«خاتم».. بفتح التاء أو بكسرها؟

طبعة جديدة من رواية رجاء عالم بتقديم توفيق بكار

«خاتم».. بفتح التاء أو بكسرها؟
TT

«خاتم».. بفتح التاء أو بكسرها؟

«خاتم».. بفتح التاء أو بكسرها؟

كما عودتنا الكاتبة السعودية رجاء عالم في أعمالها السابقة في «موقد الطير»، و«الموت الأخير للممثل»، و«طريق الحرير»، و«نهر الحيوان»، خصوصًا الحائزة على جائزة البوكر العربية - على أسلوبها الفريد في الكتابة، بجملها المفتولة، المعروكة، المصاغة بنفس طويل التي تعيدك إلى أولها، كلما انتهيت إلى آخرها لتتمعن برصف كلماتها التي تأتيك مبهمة كمطرقة على الرأس فتفتنك بعد قراءات عدة.
بناء متن قائم على كتمان، لا يكشف عن مكنون كنهه إلا بعد قطع الأنفاس، وتحفيز الحواس. سرد بلا عقدة واحدة، بل بعقد مترابطة، متراكبة، تدعك تفككها وليس لك منها انفكاكا. تشدك بسحر الكلمات، والكلمات من عقد السحر. وبأجواء أم القرى، سيدة المدن وأقدسها، تأخذك محرمًا لتحج في البيت العتيق، وتتنسم روائح البخور والعطور من دكاكينها، وشوارعها الملتوية المحصورة بين جبلين.
في آخر إصدار لها عن دار الجنوب التونسية، رواية لا تقل إمتاعًا، وإبداعًا، وقطع أنفاس عن سابقاتها، ولفرط الإمتاع والإبداع قدم لها الكاتب والناقد التونسي توفيق بكار - الذي لا يسرف بمقدمة من مقدماته الشهيرة إلا بعد قناعة باستحقاق العمل الأدبي.
عنوانها كلمة واحدة «خاتم» مبهمة المعنى لخلو تائها من كسر أو فتح، فلا هي «خاتم» بفتح التاء، ولا هي «خاتم» بكسرها ليستقيم المعنى المقصود: أهو اسم لذكر، أم اسم لأنثى، ولا يمكن فك اللغز الكامن وراء كسر أو فتح إلا بعد تتبع «بطل» أو «بطلتها» بحركاتها، وسكناتها، أو حركاته، وسكناته، فهو تارة ذكر، وتارات أنثى، أو ربما بين بين.
وقائعها في مكة المكرمة، وزمانها في أواخر العهد العثماني من القرن ما قبل الماضي، تدور أحداثها حول رغبة الشيخ «نصيب» (تاجر رق غني) الجامحة بأن يرزق بولد ذكر يحمل اسمه بعد أن فجع بمقتل ذكوره الخمسة الذي أنجبتهم زوجته سكينة توائم من ذكر وأنثى، سلمت الإناث منهم، ومات الذكور في حروب طاحنة، وضروب أمراء متناحرين من ذاك الزمان كلما أرخى الباب العالي سلطانه. وبعد أن وصل به اليأس إلى ما وصل دون أن تعلق زوجته بولد عزم تبني «سند» وليد زوجين من عبيده (فرج وشارة). وإذ لم يكف التبني ليكون سندًا في شجرة العائلة، عزم على إرساله إلى أخته النفساء كي يرضع حليبها مع رضيع، فيكون بذلك ابنا وأخا بالرضاعة يسري في عروقه حليب العائلة.
سنوات ثلاث مضت على سند، شاءت الإرادة الإلهية أن تحمل سكينة، زوجة نصيب، وتضع وليدا (خاتم) من غير قابلة وفي كتمان شديد على جنس المولود لسبب منهما مبهم الكنه. وهنا تبدأ الحيرة، والشك والعقدة في ذهن القارئ. لماذا هذا التكتم، ولماذا هذا الاسم (خاتم)، ويبحث عن فك اللغز بالتتبع الحذر لمجرى الأحداث التي تجري في سرد حذر، وملتوٍ، قصد حبس الأنفاس والتمسك بحبل المتابعة إلى آخر اللغز.
