أهل الفن يشاركون في معركة الانتخابات البلدية من خلال لائحة «بيروت مدينتي»

في تجربة تعدّ الأولى من نوعها في لبنان

أحمد قعبور  -  ندى صحناوي   -  نادين لبكي
أحمد قعبور - ندى صحناوي - نادين لبكي
TT

أهل الفن يشاركون في معركة الانتخابات البلدية من خلال لائحة «بيروت مدينتي»

أحمد قعبور  -  ندى صحناوي   -  نادين لبكي
أحمد قعبور - ندى صحناوي - نادين لبكي

دخول أهل الفنّ المعركة الانتخابية لمجلس بلدية بيروت، من خلال ترشّح كل من نادين لبكي وأحمد قعبور وندى صحناوي، كان له وقعه الإيجابي على اللبنانيين عامة.
ففي تجربة تعدّ الأولى من نوعها في انتخابات من هذا النوع، حملت لائحة «بيروت مدينتي» أسماء مرشحّين ثلاثة، أقل ما يمكن وصفهم به هو أنهم يقطرون فنّا من رأسهم حتى أخمص قدميهم.
فالمخرجة نادين لبكي تمثّل وجها من وجوه لبنان المضيئة، من خلال أعمالها السينمائية التي أوصلتها إلى العالمية. أما الفنان أحمد قعبور، فقد نذر حنجرته للوطن العربي، فغنّى فلسطين وبيروت واللاجئ، فكان مقاوما من نوع آخر.
أما الفنانة التشكيلية ندى صحناوي، فقد رسمت لبنان بقلبها وعقلها، ونحتت الأمل في أعمالها الخارجة عن المألوف، متجاوزة حدود البلدان وأفق المحيطات، فطالت معارضها الفنيّة بقاع الأرض، متنقّلة ما بين بيروت وميونيخ ولندن وباريس وبوسطن وواشنطن وأبوظبي وغيرها.
واللافت في الموضوع هو ردّ فعل الشباب اللبناني تجاه الأسماء الثلاثة تلك، والتي تمثّل لهم الخروج عن التقليد وباكورة مستقبل زاهر ينبئ بعودة بيروت الثقافة إلى عرينها، من الباب العريض فيما لو انضمّ هؤلاء إلى مجلس بلديتها.
أحد المرشحين الثلاثة أحمد قعبور رأى أن الهدف الأساسي من وراء خطوته هذه، هو تقديم اقتراحات قابلة للتنفيذ لإبراز المشكلات التي استعصت على البعض. ومن بينها أزمة النفايات وإحياء الحدائق العامة والأرصفة، والأماكن الثقافية والحضارية وأيضًا المحافظة على تراث هذه المدينة.
وكان بعض الناشطين على وسائل التواصل الاجتماعي، ودعمًا منهم لمرشحّهم (أحمد قعبور)، الذي يرتبط اسمه ارتباطا مباشرا بتيار المستقبل ومنبره الإعلامي المرئي (تلفزيون المستقبل)، قد نشروا في المناسبة واحدة من أغانيه الأخيرة «بيروت زهرة»، على تلك المواقع، التي تتضمن صورا عن بيروت القديمة ومقهى «الهورس شو» في شارع الحمراء. وقد تضّمنت في كلماتها ذكر فنانين عمالقة من لبنان، أمثال الأخوين رحباني وشوشو ونصري شمس الدين وصباح وسعاد محمد وغيرهم.
وكان أحمد قعبور، وهو صاحب لحن أغنية «أناديكم» و«أحن إلى خبز أمي»، كما كتب ولحّن عددا من الأغاني الخاصة بمحطة «المستقبل»، وأشهرها «لعيونك» و«البلد ماشي» و«لا يهمّك»، قد ردّد في حديث له، أن عملية ترشيحه هي تكملة لنهج الراحل رفيق الحريري في بيروت.. الأمر الذي لا يتناقض بتاتًا مع مبدأ ترشحه على لائحة «بيروت مدينتي».
