلا أن الحدث الصحافي الأكثر طموحًا على الإطلاق، أخيرا، فتمثل في تنظيم أوركسترا مسرح مارينسكي حفلاً موسيقيًا لأعمال بروكوفيف وباخ على مسرح مدرج مدينة تدمر التي جرت استعادتها مؤخرً من قبضة تنظيم داعش. وكانت تلك تجربة رائعة بكل المقاييس على الصعيد الدعائي، حيث زاوجت بين التراث الثقافي والطموحات العسكرية الروسية.
وربما كان هذا السبب وراء فتح الروس الأبواب هذه المرة، حيث دعوا صحافيين من «واشنطن بوست» و«نيويورك تايمز»، بجانب الأطقم التلفزيونية المعتادة من «سي إن إن» و«بي بي سي». وجرى حشد أكثر من 100 صحافي دولي، مساء الثلاثاء الماضي، بجانب مراسلين روس، في طائرة تتبع وزارة الدفاع الروسية، في رحلة من موسكو إلى قاعدة حميميم الجوية في سوريا، عابرة بذلك بحر قزوين والعراق وإيران. وفي الطريق، جرى سحب جوازات سفرنا. وبعد بزوغ الفجر بقليل، هبطنا داخل سوريا.
وعلى امتداد باقي الرحلة، كان يجري نقلنا بحافلة من مكان لآخر من دون سابق إنذار، وكان من المفترض منا أن ندون ملاحظاتنا سريعًا، ثم نعود إلى الحافلة. ولم يتوافر لدينا مرشدين يمكن الرجوع إليهم سوى مضيفينا الروس، لذا لم يكن بمقدورنا فعل سوى تذكر أن كل ما نراه هو ما ترغب المؤسسة العسكرية الروسية منا رؤيته.
وتمثلت أول نقطة في جولتنا في القاعدة الجوية ذاتها التي جرى ترميمها سرًا من جانب القوات الروسية قبل أن تظهر الطائرات الحربية الروسية في سماء سوريا فجأة في سبتمبر (أيلول) الماضي. ورغم بساطة القاعدة، فإنها كانت نظيفة ومثيرة للإعجاب. وبدا الأفراد الروس داخل كل المحطات التي توقفنا عندها على أهبة الاستعداد، مع توافر ملعب لكرة اليد، ومساحة لممارسة تمرينات رياضية، وخيمة لتوفير دعم نفسي للجنود، وأخرى لمناقشة الأخبار السياسية، وثكنات وقاعة لتناول الطعام مخصصة للجنود.
وقد خصصت الزيارات الإعلامية بصورة أساسية للتلفزيون، وسرعان ما انتقلنا من خيمة لأخرى، بحيث تتمكن الكاميرات من التقاط صور متنوعة. ولدى سؤالهم عن الحياة داخل القاعدة، حوّل الكثير من الجنود سؤال المراسل إلى ضابط قال إن الجنود يخدمون في نوبات تستمر كل منها ثلاثة شهور، ويتوافر أمامهم وقت كاف للراحة والاسترخاء، مع تنظيم حفلات موسيقية في عطلات نهاية الأسبوع.
وعلى الممرات، شاهدنا قرابة اثنتي عشر طائرة ثابتة الجناحين، بينها قاذفات «سو24» و«سو34»، إضافة إلى مقاتلات «سو35» النفاثة الروسية. ولا تزال القاعدة الروسية تعج بالحركة، مع شن ما يصل إلى 20 غارة يوميًا، رغم إعلان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين النصر وسحب القوات، في مارس (آذار) الماضي.
وتتولى هذه الطائرات تنفيذ مهام قتالية بالمناطق الخاضعة لسيطرة «داعش»، حسبما أخبرنا إيغور كوناشينكوف، المتحدث العسكري الرسمي الروسي. وخلال الفترة التي قضيناها داخل القاعدة، أقلعت نحو 10 طائرات، جاء انطلاق معظمها بمجرد أن انتظمت صفوفنا على الممر. وتلقي بعض قاذفات «سو24» قنابل ثقيلة قبل الهبوط، بينما تعود أخرى إلى القاعدة وهي لا تزال تحمل حمولتها من القنابل.
