فراوكه بيتري.. أحدث قادة متطرفي أوروبا

الوعظ والوعظ المضاد في خطاب رئيسة حزب «البديل لألمانيا» اليميني

فراوكه بيتري.. أحدث قادة متطرفي أوروبا
TT

فراوكه بيتري.. أحدث قادة متطرفي أوروبا

فراوكه بيتري.. أحدث قادة متطرفي أوروبا

لمع أخيرًا اسم جديد في سماء السياسة الأوروبية القومية اليمينية المتطرفة المعادية للاجئين والإسلام، هو اسم السياسية الألمانية فراوكه بيتري، زعيمة حزب «البديل لألمانيا». والمفارقة مع الزعيمة الجديدة أنها في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي عمّمت رسالة إلكترونية إلى أصدقائها تقول فيها إنها وزوجها الواعظ الكَنسي سفين بيتري، سيمشيان من الآن فصاعدًا في طريقين مختلفين. ومنذ ذلك الحين ما عاد سكان بلدة تاوتنهين - القريبة من مدينة لايبزيغ بأقصى شرق ألمانيا - يشاهدون بيتري كثيرًا في المدينة التي يلقى زوجها وعظه من على منصة كنيستها. بل، قبل يوم واحد من تاريخ تلك الرسالة، يوم الأحد بالضبط، كان على السياسية الشعبوية الألمانية، التي ترفع لواء العداء للاجئين والأجانب، أن تستمع إلى مواعظ زوجها في تلك الكنيسة. وقرأ سفين: «كنت ظمآن ورويتموني، وكنت غريبًا فآويتموني، وكنت عاريًا فكسيتموني».
ثم وعظ الناس بضرورة الترحيب باللاجئين، مقتبسًا كلمات المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل الشهيرة: «سنحقق ذلك!». ويعرف القس بالتأكيد أن زوجته كانت تعظ في الصحف بشعار «لا نريد أن نحقق ذلك!»، المناقض لشعار ميركل. وبعد ذلك، قال سفين بيتري للصحافة إنه لن يغلق بابه عندما يطرقه محتاج ذو نيات طيبة، وإن من يريد أن يأتي فليأت.
بيتري، السياسية الصاعدة على أكتاف اللاجئين، والباحثة في الكيمياء، ضحت هكذا بحياة زوجية طالت 14 سنة، وبمصير أربعة أطفال، مقابل تمسكها بسياستها المتطرفة التي تثير اشمئزاز كثيرين. وذكرت صحيفة «تزايت» الأسبوعية المعروفة أن مطلقها كان يعاني منذ سنوات، وأنه كان قبل «موعظة الانفصال» تلك يكتب الآراء نفسها على صفحته في موقع «فيسبوك»، وأن ما يكتبه عبارة عن برنامج مضاد لبرنامج «حزب البديل لألمانيا». ويذكر أنه قبل انتفاضته على الحزب اليميني القومي المتطرف، انضم سفين بيتري إلى الحزب الديمقراطي المسيحي، وهو الحزب الذي وصفته فراوكه بـ«حزب الكارتيل» مرة، وشكت زعيمته ميركل إلى المحكمة بتهمة «تهريب اللاجئين». ورغم استعداده الكبير لتقديم العون للاجئين، وصفت زوجته مرة المتطوعين لمساعدة اللاجئين بأنهم «مغفلو سخرة».
* «سيدة أعمال» مفلسة
ولدت فراوكه ماركهاردت (بيتري لاحقًا) يوم 1 يونيو (حزيران) 1975 قرب مدينة دريسدن عاصمة ولاية سكسونيا بشرق ألمانيا. ودرست شؤون الكيمياء في جامعة ريدينغ البريطانية قبل أن تحصل على الدكتوراه في الكيمياء في جامعة غوتينغن الألمانية العريقة. يذكر أنها ابنة أم تخصصت بالكيمياء، وأب مهندس، عاشا في ألمانيا الشرقية حتى فترة أشهر قليلة سبقت انهيار «جدار برلين» استغل فيها الأب زيارة عمل إلى برلين الغربية للبقاء.
