«الحرب العادلة».. أم «الدفاع المشروع»؟

مراجعة لمفهوم أجّج نيران الحروب الأصولية الغربية حول العالم

«الحرب العادلة».. أم «الدفاع المشروع»؟
TT

«الحرب العادلة».. أم «الدفاع المشروع»؟

«الحرب العادلة».. أم «الدفاع المشروع»؟

يبدو أنه بات على الغرب، وفي المقدمة منه المؤسسات الدينية الكبرى، كالكنيسة الرومانية الكاثوليكية، مراجعة مفاهيم سادت طوال قرون، بلغت خمسة عشر قرنًا، وذهب البعض إلى أنها كانت بشكل أو بآخر وراء إذكاء حالة الأصولية الدينية، تلك التي ترجمت لاحقًا في صوت وصورة حروب ما أنزل الله بها من سلطان، تبدأ من عند حدود الحروب الدينية، أو «حروب الفرنجة» كما أسماها العرب، وصولا إلى غزو أفغانستان والعراق، عطفًا على بقية المخططات التي تجري في الخفاء. في مقدمة تلك المفاهيم، يأتي الحديث عن مفهوم الحرب العادلة (Bellum Iustum). والشاهد أن فكرة «الحرب العادلة» استمدت أصولها وجذورها الفكرية من الطروحات التي ساقها العلامة والفيلسوف أوغسطينوس في موسوعته الخالدة «مدينة الله» (De Civitate Dei) ولاحقا بلورها العلامة الدومينيكاني الأشهر توما الأكويني في خلاصته اللاهوتية الشهيرة (Summa theologica).
فكرة «الحرب العادلة»، بعيدًا عن الإغراق في أعماق التحليلات اللاهوتية، تقوم على تبرير انخراط المسيحيين الغربيين في الحروب، وطالما وجدت أسباب عادلة تدعو إليها، وأن يكون الهدف منها إقامة السلام العادل.
والمؤكد أن أحاديث ونقاشات كثيرة دارت داخل المؤسسة الكاثوليكية، لا سيما بعد المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني (1962 - 1965) حول مفهوم «الحرب العادلة» وشروطها، والتمييز الواجب توافره للتفريق بين تلك العادلة وغير العادلة، ولقد تبلورت الرؤية النهائية لهذا المفهوم في كتاب التعليم المسيحي الجديد للكنيسة الرومانية الكاثوليكية الذي صدر عام 1997. والذي لخص مسألة استخدام قوة في البند (2309) وفيه بحسب النص «يجب التبصّر بدقة في الشروط الصارمة للدفاع المشروع بالقوة العسكرية». إن خطورة قرار كهذا تقتضي إخضاعه لشروط صارمة تتطلبها الشرعية الأخلاقية. فيجب في آن واحد «أن يكون الأذى الذي ألحقه المعتدي بالأمة أو بجماعة الأمم ثابتًا وخطيرًا وأكيدًا، وأن يتبين أن جميع الوسائل الأخرى لوضع بدائل مستحيلة أو غير نافعة، وأن تتوافر شروط جدية للنجاح، وألا يؤدي استعمال السلاح إلى شرور واضطرابات أخطر من الشر الذي يجب دفعه».
هل جرى التلاعب غربيًا، لا سيما من قبل الجماعات اليمينية والأصولية في الغرب، بهذا المفهوم لتبرير حروب غير عادلة بالمرة على أساس من «العدالة الأوغسطينية» إن جاز التعبير؟
الشاهد أن هذا بالفعل ما جرت به المقادير في الولايات المتحدة الأميركية على نحو خاص بعد الهجمات الإرهابية على نيويورك وواشنطن في 11 سبتمبر (أيلول) 2001. فقد اختطف «المحافظون الجدد» مفهوم «الحرب العادلة» وجعلوا من أفغانستان والعراق مجالا لتطبيقه. ولاحقا روج البعض لمفهوم «التدمير الخلاق»، الذي اصطلح لاحقا على تسميته «الفوضى الخلاقة» بوصفه تبعات للفكر نفسه، أي للحرب العادلة.
