«داعش سرت» يكفّر منشقيه ويخوّنهم

قيادات جزائرية ومالية تترك خطوط القتال وتفر إلى خارج ليبيا

أعلام داعش مرفوعة في قاعة واغادوغو بمدينة سرت وسط حضور متطرفين ومؤيدين له ({ الشرق الأوسط}) - أحد عناصر داعش يتصفح منشورا في إحدى المناطق الشرقية
أعلام داعش مرفوعة في قاعة واغادوغو بمدينة سرت وسط حضور متطرفين ومؤيدين له ({ الشرق الأوسط}) - أحد عناصر داعش يتصفح منشورا في إحدى المناطق الشرقية
TT

«داعش سرت» يكفّر منشقيه ويخوّنهم

أعلام داعش مرفوعة في قاعة واغادوغو بمدينة سرت وسط حضور متطرفين ومؤيدين له ({ الشرق الأوسط}) - أحد عناصر داعش يتصفح منشورا في إحدى المناطق الشرقية
أعلام داعش مرفوعة في قاعة واغادوغو بمدينة سرت وسط حضور متطرفين ومؤيدين له ({ الشرق الأوسط}) - أحد عناصر داعش يتصفح منشورا في إحدى المناطق الشرقية

ردَّ تنظيم «داعش ليبيا» على منشقين في صفوفه بإطلاق موجة جديدة من «فتاوى التخوين والتكفير»، ووصف الفارين من سلطته في عدة بلدات ليبية خاصة مدينة سرت بأنهم «مرتدون»، وذلك بعد أن تركت قيادات جزائرية ومالية من «داعش سرت» خطوط القتال وفرت إلى خارج ليبيا خلال الأسبوعين الماضيين.
وبينما بدأ التنظيم في تنفيذ عملية واسعة لإعادة الانتشار بين قياداته وعناصره حمَّل منظرون تابعون له مسؤولية الخلافات إلى من يروّجون لـ«الديمقراطية والقبول بحكومات لا تحكم بما أنزل الله»، على حد وصفهم. وشارك في شن هذه «الحملة الفقهية» عدد من منظّري التنظيم من بينهم خطَّاب المُهاجر ومعاذ البرقاوي. وجرى توزيع منشورات على نطاق واسع في مواقع يسيطر عليها «داعش» في وسط ليبيا وغربها.
كفّر «داعش ليبيا» وخوّن منشقين عنه، في أعقاب فرار مجموعات أغلبها من العناصر الجزائرية والمالية، من الجبهات التي كانت تتمركز فيها، خاصة في مدينة سرت التي بدأت تتعرض لحملة عسكرية من الجيش الليبي ومن قوات تابعة لمدينة مصراتة أو ما كان يعرف باسم قوات «فجر ليبيا».
وكذلك مجاميع داعشية كانت فارة من مواقع الاشتباكات مع الجيش في درنة وبنغازي، إلى العاصمة، لما وصفه التنظيم بـ«الانقلاب عليهم» من جانب «إخوة في طرابلس كنا نظن أنهم يقفون مع المجاهدين والمهاجرين».
وطافت سيارات تابعة لـ«داعش» في وسط مدينة سرت ووصلت إلى جبهات يتمركز فيها مقاتلو التنظيم، ووزعت منشورات ومطويات ورقية على المقاتلين وكوادر التنظيم، وحذرت فيها من مغبة أي تأثر بمن «تركوا الساحة وأظهروا خيانة»، بينما أفادت مصادر تعمل بالقرب من العناصر المتطرفة في ليبيا أن كبار قادة «داعش» في كل من سرت وطرابلس، أصيبوا بارتباك بعد هروب كوادر جزائرية ومالية.
