إشكالية الصعود الأصولي وأزمة التيارات المدنية

قراءة تاريخية في مسؤولية التيارات المدنية بصعود التشدد المرتدي زي الإسلام

صورة تظهر توغل دبابات إسرائيلية داخل الأراضي المصرية في حرب الأيام الستة 1967 (غيتي)
صورة تظهر توغل دبابات إسرائيلية داخل الأراضي المصرية في حرب الأيام الستة 1967 (غيتي)
TT

إشكالية الصعود الأصولي وأزمة التيارات المدنية

صورة تظهر توغل دبابات إسرائيلية داخل الأراضي المصرية في حرب الأيام الستة 1967 (غيتي)
صورة تظهر توغل دبابات إسرائيلية داخل الأراضي المصرية في حرب الأيام الستة 1967 (غيتي)

يبقى التفسير الأشهر تاريخيًا للصعود والصحوة الأصولية، أنها أتت رد فعل على هزيمة أو نكسة 1967 وما ترافق به من فشل دولة ما بعد الاستقلال العربي، في تحقيق أي من وعودها الآيديولوجية بالحرية أو التحرر والتحرير - للأرض المحتلة - أو الوحدة. وأن هذه الأصولية طرحت نفسها من جديد - بعد فترة أفول - بديلا للآيديولوجيا القومية، الناصرية والبعثية، كطريق واحد للخلاص والحل وتحقيق نهضة عربية ثانية. إلا أن هذا التفسير يبقى قديمًا نسبيًا، قياسًا لتحولات الظاهرة المتشددة والأصولية خلال العقود الأربعة التالية، من ظهور ما يسميه البعض «الجهاديات القُطرية» ثم «الجهادية المعولمة»، ممثلة في تنظيمي «داعش» و«القاعدة». وقد يبقى صحيحًا في تفسير تحوّل بعض المفكّرين المدنيين أو العلمانيين للتوجه الإسلامي فيما بعد، وهو الذي نشط في هذه الفترة تحديدًا.
أما التفسير الثاني للصعود الأصولي وعلاقته بأزمة التيارات المدنية، فكان التفسير النظري المعروف عند عدد من المفكرين بـ«كبوة الإصلاح أو النهوض»، أو «النكوصية» في تعبيرات البعض عن مسيرة الإصلاح والاعتدال الإسلامي، حين انحدر الفكر الإسلامي من اعتدال الأفغاني ومحمد عبده والكواكبي إلى «خليفاتية» محمد رشيد رضا وحسن البنا والنبهاني و«حاكمية» سيد قطب، ما قطع مع تيار النهضة والإصلاح المؤسس لأفكار الليبرالية والإصلاحية الإسلامية نحو مزيد من التشبث والعودة للعثماني بعد سقوطه.