لم يتوقف الأمر هنا على القيادات السياسية أو العسكرية الأميركية من البيت الأبيض مرورا بالخارجية، وصولا إلى وزارة الدفاع (البنتاغون)، بل امتد المشهد ليشمل قطاعا واسعا ومؤثرا من المثقفين والإعلاميين وكبار الكتاب والفنانين الأميركيين. هؤلاء الذين أداروا بقوة «رأس الرئيس بوش»، عطفا على بقية الرأي العام الأميركي إلى جهة استخدام القوة، وإعلان «الحرب العادلة» ضد الدول التي جاء منها صنّاع الهجمات في ذلك الثلاثاء الحزين. ولقد كانت دعواهم تتصل في الشكل والمضمون بالتقسيم «المانوي» الخطير الذي أعاد «بوش الابن» التذكير به، أي «من معنا ومن علينا».. «محور الخير ومحور الشر». وكان لهذا الخطاب دوره الممتد حتى الساعة في إشعال العالم بحروب ذات مسحة أصولية، ظالمة بالمطلق، إذ لا تنطبق عليها الشروط المؤكدة سواء عند أوغسطينوس أو توما الأكويني، التي يمكن لنا أن نجملها في سطور قليلة، وإن كانت في الأصل تحتاج إلى مباحث واسعة وعريضة للتحليل والتفكيك، وفي المقدمة منها أن يكون الدفاع المسلح - لاحظ هنا أنه مفهوم دفاعي وليس حربا هجومية - شرعيا في بعض الحالات التالية:
* عندما تتعرض الكيانات السياسية والدولية لظلم واضح وبين يكون بمثابة حافز صريح وصارخ للدفاع المشروع.
* أن تكون كل الآليات السلمية قد استنفدت ووصل الأمر إلى طريق مسدود، وبات الأمل مفقودا في وقف الظلم المسلح من جانب المعتدي.
* أن تكون الخسائر التي تسببها عملية الدفاع المشروع أقل ظلما من الاعتداءات المسلحة التي يتوجب القضاء عليها.
* إن كان من المؤكد أن الدفاع سيؤدي لاحقًا إلى احترام قدسية حق الشعب المظلوم.
هل كانت الشروط السابقة متوافرة في الحروب الأميركية على أفغانستان والعراق وما بعدهما؟ المقطوع به أن «حروب بوش» العلنية، ومن بعدها «حروب أوباما» شبه السرية، لم يكن لها مبرر أو شرعية البتة مستمدة من طرح الحرب العادلة، فقد كانت ظالمة بالمطلق. وما الفورات والثورات الأصولية اللاحقة، لا سيما «داعش» وأخواته إلا ارتدادات يتحمل دعاة الحروب الظالمة وزرها. ولأن بوش وصحبه من «المحافظين الجدد» لم تكن لهم دلالة علي عملية التنقيب والحفر في المتن والأصول الفكرية، غاب عنهم على سبيل المثال، نص رسالة «أوغسطينوس» إلى الكونت بونيفاس، أمير مقاطعة نوميديا (الجزائر الحالية) في زمن الإمبراطورية الرومانية وفيه قوله:«عندما تجهز نفسك بالسلاح لخوض معركة عليك في المقام الأول أن تعلم أن شجاعتك المادية نفسها هي هبة من الله إليك. لهذا يتعين عليك ألا تستخدم هبة الله إياها بشكل خاطئ».. ويكمل: «يجب أن يكون السلام مرماك ومبتغاك، أما الحرب فما هي أمر اقتضته الضرورة إذا علمت هذا وعلمت به، أمكن لله آنذاك أن يخلصك من الضرورة ويشملك بالسلام... كن صانعا للسلام حتى وأنت في معمعان الحرب، فإنك بهذا ستكون في غزوك جالبا للسلام حتى لأولئك الذين انتصرت عليهم... وكما استعملت القوة لقهر المتمرد أو المعارض، عليك الآن أن تجنح إلى الرفق بالمهزوم، أو الأسير، خصوصا بعد أن استتبت الأمور، ولم يعد هناك خوف على تعكير صفو السلام». (الرسالة 189).
ولعل ما أشعل أوار «الحروب الأصولية» في الحال وما يشعلها في الاستقبال، يتصل اتصالاً وثيقًا بالحروب الأخيرة في المنطقة العربية، ناهيك عن نقل المعركة لا إلى قلب أوروبا فقط، بل إلى قلب المؤسسة الرومانية الكاثوليكية ذاتها. ولقد رأينا حتى وقت قريب جدًا بعض المواقف من قبلها، التي تتسق ومفهوم «الحروب العادلة». وقد كانت المواجهة مع «داعش» بنوع خاص هي السبب والمنطلق.