أما نادين لبكي فقد قدّمت الواقع اللبناني في أفلامها السينمائية «سكّر بنات» و«هلّق لوين»، وشاركت كعضو في لجان تحكيم مهرجانات سينمائية عالمية. وقد كتبت على صفحتها الخاصة على موقع «فيسبوك» الإلكتروني، تقول إنها تؤمن بحياة أفضل من خلال ترشحها ضمن لائحة «بيروت مدينتي»، محاولة منها للعبور من واقع اجتماعي تغزوه الطائفية إلى حياة مدنية ثقافية، وإن الاقتراحات المعروضة من قبل اللائحة هي لمواجهة الخطر المحدق ليس فقط في العاصمة وحدها بل في لبنان بأجمعه».
ورأت الفنانة التشكيلية ندى صحناوي (الوحيدة من بين الفنانين الآخرين التي ردّت على محاولة اتصالنا بها)، أنها لطالما حلمت ببيروت كما رسمتها في لوحاتها، مشعّة ودافئة وقالت في حديثها لـ«الشرق الأوسط»: «علينا أن نكسر هذه التبعية المتقوقعين بها منذ زمن طويل، فقد آن الأوان أن نرى بيروت تتنفس الصعداء بهواء نظيف، وأن يمشي أهلها على أرصفة غير مكسورة، وأن يربّي الأهل أولادهم على أمل بقائهم إلى جانبهم، بعيدًا عن أفكار الهجرة. فالتدهور الذي أصاب مدينتنا غير مقبول وهدفنا إنقاذها، لا سيما وأن بلدية بيروت تملك الميزانية اللازمة لتصحيح وتحسين المدينة دون حاجة اللجوء إلى محافظتها أو لأي جهّة أخرى». وختمت ندى صحناوي بالقول: «لقد استعنّا بخبراء ومتخصصين للوقوف على خطّة تنفيذية دقيقة تطال الطرقات والتنظيم المدني وغيرها من الأمور التي شعرنا أن بيروت هي بأمس الحاجة إليها اليوم». وعن الأسباب التي أدت إلى تقاعس مجالس بلدية بيروت السابقين عن القيام بأعمالهم تجاه العاصمة، حسب رأيها أوضحت: «هو مرض التبعية وسياسة (مرّقلي لمرّقلك)، التي أدّت إلى هذه النتيجة». وأضافت: «برأيي أن المواطن اليوم صار يتمتّع بالوعي اللازم ليقوم بواجبه الانتخابي على أفضل وجه، بعيدا عن أي تجاذبات سياسية أو حزبية تمارس عليه لأنه صار يستوعب تمامًا ماذا يجري في كواليسها».
وكانت شعارات حملة الترويج لمرشحي «بيروت مدينتي» قد انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي وفي شوارع بيروت. ومنها ما حمل عبارة «بيروت مدينتي من الناس إلى الناس» و«علينا أن نتذكّر ماضينا لنغيّر مستقبلنا» و«بيروتي بالصوت والفعل» و«صوتي لبيروت مدينتي» وغيرها.
أما صفحة الـ«فيسبوك» الخاصة بلائحة «بيروت مدينتي»، فقد عمدت إلى نشر مقاطع مصوّرة عن بعض المرشحين وبرامجهم المستقبلية، إضافة إلى مقابلات صوّرت تحت عنوان «شو بتعنيلك بيروت»، وأجريت مع بيروتيين نشأوا وترعروا في العاصمة ويحملون لها كلّ الحبّ. فتحدّث صاحب صالون «مايك» المعروف في منطقة الحمرا شارع (بلسّ)، مؤكّدا أن فضل بيروت عليه كبير، وأنه لا يجد بديلا عنها لا في تورنتو ولا كندا ولا في أي مكان آخر. فيما رأى متحدث آخر من مطعم السوسي (راجي كبّي)، أنه إذا خرج من بيروت فهو لا يستطيع التنفس تماما كالسمك خارج المياه. أما الأهداف التي تطال بيروت الثقافة والحضارة من قبل الفنانين المرشحين ضمن لائحة «بيروت مدينتي» التي تضمّ 24 مرشّحا يتوزعون بالتساوي بين النساء والرجال، فقد عبّر عنها عدد من اللبنانيين في ريبورتاجات مصوّرة طالبوا فيها بـ«بيروت المسارح والمكتبات» و«بيروت المساحات الخضراء» و«بيروت العمارات التراثية».



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)