كانت الأم تظهر وليدها بثياب الإناث فهي خاتم - بفتح التاء – (ما يختم على شيء نفيس)، تدخل الكاتبة رجاء العالم شخصية أخرى تنافس سند وتناقضه في الخير والشر (هلال)، وهو ابن زوجين من عبيد الدار، الذي فتن بخاتم وراح يجذبها وتجذبه، ويتبع حركاتها وسكناتها، ويرصد لمعة الذكاء في عينيها.
ذات يوم جمعة طلب نصيب من زوجته أن تحمم خاتم وتعطرها وتكسوها كسوة الفتيان، بعد أن قطعت سنين الطفولة، ليأخذها إلى المسجد، فخال الناس أن الشيخ تبنى ربيبا آخر بعد سند، فهو «خاتم» - بكسر التاء - (لأنه خاتم الذرية)، وبات الفتى أو الفتاة تعيش ازدواجية الجنس، فهي في البيت خاتم، أنثى، وفي الشارع خاتم، ذكر، متأرجحة في علاقاتها بين سند الخير الطيب الملائكي، وهلال الشرير اللعوب الشيطاني الذي لا يأبه لمحظور، وبين الأنوثة هنا، والذكورة هناك.
ذات يوم شدّ هلال خاتم وهي بزي الفتيان إلى قعر المدينة، إلى وجهها المعتم، لترى بعينيها، وتلمس بيديها كيف جمع أبوها ثروته من تجارة الرق، وبؤس التعساء.
تصف لنا الكاتبة في هذا المقام مدينة أم القرى، في ذاك الزمان، وتجعل خاتم تتردد على «دحيرة عساس» بعد أن جذبها شوق سماع الموسيقى والضرب على أوتار العود وصوت شجي يغني شعرًا صوفيًا في حضرة بنات الدار اللاتي جئن من أصقاع الأرض الأربعة، ورد التركية، ودانة القحطانية، وهاجر الحبشية، وفرح الأعجمية.
يا ريح قولي للرشا
لم يزدني الورد إلا عطشا
لي حبيب حبه وسط الحشا
إن شاء يمشي على الرمش مشا
روحه روحي وروحي روحه
إن شاء شئت وإن شئت يشا
ولما ارتخت يد آل عثمان، وضعف شأنها، دارت بين أميرين حروب طاحنة انتصر أحدهما على الآخر، ثم عاد الآخر فتغلب عليه. فتحصن الشيخ نصيب في داره مع آله وأوصد الأبواب، لكن هلال الشقي الذي دخل الدار مسرعا فارًا من الجند وعليه شارة الأمير القتيل المهزوم دل جنود الأمير المنتصر على الدار فاقتحموها وقتلوا «سندا» الذي اعترضهم للدفاع عن النساء، ثم جاءت طائفة أخرى من الجند يبحثون عن فتى يتنكر بزي النساء فعاد الجميع إلى بيت نصيب يتحققون من الذكر المندس بين النساء، فأخرجوا النساء صفا صفا، أمام أعين نصيب المذهول، وراحوا يدسون أيديهم في السراويل وما بين الأفخاذ يتلمسون حتى إذا وصلوا إلى خاتم وكشفوا عن العورة، ورأوا ما رأوا غشيت الأم سكينة، وصعق الأب نصيب، وذهل هلال، وعرف أنه انخدع بأنثى ليست بأنثى، فوثب نحو خاتم فعاجلته رصاصة أردته قتيلا، ثم أطلقوا أخرى على خاتم فخر صريعا على جثة هلال. وخاب مسعى الأب في إخفاء ذكورة ولده خوفا عليه وحمايته من الأمراء المتحاربين، لكن قدره كان أن يبقى دون وريث يحمل اسم العائلة فلا ابن عاش ولا ربيب.