وتابعت المصادر قائلة إن أحد قادة التنظيم في سرت ويدعى «أبو أنس»، أبلغ من يطلق عليه «أمير إمارة طرابلس» في «داعش»، ويلقب بـ«المدهوني»، بهروب مقاتلين من المدينة وأنهم عادوا إلى بلادهم التي كانوا قد جاءوا منها قبل عدة أشهر. ووفقا للمصادر، تأكد لدى تنظيم داعش في سرت أن عشرات من الجزائريين والماليين ممن طلبوا زيارة ذويهم في بلادهم، على أن يعودوا مرة أخرى، لم يعودوا في الموعد المقرر لهم وهو منتصف شهر مارس (آذار) الماضي.
ونفض التنظيم يده من هؤلاء باعتبارهم «فارين»، بحلول يوم التاسع من أبريل (نيسان) الماضي، وذلك حين قرر «أبو أنس» أن يستبعد فرضية حدوث تأخير من جانب من تركوا سرت لأي أسباب طارئة. وأبلغ القيادي الداعشي في سرت «أمير طرابلس» بأن الأمور في المدينة ليست على ما يرام، قائلا إن الإخوة الذين سافروا من سرت إلى الجزائر، وكان من المفترض أن يعودوا يبدو أنهم قرروا البقاء في بلادهم، ويبدو أنهم انشقوا علينا، وكذلك مجموعة الدواعش الماليين الذين سافروا لزيارة بلدهم، لم يرجعوا، وانقطع الاتصال بهم.
وبعد يوم التاسع من أبريل، وبحسب إفادات من مصادر قريبة من الجماعات المتطرفة، قرر التنظيم قطع صلته بالهاربين من سرت، ووصف «أمير إمارة طرابلس» من تركوا المدينة، بأنهم «جبناء» وأنه كان في داخلهم نوايا بالخيانة، سواء ظلوا مع التنظيم في سرت أو انشقوا عنه كما حدث. وبعد مشاورات بين قيادات «داعش» جرى التوصل إلى نظرية لامتصاص الصدمة التي خلفتها حادثة الفرار في هذه الظروف. وتقول النظرية إن «عدم بقائهم مع التنظيم أفضل من بقائهم داخله وهم يضمرون نوايا أخرى تضر الإخوة» في «داعش».
أما الردود المكتوبة على المنشقين على التنظيم، والتي جرى توزيعها على العناصر الداعشية في عدة مناطق في ليبيا، فقد ألقت باللائمة على تنظيم «القاعدة» في المنطقة، وتطرقت في الشروح والتنظير إلى أن تأثير القاعدة على عناصر «داعش»، لا يقتصر على سرت وطرابلس فقط، بل هو منتشر في مناطق أخرى منها العراق وسوريا وأفغانستان. وتطرق خطَّاب المهاجر في رسالة طويلة إلى المفاوضات الجارية بين الأطراف الليبية للوصول إلى حكومة وفاق وطني، بـأنها «إجراءات كفرية»، مهاجما في الوقت نفسه القيادات الدينية الليبية التي تدعو إلى سرعة صياغة دستور للبلاد، بدلا من الانضمام إلى دعوة التنظيم بتحكيم «شرع الله» بدلا من «دستور وضعي»، بحسب توصيفه.
وبعد انشقاقات دواعش ليبيا نقلت منشورات التنظيم الورقية خطابا تنظيريا آخر مطولا بتوقيع معاذ البرقاوي شن فيه هجومًا حادًا على الجيش الوطني الليبي بقيادة الفريق أول خليفة حفتر، وعلى قوات «فجر ليبيا». ويبدو أن هذه المنشورات، التي وزعت كميات كبيرة منها في اجتماع للدواعش في قاعة واغادوغو بمدينة سرت، أواخر الشهر الماضي، تسعى لشحذ همم باقي عناصر التنظيم في المدينة، وغالبيتهم من التونسيين والسودانيين والمصريين.