لبيتري الكثير من المقالات والأبحاث في المجلات العلمية، ونالت 7 جوائز رسمية وغير رسمية نظير دراساتها وأبحاثها في الشؤون الكيماوية، وخصوصًا تطوير مادة كيماوية لاصقة لإطارات السيارات (اسمها هايدروبور). كذلك فإنها أسست شركة لإنتاج هذه المادة برأسمال قدره مليون يورو بالقرب من لايبزيغ، وأعلن إفلاس الشركة (10 عمال) قبل ثلاثة أيام من صعودها السياسي إلى برلمان سكسونيا عام 2014. ويومذاك رفعت النيابة العامة عليها قضية بتهمة «الإفلاس الاحتيالي»، ويقال إن شراء الشركة من قبل شركة بافارية أدى إلى إسقاط التهمة عنها.
وواقع الحال أن مرتّلة الكنائس وسيدة الأعمال «الناجحة» بيتري، بدأت نشاطها السياسي ضمن الجماعات الداعمة لحملة الحزب الديمقراطي المسيحي الانتخابية حتى عام 2012. وأسهمت بعد ذلك بتأسيس «حزب البديل لألمانيا» في عام 2013، وأصبحت واحدة من الثلاثي الذي يقود الحزب. ثم فازت بأصوات 60 في المائة من نواب الحزب في عام 2015، وأصبحت زعيمة الحزب منذ ذلك الحين. وجاء هذا الفوز بعد سنتين من الصراع بين الجناح القومي اليميني الذي تقوده، وجناح «الاقتصاديين الليبراليين» الذي كان يقوده الرجل الثاني في الحزب بيرند لوكه. ويعكس هذا الفوز نفوذها بين أعضاء الحزب بعد أن فازت في عام 2012 بجائزة «أنجح سيدة أعمال في عالم يسوده الرجال»، التي تمنحها ولاية سكسونيا.
* السلاح ضد اللاجئين
لا تختلف الشعارات الانتخابية لـ«حزب البديل لألمانيا»، وزعيمته بيتري، عن برنامج أي حزب قومي يميني متطرف آخر في أوروبا، بدءًا برئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان وانتهاء برئيسة الوزراء البولندية بياته شيدوو. بل إن البرنامج الذي أُقرّ أخيرًا في مؤتمر الحزب في نهاية أبريل (نيسان) الماضي، ويحمل بصمات بيتري، يؤكد على المفاصل السائدة نفسها بين ممثلي اليمين المتطرف، وهي العداء للاجئين والأجانب، والوقوف ضد الوحدة الأوروبية، والدعوة للخروج من منطقة اليورو، والعداء للإسلام، ورفض القوانين التي تتيح الإجهاض.
من ناحية ثانية، تطالب بيتري دائمًا بوقف المزيد من إجراءات تعميق الوحدة الأوروبية، وتدعو إلى «ألمنة» ألمانيا. وتحدثت لصحيفة «تورينغن لانديستزايتونغ» عن ضرورات تقليص نفوذ الاتحاد الأوروبي، ودراسة أفضل سبل الخروج من منطقة اليورو. وأضافت أن الوحدة الأوروبية جرّدت ألمانيا من ديمقراطيتها وحريتها بالتدريج، ولا بد من العودة إلى الديمقراطية «الحقيقية».
وفي قضية اللاجئين والهجرة تعظ بيتري، من على منصة مؤتمر حزبها، من جديد مستخدمة كلمة «الحقيقية»، لأنها طالبت بالسماح «للاجئين الحقيقيين» فقط، ورفض اللاجئين «الاقتصاديين» و«السياحيين»، وفق تعبيرها. وطالبت بوضع ضوابط «حقيقية» ضد «إساءة استخدام حق اللجوء»، وحثت على ضرورة تقنين هجرة العمالة إلى أوروبا «بحسب الحاجة».