في أغسطس (آب) 2014 كان مراقب الكرسي الرسولي (الفاتيكان) لدى الأمم المتحدة، المونسنيور سالفاتوري توماسي، يعلن تأييد حاضرة الفاتيكان، بشكل جلي للضربات التي قررها الرئيس الأميركي باراك أوباما، ضد تنظيم داعش المتطرف في العراق وسوريا على نحو خاص. وعد أنه «ينبغي التدخل الآن قبل أن يفوت الأوان، فالمساعدة الإنسانية ضرورة، لكنها ليست كافية وحدها». وتابع: «قد يكون العمل العسكري ضروريًا» دون مزيد من الإيضاحات.
نحن هنا، ربما، إزاء تغير لموقف الفاتيكان بين 2003 و2013 - 2014... ولعل المرء يتذكر كيف أن البابا الراحل يوحنا بولس الثاني كان من أشد المناوئين لغزو العراق في 2003. حتى أنه أرسل إلى واشنطن مبعوثًا خاصًا، هو الكاردينال روجيه إيتشيغاراي، محاولا إقناع بوش بالعدول عن هذه الحرب، التي استشرف البابا الراحل مدى كارثيتها. وهو ما أثبتت الأيام صدقه. غير أن تزييف الحقائق، والأحادية الأصولية «البوشية» التي توهّمت امتلاك الحقيقة المطلقة، رفضت السماع وصُمّت آذانها وتعامت عيونها.
على أن الوضع في 2013 وحتى الساعة اختلف بشكل جذري، لا سيما في ضوء المذابح التي ارتكبها «الدواعش» ضد الأقليات الدينية في تلك الرقعة الجغرافية التعيسة من العالم العربي. وهذا ما تمثل في الكلمة التي ألقاها الكاردينال بيترو بارولين، أمين سر دولة الفاتيكان (رئيس الوزراء في حكومة الكوريا الرومانية)، أمام الجمعية العمومية للأمم المتحدة في أكتوبر (تشرين الأول) 2014. ففي كلمته تحدث عن «الاستخدام المناسب للقوة»، بوصفه إحدى الوسائل الممكنة «لإيقاف العدوان، الذي يمارسه مسلحو (داعش)»، وعليه، بدأ المراقبون في التساؤل عن هذا النهج الفاتيكاني، وهل يعني إحياء لمفهوم «الحرب العادلة، من جديد أو أن الأمر لا بد أن يقرأ بعين مغايرة لما جرت به المقادير التاريخية من قبل؟
الذي لاشك فيه أن الكاردينال بارولين - الرجل الثاني في الفاتيكان بعد البابا - كان قد ألقى نصف مداخلته التي تناول فيها عرضا للأشكال الجديدة، التي يكتسبها الإرهاب وطبيعته التي أضحت «عابرة للشعوب» والدول. ولقد حاول أن يوضح جذور هذا الإرهاب، والخطر الذي يشكله اليوم، حتى على النظم القانونية الدولية، مؤكدا أهمية حل هذه المشكلات من جذورها، ومذكرا بأن «هناك أولا سبيل تعزيز الحوار والتفاهم المتبادل بين الثقافات، الذي تتضمنه بصورة ضمنية مقدمة ميثاق الأمم المتحدة ومادتها الأولى».
لم تكن مداخلة بارولين إحياء لفكر «الحرب العادلة» بقدر ما هو إحياء مبدأ «الدفاع الشرعي». فالفاتيكان يرجو بشكل كبير أن يتوصل المجتمع الدولي إلى تحمل مسؤوليته في دراسة جميع الآليات التي ستسمح بوقف العدوان، وتفادي ظهور أشكال جديدة من العنف قد تكون أكثر خطرًا. ولتأكيد نبذ الفاتيكان للعنف، شدد على أنه «حتى وإن كان مصطلح مسؤولية (تأمين الحماية) موجودًا في صورة ضمنية ضمن ميثاق الأمم المتحدة والقانون الدولي الإنساني، فإنه لا يشجع بصورة خاصة على اللجوء إلى الأسلحة». وعليه فإنه يمكن فهم رؤية المؤسسة الكاثوليكية الرومانية في إطار واحد، وهو أن «الهدف من مقاومة العدوان هو دائما البحث عن السلام».
غير أن المتابع لمجريات الأحداث في حاضرة الفاتيكان في الأسابيع القليلة الماضية، يستطيع أن يرصد حالة من حالات القلق والتساؤلات الإيجابية لجهة مستقبل العالم ما بين «الحرب العادلة»، و«الدفاع المشروع». ومردّ ذلك الخوف من تنامي دعوات الأصولية والكراهية غربا أو شرقًا، التي تترجم في صورة حروب مسلحة ونزاعات دموية تفقد البشرية سلامها. في الداخل الفاتيكاني، اجتمع في الفترة من الحادي عشر إلى الثالث عشر من أبريل (نيسان) الماضي ثمانون خبيرًا في «النضال السلمي»، والهدف من لقائهم البحث في طرق معالجة الأزمات العالمية الحديثة، وإعادة النظر بشكل خاص في مفهوم وعقيدة «الحرب العادلة».