ويبدو أن معالم القلق بدأت تنتشر بين صفوف تنظيم داعش في ليبيا قبل نحو شهر من إعلان الجيش عن نيته اقتحام مدينة سرت وطرده منها. ووفقا للمصادر، جرت مشاورات بين قادة تابعين للتنظيم في طرابلس حول هذا الموضع قبل ثلاثة أسابيع، أي أثناء الانتصارات التي حققها الجيش ضد الدواعش في مدينتي درنة وبنغازي. وتطرقت هذه المشاورات إلى جدية الجيش في التحرك من بنغازي إلى سرت. وحتى أسبوعين ماضيين، لم يضع التنظيم في حسبانه أنه يمكن أن يتعرض للحصار في أهم معاقله في تلك المدينة المعروفة بأنها مسقط رأس معمر القذافي.
وقال مصدر على علاقة بالجماعات المتطرفة في العاصمة إن «أمير ولاية طرابلس»، التي تضم سرت ومناطق غرب البلاد، رفض أخذ التحذيرات التي وصلته مبكرًا بخصوص تحركات الجيش مأخذ الجد. ورد على مساعديه حينذاك بالقول إن ما يتردد حول هذا الموضوع ما هو إلا محاوله ممن سماهم «دعاة الكفر والمناهضين للإسلام» لتفريع طرابلس من عناصر التنظيم واستدراج مقاتليه في غرب البلاد إلى سرت، عن طريق تسريب أخبار عن استعداد الجيش للتوجه إلى هناك.
واتضح فيما بعد أن تقديرات «أمير طرابلس» لم تكن دقيقة لا بالنسبة للجيش ولا بالنسبة لميليشيات مصراتة التي أعلنت هي الأخرى محاربة التنظيم. وإلى جانب حركة الانشقاقات داخل «داعش» في سرت، بدا التنظيم في أسوأ أحواله سواء على مستوى القيادة أو على الأرض.
مشكلة خلافات تنظيم داعش في سرت لم تقتصر على الداخل فقط، بل امتدت إلى قيادات التنظيم في الخارج، والتي يبدو أنها اضطرت للتدخل في محاولة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، بعد واقعة هروب المقاتلين الجزائريين والماليين من صفوف «داعش» سرت. وبحسب معلومات من قيادات في ميليشيات طرابلس، تلقى «داعش ليبيا» وعودا من قيادات التنظيم في العراق، بشحن عناصر متطرفة آتية من ماليزيا ومن السودان ومن موريتانيا، من أجل تعويض نقص الكوادر في سرت، والوقوف ضد النزعات الانفصالية المتنامية بين باقي المقاتلين الذين يرابطون في المدينة منذ نحو سنة.
وعقب هذه الوعود بعدة أيام لوحظ في طرابلس الغرب أن طلائع الدواعش بدأت تصل عبر محورين: الأول الطريق البري الجنوبي، والثاني مطار معيتيقة الموجود قرب العاصمة. ومن بين القيادات التي دخلت من مطار معيتيقة مع عناصر داعشية غير ليبية، ورصدتها الجهات المختصة في طرابلس، سوداني يلقب باسم «العين». ولقد جرى توجيهه بمن معه من مقاتلين إلى سرت، بعدما أقام لفترة للاستراحة في معسكر تابع لـ«داعش» بمنطقة القربولي في العاصمة. وبحسب المصادر انطلق «العين» وعشرات من المقاتلين القادمين من الخارج، من طرابلس، عبر البحر إلى سرت.
وللتغلب على فرار العشرات من العناصر الداعشية إلى خارج ليبيا، جرى أيضا توجيه مجاميع تابعة للتنظيم كانت تتلقى التدريبات في معسكرات في غرب طرابلس، للالتحاق بسرت وتعويض النقص فيها. ويدور عدد المقاتلين في سرت حول الثلاثة آلاف عنصر غالبيتهم من العرب والأجانب والليبيين، ويبدو أن المهم بالنسبة للتنظيم هو القادة والكوادر الوسطى، وهذه الشريحة يظهر أنها تأثرت إلى حد كبير بعد فرار الجزائريين والماليين، وبعض الجنسيات الأخرى التي لم تتمكن المصادر من تعريفها على وجه الدقة.