ولقد أثارت بيتري بتصريحاتها، التي تطالب باستخدام السلاح ضد اللاجئين، امتعاض بعض قادة حزبها من «الجناح الليبرالي» أيضًا، إذ إنها قالت لصحيفة «مانهايمر مورغن» في يناير (كانون الثاني) الماضي إن على شرطة الحدود «منع تسلل اللاجئين إلى ألمانيا وإن بقوة السلاح». ورد الباحث القانوني كريستوف شونبيرغر على هذا التصريح بالقول إن استخدام السلاح ممكن على الحدود، ولكن ليس ضد أناس عزّل.
* عداء واضح للإسلام
وفي المؤتمر الأخير صحّت التوقعات حول تكريس برنامج الحزب بالكامل لقضايا العداء للاجئين والإسلام. وضمّن الحزب برنامجه فقرات تشدد على أن «الإسلام لا ينتمي إلى ألمانيا»، وأنه «لا علاقة له بالديمقراطية»، وأكد على منع الحجاب في المدارس والدوائر، وحظر بناء منارات المساجد.
ولكن هل تفضل بيتري اسم «الشعبوي» أم «المعادي للإسلام» صفة لحزبها؟ تقول بيتري لا هذا ولا ذاك، لأن رفض الإسلام بالنسبة لها ليس أداة لاصطياد الناخبين اليمينيين بل هو وسيلة لمعالجة مشكلات ألمانيا، كما ذكرت في مقابلة مع تلفزيون «ن.ت.ف».
ووفق بيتري فإن الإسلام «يتناقض مع فقرات الدستور الألماني»، فلماذا لا تطالب بحظره رسميًا، لأن محكمة الدستور تحظر أي نشاط يتعارض مع الدستور؟ وهنا تجيب: «لأن المسلمين المندمجين جزء من ألمانيا ولا مانع من ممارستهم دينهم إذا كانوا يفعلون ذلك بشكل شخصي وسلمي».
في المقابل، في قضية المرأة تقف بيتري بوضوح إلى جانب الاحتفال بـ«يوم المرأة العالمي»، وتطالب بـ«كوتا» للنساء في الدوائر والبرلمانات والشركات، لكنها تقف بقوة ضد القانون رقم 218 الذي يتيح الإجهاض عند الضرورة. وتقول إن إلغاء هذه الفقرة فيه الحل لمشكلة قلة الولادات في ألمانيا، التي تعتبر صاحبة أقل معدل ولادات في العالم. وترى السياسية اليمينية المتطرفة أن على كل عائلة أن تنجب ثلاثة أطفال، وتعتبر نفسها من الروّاد هنا بحساب أن لديها أربعة أطفال. وعلى أي حال، يفسّر دارسو حياتها السياسية موقفها الإيجابي من «يوم المرأة العالمي» و«الكوتا» بتربيتها ونشأتها السابقة في ألمانيا الشرقية.
* ... ولليسار
ولن تصبح بيتري يمينية متطرفة «حقيقية» ما لم تتصف بالعداء لليسار الألماني وتخشى منه، لذلك فإنها لا تكل عن مطالبة الدولة الألمانية بكبح جماح اليسار. ولا تفرق بتري هنا بين اليسار «الحقيقي» الممثل في البرلمان الألماني والبرلمانات المحلية واليسار المتطرف، ولا بين الجناح اليساري في الحزب الاشتراكي الديمقراطي ومنظمة «جناح الجيش الأحمر» المحظورة. فكلهم بالنسبة لها يسار ينبغي حظره.
وذكرت بيتري لتلفزيون «ن.ت.ف» أن الدولة الألمانية تحارب اليمين المتطرف، لكنها لا تفعل شيئًا ضد اليسار. وأضافت بضرورة منع تمويل الأحزاب اليسارية، وحرمانها من حق التظاهر. لماذا؟ لأن اليسار يواجهون مظاهرات حزبها ويشتمون أعضاءه. ومعروف أن المظاهرات المناهضة لمظاهرات حزب البديل لألمانيا تضم كل الأحزاب الأخرى في البرلمان، إضافة إلى ممثلي المنظمات الكنسية ومنظمات حقوق الإنسان.. إلخ.