هذا اللقاء، كما تشير مصادر مقربة من الدوائر القائمة على الأمر في قلب الكنيسة الكاثوليكية، يهدف للمرة الأولى في التاريخ إلى رفض أي مبررات أخلاقية تشرّع الحروب، الأمر الذي يعد في حد ذاته شكلا من أشكال «الثورة اللاهوتية التصحيحية» داخل هذه المؤسسة الكبيرة، وعملا امتداديا لرؤية التصحيح والتجديد التي أطلق شرارتها المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، ما جعل كثيرين يعتقدون أن هناك الآن حالة جديدة وجدية من المراجعة العصرانية للمفاهيم الكنسية، تعود إلى الماضي، لتقفز منه إلى الحاضر.
شهدت جلسات اللقاءات تجاذبات واسعة للمشتركين من بلدان مختلفة، جلها تعيش أزمات الصراع المسلح الداخلي والأهلي، منها تشيلي وسريلانكا وجنوب السودان وفلسطين. ولقد طرحت في أربع جلسات موضوعات «تجارب اللاعنف» و«أسلوب السيد المسيح اللاعنفي» و«إشكالية اللاعنف والسلام العادل»، وأخيرا «تجاوز الحروب التي لا تنتهي».
يعني هذا اللقاء المهم، بغير اختصار مخل، أننا أمام مؤسسة دينية غربية عالمية، تحاول إحياء عملية المراجعة والتصحيح من الداخل، لوقف التصاعد الأصولي المرير، الذي يمكن أن يشعل الأرض من جديد بحروب كونية. وهذا اتجاه يعززه وجود بابا فقير آتٍ من دول أميركا اللاتينية، التي عاشت، ولا تزال، خبرات أليمة للحروب الداخلية والخارجية، لا سيما أنه في مقدمة الداعين لنزع فتيل الحرب الكونية المجزأة التي يعيشها العالم في حاضرات أيامنا.
البابا فرنسيس الأول، بابا روما، وجه رسالة للمشاركين في اللقاء الذي نحن بصدده، الذي جاء عنوانه «لا يجتمع العنف مع السلام العادل... عزروا التفاهم الكاثوليكي والالتزام باللاعنف»، أشار فيها إلى طروحات ثلاث، ربما يقدر لها أن تقطع الطريق علي الحرب الماضية قدما لجهة الانفجار العالمي، ويمكن أن نطلق عليها مسارات ثلاثة لعالم خال من الأصوليات المتصادمة، والنزاعات المدمرة.
أما المسار الأول فمراده تعزيز اللقاء والالتقاء بين البشر من مشارق الأرض إلى مغاربها، والمسار الثاني قوامه مصالحة الشعوب بين بعضها بعضا، وطرح الخصامات والعداوات إلى الوراء، أما المسار الثالث فيسعى إلى تعزيز العدالة.
ومن هنا، فإن «اللقاء والمصالحة والعدالة» حكما سيكون أداة مولدة لقوى إيجابية، تباعد بين البشر ومفاهيم الحرب. وهذه ثورة روحية في واقع الأمر تتجاوز فكرة «الحرب العادلة» وتقفز على مبدأ «الدفاع المشروع، ثورة تدعو لمصالحة الشعوب من مختلف الثقافات، ثورة تواكبها حركة من حركات النضالات المجتمعية الإيجابية من أجل تحقيق العدالة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، في زمن العولمة المتوحشة والرأسمالية التي سلعت الإنسان».
وباختصار القول، فإن الاتجاه، الذي ستتبلور معالمه عما قريب في شكل رؤية ومفهوم رسمي للكنيسة الرومانية الكاثوليكية، أجمله البابا فرانسيس في أمرين، في غاية كبيرة من الأهمية، الأول: هو أن إلغاء الحرب هو الهدف الأسمى الذي يعيد للفرد كرامته وللجماعة كلها كيانها.
والثاني: هو أن رفض أو إخفاء الصراعات أمر غير مجدٍ، وعلينا إذًا أن ننتبه إلى ضرورة عدم الوقوع في الشرك وفقدان الرؤية العامة للوقائع، إنه السبيل الوحيد لإيجاد الحلول.