وأصدر تنظيم داعش في «إمارة طرابلس» تعليمات مشددة لقادته في سرت بعدم الخوض في قصة المنشقين أو موضوع رحيل قادة وكوادر عن المدينة. وفي رسالة من هذا النوع شدد التنظيم على أنه محظور على القادة في سرت التحدث في العلن عن «حالة التنظيم، أو تدارس ما يحصل في صفوفه».
وتتميز العناصر الداعشية التي كانت في معسكرات تدريب معزولة في غرب طرابلس، بأنها لم تتأثر بالجدل الدائر في سرت حول جدوى الاستمرار في القتال بعد هزائم درنة وبنغازي. وقال مصدر يتعامل مع المتطرفين ويقيم في سرت إن غالبية المجاميع الداعشية التي انشقت وتركت المدينة كانوا يتبعون قياديا في سرت يدعى «الشيخ سيَّاف»، ومعظم هؤلاء جزائريون، أما المجموعة المالية التي انشقت وغادرت سرت أيضا فكانت تتبع قيادي في المدينة يدعى «أبو الليث».
وعلى أثر هذه التطورات ظهرت أسماء جديدة في سرت، بمن في ذلك أسماء جزائرية لم تكن معروفة من قبل، تختلف عن المجموعة التي كانت تتبع «الشيخ سيَّاف»، ومن بين هؤلاء قيادي جزائري كان ينشط في غرب طرابلس يدعى «عبد العظيم». وتشير المصادر إلى أن «عبد العظيم» محل ثقة لدى «داعش»، لأنه سبق وسافر إلى الجزائر وعاد عدة مرات. وهو «من المخلصين للتنظيم».
وبمجرد تمركزه في سرت، بدأ «عبد العظيم» في جمع عدد من القادة لترتيب الأوضاع ولم شمل الدواعش في المدينة، وبعد عدة أيام من دراسة الأمر طلب من قادة طرابلس إرسال شاحنات محملة بالأسلحة والمؤن الغذائية إلى سرت، وأمر أيضا بمبرّدات متحركة (محمولة على سيارات كبيرة) لحفظ الطعام والأدوية وتوفير المياه الباردة، بسبب عدم انتظام التيار الكهربائي في المدينة. وقبل عدة أيام وصلت إلى سرت بالفعل كميات كبيرة من الأسلحة والتمور والطحين.
كذلك واصل «داعش»، منذ أواخر الشهر الماضي، إرسال مجموعات جديدة غالبيتها من التونسيين والمصريين إلى سرت. منها مجموعة كانت تتدرب قرب الحدود التونسية بقيادة ليبي يسمى «أبو طلحة»، وانتقلت في زوارق بحرية من ميناء مدينة الخُمس قرب طرابلس إلى سرت. وتولى قيادي آخر يلقب بـ«كشلاف» عملية توجيه مقاتلين دواعش كانوا يتدربون في منطقة اسمها «قطيس» غرب العاصمة الليبية، إلى سرت. وتتكون هذه المجموعة من نحو أربعين مقاتلا من المصريين والتونسيين أيضا، وهم مسلحون بالأسلحة الخفيفة والمتوسطة.
وبالتزامن مع حملة توزيع المنشورات، لبث الحماس و«الثبات» بين مقاتلي التنظيم، واصل «داعش» شن هجوم شديد اللهجة على من كانوا يتعاونون معه من العناصر ذات الخلفيات المرتبطة بتنظيم «القاعدة» وجماعة الإخوان. وقالت المصادر إن قيادات كثيرة ظهرت لأول مرة على السطح في سرت معظمها من الأفارقة خاصة تنظيم «بوكو حرام» الموالي لـ«داعش». ويوجد قيادي آخر أصبح له دور لافت للنظر بعد هروب كثر من الجزائريين والماليين، وهو صومالي الجنسية يدعى «أبو عبد الله»، ومعروف عنه أنه غير متعمق في العلوم الدينية، ومحترف في أجهزة الاتصال الحديثة، وسريع الغضب ولا يتقبل المزاح.
