المصور البرازيلي سباستياو سالغادو ورسالة حب بالأبيض والأسود للأرض

يفتتح معرضه الأول في جدة اليوم.. ويقول إن ما رآه في السعودية «من بين الأجمل على كوكب الأرض»

من سلسلة صور حرائق آبار البترول في الكويت 1991
من سلسلة صور حرائق آبار البترول في الكويت 1991
TT

المصور البرازيلي سباستياو سالغادو ورسالة حب بالأبيض والأسود للأرض

من سلسلة صور حرائق آبار البترول في الكويت 1991
من سلسلة صور حرائق آبار البترول في الكويت 1991

في عام 2013 عرض المصور البرازيلي سباستياو سالغادو معرضه الضخم «جينيسيس» (التكوين - الخلق)، في متحف التاريخ الطبيعي بلندن، عددًا ضخمًا من الصور توزعت على صالات المتحف، تناوبت من خلال تنويعات بالضوء والظلام وبالأبيض والأسود على استكشاف جوانب خفية من حياة ما زالت عذراء، لم تُكتشف بعد في عدد من بلدان العالم، من فتيات ممشوقات في إثيوبيا يتجملن بوضع الأقراص الخزفية في شفاههن بحيث تصبح ممدودة للأمام، ورجال يضعون على رأسهم قبعات مصنوعة من النباتات، أو تلك الوجوه المرسومة بالطلاء الأبيض. من الطبيعة رأينا صورًا لمجاميع طيور البطريق وهي تقف بصبر ملحمي تتخطى البرد القاتل وتحمي صغارها تحت طبقات الجلد. قد يكون وصف «ملحمي» هو الأقرب لإحساس الناظر لأعمال سالغادو، فهو الإحساس الذي يسيطر على النفس لدى رؤية صور عمال المناجم في البرازيل، حيث تمتد الأرض تحت أقدامهم وقد بقرت بطنها وانشغل العمال باستخراج ما بها من معدن ثمين، يقف أحدهم على قمة الجبل، وكأنه يخرج من تراجيديا قديمة، لونه كلون الأرض يتماثل مع المشهد حوله ليصبح واحدا مع المئات حوله ومع الأرض المبقورة.
سباستياو سلغادو الذي يزور السعودية هذه الأيام بدعوة خاصة من أمير منطقة المدينة المنورة الأمير فيصل بن سلمان سيلقي كلمة بمناسبة افتتاح أول معرض له في السعودية في غاليري «حافظ» بجدة. قبل توجهه لجدة نظمت زيارة لسلغادو للمناطق الأثرية في العلا ومدائن صالح برفقة رئيس هيئة السياحة الأمير سلطان بن سلمان. ما رآه المصور البرازيلي خلال هذه الرحلة عبر عنه قائلا: «إنها من بين أجمل المناطق التي رأيتها على كوكب الأرض»، وعندما يتحدث سالغادو عن كوكب الأرض نعرف أنه بالفعل قد زار أجزاء كبيرة من الكوكب، وسجل مشاهداته بالطريقة التي يعرفها ويجيدها: بالصور.
سنحت لي الفرصة للحديث مع المصور العبقري سالغادو، ودار بيننا حديث حول مشروعاته التصويرية وموقفه من القضايا البيئية وأيضًا موقفه من التصوير الإلكتروني وانتشار الكاميرات الرقمية عبر الهواتف.
بداية الحديث تنطلق من سؤال حول انطباعه عن زيارته الحالية للسعودية، يقول: «ليست هذه المرة الأولى التي أزور فيها السعودية فقد مررت خلالها عندما قمت بتصوير إطفاء حرائق آبار البترول في الكويت، أثناء حرب الخليج الأولى 1991»، وبالمناسبة، أسارع لسؤاله وفي بالي صور «ملحمية» بالفعل لعمال الإطفاء، تبدو الصور وكأنها ملتقطة من قاع الجحيم، النار المستعرة تبدو كمارد مستعصٍ، ولكن رجال الإطفاء يقفون أمامها ببطولة وعزم يستعدون لمصارعتها. يقول سالغادو إن هؤلاء الرجال بالنسبة له هم «الأبطال الحقيقيون» لتلك الحرب، ويضيف: «التقطت هذه الصور منذ 25 عامًا، وأخيرًا عدت لأرشيفي، وكان من المدهش رؤية الصور الآن، نعد الآن كتابًا يضم صور إطفاء حرائق البترول في الكويت، وأتوقع أن يكون له تأثير قوي على كل من يراه.. أن نرى هؤلاء الرجال يطفئون تلك الحرائق التي أعتبرها أسوأ كارثة بيئية مرت على كوكب الأرض».
الخطر الذي واجهه رجال الإطفاء لم يكن بعيدًا عن الصحافيين والمصورين الذين وثقوا للحرائق، يقول إن الوضع هناك كان خطرًا بالفعل، يذكر أن صحافيًا من «هيرالد تريبيون» ومصورًا من نيويورك تايمز قُتِلا عندما اشتعلت بقعة زيت بالقرب منهما، ولكنه يعود ليقول: «كان الوضع خطرًا بالفعل ولكني لا أعمل دائمًا في أجواء خطرة. معظم الأماكن التي عملت بها لم تكن خطرة».