من ناحية أخرى، تعاني بيتري - التي قد تعود إلى اسمها الأصلي ماركهاردت - بشكل دائم من الصحافة والصحافيين الذين لا يكفّون عن لعن حزبها وإظهاره بمظهر «الشيطان»، بحسب تعبيرها. فكل الصحافيين في نظرها «معادون لها».. و«تقطر أسئلتهم بالسم» أثناء المقابلات. وحقًا، اتهمت بيتري الصحافة الألمانية بـ«اللامهنية» والانحياز، مما استدعى رد نقابة الصحافيين الألمان عليها بالقول إن «سيدة حزب البديل لألمانيا لا تفهم فن الصحافة ولا تمتلك (بديلاً) عن أساليب المقاطعة ورفض الرد على الأسئلة». وردًا على قول بيتري إنها «تشعر بالألم» من تعامل الصحافة معها ومع حزبها، قال المتحدث الرسمي باسم نقابة الصحافيين هيندريك زورنر: «على من يشعر بالألم الذهاب إلى الطبيب».
وكانت بيتري قد خاضت قبل فترة قصيرة معركة صغيرة مع نقابة الصحافيين ضد مقدمة البرنامج الصباحي المشترك في قناتي التلفزيون الألماني الأولى والثانية، دنيا الحيالي (العراقية الأصل)، إذ اتهمت الزعيمة اليمينية دنيا خلال مقابلة تلفزيونية مع قناة «ز.د.ف» بالكذب قائلة إنها «أنف بينوكيو»، وإنها منحازة ولا تفهم مبادئ الصحافة. وجاءت هذه الاتهامات بعد نيل الحيالي جائزة «الكاميرا الذهبية» لقاء تقاريرها المصورة حول «الأفكار اليمنية المتطرفة» في مظاهرات «حزب البديل لألمانيا».
بل وعمّمت بيتري بيانًا يتهم دنيا الحيالي بأنها «عاجزة عن الفصل بين عواطفها وعملها في تلفزيون يموّل نفسه من الضرائب المفروضة على المواطنين». وأضاف البيان أن الحيالي «تبدو ناشطة سياسية أكثر منها صحافية محترفة، لأنها تنشط أيضًا في تنظيمات تدافع عن اللاجئين». ومن ثم وقفت نقابة الصحافيين الألمان إلى جانب الزميلة، مطالبين كل الأحزاب بالتعامل بشكل ديمقراطي وعادل مع الصحافيين الذين ينقلون الحقيقة إلى المواطنين، دون أن يدسوا «أنوف بينوكيو فيها». وطالبت النقابة أيضًا كل الأحزاب الألمانية بالتعامل بعدالة مع الصحافيين الذين يؤدون واجبهم. ووصفت النقابة الحيالي بأنها صحافية محايدة ومحترفة استحقت التقدير لقاء عملها.
أيضًا، رفض توماس فورمان، مدير البرنامج الصباحي في «ز.د.ف»، وصف الحيالي بـ«الناشطة السياسية»، مشددًا على تجردها. وردّ فورمان على اتهام الحيالي بالعلاقة مع منظمة «احترام.. لا مكان للعنصرية» بالتساؤل: لماذا تنزعج بيتري من النشاط ضد العنصرية، إذا كانت غير عنصرية؟ وكانت الحيالي، في كلمتها عند تسلّمها الجائزة، قد عبرت عن قناعتها بأن من يرفع الشعارات العنصرية لا بد أن يكون عنصريًا.
* «الأحمر» و«الأخضر»
على صعيد آخر، يظهر الساسة الألمان دائما بربطات عنق، أو بقمصان أو تنورات ذات ألوان تعكس تلوناتهم السياسية. وهكذا يظهر وزير الخارجية فرانك - فالتر شتاينماير بربطة عنق حمراء تمثل لون حزبه الديمقراطي الاشتراكي، وكان الراحل هانز ديتريش غينشر يظهر دائمًا بربطة عنق صفراء تمثل لون حزبه الليبرالي. لكن بيتري تحاول قلب هذه المفاهيم الآن كما يبدو، لأنها ظهرت في مؤتمر حزبها الأخير في شتوتغارت بتنورة حمراء وسترة خضراء على قميص أبيض. وذكرت لوكالة الأنباء الألمانية لاحقًا أنها أرادت بذلك القول إنها قد «احتلت» هذه الألوان الآن، وإنها تريد لهذه الأحزاب أن تفهم أنها غير قادرة على إيقاف مسيرتها.