«داعش» يُعيد اختبار قدراته في غرب أفريقيا

مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
TT

«داعش» يُعيد اختبار قدراته في غرب أفريقيا

مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)

في مؤشر رمزي لـ«اختبار قدراته»، عقب هزائمه في سوريا والعراق وعدد من الدول، دفع تنظيم داعش الإرهابي عناصره وخلاياه لتنفيذ عمليات في غرب أفريقيا، أملاً في «إثبات الوجود» وتأكيد استمرار مشروع التنظيم. ضربات التنظيم «الخاطفة» التي شهدتها بوركينا فاسو ومالي والنيجر، ونيجيريا أخيراً، دفعت لتساؤلات تتعلق بأهداف توجه «داعش» نحو غرب أفريقيا الآن، وخطة نشاطه خلال الفترة المقبلة.
خبراء ومتخصصون في الحركات الأصولية أكدوا أن «التنظيم يهدف من نشاطه في غرب القارة السمراء إلى تفريغ القدرات القتالية لعناصره، والحفاظ على رأس ماله الرمزي، وتأكيد الوجود في المشهد، والحفاظ على حجم البيعات الصغيرة التي حصل عليها في السابق».
وقال الخبراء لـ«الشرق الأوسط» إن «التنظيم الإرهابي عانى من الانحسار الجغرافي خلال الأشهر الماضية، وتأثر بمقتل زعيمه السابق أبي بكر البغدادي، وهو يسعى لتدوير قدراته القتالية في مناطق جديدة». لكن الخبراء قللوا في هذا الصدد من تأثير عمليات «داعش» في هذه الدول، لكونها للترويج الإعلامي.