أسأله عن الوقت الذي يمضيه في الأماكن التي يصورها: «تحتاج لوقت، تلك الصور التي رأيتها في معرض (جينيسيس) في متحف التاريخ الطبيعي بلندن قضيت ثماني سنوات لألتقطها، أعطي صوري الوقت اللازم فلا أستطيع أن أذهب لمكان ما وألتقط صورة على الفور. يجب أن أفهم المكان المحيط بالموضوع، عمليا التقاط الصور لا يتطلب غير ثوانٍ أو أقل، ولكن لكي أصل لتلك اللحظة أحتاج للكثير من الوقت».
يقول المصور السعودي عادل قريشي، وهو صديق شخصي لسلغادو في مقدمته لمعرض الفنان في جدة: «تخطى سباستياو في هذا المشروع حدود البشريّة إلى ما هو أكبر: الحياة. من المحيطات إلى الغابات والوديان والحيوانات وأخيرًا البشر. استطاع بعدسته رواية قصة الخلق بكل جمالها وجمعها في كتابٍ واحدٍ يُعتبر آخر مشاريعه التصويرية وأهمّها».
ما الذي يدفعه نحو العمل في أماكن بعيدة ونائية، بعض تلك الأماكن التي صورها في «جينيسيس» تبدو وكأنها خارجة من عالم آخر، عالم لم تصل له الحضارة الحديثة، ولكنه عالم نضر يحمل البراءة ويحمل دهشة البدايات. يشير إلى أنه وزوجته اشتركا في إحياء غابة في البرازيل، وقاما بتشجيرها لإعادة التوازن البيئي للمنطقة، عبر مليوني شجرة أثبت سالغادو أنه بالإمكان إصلاح بعض الضرر الذي يسببه الإنسان للطبيعة. «هذا المشروع جعلنا أقرب للطبيعة، مشروع (جينيسيس) بالنسبة لي أعتبره بمثابة رسالة حب لكوكبنا. أردنا أن نرى هذا الكوكب، وأردت أن أكتشف سلالات جديدة. وكان له أكبر الأثر، فقد استمتعت بشكل كبير خلال المشروع وأيضًا اكتشفت الكثير، وربما كان أكبر تلك الاكتشافات التغيير داخلي، واكتشاف الأرض، وأنا واحد من آلاف السلالات على هذه الأرض، وجزء من الطبيعة».
ولعل ذلك الإحساس بالتماثل مع الطبيعة والاحتفال بها هو ما يدفعني للتساؤل عن مخاوفه بشأن البيئة: «إذا لم نرعَ ونحب الكوكب، فسيصبح من الصعب أن نستمر، أتمنى أن يفهم الناس هذا الأمر، وأن نستطيع الوصول لحلول لكثير من المشكلات. لا أعرف إن كنا قد تأخرنا ولكن علينا أن نحاول».
مع التطور التكنولوجي في مجال التصوير يبقى سالغادو مقاومًا «للرقمنة»، أتساءل عن موقفه الآن ويجيب: «أصور بكاميرا رقمية الآن، كنت أتعامل بالأفلام ولكن مع انعدام الاستثمار في صناعة الأفلام، كان علي التأقلم وإن كنت لا أقوم بمعالجة الصور باستخدام الكومبيوتر، هناك من يحول الصور الرقمية من كاميرتي إلى شريط، وأقوم بالتعامل مع الصور بالطريقة التي تعودت عليها»، وبالإشارة لتساؤلي حول مستقبل التصوير في ظل انتشار كاميرات الهواتف الجوالة وسهولة التصوير، يقول: «في الحقيقة التصوير الفوتوغرافي انتهى، نمر الآن بمرحلة جديدة. أصبحنا الآن نتحدث عن (صورة) وليس (صورة فوتوغرافية). الصور الرقمية غير ملموسة على عكس الصور الفوتوغرافية التي كانت تُطبع وتوضع في ألبومات، هي الصور التي التقطها والدانا ووضعوها في ألبوم للذكرى، هي صور كانت تحكي حكايات وتلخص ذكرى. اليوم تغير المفهوم وأصبحت الصور قابعة داخل شرائح إلكترونية في الكاميرا أو الهاتف».
معرض سالغادو في «حافظ غاليري» بجدة يعده نقطة التقاء أولى مع السعودية كبلد.
من جانبه أعرب قسورة حافظ ملك غاليري «حافظ» بجدة عن سعادته بإقامة أول معرض لسلغادو في السعودية وقال: «من المهم أن يزور فنان بقامة سالغادو السعودية ليتعرف على البلد». وأشار إلى أن الأعمال المختارة للعرض قام سالغادو بتحديدها، وتشمل بعض الصور حول إطفاء حرائق البترول وصور من مجموعة «غينيسيس». وأضاف أن سالغادو فنان يحمل «روحا حساسة ولديه قوة داخلية هائلة».
يشير سالغادو إلى أنه سيلقي كلمة كما سيعرض الفيلم الوثائقي الذي أعده ابنه عن حياته، وهو بعنوان «ملح الأرض»، ويتمنى العودة مره أخرى، هل أوحت له الزيارة بمشروع جديد؟ يقول: «من يدرى، ربما يومًا ما».



ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
TT

ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)

ستيف بركات عازف بيانو كندي من أصل لبناني، ينتج ويغنّي ويلحّن. لفحه حنين للجذور جرّه إلى إصدار مقطوعة «أرض الأجداد» (Motherland) أخيراً. فهو اكتشف لبنان في وقت لاحق من حياته، وينسب حبّه له إلى «خيارات مدروسة وواعية» متجذرة في رحلته. من اكتسابه فهماً متيناً لهويته وتعبيره عن الامتنان لما منحه إياه الإرث من عمق يتردّد صداه كل يوم، تحاوره «الشرق الأوسط» في أصله الإنساني المنساب على النوتة، وما أضفاه إحساسه الدفين بالصلة مع أسلافه من فرادة فنية.
غرست عائلته في داخله مجموعة قيم غنية استقتها من جذورها، رغم أنه مولود في كندا: «شكلت هذه القيم جزءاً من حياتي منذ الطفولة، ولو لم أدركها بوعي في سنّ مبكرة. خلال زيارتي الأولى إلى لبنان في عام 2008. شعرتُ بلهفة الانتماء وبمدى ارتباطي بجذوري. عندها أدركتُ تماماً أنّ جوانب عدة من شخصيتي تأثرت بأصولي اللبنانية».
بين كوبنهاغن وسيول وبلغراد، وصولاً إلى قاعة «كارنيغي» الشهيرة في نيويورك التي قدّم فيها حفلاً للمرة الأولى، يخوض ستيف بركات جولة عالمية طوال العام الحالي، تشمل أيضاً إسبانيا والصين والبرتغال وكوريا الجنوبية واليابان... يتحدث عن «طبيعة الأداء الفردي (Solo) التي تتيح حرية التكيّف مع كل حفل موسيقي وتشكيله بخصوصية. فالجولات تفسح المجال للتواصل مع أشخاص من ثقافات متنوعة والغوص في حضارة البلدان المضيفة وتعلّم إدراك جوهرها، مما يؤثر في المقاربة الموسيقية والفلسفية لكل أمسية».
يتوقف عند ما يمثله العزف على آلات البيانو المختلفة في قاعات العالم من تحدٍ مثير: «أكرّس اهتماماً كبيراً لأن تلائم طريقة عزفي ضمانَ أفضل تجربة فنية ممكنة للجمهور. للقدرة على التكيّف والاستجابة ضمن البيئات المتنوّعة دور حيوي في إنشاء تجربة موسيقية خاصة لا تُنسى. إنني ممتنّ لخيار الجمهور حضور حفلاتي، وهذا امتياز حقيقي لكل فنان. فهم يمنحونني بعضاً من وقتهم الثمين رغم تعدّد ملاهي الحياة».
كيف يستعد ستيف بركات لحفلاته؟ هل يقسو عليه القلق ويصيبه التوتر بإرباك؟ يجيب: «أولويتي هي أن يشعر الحاضر باحتضان دافئ ضمن العالم الموسيقي الذي أقدّمه. أسعى إلى خلق جو تفاعلي بحيث لا يكون مجرد متفرج بل ضيف عزيز. بالإضافة إلى الجانب الموسيقي، أعمل بحرص على تنمية الشعور بالصداقة الحميمة بين الفنان والمتلقي. يستحق الناس أن يلمسوا إحساساً حقيقياً بالضيافة والاستقبال». ويعلّق أهمية على إدارة مستويات التوتّر لديه وضمان الحصول على قسط كافٍ من الراحة: «أراعي ضرورة أن أكون مستعداً تماماً ولائقاً بدنياً من أجل المسرح. في النهاية، الحفلات الموسيقية هي تجارب تتطلب مجهوداً جسدياً وعاطفياً لا تكتمل من دونه».