إننا لنتحفظ عن الرؤية التفسيرية لـ«كبوة الإصلاح والنهوض»، إذ نرى أنه قد ظلت الأفكار الإصلاحية تؤتي ثمارها رغم الصعود الأصولي، وخلف جيل أحمد لطفي السيد وطه حسين ومصطفى عبد الرزاق ومحمود عزمي ومحمد حسين هيكل والعقاد وعلي يوسف - صاحب «المؤيد» - وغيرهم كثير، جيل الأفغاني وعبده وأنضج بعض الثمار على يديه مثل الجامعة والبرلمان ودستور سنة 1923 وفي المسألة النسوية وغيرها من المحطات المهمة في تاريخ النهضة العربية الحديثة (1).
لكن يثور من آن لآخر سؤال أكثر حرجًا مكنونه أنه لولا ضعف القوى المدنية والأفكار المدنية لما تقدمت القوى الأصولية لتملأ فراغها وفراغ الدولة معها. ويكون التدليل على ذلك حاضرًا وتاريخًا من أمثلة متعددة، منها اجتياح الإسلاميين للانتخابات عبر انتفاضات «الربيع العربي»، وتبخر واندثار كثير من صانعيه ومفجّريه بعد ذلك. كما أن منها ضعف التأثير الاجتماعي والثقافي للتيارات والأحزاب المدنية في الشارع، نتيجة العزلة النخبوية والقلة العددية، فضلا عن الاغتراب الخطابي الذي يصدره البعض عبر وسائل إعلامية وفضائية تحرج وتصطدم بالمعهود الديني، بين داعية لحرق آثار البخاري وآخر لحرق آثار ابن تيمية وما شابه. وهو ما يحدث أثرًا سلبًا عند القواعد والجماهير المتدينة بطبيعتها، للتحزبات الضيقة وللخلافات داخل هذه التنظيمات، وصراعات وفساد بعض ممثليها واختلافهم، قياسا للصلابة التنظيمية التي تبدو في الحركات الإسلامية والجهادية، ومبدأ السمع والطاعة الرابط بينها.
ونظرا لذيوع هذا التفسير، الذي يحمل ضعف التيارات المدنية تقدم وصعود التيارات الأصولية، وانتشاره بشكل كبير، وجدارته بالنقاش، إلا أنه تعتوره الكثير من المغالطات المبطنة والظاهرة نوضحها فيما يلي:
* أولا: الخلط بين الفكرة المدنية والتيارات المدنية:
هناك خلط بين الفكرة المجردة «المدنية» والفكرة المشخصنة «التيارات التي تعبر عنها» في مثل هذه الرؤية، فبينما تظل الفكرة المجردة قيمًا متسعة وفوق – آيديولوجية في احترام قيم التعايش الإنساني الحديث من احترام القانون إلى التسامح والتطور السياسي والاجتماعي، تظل القوى والأحزاب المدنية معبرة عن توجهات ممثليها وعن أزماتهم وعن أولوياتهم وأزماتهم الآيديولوجية والآنية.
ونلاحظ أنه رغم أزمة الكثير من التيارات المدنية، فإن الأفكار المدنية - وهي الأصل والغاية - تصعد وتنتشر بدءا من التعليم المدني الذي انتشرت وتغلبت مؤسساته على سائر مؤسسات التعليم الديني والتقليدي، وصولا ومرورا لأفكار أخرى كالعقلانية ورفض تسييس الدين، ودولة القانون والمؤسساتية والديمقراطية والمواطنة وعدم التمييز وتكافؤ الفرص، وحقوق المرأة والحريات في الاعتقاد والرأي والتعبير وغيرها.
تصعد هذه الأفكار التي تكفر بها كلية الجماعات الموغلة في التشدد كـ«داعش» و«القاعدة» بينما تسعى لتبنيها تيارات وتنظيمات الإسلام السياسي الأكثر اعتدالا. ولم يعد عجيبا أن نسمع حديث الرئيس التركي رجب طيب إردوغان عن «العلمانية المؤمنة» منذ سنوات، أو انتقاداته الأخيرة للبرلمان التركي ودفاعه عن مصطفى كمال «أتاتورك» حين تحدث رئيس الأول عن رغبته في وضع دستور إسلامي بالكامل في أبريل (نيسان) الماضي.