هل تتوسّط الهند لإحلال السلام بين أوكرانيا وروسيا؟

مودي يصافح زيلينسكي إبان زيارته التاريخية لأوكرانيا (رويترز)
مودي يصافح زيلينسكي إبان زيارته التاريخية لأوكرانيا (رويترز)
TT

هل تتوسّط الهند لإحلال السلام بين أوكرانيا وروسيا؟

مودي يصافح زيلينسكي إبان زيارته التاريخية لأوكرانيا (رويترز)
مودي يصافح زيلينسكي إبان زيارته التاريخية لأوكرانيا (رويترز)

هل يسعى رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي إلى دفع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ونظيره الأوكراني فولوديمير زيلينسكي للجلوس على طاولة المباحثات؟ بعد الزيارة التاريخية لرئيس الوزراء ناريندرا مودي إلى أوكرانيا، التي تُعد الأولى على الإطلاق من جانب رئيس وزراء هندي بعد استقلال أوكرانيا عام 1991، من المرجح أن يسعى مودي بدأبٍ لوقف الحرب بين روسيا وأوكرانيا، خاصة أنه يجري النظر إليه بوصفه حليفاً وثيقاً لروسيا ورئيسها. تأتي هذه الدفعة الدبلوماسية في وقت حرِج تدخل معه الحرب بين روسيا وأوكرانيا سنتها الثالثة دون أدنى مؤشر على انحسار الحرب. وحقاً أسفرت هذه الحرب عن معاناة إنسانية وخسائر اقتصادية، في حين يشعر المجتمع الدولي بقلق متزايد إزاء تداعياتها العالمية.

جاءت زيارة رئيس الوزراء الهندي، ناريندرا مودي، إلى العاصمة الأوكرانية كييف، بعد ستة أسابيع من زيارة له إلى روسيا التقى خلالها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. وأثارت تلك الزيارة عاصفة انتقادات هائلة من حلفاء غربيين للهند، أشاروا فيها إلى أن نيودلهي تحاشت إدانة الغزو الروسي لأوكرانيا. ثم إنه لم يسبق أن خاض رئيس وزراء هندي رحلة بالقطار طوال 10 ساعات، برفقة وفد رفيع المستوى، لزيارة منطقة حرب.

الدبلوماسي الهندي السابق، فيفيك كاتجو، علّق على الأمر بقوله: «يُعدّ مودي واحداً من الزعماء الدوليين القلائل، الذين زاروا موسكو وكييف. وكان قد دعا باستمرار إلى اتخاذ مسار الدبلوماسية والحوار، لإنهاء حرب روسيا في أوكرانيا. وفي الواقع، أكد مودي لبوتين مباشرة، أثناء لقاءٍ جمعهما في أوزبكستان، خلال سبتمبر (أيلول) 2022، أن هذه ليست حقبة حرب. وجاء هذا الكلام بمثابة تعبير واضح، وإن كان غير مباشر، عن رفض مودي العمل العسكري الروسي».

وبالفعل، شدّد الزعيم الهندي، عبر مترجم: «نقول بصوت عالٍ وواضح: إننا ندعم احترام السيادة والسلامة الإقليمية». من جهته، نشر زيلينسكي، عبر قناته على «تلغرام»، مقطع فيديو عن لقائه بمودي، بينما ذكّر مودي بأنه أثناء زيارته لروسيا، الشهر الماضي، أخبر الرئيس الروسي بوتين بأنه «لا يمكن حل المشاكل في ساحة المعركة»، بل يجب علاجها، بدلاً عن ذلك، عبر «الحوار والدبلوماسية»، دون تأخير.

اتصال هاتفي بين مودي وبوتين

كان التساؤل الكبير، قبل زيارة رئيس الوزراء الهندي لأوكرانيا، ما إذا كانت هذه الزيارة محاولة لاحتواء الأضرار الجيوسياسية، على أثر ردود الفعل الغربية الغاضبة تجاه زيارته موسكو، الشهر الماضي، وما إذا كانت هذه رسالة إلى شركاء نيودلهي الغربيين بأن الهند ليست في صف بوتين.

لكن بعد زيارة أوكرانيا، رجّحت مصادر مطّلعة احتمال أن ينجح مودي في دفع الزعيمين المتحاربين، الروسي والأوكراني، للجلوس إلى طاولة التفاوض، وجهاً لوجه فيما يُعدّ أمراً حيوياً لإحلال السلام.

يُذكر أنه في الفترة السابقة، أجرى مودي اتصالاً هاتفياً بالرئيس الروسي، بعد يوم من مكالمته مع الرئيس الأميركي جو بايدن، والتي عبّر فيها عن دعم الهند العودة المبكرة إلى مسار السلام والاستقرار.