وفي كلمات حماسية وجهها البرقاوي لخصوم التنظيم وعلى رأسهم الجيش الليبي، حذر من «التورط» في قتال، وأضاف: «عليكم أن تتعلموا مما حصل لأميركا في العراق». ودعا إلى تأمل حال كل من قاتل التنظيم في العراق وسوريا وزعم أنهم أصبحوا اليوم قتلى أو أسرى أو مطاردين. ولوحظ من منشورات «داعش» أن عناصر التنظيم تأثرت باللغط الدائر عن توجهات قادته واحتمال تورطهم في علاقات خفية مع جماعات أخرى في ليبيا لا تؤمن بفكره. وقال إن من يروجون لمثل هذه الأمور «يروجون افتراءات».
رغم كل هذه المحاولات النظرية والعملية، إلا أن الخلافات داخل صفوف «داعش ليبيا» خاصة سرت، تجاوزت مرحلة الانشقاق والهروب، ووصلت إلى منعطف أخطر من كل التجارب السابقة، ألا وهو تنفيذ بعض القيادات في سرت لعمليات قتالية دون تنسيق مع زعماء التنظيم، ودون تنسيق مع باقي المجاميع الداعشية في المدينة. جرت واقعة من هذا النوع على تخوم سرت ضد بوابة كان يسيطر عليها تنظيم تابع لمدينة مصراتة، ما أدى إلى سقوط قتلى من الجانبين. وقال مصدر قريب من دواعش سرت، إن القيادات في طرابلس فوجئت بالعملية التي هاجم فيها التنظيم البوابة على تخوم مصراتة، وحين اتصل بـ«أبو عبد الله» الصومالي، الذي يتمركز بالقرب من المنطقة، لمعرفة ما حدث قال إنه لم يصدر أي أوامر وأنه لا يعرف من أعطى الإشارة بالهجوم.
وجرى تعنيف الصومالي وثلاث قيادات أخرى بينهم مصري يدعى «أبو أحمد». وقال زعيم التنظيم في «ولاية طرابلس» لقيادات سرت، وفقا لمصادر على صلة بالمتطرفين في المدينة: أنا لست ضد سحق العدو. أنا ضد عمليات غير مدروسة.. فردية، تشجع الكل على عدم طاعة ولي الأمر. هذه خيانة.



2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
TT

2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)

مبكراً جداً بدأت العمليات الإرهابية في العام الجديد 2020، وربما استغلت الخلايا الإرهابية القائمة والنائمة حالة الارتباك الحادثة في الشرق الأوسط والخليج العربي وشمال أفريقيا، لا سيما أزمة المواجهة الإيرانية - الأميركية الأخيرة، وما يحدث على سطح البحر الأبيض المتوسط من أزمات، مثل المحاولات التركية لإرسال قوات عسكرية إلى ليبيا... نقول استغلت تلك الجماعات المشهد، وها هي آخذة في النمو السيئ السمعة مرة جديدة، وإن كانت كالعادة الأيادي التركية والقطرية وراءها وتدعمها لأهداف لا تخلو عن أعين الناظر المحقق المدقق في المشهد الآني: ماذا عن تلك العمليات؟ وما دلالاتها في الحال والاستقبال وتجاذباتها وتقاطعاتها مع الدعم التركي والقطري الذي لا يتوقف؟

المتابع لشأن الإرهاب حول العالم يمكنه -بسهولة ويسر- رصد الاعتداء الإرهابي الذي حدث على قاعدة عسكرية في مالي، وكذا تعرض مسجد في باكستان لعمل هجومي من جماعات متطرفة، وصولاً إلى مهاجمة معسكر للجيش في نيجيريا.