خلايا فرعية
يشار إلى أن «ولاية غرب أفريقيا» في «داعش» انشقت عن جماعة «بوكو حرام» في عام 2016، وأصبحت الجماعة المتشددة المهيمنة في تلك المنطقة. وأبدى «داعش» اهتماماً ملحوظاً خلال الأشهر الماضية بتوسيع نطاق نشاطه في القارة الأفريقية، حيث تعاني بعض الدول من مشكلات أمنية واقتصادية واجتماعية، مما ساعده في تحقيق أهدافه.
وقال أحمد زغلول، الباحث في شؤون الحركات الأصولية بمصر، إن «النقطة المركزية في حركة التنظيمات الجهادية، وتحديداً (المعولمة) الموجودة بين أكثر من دولة، وأكثر من نشاط، تحت رعاية مشروع آيديولوجي (جهادي) محدد، مثل (داعش) ومن قبله (القاعدة)، أنه في كثير من الأحيان يكون التمركز في منطقة معينة، وتكون هي مركز الثقل، مع وجود فروع أو جيوب أخرى يتم التحرك من خلالها في بعض الأحيان، فضلاً عن أن هناك قواعد جهادية قتالية بلا عمل، فيكون التكتيك الذي يتبعه التنظيم في هذه السياقات ضرورة العمل في مناطق أخرى، أو توزيع جهوده على نطاقات جغرافية أخرى، بهدف تفريغ القدرات القتالية لعناصره، والحفاظ على رأس ماله الرمزي، بصفته (أي داعش) جماعة مقاومة -على حد زعم التنظيم- فضلاً عن تأكيد عبارات مثل: (موجودون) و(مستمرون في القتال) و(مستمرون في إقامة مشروعنا)».
في حين أرجع عمرو عبد المنعم، الباحث في شؤون الحركات الأصولية، محاولات «داعش» للتمدد في غرب أفريقيا إلى «إعادة التموضع واتخاذ مرتكزات أخرى، بعد الضربات التي مُني بها التنظيم أخيراً، خاصة بعد مقتل البغدادي والمهاجر. لذلك لجأ التنظيم إلى أفريقيا الساحل ونيجيريا وبوركينا فاسو والنيجر ومالي، وغيرها من الدول، لأن بعض هذه الدول تعاني من مشكلات في الوجود الأمني، سواء داخلياً أو على الحدود. لذا لجأ التنظيم لعدة عمليات للحفاظ على حجم البيعات الصغيرة التي حصل عليها في السابق، مع وجود منافس شرس هناك مثل تنظيم (القاعدة) الموجود بصور مختلفة في السنوات القليلة الماضية على أراضي بعض الدول الأفريقية».
وفي غضون ذلك، فسر الأكاديمي الدكتور أيمن بريك، أستاذ الإعلام المساعد في جامعتي الأزهر والإمام محمد بن سعود الإسلامية، تمدد «داعش» في غرب أفريقيا بأنه «محاولة لـ(لملمة شتات) عناصره، بعد الهزائم المتتالية في العراق وسوريا، حيث دفع بكثير من أعضائه الفارين إلى أفريقيا، في محاولة لتأكيد البقاء».

ضربات موجعة
الكلام السابق تطابق مع دراسة لمرصد دار الإفتاء في مصر، أكدت أنه «رغم الضربات الموجعة التي تعرض لها (داعش)، سواء بإخراجه من آخر معاقله في الباغوز بسوريا، واستعادة كافة الأراضي التي سيطر عليها خلال عام 2014، أو بالقضاء على غالبية قياداته ورموزه، وعلى رأسهم أبو بكر البغدادي زعيم التنظيم السابق، فإنه ظل قادراً على تنفيذ عمليات في مناطق عدة، بعد فتح جبهات جديدة لعناصره في غرب أفريقيا التي تُعد ساحة مرشحة لعمليات متزايدة متضاعفة للتنظيم».
هذا وقد قتل البغدادي بعد غارة عسكرية أميركية في سوريا، بينما قتل المتحدث باسم التنظيم السابق أبو الحسن المهاجر في عملية عسكرية منفصلة في الأسبوع نفسه تقريباً، نهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي.
وأكد زغلول أن «التنظيم الإرهابي عانى من أزمات في مناطق انتشاره الأساسية، وهناك استراتيجيات أمنية على المستوى المحلي والدولي ضده، فضلاً عن انحسار جغرافي في سوريا والعراق، وهناك قيادة جديدة تولت التنظيم... كل هذه التحديات تدفعه إلى إثبات وجود، وإعادة تدوير قدراته القتالية في مناطق أخرى واختبارها، لذا يبدو طبيعياً أن يتمدد في غرب أفريقيا، أو في أي منطقة أخرى، ما دام أن هناك موارد وسياقات محلية تدعم هذا التوجه، والأمر لا يتوقف فقط على التنظيم الرئيسي (أي القيادة المركزية لداعش وقراراتها)، لكنه مرتبط بجانب آخر بوجود سياقات مناسبة؛ بمعنى أن الأوضاع الداخلية في دولة ما قد تكون مناسبة لنشاط التنظيم خلال فترة ما، وقد تكون هذه الأوضاع غير مناسبة للتنظيم في دولة أخرى».
ودعا البغدادي في وقت سابق ما سماها «ولايات دولة الخلافة المزعومة» في أفغانستان والقوقاز وإندونيسيا، وأيضاً غرب ووسط أفريقيا، للقيام بعمليات إرهابية.

