الألمان يقترضون من أجل شراء سيارة فاخرة أو شقة أو رحلة طويلة

أكثر من 5.5 مليون ألماني غير قادرين على تسديد الأقساط بسبب الضيق المالي

حسب تقرير المصرف المركزي في ألمانيا لعام 2015 تصل نسبة المقترضين في ألمانيا مقارنة مع عدد سكانها (84 مليون نسمة) إلى حوالي 10.86 %
حسب تقرير المصرف المركزي في ألمانيا لعام 2015 تصل نسبة المقترضين في ألمانيا مقارنة مع عدد سكانها (84 مليون نسمة) إلى حوالي 10.86 %
TT

الألمان يقترضون من أجل شراء سيارة فاخرة أو شقة أو رحلة طويلة

حسب تقرير المصرف المركزي في ألمانيا لعام 2015 تصل نسبة المقترضين في ألمانيا مقارنة مع عدد سكانها (84 مليون نسمة) إلى حوالي 10.86 %
حسب تقرير المصرف المركزي في ألمانيا لعام 2015 تصل نسبة المقترضين في ألمانيا مقارنة مع عدد سكانها (84 مليون نسمة) إلى حوالي 10.86 %

على الرغم من اعتبار ألمانيا دولة غنية مقارنة مع بلدان غربية أخرى، فإن الفرد فيها غارق في الديون، وانخفاض نسبة الفائدة المصرفية شجع على الإقبال على الاقتراض أكثر، إما من أجل شراء سيارة أو منزل أو شقة أو أثاث منزل فاخر، أو القيام برحلة طويلة من دون أن يدخل المقترض في الحسبان احتمال عجزه عن التسديد لأسباب مختلفة منها التسريح من العمل.
فحسب تقرير المصرف المركزي في ألمانيا لعام 2015 تصل نسبة المقترضين في ألمانيا مقارنة مع عدد سكانها (84 مليون نسمة) إلى نحو الـ10.86 في المائة، أكثر من 5.5 مليون (رجالا ونساء) غير قادرين تماما على تسديد الأقساط بسبب الضيق المالي، وهذا يعرضهم لإجراءات قانونية صعبة مثل مصادرة الممتلكات أو حجز الراتب الشهري.
والمشكلة الكبيرة أن نسبة لا باس بها من المقترضين لا يملكون عقارات أو ممتلكات تمكنهم من تغطية احتياجاتهم المعيشية سوى رواتبهم الشهرية، فالمصارف في ألمانيا تمنح قروضًا على أساس راتب ثابت.
وحسب الأرقام، فإن عدد الذين تراكمت عليهم الديون زاد في العام الماضي بنحو 100 ألف بينما لم تتعد الحالات العادية الـ13 ألف، وارتفع عدد من تراكمت عليه الديون بشكل كبير جدًا وتمتنع المصارف عن منحه المزيد إلى 4 مليون في غرب ألمانيا وإلى 3.1 مليون في شرقها ونحو الثلثين من رجال. وظهرت زيادة في نسبة المقترضين في العمر ما بين الـ20 و29 سنة، لذا يمكن القول بأن الديون أصبحت مشكلة الشباب كذلك.
وينوه التقرير بأن السبب الرئيسي لهذا التراكم في الديون وارتفاعه المتواصل هو تدني الدخل والتسريح من العمل، لكن بالدرجة الأولى يرجع السبب لقلة المعلومات عن عواقب عدم سداد القرض وزيادة بيوت المال إعلاناتها المغرية عن عروض الاقتراض، هذا الإغراء جعل متوسط حجم القرض للشخص الواحد ما بين الـ10 إلى 50 ألف يورو.
وفي الوقت الذي تصل فيه نسبة المقترضين في بافاريا وهي الأقل إلى 7.7 في المائة، وذلك لانخفاض عدد العاطلين عن العمل ترتفع في برلين إلى 15.2 في المائة وأعلى نسبة هي في مدينة بريمرهافن وتصل إلى 20.7 في المائة.
ويواجه أغلب المقترضين في ألمانيا مشكلة تؤثر على حياتهم بالكامل أو قد تدمرها. إذ إن تراكم الفائدة رغم انخفاضها حاليا تصبح مع الوقت متوازية تقريبا للمبلغ الذي اقترض لتبدأ إنذارات البنك بعدها بالحجز ثم البيع بالمزاد العلني، فتضطر العائلة إلى التخلي عن المنزل على سبيل المثال بعد أن تكون قد دفعت أكثر من نصف ثمنه والانتقال إلى شقة صغيرة.
وطرأ توجه جديد، فالمدينون من الإناث في ازدياد مطرد وزادت النسبة العام الماضي 0.6 في المائة لتصل إلى 7.39 في المائة مما يعني ارتفاعها ما بين عام 2004 و2015 إلى 23.3 في مائة، فيما وصلت لدى الرجال إلى 0.7 في المائة بمعدل 12.4 في المائة، لكن مقارنة مع الأعوام الماضية أي منذ عام 2004 فإن النسبة لدى الرجال ما فوق سن الـ18 انخفضت نحو 9.6 في المائة.