وفي الاتجاه نفسه يأتي دفاع أمثال راشد الغنوشي عن ذلك في الكثير من كتاباته، وهو ما عجزت عنه حركات أقل اعتدالا شأن الإخوان المسلمين، التي قبلت بالديمقراطية الإجرائية بينما رفضت قيمها. وتحفظت عن دعوة إردوغان لها للعلمانية والفصل بين الدين والدولة، في زيارته لمصر في أغسطس (آب) 2011. وما زال فعل المراجعة والتجدد النظري عند هذه الجماعة أضعف من الاستجابة لتحديات الواقع والتاريخ رغم فكرويتها الباكرة، كونها أقدم هذه الجماعات والأسبق في وضع مقولات الإسلام السياسي والحاكمي (القطبي).
وفي هذا دليل على اتساع وتمكّن الفكرة المدنية في الفضاء والمجال العام، رغم أزمة تيارات وتنظيمات منسوبة إليها. بل وتتلون بلونها حياة الناس، علموا أو لم يعلموا الجهود المدنية السابقة المؤسسة لذلك. كما لا تدرك بعض المتطرفات المتعلمات، أنه لولا ما بذله منظّرو ودُعاة الفكرة المدنية في سبيل تعليم المرأة من جهد، منذ حقبة رفاعة الطهطاوي وقاسم أمين حتى الطاهر الحداد وغيره، لما تعلمت أصلاً وما نشطت مدافعة عن التكفير والتمييز باسم الدين لصالح من يرفضون تعليمها مثلا.
* ثانيا: تحميل المدنية أخطاء «الأفندية»:
في عشرينات القرن الماضي ثارت المقارنة بين خريجي التعليم المدني والتعليم الديني مختزلة في معركة «العمامة والطربوش» أو «الأفندية والمشايخ». وصار كل أفندي يصوّر على أنه مدني، وكل صاحب عمامة على أنه تقليدي، وهي مقارنة غير صحيحة، لأن كثيرين من أصحاب العمائم، مثل محمد عبده وآل عبد الرازق وعلال الفاسي وغيرهم، كانوا مجدّدين وإصلاحيين وأكثر اهتمام بمسألة التقدم والنهضة من غيرهم من «الأفندية» والعكس صحيح أيضًا.
ولكن يبدو أنه قد استمر هذا التصنيف الخطأ أيضًا، فصار كل من هو ليس رجل دين.. مدنيًا! وحملت تيارات وحكومات وأحزاب مأزومة على الفكر المدنية هي لا تنتمي إليها بشكل كامل، أو في نسبتها إليها شبهة كبيرة أو انحرافًا آيديولوجيًا باديا يتعارض مع أفكار المدنية والليبرالية والإصلاحية العربية الرئيسية، في احترام «دولة القانون» والهويات والدولة الوطنية والتعايش والمساواة بين مختلف المواطنين، وعدم التمييز على أساس عرقي أو ديني أو طائفي. كثيرًا ما تحمّلت المدنية والعلمانية العربية - التي هي جزئية في تيارها الغالب حسب تعبيرات المسيري - أخطاء أنظمة شمولية تبنت أفكارًا وشعارات آيديولوجية. فجرى تحميلها أخطاء التجارب الناصرية والبعثية السورية والعراقية، التي لم تكن مدنية نقية بقدر ما كانت شعاراتية وانقلابية أمنية ضيّقت على الأفكار المدنية المولودة قبلها، وألغت الليبرالية الفكرية والسياسية التي كانت موجودة قبلها. كذلك ضيقت من فرص الليبرالية الاقتصادية متجهة نحو التأميم ورأسمالية الدولة. وسعت لاستدعاء سياسي وقومي للإسلام عبر أطروحات «الاشتراكية الإسلامية» التي تبناها أمثال هواري بومدين، كما تبناها عبد الناصر بشكل مختلف- وكذلك تبناها منظرون من الطرفين.
بل نظن أنه رغم الصدام الشهير بين الأنظمة العسكرية والشمولية والتنظيمات الإسلامية السياسية في حقبة الخمسينات والستينات وغيرها، فإنها ساعدت ورعت صحوة التبشيرية الإسلامية كبديل لتبشيريتها الآيديولوجية. واستبدال الشعارات الكبرى في الوحدة الإسلامية والجهاد الإسلامي من أجل تحرير فلسطين، كبديل لشعاراتها التي فشلت في تحقيقها كالوحدة العربية والدولة العربية الواحدة، التي فشلت في إنجاح أي من تجاربها التي أقامتها (أربع تجارب فاشلة في مصر الناصرية وسوريا البعثية فقط) والصراع المؤبد مع العالم والإمبريالية لدائرة «الجهاد العالمي» على أساس ديني سياسي كذلك.