مشهد جديد
وعن دلالة توجه «داعش» لغرب أفريقيا الآن، قال عبد المنعم: «هي محاولة لبلورة مشهد جهادي جديد في هذه الدول. وقد هذا ظهر بشكل كبير بعد أيام من مقتل البغدادي، وبيعة أبو إبراهيم الهاشمي القرشي زعيم (داعش) الجديد، ليؤكد التنظيم أنه عازم على استكمال مسيرة مشروعه، لذا خرج بشعار جديد في أحد إصداراته الأخيرة بعنوان (سوف نمضي)».
ومن جهته، أكد أحمد زغلول أن «التضييقات السياسية والأمنية على التنظيم في نقاطه المركزية دفعته إلى الكمون خلال الأشهر الماضية، وتضييق نشاطه، وتقليل حجم عملياته، بهدف البقاء، أو كنوع من المناورة مع السياسات الأمنية التي يتعرض لها من وقت لآخر، وهذا جعل التنظيم لديه أزمات داخلية؛ بمعنى أن هناك مشروعاً جهادياً لا بد من تحقيقه، وهناك قواعد له في دول أخرى ترى أن التنظيم نموذجاً وتدعمه بشكل أو بآخر بمختلف أوجه الدعم، لذا يؤكد دائماً على البقاء والثبات».
وكثف «داعش» من هجماته الإرهابية في دول غرب أفريقيا أخيراً. ففي نهاية ديسمبر (كانون الأول) الماضي، تبنى «داعش» هجوماً على قاعدة أربيندا العسكرية في بوركينا فاسو، قُتل خلاله 7 عسكريين. وفي الشهر ذاته، نشر التنظيم شريطاً مصوراً مدته دقيقة واحدة، أظهر فيه مشاهد إعدام 11 مسيحياً في شمال شرقي نيجيريا. وسبق ذلك إعلان «داعش»، في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، مسؤوليته عن هجوم استهدف قاعدة عسكرية شمال شرقي مالي، وأسفر عن مقتل 53 جندياً. كما تبنى التنظيم هجوماً أوقع أكثر من 70 قتيلاً في معسكر لجيش النيجر في ايناتيس قرب مالي.
وأشارت تقديرات سابقة لمراكز بحثية غربية إلى أن «عدد الذين انضموا لـ(داعش) من أفريقيا منذ عام 2014 في سوريا والعراق يزيد على 6 آلاف مقاتل». وقال مراقبون إن «عودة هؤلاء، أو من تبقى منهم، إلى أفريقيا بعد هزائم سوريا والعراق كانت إشكالية كبيرة على أمن القارة، خصوصاً أن كثيرين منهم شباب صغير السن، وليس لهم روابط إرهابية سابقة، وأغلبهم تم استقطابه عبر الإنترنت».

عمليات نوعية
وحول نشاط «داعش» المستقبلي في غرب أفريقيا، قال عمرو عبد المنعم إن «نشاط (داعش) بدأ يظهر في غرب أفريقيا من خلال عمليات نوعية، سواء ضد المسيحيين أو جيوش الدول أو العناصر الغربية الموجودة في هذه المناطق»، لافتاً إلى أن «الاستهداف حتى الآن عشوائي، وبعض هذه العمليات لم يحدث تأثيراً بالقدر الكبير، كمثل العمليات التي حدثت في أوروبا، وأحدثت دوياً من قبل، وحتى الآن هي مجرد عمليات للترويج الإعلامي وإثبات الوجود، لأن بعض ولايات وأذرع (داعش) بأفريقيا التي بايعت البغدادي في وقت سابق ما زالت لم يسمع لها صوتاً، بالمقارنة بحجم وتأثير العمليات التي شهدتها أوروبا في وقت سابق».
أما الدكتور أيمن بريك، فقد تحدث عن احتمالية «حدوث تحالف بين (داعش) و(القاعدة) ‏في القارة الأفريقية، كـ(تحالف تكتيكي) في ظل حالة الضعف والتردي التي ‏يعاني منها التنظيمين»، لكنه في الوقت نفسه دعا إلى «ضرورة التصدي لـمحاولات تمدد (داعش) وغيره من التنظيمات الإرهابية في ‏القارة الأفريقية، وذلك قبل أن ينجح بقايا الدواعش في إعادة بناء تنظيم، ربما يكون أكثر عنفاً وتشدداً وإجراماً مما فعله التنظيم الأم (أي داعش) خلال أعوامه السابقة».