إرهاب 2020 إذن به مسحات جديدة من التعرض لدور العبادة الإسلامية، الأمر الذي أودى بحياة 12 شخصاً، وهو أمر وصفته الحواضن الإسلامية الشرعية في المنطقة بأنه عمل إجرامي آثم يخالف دين الإسلام، بل يخالف كل الأديان التي دعت إلى حماية دور العبادة وحرمتها والدفاع عنها، وهو ما يؤكد أيضاً أن الإرهاب لا يرعى حرمة دين أو وطن، كما أنه يهدف إلى زعزعة استقرار البلاد، والإضرار بالعباد في كل مكان وزمان.
ولعل التفجير الإرهابي الثاني في هذا الحديث هو ما يقودنا إلى قصة الساعة، وما يجري لتحويل أفريقيا إلى موقع وموضع لحاضنة إرهابية، حكماً ستكون الأكبر والأخطر من تجربة دولة الخلافة المزعومة في العراق وسوريا، المعروفة بـ«داعش».
وجرى ذلك العمل الإرهابي على أراضي جمهورية مالي التي باتت يوماً تلو الآخر تتحول إلى بؤرة إرهابية كبرى، لا سيما جراء تنوع وتعدد الجماعات الإرهابية القائمة على أرضها. فقد تم استهداف قاعدة عسكرية نهار الخميس التاسع من يناير (كانون الثاني) الحالي، وأسفر عن إصابة 20 شخصاً، بينهم 18 من قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة. وقد وقع التفجير في منطقة تساليت بإقليم كيدال، شمال جمهورية مالي.
هل كانت تلك العملية الأولى من نوعها في مالي؟
بالقطع الأمر ليس كذلك، ففي أوائل نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، أعلن تنظيم داعش في منطقة الصحراء الكبرى مسؤوليته عن الهجمات الإرهابية التي وقعت هناك، وأودت بحياة 53 جندياً مالياً ومدنياً واحداً، وفق حصيلة رسمية، و70 جندياً، وفق الحصيلة التي أعلن عنها التنظيم الإرهابي الذي تبنى أيضاً هجوماً في المنطقة نفسها، قتل فيه جندي فرنسي.
وكان واضحاً من بيان «داعش» أن مالي تحولت إلى مركز متقدم على صعيد عمليات الإرهاب، إذ أعلن التنظيم، في بيان له عبر تطبيق «تلغرام»، أن من يطلق عليهم «جنوده» استهدفوا رتل آليات للقوات الفرنسية بالقرب من قرية انديليمان، بمنطقة ميناكا، شمال شرقي مالي، بتفجير عبوة ناسفة. كما أعلن التنظيم في بيان منفصل أن مقاتليه «هاجموا قاعدة عسكرية يتمركز فيها جنود من الجيش المالي».
ولا يستهدف إرهابيو «داعش» وبقية الجماعات الإرهابية في تلك المنطقة القوات الفرنسية فحسب. ففي وقت سابق من سبتمبر (أيلول) من العام الماضي أيضاً، تم استهداف ثكنات عسكرية في بولكيسي، قتل فيها 40 جندياً مالياً، وفق الحصيلة الحكومية، وإن كانت هناك حصيلة أخرى غير رسمية تشير إلى أن الخسائر أكبر من ذلك بكثير.
ويخشى المراقبون من أن يكون الإرهاب قد جعل من مالي قاعدة متقدمة له، رغم الرفض والتنديد الشعبيين هناك بتلك الجماعات المارقة التي أضحت تتمركز على الشريط الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، الأمر الذي وصفه الإمام محمود ديكو بأنه «نزف تعيشه مالي، ولا يمكن أن يستمر طويلاً». وقد سبق أن دعا ديكو إلى ضرورة فتح حوار وطني يشارك فيه جميع الماليين لتوحيد الصفوف في وجه الإرهاب، وهو الذي سبق أن تفاوض مع الإرهابيين للإفراج عن رهائن، من ضمنهم جنود ماليون.