والذين يعانون أكثر من غيرهم من الديون هم في الأعمار ما بين الـ60 و70 سنة، وكانت نسبتهم 4.12 في المائة وما فوق الـ70 نحو 35.4 في المائة. هؤلاء يصعب عليهم التسديد لأن نسبة لا بأس بها منهم تحصل على تقاعد قليل يكفي تكاليف الحياة اليومية، وهنا تكمن المشكلة الكبيرة ليست فقط بالنسبة لهم، بل بالنسبة للمصارف التي اقترضوا منها لأن أمل التسديد ضعيف جدا، لذا نرى نسبة من يشتري أوراق يانصيب ضمن هذه الفئة كبيرة.
واليوم أصبح اللجوء إلى الاقتراض من الأمور السهلة دون الوضع في الحسبان تأثير التسديد على ميزانية البيت، إذ إن 27 في المائة من الاقتراض يكون بالدرجة الأولى لشراء سيارة، وتقارب الفائدة المصرفية الخمسة في المائة، مما يعني اقتطاع قسم من الراتب الشهري إذا ما أضيفت إلى هذه النسبة الأقساط المتوجب تسديدها.
ويلجأ البعض إلى إيفاء الأقساط المستحقة للمصرف عبر قرض أو قروض صغيرة جديدة بناء على فائدة مصرفية تصل إلى 6.19 في المائة. وهذا النوع يشكل 22 في المائة من حجم الاقتراض، وبعد إعادة جدولة الديون يرتفع المبلغ المقترض. والاعتقاد الخاطئ السائد لدى البعض أن اللجوء إلى قروض صغيرة منخفضة الفائدة يخفف من وطأة الدين، فالحجم الإجمالي الذي يجب أن يسدد يصبح مضاعفا في أغلب الأحيان إذا ما أضيف إليه القرض الأساسي.
والعروض الكثيرة التي تخفي في طياتها بنودًا غير واضحة توقع الكثيرين في مأزق، خاصة من اشترى شقة وعجز عن تسديد أقساطها، منها ما يسمى بـ«الدسبو كرديت» أي أن المقترض يمكنه كتابة صكوك تفوق قيمتها ما لديه في الحساب، فيعطيه المصرف على هذا الأساس قرضًا لسداد العجز، ويتم حساب الفائدة والعمولات على المبلغ المسحوب ويمكن التسديد ضمن فترات ومبالغ مختلفة، لكن في النهاية تصل الفائدة على كامل المبلغ إلى نحو 12 في المائة. وعند العجز عن التسديد تحجز الشقة أو المفروشات أو تباع بالمزاد العلني بأرخص الأسعار.
والسبب الرابع للاقتراض في ألمانيا هو تجديد مفروشات البيت أو إدخال تغييرات على الديكور وتكاليفه باهظة في ألمانيا، هنا يصل حجم القرض التي يتم بين العميل والمصرف إلى نحو 8 آلاف يورو بفائدة 6.34 في المائة، فإذا كان متوسط الدخل نحو 1500 يورو صافٍ، فإن الأقساط التي يجب أن تدفع تؤثر سلبًا على كامل الميزانية.
ومن يُرِد تحديث منزله، أي تحسين وضع النوافذ أو الأبواب والأرضية يرفع حجم القرض ليصل إلى نحو 12 ألف يورو بفائدة 73.5 في المائة وتسديدها على مدة 63 شهرًا، لكنه يواجه مشكلة إذا ما تأخر إنهاء ورشة التصليح فترتفع الأسعار، عندها يحتاج إلى مبلغ أكبر قد يرفض المصرف منحه إياه أو بفائدة أعلى.
ويصل متوسط نسبة القرض المصرفي لشراء سيارة جديدة وسريعة أو دراجة نارية بالأخص للشباب إلى 4.97 في المائة وتكون القيمة 25 ألف يورو وما فوق، وقد يقع الدائن في العجز حتى ولو كان متوسط دخله الصافي 2.448 يورو شهريا لأن الأقساط الشهرية تتجاوز الألف يورو، مع ذلك تعتبر شروط التسديد ميسرة.
وفي فصل الصيف يكثر الاقتراض للقيام برحلة استجمام في بلدان بعيدة مثلا في البلدان الآسيوية أو القارة الأميركية أو رحلة على متن سفينة، مما يعني الحاجة إلى 5 آلاف يورو على الأقل للزوجين من دون أولاد بفائدة تصل إلى 5.97 في المائة تقسط على 39 شهرا. لكن على المقترض مراجعة حساباته، لأن القسط الشهري يؤثر على ميزانية البيت لمدة ثلاثة أعوام، وإذا ما كرر الاقتراض لنفس الهدف في السنة التالية فإن العبء يكون ثقيلا جدا.
ويحب الكثير من الشباب في ألمانيا حتى ولو كان دخلهم منخفضًا أن يبقى يوم الزفاف ذكرى للعمر، لذا يخططون بشكل سخي يدفعهم إلى استدانة مبالغ تتجاوز الـ10 آلاف يورو بنسبة مصرفية تصل إلى 6.48 في المائة، وهي نسبة مرتفعة، والسبب في ذلك يعود إلى أن الاحتفال بالزفاف بالنسبة للمصرف ليس شيئا يمكن حجزه أو استرجاعه عند عدم التسديد.
وقد تكون زيارة طبيب الأسنان باهظة الثمن، خاصة إذا ما تعلق الأمر بضرورة زرع أسنان، فصندوق الطبابة لا يتحمل التكاليف.
ويصل متوسط المبلغ المقترض لهذا الغرض إلى 7 آلاف يورو من أجل زرع سنتين إلى أربع أسنان.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)