من جهتها، أعلنت وزارة الخارجية الهندية أنه خلال المكالمة الهاتفية مع بوتين، أكد مودي أهمية الحوار والدبلوماسية، بالإضافة إلى «المشاركة الصادقة والعملية بين جميع الأطراف المعنية». ووفقاً لصحيفة الـ«موسكو تايمز»، أبلغ مودي بوتين بدعمه وضع نهاية سريعة للصراع الطاحن الدائر في أوكرانيا، بعد زيارته للأخيرة، الأسبوع الماضي. وأفادت الصحيفة بأن مودي سعى نحو تحقيق توازن دقيق بين الحفاظ على العلاقات الدافئة تاريخياً بين الهند وروسيا، وبين مساعي بناء شراكات أمنية أوثق مع الدول الغربية، بوصفها «حصناً» في مواجهة المُنافس الإقليمي للهند؛ أي الصين.

وقال مودي، عبر وسائل التواصل الاجتماعي، إنه «تبادل وجهات النظر حول الصراع بين روسيا وأوكرانيا» مع بوتين، وتشارك معه في «رؤيته التي خرج بها من زيارته الأخيرة لأوكرانيا». وأفاد أيضاً بأنه «أكد التزام الهند الراسخ بدعم إقرار حل مبكر ودائم وسِلمي للصراع الدائر».

تجدر الإشارة هنا إلى أنه من المعروف وجود أواصر صداقة تربط بين مودي وبوتين. وتاريخياً، ارتبطت الهند بعلاقات طويلة الأمد مع الاتحاد السوفياتي أولاً، ثم الاتحاد الروسي. وتميزت صلات البلدين بمصالح دفاعية قوية، ودعم موسكو لموقف نيودلهي بشأن قضية كشمير داخل الأمم المتحدة.

وفي هذا الصدد، قال هارش بانت، نائب رئيس الدراسات في مؤسسة «أوبزرفر للأبحاث» بنيودلهي: «أعتقد أن مباحثات مودي تأتي في خِضم جهود هندية لتوصيل رسالة مفادها أنها جادة في استخدام نفوذها لحل هذا الصراع، وإثبات نفسها بصفتها فاعلاً مستقلاً. ولقد سبق أن تعرضت الهند لانتقاد على تأخرها في لعب هذا الدور، في الماضي، لذا فهي تتواصل مع البلدان الأكثر تورطاً في الصراع».

لا خطة سلام مقترحة حتى الآن

في الواقع لم تقترح نيودلهي أي خطة سلام لإنهاء الحرب. ومع ذلك، نظراً لكون الهند واحدة من الدول القليلة التي تتمتع بعلاقات جيدة مع كل من روسيا والغرب، فإنها تأمل في دفع عملية التفاوض بين موسكو وأوكرانيا قُدماً. وهنا لا بد من التذكير بأن علاقات الهند بأوكرانيا، منذ استقلال الأخيرة عن الاتحاد السوفياتي، لم تكن وثيقة.

وهنا يوضح فيفيك كاتجو: «الحقيقة أن العلاقات الهندية الأوكرانية بدأت بشكل سيئ، ربما نسينا الآن أن أوكرانيا زوّدت باكستان بأكثر من 300 دبابة قتالية طراز (تي-80)، رغم اعتراضات الهند الشديدة، وأنها كانت أيضاً واحدة من الدول القليلة التي أدانت التجارب النووية التي أجرتها الهند عام 1998. طبعاً ألقى هذا ظلالاً طويلة على العلاقات بين البلدين، لكن مع ذلك، ينبغي عدم السماح لهذه التجارب بالتأثير سلباً على العلاقات الثنائية على الأمد البعيد. ثم إن رد الهند على عمل روسيا في شبه جزيرة القرم عرقل، هو الآخر، النمو الفاعل في العلاقات».

هل تستضيف الهند القمة الثانية للسلام؟

على أية حال، مع تصاعد الضغوط على روسيا وأوكرانيا للجلوس إلى طاولة التفاوض، وإنهاء الحرب التي لم تثمر سوى تفاقم التحديات الاقتصادية العالمية، تحاول الهند إيجاد موطئ قدم لها بصفتها «صانعة سلام». وقد وردت فكرة أن تكون الهند مقراً لقمة سلام بين روسيا وأوكرانيا، إذ قال الرئيس الأوكراني زيلينسكي أخيراً: «أما فيما يخص قمة السلام، أعتقد حقاً أنه يجب عقد قمة السلام الثانية، وسيكون جيداً أن تُعقَد في إحدى دول الجنوب العالمي». وأردف، بعد يوم من استضافته الزعيم الهندي في كييف، قائلاً: «أخبرت رئيس الوزراء مودي بأنه يمكننا عقد قمة السلام العالمية في الهند، إنها دولة كبيرة وديمقراطية عظيمة... الديمقراطية الكبرى».