ولعل المراقبين لشأن هذه الجمهورية الأفريقية التي باتت مصدر خوف وقلق لبقية القارة الأفريقية يتساءلون عن السبب الرئيسي الذي جعل منها خلفية للإرهاب الأممي، يخشى معها أن تمثل مع النيجر والصومال وكينيا مربع قوة ونفوذاً غير تقليدي يستنهض أوهام ما أطلق عليه الخلافة في فكر «الدواعش»، وغيرهم من جماعات التكفير، لا التفكير.
البداية في واقع الحال تنطلق من التركيبة الديموغرافية لهذا البلد، فهي مليئة بالأعراق التي تكاد عند نقطة بعينها تضحى متقاتلة، ففيها مجموعة الماندي التي تشكل نحو 50 في المائة من إجمالي السكان، والطوارق والعرب الذين يشكلون نحو 10 في المائة، والفولتايك الذين يشكلون 12 في المائة، والسنغاري بنسبة 6 في المائة، والبول الذين يشكلون 17 في المائة، بالإضافة إلى مجموعات عرقية أخرى تشكل ما نسبته 5 في المائة.
ويمكن القطع بأن الجماعات الأصولية المختلفة قد أجادت العزف السيئ على مسألة الأعراق المالية المختلفة، وجعلت منها نقطة انطلاق لتقسيم المجتمع المالي، وتجزئته عبر تنويع وتعدد الانتماءات الإرهابية، الأمر الذي أدى إلى وقوع 270 هجوماً إرهابياً في جمهورية مالي خلال الأشهر الثلاثة الماضية، والعهدة هنا على التقرير الأممي الصادر عن الأمم المتحدة الذي أشار إليه الأمين العام أنطونيو غوتيريش، مؤكداً أن حصيلة تلك الهجمات قد بلغت 200 قتيل من المدنيين، و96 مصاباً، إضافة إلى اختطاف 90 آخرين، لافتاً إلى أن 85 في المائة من الهجمات المميتة وقعت في منطقة موبتى، حيث قتل خلالها 193 من القوات المسلحة، وجرح 126.
وفي هذا الإطار، كان من الطبيعي أن تشهد مالي حالة من حالات انعدام الأمن، بعد أن سيطرت جماعات مرتبطة بتنظيم «القاعدة» على مناطق واسعة من شمال مالي، قبل أن يتدخل الفرنسيون والأفارقة لطرد هذه الجماعات من المدن الكبرى، وإن كانت الأخيرة تشن حرب عصابات منذ ذلك الوقت كبدت الفرنسيين والأفارقة والجيش المالي خسارة كبيرة.
ولم تكن مالي بطبيعتها المهترئة اجتماعياً لتغيب عن أعين الدواعش الذين دخلوا على الخط عام 2015، عندما أعلن المدعو أبو الوليد الصحراوي الانشقاق عن جماعة «المرابطون»، وتشكيل تنظيم جديد بايع تنظيم داعش، سماه «تنظيم داعش في الصحراء الكبرى».
وخذ إليك، على سبيل المثال، بعضاً من تلك الجماعات التي باتت تغطي ثلثي الجهورية المالية منذ عام 2012، وفي المقدمة منها «جماعة التوحيد والجهاد». وقد كان حصان طروادة بالنسبة إليها، وما تسبب في انتشارها في البلاد، حالة الفوضى والارتباك التي أعقبت الانقلاب العسكري الذي حدث في 22 مارس (آذار) 2012. فقد برزت على السطح في هذا التوقيت، وتمكنت من احتلال شمال مالي. ويرى محللو شؤون الإرهاب الدولي في القارة الأفريقية أنه أحد أكثر التنظيمات رعباً، لكونه مسلحاً وممولاً بشكل جيد، فضلاً عن قيامه بتكثيف عملياته الإرهابية منذ ظهوره، وتمركزه في الهضبة الصحراوية الشاسعة الممتدة في منطقة تساليت، وفرض سيطرته بلا منازع على عدد من القرى في تلك المنطقة.
