صحف بغداد تختفي قسريًا والمواطنون يلجأون لأخبار الفضائيات

سخونة الأحداث السياسية لم تلغ احتجابها في العطل والمناسبات

صحف بغداد تختفي قسريًا والمواطنون يلجأون لأخبار الفضائيات
TT

صحف بغداد تختفي قسريًا والمواطنون يلجأون لأخبار الفضائيات

صحف بغداد تختفي قسريًا والمواطنون يلجأون لأخبار الفضائيات

يحاول أبو حيدر، بائع المواد الغذائية في منطقة السيدية (جنوب غربي بغداد) ومنذ سنوات طويلة، استغلال وقت فراغه بمتابعة الأخبار والمقالات المهمة في صحيفته المفضلة، عوضًا عن مشاهدة أخبار الفضائيات والتي عادة ما تكون أخبارها غير موثوقة حسب ما يراه أو موجهة لصالح جهة ما (بحسب قوله) لكنه بدا هذه المرة متذمرًا وشاكيًا من ظاهرة انقطاع الصحف والمجلات عن الصدور لأيام طويلة تصل أحيانًا حتى أسبوع كامل بسبب العطل الدينية أو الرسمية المتكررة في البلاد، الأمر الذي شكت منه كذلك إدارات الصحف نفسها وقالت إنه يصيب ميزانيتها بالخسارة بسبب تأخر نشر الإعلانات، إضافة إلى إضعاف إمكانية متابعة أخبار الأحداث الساخنة التي تعيشها بغداد خاصة بعد اقتحام المتظاهرين لمجلس النواب العراقي للمطالبة بتنفيذ الإصلاحات.
يقول الإعلامي حسين عمران، مدير تحرير جريدة المشرق اليومية، إحدى الصحف الصادرة في بغداد في حديثه لـ«الشرق الأوسط»: «العطل الرسمية الكثيرة تصيبنا بالخسارة، لأننا نضطر إلى تأجيل الإعلانات إلى وقت لاحق في حين أن تواصلنا يأتي عن طريق إيراداتها بالدرجة الأولى»، مؤكدًا: «لدينا المقدرة على الإصدار ومواصلة عملنا في العطل خاصة بعد سخونة الأحداث السياسية واضطرابها، لكن موزعي الصحف يرفضون العمل وأغلبهم من التيار الصدري الذي يرى أن طقوس المناسبات الدينية أو المشاركة في التظاهرات أهم من أي عمل آخر،، ولأجل ذلك لا تملك أي جريدة إمكانية التوزيع بنفسها فتضطر إلى احتجابها ليوم أو أكثر بحسب فترة المناسبة والعطلة الرسمية».
وأضاف: «من غير الممكن إعلاميا أن بلدًا مثل العراق يغلي بالأحداث يختفي عنه المطبوع الورقي لأيام وقد تستمر لمدة أسبوع، دون إيجاد حل مناسب».
وبحسب قانون العطل الرسمية الذي أقرته الحكومة العراقية، فإن العراقيين يتمتعون بأكثر من مائة يوم من العطل الرسمية سنويًا، حيث يكون أكثر من 30 في المائة من هذه العطل لمناسبات دينية، وهناك مناسبات أخرى لذلك فأن العدد يرتفع إلى نحو 150 يومًا.
وعملية توزيع الصحف في العراق تتم عبر: «بورصة الصحف» التي تفتتح مزادها اليومي الساعة الثالثة فجرًا في منطقتي الباب الشرقي وباب المعظم أحد أهم المراكز التجارية في جانبي الكرخ والرصافة، حيث يتم توزيع الصحف عبر شركات التوزيع الكبيرة، و بحسب طلبات الموزعين للباعة الجوالين وأصحاب المكاتب الثابتة، فيما يتم تحميل باقي الكميات عبر السيارات إلى المحافظات لتبدأ من هناك عملية توزيع أخرى ولكن عبر مكتبات ثابتة وليست متجولة، لأن الصحف غالبا ما تصل إلى المحافظات في أوقات متأخرة.
ويعلل أحد موزعي الصحف ظاهرة احتجاب الصحف في العطل إلى عدم خروج الناس إلى الأسواق بكثافة، كما أن عملية التوزيع اليومي بطريقة الذهاب إلى البورصة وتحمل كل هذه المتاعب تجعل من الصعوبة على الإنسان مواصلة العمل طوال أيام الأسبوع.
أما الحاج مهدي نجم (53 عامًا)، أحد أصحاب المكتبات في منطقة بغداد الجديدة فيقول: «تعطل الصحف مشكلة نعاني منها، فكثير من المواطنين يسألون عن صحفهم المفضلة، ويكون جوابنا لهم بأن اليوم عطلة والجريدة معطلة، في حين يحصل هذا في العراق فقط، ومعظم دول العالم تحرص على إبقاء طبعتها الورقية ما دام لها جمهورها من المتابعين وكذلك لأجل التواصل مع الأخبار اليومية للبلد».
وشكا الإعلامي قاسم العزاوي من غياب الجريدة، خاصة وأن البلد يعيش اضطرابا ساخنًا في الأحداث المتسارعة، والفضائيات في العادة لا توفر التحليل الدقيق للأحداث المثيرة بعكس ما توفره الصحف الورقية، إضافة إلى إمكانية التمعن بالصورة والخبر في أي وقت من اليوم».
ولفت العزاوي إلى أن مشكلة احتجاب الصحف، سبب عزوف الموزعين عنها لأنها لا توفر دخلا ثابتا لهم، وهي تتعرض للتوقف لأي عطلة تمر بها البلاد.
تقول الإعلامية شروق العبيدي: «الصحيفة اليومية علامة حقيقية على حرية التعبير والصحافة في البلاد، ووجود الصحف اليومية والإصدارات بشكل يومي في الأسواق يجعلنا نشعر بأن مهنتنا ما تزال مطلوبة ومهمة أيضًا وإشاعات اندثارها غير صحيحة».
وأضافت: «الصحافة بحاجة إلى دعم حكومي لأجل التواصل، كونها ما تزال مطلوبة والكثير من الناس يفضلها على أي مصدر إخباري آخر بحكم ارتباطه الزمني معها».