عزف أناشيد نالت مكانة، منها نشيد «اليونيسف» الذي أُطلق من محطة الفضاء الدولية عام 2009 ونال جائزة. ولأنه ملحّن، يتمسّك بالقوة الهائلة للموسيقى لغة عالمية تنقل الرسائل والقيم. لذا حظيت مسيرته بفرص إنشاء مشروعات موسيقية لعلامات تجارية ومؤسسات ومدن؛ ومعاينة تأثير الموسيقى في محاكاة الجمهور على مستوى عاطفي عميق. يصف تأليف نشيد «اليونيسف» بـ«النقطة البارزة في رحلتي»، ويتابع: «التجربة عزّزت رغبتي في التفاني والاستفادة من الموسيقى وسيلة للتواصل ومتابعة الطريق».
تبلغ شراكته مع «يونيفرسال ميوزيك مينا» أوجها بنجاحات وأرقام مشاهدة عالية. هل يؤمن بركات بأن النجاح وليد تربة صالحة مكوّنة من جميع عناصرها، وأنّ الفنان لا يحلّق وحده؟ برأيه: «يمتد جوهر الموسيقى إلى ما وراء الألحان والتناغم، ليكمن في القدرة على تكوين روابط. فالنغمات تمتلك طاقة مذهلة تقرّب الثقافات وتوحّد البشر». ويدرك أيضاً أنّ تنفيذ المشاريع والمشاركة فيها قد يكونان بمثابة وسيلة قوية لتعزيز الروابط السلمية بين الأفراد والدول: «فالثقة والاهتمام الحقيقي بمصالح الآخرين يشكلان أسس العلاقات الدائمة، كما يوفر الانخراط في مشاريع تعاونية خطوات نحو عالم أفضل يسود فيه الانسجام والتفاهم».
بحماسة أطفال عشية الأعياد، يكشف عن حضوره إلى المنطقة العربية خلال نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل: «يسعدني الوجود في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا كجزء من جولة (Néoréalité) العالمية. إنني في مرحلة وضع اللمسات الأخيرة على التفاصيل والتواريخ لنعلن عنها قريباً. تملؤني غبطة تقديم موسيقاي في هذا الحيّز النابض بالحياة والغني ثقافياً، وأتحرّق شوقاً لمشاركة شغفي وفني مع ناسه وإقامة روابط قوامها لغة الموسيقى العالمية».
منذ إطلاق ألبومه «أرض الأجداد»، وهو يراقب جمهوراً متنوعاً من الشرق الأوسط يتفاعل مع فنه. ومن ملاحظته تزايُد الاهتمام العربي بالبيانو وتعلّق المواهب به في رحلاتهم الموسيقية، يُراكم بركات إلهاماً يقوده نحو الامتنان لـ«إتاحة الفرصة لي للمساهمة في المشهد الموسيقي المزدهر في الشرق الأوسط وخارجه».
تشغله هالة الثقافات والتجارب، وهو يجلس أمام 88 مفتاحاً بالأبيض والأسود على المسارح: «إنها تولّد إحساساً بالعودة إلى الوطن، مما يوفر ألفة مريحة تسمح لي بتكثيف مشاعري والتواصل بعمق مع الموسيقى التي أهديها إلى العالم».