وسألنا كوناشينكوف عن مستشفى حلب المدعوم من منظمة «أطباء بلا حدود»، التي ذكرت تقارير أنه تعرضت للقصف الشهر الماضي، ما أسفر عن مقتل 55 على الأقل. وعرض كوناشينكوف أمامنا صورا من القمر الصناعي التقطت في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، قال إنها تثبت أن المستشفى لم يتعرض للقصف على الإطلاق، مشيرًا إلى أن «التقارير الإخبارية التي تتحدث عن سقوط ضحايا هناك مفبركة». وعندما طلبنا منه تقدير أعداد الضحايا غير المقصودين والمدنيين من جراء الضربات الجوية الروسية بوجه عام، راوغ كوناشينكوف في الإجابة، قائلاً إن الضربات الروسية لم تؤذ مدنيين. واستمر الشد والجذب قرابة ربع الساعة حتى بدأ المؤتمر الصحافي.
واستغرق الأمر منا أكثر من أربع ساعات في السيارة على امتداد طرق ساحلية حتى وصلنا للفندق الذي نقيم فيه في الطرف الشمالي الغربي من سوريا، اللاذقية على وجه التحديد. وكان الفندق من فئة الخمس نجوم، ويطل على البحر المتوسط بأمواجه الرائعة. ولدى الجلوس هناك، يسهل على المرء نسيان أن ثمة حربا مستعرة بالبلاد.
ونمنا لبضع ساعات، ثم غادرنا اليوم التالي في السابعة صباحًا متجهين إلى تدمر. وكانت هناك شائعات حول عقد حفل موسيقي بالمسرح المدرج في تدمر، وأن صديق فلاديمير بوتين، عازف الكمنجة المدعو سيرغي رولدوغين، سيكون حاضرًا. يذكر أن رولدوغين يملك حسابات مصرفية عملت كقناة لنقل مئات الملايين من الدولارات، تبعًا لما كشفته تسريبات أوراق بنما الأخيرة.
ومع غياب خدمة الإنترنت، وعدم وجود شبكة للهاتف المحمول، قضينا الجزء الأكبر من الرحلة بالحافلة إلى المدينة التي استمرت سبع ساعات في التطلع إلى المدن التي مررنا عليها في الطريق، بحثًا عن مؤشرات على وجود حياة، والإمعان في الإجراءات الأمنية لرحلتنا، فقد أغلقت الطرق وتقاطعاتها على امتداد عشرات الأميال لضمان أمن قافلتنا، والتي تضمنت سيارات «همفي» وناقلات أفراد مدرعة. وفوق رؤوسنا، حلقت أربع مروحيات على الأقل.
وبدا كل هذا معدًا من أجل الحفلة الموسيقية التي كان من المقرر إقامتها في المساء، لكن المسؤولين رفضوا التأكيد على أية تفاصيل. داخل تدمر، جرى توجيهنا سريعًا عبر الحطام، وذكر مسؤولون روس أن عملية تقدير الخسائر التي لحقت بالمدينة لا تزال مستمرة.
وخلال جولتنا، كان بإمكاننا سماع دوي انفجارات للمدفعية بالقرب منا (وقيل لنا إن خط المواجهة يقع على بعد قرابة 10 أميال من النقطة التي كنا بها).
وكان من المقرر إذاعة الحفل الموسيقي إلى كل منزل روسي عبر تلفزيون الدولة الرسمي، لكن من أجل الوصول إلى منازل الغرب، كان الكرملين بحاجة إلينا. وأقيم الحفل بمشاركة المايسترو الشهير فاليري غيرغيفو، وكذلك رولدوغين.
وانتهى الأمر برمته في غضون ساعة. وبعد صدور عدد من التصريحات الرسمية، عدنا إلى الحافلة لنمر عبر الصحراء في رحلة جديدة لمدة سبع ساعات على امتداد الساحل حتى الفندق الذي نقيم فيه في اللاذقية. وفي مساء اليوم التالي، عدنا إلى موسكو جوًا على متن طائرة انطلقت بعد وصولنا سوريا بـ56 ساعة بالضبط.
*خدمة «واشنطن بوست» خاص بـ«الشرق الأوسط»