ولم تكن جماعة «التوحيد والجهاد» بعيدة بحال من الأحوال عن تنظيم القاعدة، غير أنها انفصلت عنها وانتشرت في بلاد المغرب الإسلامي، تحت دعوة نشر فكر «الجهاد» في غرب أفريقيا، بدلاً من الاكتفاء فقط بمنطقة الغرب أو منطقة الساحل.
ويمكن للمرء أن يعدد أسماء كثيرة من التنظيمات الإرهابية على الأراضي المالية، مثل جماعة أنصار الدين، وهذه لها جذور عميقة في المجتمع المالي، ولذلك تضم ما بين 5 آلاف و10 آلاف عضو مزودين بأسلحة متقدمة.
وعطفاً على ذلك، يلاحظ المراقبون جماعات أصولية، وإن كانت أقل قوة من حيث العدة والعتاد، إلا أنها أخطر من جانب الأساس العقائدي، مما يجعل فرص ارتقائها أكبر وأوسع.
ومع تصاعد عمليات الإرهاب في مالي، وما حولها من دول جميعها مرتبطة بعقد واحد من الأصوليات الخبيثة، يبقى البحث عمن يزخمها ويساندها أمر واجب الوجود، كما تقول جماعة الفلاسفة.
أما الجواب فهو يسير. ففي 25 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، أعلنت الإدارة العامة للأمن الوطني في النيجر عن القبض على مجموعة إرهابية تتكون من 3 أشخاص، يحمل 2 منهم الجنسية التركية، بالإضافة إلى متعاون محلي من مواطني النيجر.
ويضحي من الطبيعي القول إن اعتقال أتراك في النيجر يفتح ملف الإرهاب التركي - القطري في العمق الأفريقي، ويثير من جديد قضية نقل الإرهابيين إلى طرابلس دعماً للميليشيات الموالية لقطر وتركيا في ليبيا، في مواجهة الجيش الوطني الليبي.
ويوماً تلو الآخر، يثبت للعالم أن هناك أكثر من ستار تختبئ تركيا من وراءه، وبتمويل قطري لا يغيب عن الأعين، في محاولة متجددة لا تنقطع من أجل إعادة إنتاج مشروع الخلافة الوهمي، حتى إن كلف ذلك أكثر من دولة أفريقية أمنها وأمانها.
ومن عينة الستر التي تختبئ تركيا وراءها: «الهلال الأحمر التركي»، و«الوكالة التركية للتعاون والتنسيق». أما قطر، فمنذ أمد بعيد تستخدم جمعية «قطر الخيرية» ستاراً لاستقطاب الإرهابيين والمرتزقة لدعم الميليشيات في طرابلس.
ومؤخراً، كان موقع «انفيستجتيف بروجكت» الأميركي المتخصص في إلقاء الضوء على القضايا الإرهابية يكشف عن العلاقة التي تربط بين المثلث الجهنمي الإخواني بأذرعه المختلفة، لا سيما في الولايات المتحدة الأميركية، وجمعيات تركيا الخفية التي تعمل تحت ستار الأعمال الخيرية، والرابط الأكبر المتمثل في الدعم المالي القطري لهما، وهي قصة يضيق المسطح المتاح للكتابة عن سردها وعرضها، وإن كانت باختصار تبين أن العمق الأفريقي هو مكمن خطر الإرهاب العالمي في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين.
ومؤخراً، تتحدث واشنطن عن انسحاب قواتها المسلحة من القارة الأفريقية، بذريعة التفرغ لملاقاة روسيا والصين حول العالم، وتالياً ترفض ألمانيا المشاركة بجنود في القوة الأوروبية التي تقودها فرنسا في الساحل الغربي الأفريقي لمواجهة خطر الإرهاب... فهل يعني ذلك أن هناك فصلاً جديداً من فصول نماء الإرهاب الدولي في ظل غض الطرف عنه؟!
آفة حارتنا النسيان. والذين لدغوا من ثعبان الإرهاب من قبل يبدو أنهم لم يتعلموا الدرس بعد.