كيف يؤطّر الإعلام المعارك ويتلاعب بسردياتها؟

دخان يتصاعد خلال عملية عسكرية إسرائيلية على مخيم «نور شمس» للاجئين قرب مدينة طولكرم في الضفة الغربية (إ ب أ)
دخان يتصاعد خلال عملية عسكرية إسرائيلية على مخيم «نور شمس» للاجئين قرب مدينة طولكرم في الضفة الغربية (إ ب أ)
TT

كيف يؤطّر الإعلام المعارك ويتلاعب بسردياتها؟

دخان يتصاعد خلال عملية عسكرية إسرائيلية على مخيم «نور شمس» للاجئين قرب مدينة طولكرم في الضفة الغربية (إ ب أ)
دخان يتصاعد خلال عملية عسكرية إسرائيلية على مخيم «نور شمس» للاجئين قرب مدينة طولكرم في الضفة الغربية (إ ب أ)

سواء في الحرب الروسية - الأوكرانية، أو الحروب المشتعلة في الشرق الأوسط راهناً، لعب الإعلام دوراً مثيراً للجدل، وسط اتهامات بتأطير مخاتل للصراعات، وصناعة سرديات وهمية.

هذا الدور ليس بجديد على الإعلام، حيث وثَّقته ورصدته دراسات دولية عدة، «فلطالما كانت لوسائل الإعلام علاقة خاصة بالحروب والصراعات، ويرجع ذلك إلى ما تكتسبه تلك الحروب من قيمة إخبارية بسبب آثارها الأمنية على الجمهور»، حسب دراسة نشرتها جامعة كولومبيا الأميركية عام 2000.

الدراسة أوضحت أن «الصراع بمثابة الأدرينالين في وسائل الإعلام. ويتم تدريب الصحافيين على البحث عن الخلافات والعثور على الحرب التي لا تقاوم. وإذا صادفت وكانت الحرب مرتبطة بهم، يزداد الحماس لتغطيتها».

لكنَّ الأمر لا يتعلق فقط بدور وسائل الإعلام في نقل ما يدور من أحداث على الأرض، بل بترويج وسائل الإعلام لروايات بعضها مضلِّل، مما «قد يؤثر في مجريات الحروب والصراعات ويربك صانع القرار والمقاتلين والجمهور والمراقبين»، حسب خبراء وإعلاميين تحدثوا مع «الشرق الأوسط»، وأشاروا إلى أن «الإعلام في زمن الحروب يتخندق لصالح جهات معينة، ويحاول صناعة رموز والترويج لانتصارات وهمية».