وليست ممارسات الخطاب متباينة بشدة عن بعضها، وسهل بعد النكسات والنكبات العربية التي تتالت أن يحل محلها مكان الآخر، حلّ «أبو مصعب الزرقاوي» محل صدام حسين كما حلّ «أبو بكر البغدادي» محل المالكي ونزوعه الطائفي، وحل محمد عبد السلام فرج و«الجهاد» المصري محل الأدلوجة الناصرية، كما أنتجت الأزمات الاقتصادية في السودان والمغرب العربي ما سمي في ثمانينات القرن الماضي جبهات «الإنقاذ الإسلامي».
* ثالثا: تجاهل التضييق على التيارات المدنية:
لقد وظفت بعض الأنظمة الشمولية في فترات معينة التيارات الأصولية، داعمة لصعودها، في وجه التيارات المدنية الديمقراطية. وهذا ما حدث في بداية عهد الرئيس المصري الأسبق أنور السادات وصراعه مع بقايا مراكز القوى في النظام الناصري واستعانته على تيارات اليسار والحركة الطلابية بتصعيد وفتح آفاق للتيارات الإسلامية السياسية في الجامعة، خاصة مع ما عرفته الحركة الطلابية من نضوج وتأثير منذ نهاية الستينات، في مصر الناصرية وفي بلدان أخرى كفرنسا. وكان لا بد - مصريا - من تصعيد عدو آيديولوجي أكثر جاذبية وحشدًا ضدها في وجهها، ويستطيع أن يوقف صعودها، مع ممارسة تقييدات على أنشطتها وفعالياتها المختلفة. وحسب شهادة أحد الناشطين والمؤرخين للحركة الطلابية المصرية، هو الكاتب المرحوم هشام السلاموني، صاحب كتاب «جيل واجه عبد الناصر والسادات» ذكر لي أنه بينما جرى التضييق على أنشطتهم وندواتهم ومؤتمراتهم، كان المسجد الجامعي دائمًا متاحًا لخطاب التطرف ومناهجه، فتم تقييد المدنية وتحرير أفكار التطرّف وممكناتها في أوساط المجتمع المصري (2).
كذلك، نجحت الأنظمة الديكتاتورية والحزبية الواحدة في صناعة تيارات شعبوية، تحمل صور «الأفندية» والمواطنين الشرفاء، ليسوا مدنيين في الحقيقة، مظهرا ومنزعا، ولكنهم ينجحون في صد أي معارضة مدنية. ما وكل المجتمع وأتاحه بعيدا عما يمثلونه من نماذج للتيارات والجماعات الأصولية سواء كقناعة روحية أو كسبيل تغييري يأسا من مجتمع محدودة فرصه.
ختامًا، لا تنفي التقريرات السابقة مسؤولية التيارات المدنية واقعيًا عن تقدم وصعود التشدد المرتدي زي الإسلام والرافع لشعاراته، بل تؤكد على أزماتها البنيوية في غياب زعامات ورموز حقيقية، وضعف وسائط تواصلها المجتمعي حتى في عصر الثورة التواصلية والاتصالية. ولكن لا تمكن قراءة ذلك بعيدا عن السياقات والظروف المتاحة، وبعيدا عن إدراك الاختلافات بين الشعاراتية الآيديولوجية المأزومة، أو القطع «النيتشوية» على المواقع التواصلية المتبخرة وبين المنظومة المدنية في اتساعها وتنظيمها كما كانت في الحقبة الليبرالية قبل خمسينات القرن الماضي. ولكن لا شك أن الاجتماع والفكر العربي يتبيا مدنيا منذ عقود وبشكل متصارع رغم صرخات الأصولية وضجيج جماعاتها وعنفها.
* هوامش:
1 - هاني نسيره، أزمة النهضة العربية وحرب الأفكار، الهيئة المصرية العامة للكتاب سنة 2009.
2 - من لقاء مع الصديق الراحل مؤرخ الحركة الطلابية المصرية هشام السلاموني في القاهرة في 5 يوليو سنة 2008.