أربعة أيام في محبة الشعر

أربعة أيام في محبة الشعر
TT

أربعة أيام في محبة الشعر

أربعة أيام في محبة الشعر

أربعة أيام في محبة الشعر، شارك فيها نحو 40 شاعراً ومجموعة من النقاد والباحثين، في الدورة التاسعة لمهرجان الشعر العربي، الذي يقيمه بيت الشعر بالأقصر، تحت رعاية الشيح سلطان القاسمي، حاكم الشارقة، وبالتعاون بين وزارة الثقافة المصرية ودائرة الثقافة بالشارقة، وبحضور رئيسها الشاعر عبد الله العويس، ومحمد القصير مدير إدارة الشئون الثقافية بالدائرة.

نجح المؤتمر في أن يصنع فضاء شعرياً متنوعاً وحميمياً، على طاولته التقت أشكال وأصوات شعرية مختلفة، فكان لافتاً أن يتجاور في الأمسيات الشعرية الشعر العمودي التقليدي مع شعر التفعيلة وقصيدة النثر وشعر العامية، وأن يتبارى الجميع بصيغ جمالية عدة، وتنويع تدفقها وطرائق تشكلها على مستويي الشكل والمضمون؛ إعلاء من قيمة الشعر بوصفه فن الحياة الأول وحارس ذاكرتها وروحها.

لقد ارتفع الشعر فوق التضاد، وحفظ لكل شكلٍ ما يميزه ويخصه، فتآلف المتلقي مع الإيقاع الصاخب والنبرة الخطابية المباشرة التي سادت أغلب قصائد الشعر العمودي، وفي الوقت نفسه كان ثمة تآلف مع حالة التوتر والقلق الوجودي التي سادت أيضاً أغلب قصائد شعر التفعيلة والنثر، وهو قلق مفتوح على الذات الشعرية، والتي تبدو بمثابة مرآة تنعكس عليها مشاعرها وانفعالاتها بالأشياء، ورؤيتها للعالم والواقع المعيش.

وحرص المهرجان على تقديم مجموعة من الشاعرات والشعراء الشباب، وأعطاهم مساحة رحبة في الحضور والمشاركة بجوار الشعراء المخضرمين، وكشف معظمهم عن موهبة مبشّرة وهمٍّ حقيقي بالشعر. وهو الهدف الذي أشار إليه رئيس المهرجان ومدير بيت الشعر بالأقصر، الشاعر حسين القباحي، في حفل الافتتاح، مؤكداً أن اكتشاف هؤلاء الشعراء يمثل أملاً وحلماً جميلاً، يأتي في صدارة استراتيجية بيت الشعر، وأن تقديمهم في المهرجان بمثابة تتويج لهذا الاكتشاف.

واستعرض القباحي حصاد الدورات الثماني السابقة للمهرجان، ما حققته وما واجهها من عثرات، وتحدّث عن الموقع الإلكتروني الجديد للبيت، مشيراً إلى أن الموقع جرى تحديثه وتطويره بشكل عملي، وأصبح من السهولة مطالعة كثير من الفعاليات والأنشطة المستمرة على مدار العام، مؤكداً أن الموقع في طرحه الحديث يُسهّل على المستخدمين الحصول على المعلومة المراد البحث عنها، ولا سيما فيما يتعلق بالأمسيات والنصوص الشعرية. وناشد القباحي الشعراء المشاركين في المهرجان بضرورة إرسال نصوصهم لتحميلها على الموقع، مشدداً على أن حضورهم سيثري الموقع ويشكل عتبة مهمة للحوار البنّاء.

وتحت عنوان «تلاقي الأجناس الأدبية في القصيدة العربية المعاصرة»، جاءت الجلسة النقدية المصاحبة للمهرجان بمثابة مباراة شيقة في الدرس المنهجي للشعر والإطلالة عليه من زوايا ورؤى جمالية وفكرية متنوعة، بمشاركة أربعة من النقاد الأكاديميين هم: الدكتور حسين حمودة، والدكتورة كاميليا عبد الفتاح، والدكتور محمد سليم شوشة، والدكتورة نانسي إبراهيم، وأدارها الدكتور محمد النوبي. شهدت الجلسة تفاعلاً حياً من الحضور، برز في بعض التعليقات حول فكرة التلاقي نفسها، وشكل العلاقة التي تنتجها، وهل هي علاقة طارئة عابرة أم حوار ممتد، يلعب على جدلية (الاتصال / الانفصال) بمعناها الأدبي؛ اتصال السرد والمسرح والدراما وارتباطها بالشعر من جانب، كذلك الفن التشكيلي والسينما وإيقاع المشهد واللقطة، والموسيقي، وخاصة مع كثرة وسائط التعبير والمستجدّات المعاصرة التي طرأت على الكتابة الشعرية، ولا سيما في ظل التطور التكنولوجي الهائل، والذي أصبح يعزز قوة الذكاء الاصطناعي، ويهدد ذاتية الإبداع الأدبي والشعري من جانب آخر.

وأشارت الدكتورة نانسي إبراهيم إلى أن الدراما الشعرية تتعدى فكرة الحكاية التقليدية البسيطة، وأصبحت تتجه نحو الدراما المسرحية بكل عناصرها المستحدثة لتخاطب القارئ على مستويين بمزج جنسين أدبيين الشعر والمسرح، حيث تتخطى فكرة «المكان» بوصفه خلفية للأحداث، ليصبح جزءاً من الفعل الشعري، مضيفاً بُعداً وظيفياً ديناميكياً للنص الشعري.