معلوم أن قمة السلام الأولى عُقدت في سويسرا، خلال يونيو (حزيران) الماضي. وأثناء لقائه زيلينسكي، أكد مودي التزام الهند باحترام سيادة الدول وسلامة أراضيها، مؤكداً أن الحرب يجب تصفيتها عبر الحوار والدبلوماسية، وأن الهند «ليست محايدة، بل تقف بحزم إلى جانب السلام».

ارتبطت الهند بعلاقات طويلة الأمد مع الاتحاد السوفياتي أولاً، ثم الاتحاد الروسي،

وتميّزت صلات البلدين بمصالح دفاعية قوية،

ودعم موسكو لموقف نيودلهي بشأن قضية كشمير

من جهته، أعرب هارش بانت عن اعتقاده أن زيارة مودي لأوكرانيا أكدت رغبة الهند في رؤية نهاية للصراع، «وجلوس كلا الجانبين إلى طاولة المفاوضات... إذ لا ترى الهند احتمالاً للحل دون وجود روسيا على الطاولة». وأوضح بانت: «لا تريد الهند أن يستمر الانفصال بين روسيا والغرب إلى الأبد؛ لأن هذا يعني مزيداً من التقارب بين موسكو وبكين، ثم إن الهند ترغب كذلك في وجود أوروبا مستقرة، تستطيع بعد ذلك لعب دور أكبر في ضمان استقرار المنطقة المُطلة على المحيطين الهندي والهادئ. هذا أمر بالغ الأهمية للهند. الهند لا تريد حتماً أوروبا منهمكة في تحدياتها الداخلية، بدلاً من اضطلاعها بدور عالمي».

زيلينسكي وخطوطه الحمراء

خلال مؤتمر صحافي، بمشاركة عدد من الصحافيين الهنود، بعد مغادرة مودي كييف، رحّب زيلينسكي بزيارة رئيس الوزراء الهندي، لكنه أطلق، ضمن كلامه، عدة مواقف، فقال: «أخبرت رئيس الوزراء مودي بأنه يمكننا عقد قمة سلام عالمية في الهند... لكننا لن نتمكن من عقد قمة سلام في دولة لم تنضمّ إلى البيان الصادر عن قمة السلام الأولى».

ولمّح زيلينسكي كذلك بشكل غير مباشر إلى مغامرات الصين على طول حدودها مع الهند، إذ قال: «إذا كان هناك ما يبرّر تصرفات بوتين، فأنا واثق من أنه ستكون هناك عواقب في أجزاء أخرى من العالم، فيما يتعلق بانتهاك سلامة الأراضي». وانتقد واردات الهند من النفط الروسي الرخيص، لمساعدة «اقتصاد الحرب» في موسكو، متابعاً: «إذا أوقفت الهند شراء النفط، فستواجه روسيا مشاكل وتحديات كبيرة».

توازن بين العلاقات أم استهداف لروسيا؟

لقد كان التساؤل الكبير قبل زيارة مودي لأوكرانيا عما إذا كان الهدف منها السيطرة على الأضرار الجيوسياسية، بعد الانتقادات الغربية لزيارته إلى موسكو. أما الآن، بعد انتهاء الزيارة، فيبدو أن التساؤل الأهم بات عما إذا كانت الزيارة قد نقلت رسالة خفية إلى موسكو. ووفق بعض الدلائل، هذا قد يكون صحيحاً.

الصحافية الهندية بيا كريشنامورثي ترى أن الزيارة «سلّطت الضوء على التوازن الدقيق الذي حققته نيودلهي في علاقاتها مع الغرب وروسيا إبّان الحرب الجارية، بينما يسعى نهج الهند المتعدد الأطراف إلى تعزيز مصالحها الوطنية وثقلها الإقليمي. وفي الوقت الذي زار فيه مودي النصب التذكاري للأطفال الذين قُتلوا خلال الحرب في المتحف الوطني للتاريخ بأوكرانيا، ووقف بجانب زيلينسكي، وذراعه ملتفّة حول الرئيس الأوكراني، أعرب مودي، لاحقاً، عن حزنه العميق على وفاة أطفال روس».