«المراجعات»... فكرة غائبة يراهن عليها شباب «الإخوان»

جانب من اعتصام «الإخوان» في ميدان «رابعة» بالقاهرة عام 2013 عقب عزل مرسي (الشرق الأوسط)
جانب من اعتصام «الإخوان» في ميدان «رابعة» بالقاهرة عام 2013 عقب عزل مرسي (الشرق الأوسط)
TT

«المراجعات»... فكرة غائبة يراهن عليها شباب «الإخوان»

جانب من اعتصام «الإخوان» في ميدان «رابعة» بالقاهرة عام 2013 عقب عزل مرسي (الشرق الأوسط)
جانب من اعتصام «الإخوان» في ميدان «رابعة» بالقاهرة عام 2013 عقب عزل مرسي (الشرق الأوسط)

بين الحين والآخر، تتجدد فكرة «مراجعات الإخوان»، الجماعة التي تصنفها السلطات المصرية «إرهابية»، فتثير ضجيجاً على الساحة السياسية في مصر؛ لكن دون أي أثر يُذكر على الأرض. وقال خبراء في الحركات الأصولية، عن إثارة فكرة «المراجعة»، خصوصاً من شباب الجماعة خلال الفترة الماضية، إنها «تعكس حالة الحيرة لدى شباب (الإخوان) وشعورهم بالإحباط، وهي (فكرة غائبة) عن قيادات الجماعة، ومُجرد محاولات فردية لم تسفر عن نتائج».
ففكرة «مراجعات إخوان مصر» تُثار حولها تساؤلات عديدة، تتعلق بتوقيتات خروجها للمشهد السياسي، وملامحها حال البدء فيها... وهل الجماعة تفكر بجدية في هذا الأمر؟ وما هو رد الشارع المصري حال طرحها؟
خبراء الحركات الأصولية أكدوا أن «الجماعة ليست لديها نية للمراجعات». وقال الخبراء لـ«الشرق الأوسط»: «لم تعرف (الإخوان) عبر تاريخها (مراجعات) يُمكن التعويل عليها، سواء على مستوى الأفكار، أو السلوك السياسي التنظيمي، أو على مستوى الأهداف»، لافتين إلى أن «الجماعة تتبنى دائماً فكرة وجود (محنة) للبقاء، وجميع قيادات الخارج مُستفيدين من الوضع الحالي للجماعة». في المقابل لا يزال شباب «الإخوان» يتوعدون بـ«مواصلة إطلاق الرسائل والمبادرات في محاولة لإنهاء مُعاناتهم».

مبادرات شبابية
مبادرات أو رسائل شباب «الإخوان»، مجرد محاولات فردية لـ«المراجعة أو المصالحة»، عبارة عن تسريبات، تتنوع بين مطالب الإفراج عنهم من السجون، ونقد تصرفات قيادات الخارج... المبادرات تعددت خلال الأشهر الماضية، وكان من بينها، مبادرة أو رسالة اعترف فيها الشباب «بشعورهم بالصدمة من تخلي قادة جماعتهم، وتركهم فريسة للمصاعب التي يواجهونها هم وأسرهم - على حد قولهم -، بسبب دفاعهم عن أفكار الجماعة، التي ثبت أنها بعيدة عن الواقع»... وقبلها رسالة أخرى من عناصر الجماعة، تردد أنها «خرجت من أحد السجون المصرية - بحسب من أطلقها -»، أُعلن فيها عن «رغبة هذه العناصر في مراجعة أفكارهم، التي اعتنقوها خلال انضمامهم للجماعة». وأعربوا عن «استعدادهم التام للتخلي عنها، وعن العنف، وعن الولاء للجماعة وقياداتها».
وعقب «تسريبات المراجعات»، كان رد الجماعة قاسياً ونهائياً على لسان بعض قيادات الخارج، من بينهم إبراهيم منير، نائب المرشد العام للجماعة، الذي قال إن «الجماعة لم تطلب من هؤلاء الشباب الانضمام لصفوفها، ولم تزج بهم في السجون، ومن أراد أن يتبرأ (أي عبر المراجعات) فليفعل».
يشار إلى أنه كانت هناك محاولات لـ«المراجعات» عام 2017 بواسطة 5 من شباب الجماعة المنشقين، وما زال بعضهم داخل السجون، بسبب اتهامات تتعلق بـ«تورطهم في عمليات عنف».
من جهته، أكد أحمد بان، الخبير في شؤون الحركات الأصولية بمصر، أن «(المراجعات) أو (فضيلة المراجعات) فكرة غائبة في تاريخ (الإخوان)، وربما لم تعرف الجماعة عبر تاريخها (مراجعات) يُمكن التعويل عليها، سواء على مستوى الأفكار، أو على مستوى السلوك السياسي التنظيمي، أو على مستوى أهداف الجماعة ومشروعها»، مضيفاً: «وحتى الآن ما خرج من (مراجعات) لم تتجاوز ربما محاكمة السلوك السياسي للجماعة، أو السلوك الإداري أو التنظيمي؛ لكن لم تطل (المراجعات) حتى الآن جملة الأفكار الرئيسية للجماعة، ومقولتها الرئيسية، وأهدافها، وأدبياتها الأساسية، وإن كانت هناك محاولات من بعض شباب الجماعة للحديث عن هذه المقولات الرئيسية».