وطرح الدكتور محمد شوشة، من خلال التفاعل مع نص للشاعر صلاح اللقاني، تصوراً حول الدوافع والمنابع الأولى لامتزاج الفنون الأدبية وتداخلها، محاولاً مقاربة سؤال مركزي عن تشكّل هذه الظاهرة ودوافعها ومحركاتها العميقة، مؤكداً أنها ترتبط بمراحل اللاوعي الأدبي، والعقل الباطن أكثر من كونها اختياراً أو قصداً لأسلوب فني، وحاول، من خلال الورقة التي أَعدَّها، مقاربة هذه الظاهرة في أبعادها النفسية وجذورها الذهنية، في إطار طرح المدرسة الإدراكية في النقد الأدبي، وتصوراتها عن جذور اللغة عند الإنسان وطريقة عمل الذهن، كما حاول الباحث أن يقدم استبصاراً أعمق بما يحدث في عملية الإبداع الشعري وما وراءها من إجراءات كامنة في الذهن البشري.

وركز الدكتور حسين حمودة، في مداخلته، على التمثيل بتجربة الشاعر الفلسطيني محمود درويش، ومن خلال هذا التمثيل، في قصائد درويش رأى أنها تعبّر عن ثلاثة أطوار مرّ بها شعره، مشيراً إلى أن ظاهرة «الأنواع الأدبية في الشعر» يمكن أن تتنوع على مستوى درجة حضورها، وعلى مستوى ملامحها الجمالية، عند شاعر واحد، عبر مراحل المسيرة التي قطعها، موضحاً: «مما يعني، ضِمناً، أن هذه الظاهرة قابلة لأن تتنوع وتتباين معالمها من شاعر لآخر، وربما من قصيدة لأخرى».

ورصدت الدكتورة كاميليا عبد الفتاح فكرة تلاقي الأجناس الأدبية تاريخياً، وأشارت، من خلال الاستعانة بسِجلّ تاريخ الأدب العربي، إلى أن حدوث ظاهرة التداخل بين الشعر وجنس القصة وقع منذ العصر الجاهلي، بما تشهد به المعلقات التي تميزت بثرائها الأسلوبي «في مجال السردية الشعرية». ولفتت إلى أن هذا التداخل طال القصيدة العربية المعاصرة في اتجاهيها الواقعي والحداثي، مبررة ذلك «بأن الشعراء وجدوا في البنية القصصية المساحة الكافية لاستيعاب خبراتهم الإنسانية». واستندت الدكتورة كاميليا، في مجال التطبيق، إلى إحدى قصائد الشاعر أمل دنقل، القائمة على تعدد الأصوات بين الذات الشعرية والجوقة، ما يشي بسردية الحكاية في بناء الحدث وتناميه شعرياً على مستويي المكان والزمان.

شهد المهرجان حفل توقيع ستة دواوين شعرية من إصدارات دائرة الثقافة في الشارقة للشعراء: أحمد عايد، ومصطفى جوهر، وشمس المولى، ومصطفى أبو هلال، وطارق محمود، ومحمد طايل، ولعب تنوع أمكنة انعقاد الندوات الشعرية دوراً مهماً في جذب الجمهور للشعر وإكسابه أرضاً جديدة، فعُقدت الندوات بكلية الفنون الجميلة في الأقصر، مصاحبة لافتتاح معرض تشكيلي حاشد بعنوان «خيوط الظل»، شارك فيه خمسون طالباً وطالبة. وكشف المعرض عن مواهب واعدة لكثيرين منهم، وكان لافتاً أيضاً اسم «الأصبوحة الشعرية» الذي أطلقه المهرجان على الندوات الشعرية التي تقام في الفترة الصباحية، ومنها ندوة بمزرعة ريفية شديدة البساطة والجمال، وجاءت أمسية حفل ختام المهرجان في أحضان معبد الأقصر وحضارة الأجداد، والتي امتزج فيها الشعر بالأغنيات الوطنية الراسخة، أداها بعذوبة وحماس كوكبة من المطربين والمطربات الشباب؛ تتويجاً لعرس شعري امتزجت فيه، على مدار أربعة أيام، محبة الشعر بمحبة الحياة.