يوشنا إكو

حقاً «تلعب وسائل الإعلام دوراً في الصراعات والحروب»، وفق الباحث الإعلامي الأميركي، رئيس ومؤسس «مركز الإعلام ومبادرات السلام» في نيويورك، يوشنا إكو، الذي قال إن «القلم أقوى من السيف، مما يعني أن السرد حول الحروب يمكن أن يحدد النتيجة».

وأشار إلى أن قوة الإعلام هي الدافع وراء الاستثمار في حرب المعلومات والدعاية»، ضارباً المثل بـ«الغزو الأميركي للعراق الذي استطاعت إدارة الرئيس الأسبق جورج بوش تسويقه للرأي العام الأميركي باستخدام وسائل الإعلام».

وأضاف إكو أن «وسائل الإعلام عادةً ما تُستخدم للتلاعب بسرديات الحروب والصراعات للتأثير في الرأي العام ودفعه لتبني آراء وتوجهات معينة»، مشيراً في هذا الصدد إلى «استخدام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وسائل الإعلام لتأطير الحرب ضد أوكرانيا، وتصويرها على أنها عملية عسكرية وليست حرباً».

لكنَّ «الصورة ليست قاتمة تماماً، ففي أحيان أخرى تلعب وسائل الإعلام دوراً مناقضاً»، حسب إكو، الذي يشير هنا إلى دور الإعلام «في تشويه سمعة الحرب الأميركية في فيتنام مما أجبر إدارة الرئيس الأسبق ريتشارد نيكسون على الاعتراف بالخسارة ووقف الحرب».

وبداية نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، عُقدت الحلقة الدراسية الإعلامية الدولية الثلاثية للأمم المتحدة حول السلام في الشرق الأوسط بجنيف، لبحث التحديات في متابعة «حرب غزة». وأشارت المناقشات إلى «تأطير الإعلام إسرائيل على أنها بطل للرواية، حيث تكون إسرائيل هي الأخيار وفلسطين وحماس الأشرار»، ولفتت المناقشات إلى أزمة مماثلة خلال تغطية الحرب الروسية - الأوكرانية. وقالت: «من شأن العناوين الرئيسية في التغطية الإعلامية أن تترك المرء مرتبكاً بشأن الوضع الحقيقي على الأرض، فلا سياق للأحداث».

ستيفن يونغبلود

وهنا، يشير مدير ومؤسس «مركز صحافة السلام العالمية» وأستاذ الإعلام ودراسات السلام في جامعة بارك، ستيفن يونغبلود، إلى أن «الصحافيين يُدفعون في أوقات الحروب إلى أقصى حدودهم المهنية والأخلاقية». وقال: «في هذه الأوقات، من المفيد أن يتراجع الصحافي قليلاً ويأخذ نفساً عميقاً ويتمعن في كيفية تغطية الأحداث، والعواقب المترتبة على ذلك»، لافتاً في هذا الصدد إلى «صحافة السلام بوصفها وسيلة قيمة للتأمل الذاتي». وأضاف أن «الإعلام يلعب دوراً في تأطير الحروب عبر اعتماد مصطلحات معينة لوصف الأحداث وإغفال أخرى، واستخدام صور وعناوين معينة تخدم في العادة أحد طرفي الصراع».

وتحدث يونغبلود عن «التباين الصارخ في التغطية بين وسائل الإعلام الغربية والروسية بشأن الحرب في أوكرانيا»، وقال إن «هذا التباين وحرص موسكو على نشر سرديتها على الأقل في الداخل هو ما يبرر تأييد نحو 58 في المائة من الروس للحرب».

أما على صعيد «حرب غزة»، فيشير يونغبلود إلى أن «أحد الأسئلة التي كانت مطروحة للنقاش الإعلامي في وقت من الأوقات كانت تتعلق بتسمية الصراع هل هو (حرب إسرائيل وغزة) أم (حرب إسرائيل وحماس)؟». وقال: «أعتقد أن الخيار الأخير أفضل وأكثر دقة».