محاولات فردية
وقال أحمد بان إن «الحديث عن (مراجعة) كما يبدو، لم تنخرط فيها القيادات الكبيرة، فالجماعة ليس بها مُفكرون، أو عناصر قادرة على أن تمارس هذا الشكل من أشكال (المراجعة)، كما أن الجماعة لم تتفاعل مع أي محاولات بحثية بهذا الصدد، وعلى كثرة ما أنفقته من أموال، لم تخصص أموالاً للبحث في جملة أفكارها أو مشروعها، أو الانخراط في حالة من حالات (المراجعة)... وبالتالي لا يمكننا الحديث عن تقييم لـ(مراجعة) على غرار ما جرى في تجربة (الجماعة الإسلامية)»، مضيفاً أن «(مراجعة) بها الحجم، وبهذا الشكل، مرهونة بأكثر من عامل؛ منها تبني الدولة المصرية لها، وتبني قيادات الجماعة لها أيضاً»، لافتاً إلى أنه «ما لم تتبنَ قيادات مُهمة في الجماعة هذه (المراجعات)، لن تنجح في تسويقها لدى القواعد في الجماعة، خصوصاً أن دور السلطة أو القيادة في جماعة (الإخوان) مهم جداً... وبالتالي الدولة المصرية لو كانت جادة في التعاطي مع فكرة (المراجعة) باعتبارها إحدى وسائل مناهضة مشروع الجماعة السياسي، أو مشروع جماعات الإسلام السياسي، عليها أن تشجع مثل هذه المحاولات، وأن تهيئ لها ربما عوامل النجاح، سواء عبر التبني، أو على مستوى تجهيز قيادات من الأزهر، للتعاطي مع هذه المحاولات وتعميقها».
وأكد أحمد زغلول، الباحث في شؤون الحركات الأصولية بمصر، أن «الجماعة لم تصل لأي شيء في موضوع (المراجعات)، ولا توجد أي نية من جانبها لعمل أي (مراجعات)»، مضيفاً: «هناك محاولات فردية لـ(المراجعات) من بعض شباب الجماعة الناقم على القيادات، تتسرب من وقت لآخر، آخرها تلك التي تردد أنها خرجت من داخل أحد السجون جنوب القاهرة - على حد قوله -، ومن أطلقها صادر بحقهم أحكام بالسجن من 10 إلى 15 سنة، ولهم مواقف مضادة من الجماعة، ويريدون إجراء (مراجعات)، ولهم تحفظات على أداء الجماعة، خصوصاً في السنوات التي أعقبت عزل محمد مرسي عن السلطة عام 2013... وتطرقوا في انتقاداتهم للجوانب الفكرية للجماعة، لكن هذه المحاولات لم تكن في ثقل (مراجعات الجماعة الإسلامية)... وعملياً، كانت عبارة عن قناعات فردية، وليس فيها أي توجه بمشروع جدي».
وأكد زغلول، أن «هؤلاء الشباب فكروا في (المراجعات أو المصالحات)، وذلك لطول فترة سجنهم، وتخلي الجماعة عنهم، وانخداعهم في أفكار الجماعة»، مضيفاً: «بشكل عام ليست هناك نية من الجماعة لـ(المراجعات)، بسبب (من وجهة نظر القيادات) (عدم وجود بوادر من الدولة المصرية نحو ذلك، خصوصاً أن السلطات في مصر لا ترحب بفكرة المراجعات)، بالإضافة إلى أن الشعب المصري لن يوافق على أي (مراجعات)، خصوصاً بعد (مظاهرات سبتمبر/ أيلول الماضي) المحدودة؛ حيث شعرت قيادات الجماعة في الخارج، بثقل مواصلة المشوار، وعدم المصالحة».
وفي يناير (كانون الثاني) عام 2015، شدد الرئيس عبد الفتاح السيسي، على أن «المصالحة مع من مارسوا العنف (في إشارة ضمنية لجماعة الإخوان)، قرار الشعب المصري، وليس قراره شخصياً».
وأوضح زغلول في هذا الصدد، أن «الجماعة تتبنى دائماً فكرة وجود (أزمة أو محنة) لبقائها، وجميع القيادات مستفيدة من الوضع الحالي للجماعة، وتعيش في (رغد) بالخارج، وتتمتع بالدعم المالي على حساب أسر السجناء في مصر، وهو ما كشفت عنه تسريبات أخيرة، طالت قيادات هاربة بالخارج، متهمة بالتورط في فساد مالي».

