من التاريخ: ظاهرة الـ«تشي»

إنها بالفعل ظاهرة، هي ظاهرة الـ«تشي» غيفارا.. هو ذلك الطبيب الأرجنتيني والمناضل اليساري الذي حارب في الثورة الكوبية، ثم انتقل بعد ذلك إلى دول من أميركا اللاتينية لنشر الفكر والثورة اليسارية إلى أن قتل. ولقد أصبح هذا الرجل ظاهرة منتشرة في السنوات الأخيرة لدى كثيرين من الشباب من كل العالم، يرتدون قمصانًا عليها صورته وهو يلبس البزة العسكرية و«البيريه العسكري» ويظهر بلحيته الخفيفة، المعبّرة عن شخصية تاريخية لها فكرها اليساري وسلوكها الثوري الخاص.
كانت بداية عهدي بهذه الشخصية وأنا في مقتبل الشباب عندما سعدت بلقاءات موسّعة مع واحد من الشخصيات السودانية اليسارية كان قد شارك في الثورة الكوبية محاربًا بسيطًا بجوار الرئيس الكوبي السابق فيديل كاسترو و«تشي» إرنستو غيفارا، وما زالت عباراته تتردد في أذني وهو يقول - رحمه الله - «... لقد كان الـ(تشي) رجلاً بسيطًا للغاية في حياته، وكان كاسترو يحترمه كثيرًا. وكان يأكل معنا على الأرض ولا يأبه بأي مراسم حتى بعدما انتصر وأصبح معشوق الشعب الكوبي..».
ثم تأكدت من كلمات هذا الرجل عندما جمعتني إحدى المناسبات بشخصية طاعنة في السن كانت تعرفه جيدًا، إذ أطلعتني على صورها بعد الثورة الكوبية معه وزوجته وابنته وهي تقول لي «.. إنه كان رمزًا لما يؤمن به وإنه كان شخصية بسيطة للغاية وحسن الخلق وشديد البأس».
بدأت قصة إرنستو غيفارا الملقب بالـ«تشي» - وهو تعبير تحبب في الأرجنتين يعني «الصديق» - في الأرجنتين حيث ولد لأبوين ينتميان إلى أسرة ميسورة الحال في العاصمة بوينس آيرس. غير أن ظروف العائلة الاقتصادية بدأت تتأثر مع مرور الوقت، وكان والده قوي الشكيمة ويساري التوجه، وهو ما منح الشاب نافذة على الفكر الماركسي منذ الصغر. وتؤكد المصادر التاريخية أن الطفل إرنستو كان يعاني في صغره من أزمة صدرية لازمته في حياته، لكنه كان شديد اللهو وهو صغير وتميز بشخصية قوية للغاية وعنيفة التوجه، إلى جانب ولعه الشديد بالنساء. كذلك بدأت مزاياه القيادية تظهر في سن مبكرة للغاية لدى الشاب ومعها بدأ فكره اليساري يتطور، لا سيما، أن تعليمه الراقي سمح له بالاطلاع على الفكر والفلسفة اليسارية، وإن لم يؤثر على توجهه لدراسة الطب. وبعد تخرجه طبيبًا ذهب في رحلة حول أميركا اللاتينية حيث تعرف على أوضاعها الاقتصادية، وهو ما عزز قناعته بالفكر الماركسي وخطورة انتشار الرأسمالية من وجهة نظره، وتولدت مع هذا كراهيته للولايات المتحدة الأميركية. ولقد انتهت رحلته في أميركا اللاتينية بإقامته في المكسيك بعد فراره من غواتيمالا في أعقاب الانقلاب الذي أسقط النظام اليساري السائد فيها بفعل التدخل الأميركي، ولكن ليس قبل أن يتعرف على زوجته الأولى - وهي من بيرو - التي شاركته فكره اليساري.
في المكسيك بدأ إرنستو «تشي» غيفارا نشاطه مع التيارات الماركسية هناك، والتقى راؤول كاسترو - شقيق فيديل كاسترو وخلفه في رئاسة كوبا - ولقد تلاقت الآراء اليسارية بينهما، واتفقا على ضرورة التحرك الثوري في كوبا لاقتلاع نظام الجنرال فولخنسيو باتيستا. ومن ثم عرّفه راؤول بأخيه فيديل - أيضًا - في المكسيك، ومن هناك تحركا معًا إلى كوبا لإطلاق الثورة. ومن ثم، لاقت القوة الصغيرة التي كوّنها كاسترو وغيفارا من قرابة ثمانين محاربًا صعوبات بالغة، لكنها استقرت في الجنوب الكوبي، حيث أتاحت لهم طبيعته الجبلية باعتماد أسلوب «حرب العصابات» ضد الجيش الكوبي، وسرعان ما بدأت العبقرية القيادية لـ«تشي» تظهر ومعها «الكاريزما» التي يتمتّع بها والتي بدأت تجذب الشباب نحوه بكل قوة.
يذكر أن الثورة الكوبية اندلعت من دون الإفصاح عن نياتها اليسارية، فبدأت القوات الثورية تسيطر تدريجيًا على كوبا بدعم الشعب.. حتى سقوط العاصمة الكوبية هافانا في أيديها يوم 1 يناير (كانون الثاني) 1959، وقبض القائد فيديل كاسترو على زمام الأمور.