وبدا أن حسابات زيلينسكي، عبر وسائل التواصل الاجتماعي، تعمل بالتناغم مع حسابات رئيس الوزراء الهندي، فقد كتب زيلينسكي: «اليوم، في كييف، احتفيت أنا، ورئيس الوزراء ناريندرا مودي، بذكرى الأطفال الذين فقدوا حياتهم بسبب العدوان الروسي. يستحق الأطفال في كل بلد أن يعيشوا في أمان. يجب أن نجعل هذا ممكناً»، وشارك مقطع فيديو لمودي وهو يزور النصب التذكاري.

وأضافت كريشنامورثي: «هذه البادرة لإظهار الحداد ذات مغزى خاص، عندما تقترن بزيارة مودي لموسكو، التي تزامنت مع ضربة صاروخية روسية على مستشفى للأطفال في كييف. والدليل الثاني على رسالة محتملة إلى موسكو، الإشارة الصريحة لمسألة الدفاع في البيان المشترك بين أوكرانيا والهند، إذ أشار البيان إلى الدور الحاسم للمحرّكات الأوكرانية في السفن الحربية الهندية، وجاء هذا الذكر الصريح لمبادرات الدفاع المشتركة بمثابة مفاجأة. ومن المحتمل أن يثير هذا حفيظة موسكو، التي طالما أقامت علاقة دفاعية وأمنية قوية مع نيودلهي. وما زاد حجم الإثارة أن وزير دفاع مودي كان في واشنطن العاصمة، حيث وقَّع اتفاقيتين جديدتين، في أثناء وجود مودي نفسه في كييف».

تنافس هندي ــ صيني في مجال صنع السلام

مع طرح كل من الهند والصين نفسيهما، بشكل متزايد، بصفتيهما لاعبين أساسيين في الدبلوماسية العالمية، تحولت الحرب في أوكرانيا إلى ساحة لعرض قدراتهما في صنع السلام.حول هذا الجانب، شرح أمي فيلانجي، الباحث المتخصص في العلاقات الدولية والدراسات الاستراتيجية، الذي يعمل حالياً زميلاً في جامعة تشاناكيا الهندية، أن «الأدوار المتطورة للعملاقين الآسيويين لا تعكس طموحاتهما على الساحة العالمية فحسب، بل تؤكد كذلك التفاعل المعقّد بين المصالح الاستراتيجية والحقائق العملياتية، في خِضم السعي لتحقيق السلام بأوكرانيا».وتابع: «تميَّز دور الصين في حرب أوكرانيا بالمشاركة الحذِرة، وموازنة علاقاتها العميقة مع روسيا، ومصالحها في الحفاظ على علاقات اقتصادية مع أوروبا والغرب الأوسع. وفي وقت سابق من هذا العام، قدّمت الصين خطة سلام من 12 نقطة، دعت إلى وقف إطلاق النار، واستئناف المفاوضات. ومع ذلك قوبلت هذه الخطة بالتشكك، خصوصاً من أوكرانيا وحلفائها الغربيين، الذين عدُّوا اقتراح بكين بمثابة دعم خفي لموقف روسيا». وأضاف: «أما تورط الهند في حرب أوكرانيا فجاء أكثر تحفظاً، ما يعكس التزامها التاريخي باللاالانحياز والاستقلال الاستراتيجي». وكشفت زيارة مودي إلى كييف عن استعداد الهند للعب دور أكثر نشاطاً في الصراع، ما قد يجعل منها وسيطاً للسلام. وبعكس الصين، لا يثقّل على الهند المستوى نفسه من الالتزام الاستراتيجي تجاه روسيا أو أوكرانيا، ما يمنحها ميزة فريدة تتمثل في النظر إليها بوصفها لاعباً أكثر حيادية.في المقابل، شككت صحيفة «غلوبال تايمز»، الناطقة الرسمية باسم الصين، في إمكانية اضطلاع الهند بدور «صانع سلام». وذكرت أن التركيز الأساسي لنيودلهي ليس على الصراع بين روسيا وأوكرانيا، بل على تحقيق توازن في علاقاتها مع روسيا والغرب، وخصوصاً الولايات المتحدة. يُذكر أنه في يوليو (تموز) الماضي، أثارت زيارة مودي لروسيا استياءً شديداً لدى الولايات المتحدة والغرب.