جس نبض
وعن ظهور فكرة «المراجعات» على السطح من وقت لآخر من شباب الجماعة. أكد الخبير الأصولي أحمد بان، أن «إثارة فكرة (المراجعة) من آن لآخر، تعكس حالة الحيرة لدى الشباب، وشعورهم بالإحباط من هذا (المسار المغلق وفشل الجماعة)، وإحساسهم بالألم، نتيجة أعمارهم التي قدموها للجماعة، التي لم تصل بهم؛ إلا إلى مزيد من المعاناة»، موضحاً أن «(المراجعة أو المصالحة) فكرة طبيعية وإنسانية، وفكرة يقبلها العقل والنقل؛ لكن تخشاها قيادات (الإخوان)، لأنها سوف تفضح ضحالة عقولهم وقدراتهم ومستواهم، وستكشف الفكرة أمام قطاعات أوسع».
برلمانياً، قال النائب أحمد سعد، عضو مجلس النواب المصري (البرلمان)، إن «الحديث عن تصالح مع (الإخوان) يُطلق من حين لآخر؛ لكن دون أثر على الأرض، لأنه لا تصالح مع كل من خرج عن القانون، وتورط في أعمال إرهابية - على حد قوله -».
وحال وجود «مراجعات» فما هي بنودها؟ أكد زغلول: «ستكون عبارة عن (مراجعات) سياسية، و(مراجعة) للأفكار، ففي (المراجعات) السياسية أول خطوة هي الاعتراف بالنظام المصري الحالي، والاعتراف بالخلط بين الدعوة والسياسة، والاعتراف بعمل أزمات خلال فترة حكم محمد مرسي... أما الجانب الفكري، فيكون بالاعتراف بأن الجماعة لديها أفكار عنف وتكفير، وأنه من خلال هذه الأفكار، تم اختراق التنظيم... وعلى الجماعة أن تعلن أنها سوف تبتعد عن هذه الأفكار».
وعن فكرة قبول «المراجعات» من قبل المصريين، قال أحمد بان: «أعتقد أنه يجب أن نفصل بين من تورط في ارتكاب جريمة من الجماعة، ومن لم يتورط في جريمة، وكان ربما جزءاً فقط من الجماعة أو مؤمناً فكرياً بها، فيجب الفصل بين مستويات العضوية، ومستويات الانخراط في العنف».
بينما أوضح زغلول: «قد يقبل الشعب المصري حال تهيئة الرأي العام لذلك، وأمامنا تجربة (الجماعة الإسلامية)، التي استمرت في عنفها ما يقرب من 20 عاماً، وتسببت في قتل الرئيس الأسبق أنور السادات، وتم عمل (مراجعات) لها، وبالمقارنة مع (الإخوان)، فعنفها لم يتعدَ 6 سنوات منذ عام 2013. لكن (المراجعات) مشروطة بتهيئة الرأي العام المصري لذلك، وحينها سيكون قبولها أيسر».
يُشار إلى أنه في نهاية السبعينات، وحتى منتصف تسعينات القرن الماضي، اُتهمت «الجماعة الإسلامية» بالتورط في عمليات إرهابية، واستهدفت بشكل أساسي قوات الشرطة والأقباط والأجانب. وقال مراقبون إن «(مجلس شورى الجماعة) أعلن منتصف يوليو (تموز) عام 1997 إطلاق ما سمى بمبادرة (وقف العنف أو مراجعات تصحيح المفاهيم)، التي أسفرت بالتنسيق مع الأجهزة الأمنية وقتها، على إعلان الجماعة (نبذ العنف)... في المقابل تم الإفراج عن معظم المسجونين من كوادر وأعضاء (الجماعة الإسلامية)».
وذكر زغلول، أنه «من خلال التسريبات خلال الفترة الماضية، ألمحت بعض قيادات بـ(الإخوان) أنه ليس هناك مانع من قبل النظام المصري - على حد قولهم، في عمل (مراجعات)، بشرط اعتراف (الإخوان) بالنظام المصري الحالي، وحل الجماعة نهائياً».
لكن النائب سعد قال: «لا مجال لأي مصالحة مع (مرتكبي جرائم عنف ضد الدولة المصرية ومؤسساتها) - على حد قوله -، ولن يرضى الشعب بمصالحة مع الجماعة».