ويعود جزء من السرديات التي تروجها وسائل الإعلام في زمن الحروب إلى ما تفرضه السلطات عليها من قيود. وهو ما رصدته مؤسسة «مراسلون بلا حدود»، في تقرير نشرته أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، أشارت فيه إلى «ممارسة إسرائيل تعتيماً إعلامياً على قطاع غزة، عبر استهداف الصحافيين وتدمير غرف الأخبار، وقطع الإنترنت والكهرباء، وحظر الصحافة الأجنبية».

خالد القضاة

الصحافي وعضو مجلس نقابة الصحافيين الأردنيين، خالد القضاة، يرى أن «الدول والمنظمات التي تسعى لفرض الإرادة بقوة السلاح، عادةً ما تبدأ حروبها بالإعلام». وأوضح أن «الإعلام يُستخدم لتبرير الخطوات المقبلة عبر تقديم سرديات إما مشوَّهة وإما مجتزَأة لمنح الشرعية للحرب».

وقال: «في كثير من الأحيان تُستخدم وسائل الإعلام للتلاعب بالحقائق والشخوص وشيطنة الطرف الآخر وإبعاده عن حاضنته الشعبية»، وأشار إلى أن ذلك «يكون من خلال تبني سرديات معينة والعبث بالمصطلحات باستخدام كلمة عنف بدلاً من مقاومة، وأرض متنازع عليها بدلاً من محتلة».

وأضاف القضاة أن «تأطير الأحداث يجري أيضاً من خلال إسباغ سمات من قبيل: إرهابي، وعدو الإنسانية، على أحد طرفَي الصراع، ووسم الآخر بـ: الإصلاحي، والمدافع عن الحرية، كل ذلك يترافق مع استخدام صور وعناوين معينة تُسهم في مزيد من التأطير»، موضحاً أن «هذا التلاعب والعبث بسرديات الحروب والصراعات من شأنه إرباك الجمهور والرأي العام وربما التأثير في قرارات المعارك ونتائجها».

ولفت إلى أنه «قياساً على الحرب في غزة، يبدو واضحاً أن هذا التأطير لتغليب السردية الإسرائيلية على نظيرتها في الإعلام الغربي». في الوقت نفسه أشار القضاة إلى «إقدام الإعلام على صناعة رموز والحديث عن انتصارات وهمية وزائفة في بعض الأحيان لخدمة سردية طرف معين، وبث روح الهزيمة في الطرف الآخر».

منازل ومبانٍ مدمَّرة في مخيم المغازي للاجئين خلال العملية العسكرية الإسرائيلية على قطاع غزة (إ.ب.أ)

كان «مركز الدراسات الدولية والاستراتيجية» قد أشار في تقرير نشره في ديسمبر (كانون الأول) 2023، إلى أن «اللغة التحريضية لتغطية وسائل الإعلام الأميركية للصراع الفلسطيني- الإسرائيلي تؤثر في تصور المجتمعات المختلفة بعضها لبعض ويمكن أن تكون سبباً لأعمال الكراهية». وأضاف: «هناك تحيز في وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي بهدف إثارة رد فعل عاطفي، بدلاً من تقديم رؤية حقيقية للأحداث».

حسن عماد مكاوي

عميد كلية الإعلام الأسبق بجامعة القاهرة، الدكتور حسن عماد مكاوي، يرى أن «توظيف الدول وأجهزة الاستخبارات لوسائل الإعلام أمر طبيعي ومتعارف عليه، لا سيما في زمن الحروب والصراعات». وقال إن «أحد أدوار الإعلام هو نقل المعلومات التي تؤثر في اتجاهات الجماهير لخدمة أهداف الأمن القومي والسياسة العليا». وأضاف أن «وسائل الإعلام تلعب هذا الدور بأشكال مختلفة في كل دول العالم، بغضّ النظر عن ملكيتها، وانضمت إليها حديثاً وسائل التواصل الاجتماعي، حيث يجري توظيف شخصيات تبدو مستقلة للعب نفس الدور ونقل رسائل الدولة أو الحكومة».

وأشار مكاوي إلى أن «هذه العملية لا تخلو من ترويج الشائعات ونشر أخبار مضللة، والتركيز على أمور وصرف النظر عن أخرى وفق أهداف محددة مخططة بالأساس». وضرب مثلاً بـ«حرب غزة» التي «تشهد تعتيماً إعلامياً من جانب إسرائيل لنقل رسائل رسمية فقط تستهدف تأطير الأحداث في سياق معين».