الثابت تاريخيًا أن «تشي» لم تكن له أية خلفية عسكرية، ومع ذلك فقد تعلم «حرب العصابات» من خلال الممارسة إلى أن أتقنها بالتجربة ومن خلال فرض نظام قوي على رجاله، وكان صارمًا في معاقبتهم. ثم إنه أشرف بنفسه على التخلص من أعدائه، وهي المهمة التي أوكلت إليه بعد الثورة. والمؤكد أنه كان متورّطًا في المحاكمات التي تلت الثورة وكانت دموية. ولقد أُسندت إليه مهمتا وزير الصناعة ومحافظ البنك المركزي، حيث أشرف على عمليات التأميم وتحويل الدولة إلى النظام الشيوعي. ومع أن الولايات المتحدة حاولت عملية إنزال لقوة من المنفيين الكوبيين درّبت للإطاحة بالنظام، فيما عرف بفضيحة «خليج الخنازير»، ولكن العملية فشلت تمامًا وتركت كاسترو وغيفارا في وضع قوي جدًا.
بعدها أخذت التباينات تظهر في توجهات الرجلين، خاصة وأن «تشي» كان شخصية غير مرنة، وتركز التباين الأساسي في السياسة الخارجية لكوبا التي ارتمت في أحضان الاتحاد السوفياتي آنذاك لحمايتها من محاولات الولايات المتحدة غزوها، فضلاً عن التقارب الآيديولوجي معه. فعلاً، وقد نصب الاتحاد السوفياتي صواريخ في كوبا كادت تتسبب في حرب عالمية ثالثة وعرفت بـ«أزمة الصواريخ الكوبية». ولكن تفاهمًا سرعان ما جرى حينذاك بين الرئيس الأميركي جون كيندي والزعيم السوفياتي نيكيتا خروتشوف، انتهى بسحب موسكو الصواريخ مقابل تعهد واشنطن بالامتناع عن غزو كوبا ولكن مع الإبقاء على الحظر الاقتصادي ضدها. وهكذا خرج العالم من هذه الأزمة ليبدأ التوتر الفكري بين «الرفيقين» غيفارا وكاسترو لرفض الأول لهذا التوجه نحو موسكو، وبدأ بالفعل يسعى للتقرب من الصين. وبعد فترة ازداد الخلاف المنهجي بين الشخصيتين خاصة عندما هاجم «تشي» موسكو علنًا، فبات استمراره في منصبه مكلفًا. هذا ما دفعه إلى طلب التوجه نحو الكونغو لقيادة الحركة اليسارية هناك ضد النظام السائد، ولكن هذه المغامرة فشلت فشلاً مدويًا بسبب عدم وجود قاعدة يسارية في الكونغو، فما كان منه وزملائه إلا الفرار خارج البلاد.
كانت المحطة النضالية التالية لـ«تشي» هي بوليفيا، حيث اعتقد أنه سيستطيع نشر الثورة الشيوعية في أميركا اللاتينية من خلال أفقر دولها. وبالفعل توجه إلى بوليفيا على رأس فريق صغير من الحركيين المدربين عسكريًا لتكرار ما فعله في كوبا، بيد أن ظروف بوليفيا كانت مختلفة، ولم يجد التأييد الشعبي المتوقع، كما أنه لم يكن عليمًا بظروفها الجغرافية والديمغرافية وطبيعة الشعب، وهو ما وضعه أمام مهمة مستحيلة زادت صعوبتها بتعاون الاستخبارات الأميركية مع السلطات العسكرية البوليفية للقضاء عليه قضاءً مبرمًا. وحقًا، طاردته القوات الحكومية بدعم أميركي إلى أن اعتقلته، وقد أصر الرئيس البوليفي الجنرال رينيه باريينتوس على التخلص منه فورًا بينما كانت الولايات المتحدة تريده حيًا. ولكن التعليمات كانت قد صدرت بقتله، فقتل يوم 9 أكتوبر (تشرين الأول) 1967، وقطعت يداه وأرسلتا إلى كوبا كرسالة على فشل الشيوعية في بوليفيا، وكان قد صوّر جثمانه لتأكيد موته، وانتشرت صوره في كل أنحاء العالم لتقضي على «تشي». إلا أنها لم تقض على الظاهرة النضالية الثورية اليسارية في أميركا اللاتينية.
لقد كانت سيرة هذا الرجل في بالي وأنا أتأمل صوره التي أطلعتني عليها الشخصية الروسية. وشردت بعض الشيء في صورته وهو يبتسم متواضعًا إلى جوار زوجته وصديقته الروسية. تذكرت صورته قتيلاً في بوليفيا. والحقيقة أنني وجدت نفسي في حيرة من أمري بين شخصية أحترم سيرتها وإيمانها بفكرها وسعيها لتغيير الواقع، وتطبيق معتقدات لا أستطيع هضمها فكريًا منذ قرأت كتب كارل ماركس وفريديك إنغلز وغيرهما. وفي النهاية، توصلت لقناعة داخلية بأهمية أن يحترم الإنسان سيرة الآخرين حتى لو لم يكن مؤمنًا بفكرهم أو سلوكهم العنيف، فالشخصية شيء والفكر شيء آخر، وأعتقد أن مثال غيفارا تجسيد لهذا الأمر. ولكن السؤال الآخر الذي يلح علي هو.. لماذا يضع شباب في أوروبا والشرق الأوسط صورته على قمصانهم وغالبيتهم لا تعرف الكثير عن الرجل وعن فكره أو أسلوبه العنيف القاسي؟.