محطة سكك حديدية هندية كل ناقلي الأمتعة فيها.. من النساء

بدأ نشاطهن عام 1880 وانتشر في كثير من المدن

مايا أثناء تأدية عملها -  الممثلة الهندية فيديا بلان التي جسدت شخصية حمالة في فيلم هندي مع الحمالة مانجو
مايا أثناء تأدية عملها - الممثلة الهندية فيديا بلان التي جسدت شخصية حمالة في فيلم هندي مع الحمالة مانجو
TT

محطة سكك حديدية هندية كل ناقلي الأمتعة فيها.. من النساء

مايا أثناء تأدية عملها -  الممثلة الهندية فيديا بلان التي جسدت شخصية حمالة في فيلم هندي مع الحمالة مانجو
مايا أثناء تأدية عملها - الممثلة الهندية فيديا بلان التي جسدت شخصية حمالة في فيلم هندي مع الحمالة مانجو

مع اقتراب القطار من محطة السكك الحديدية، اندفع الحمالات بالساري الهندي التقليدي لحمل الحقائب على رؤوسهن.
كانت درغابن، وليلييبان، ودانيبان، غانغبان، ومنغبين من بين 35 امرأة امتهن مهنة حمل الأمتعة والحقائب التي بدأت منذ 136 عاما بمدينة بفنغار الساحلية غرب الهند بولاية غوجرات، غير أن محطة السكة الحديد بتلك الولاية انفردت بسمة مميزة، وهي أن كل الحمالين فيها من النساء.
تعود جذور تلك السمة الفريدة لعام 1880 عندما شرع حاكم ولاية غوجرات آنذاك في بناء محطة السكك الحديدية، من دون مساعدة من النظام البريطاني الذي اكتفي بمنح شارات لثلاث نساء كي يضعنها على أيديهن أثناء العمل كحمالات بتلك المحطة، والآن فإن جميع الحمالات بمحطة بفنغار كلهن من نسل هؤلاء النسوة الثلاث.
تضع مانجو (35 عاما) الشارة رقم 15 على ذراعها الأيمن وتنتظر المسافرين بمحطة قطار جايبور، وعند توقف القطار تبدأ في الصياح «كولي شي»، ومعناها أتحتاج لحمال؟. وبعد تفاوض في السعر، تقوم بحمل حقيبتين لإحدى الأسر، الحقيبة الأولى فوق رأسها والثانية في يدها، وفي النهاية تضعها برفق داخل سيارة أجرة تنتظر خارج المحطة.
بدأ كثير من الهنديات في كسر القاعدة باقتحام تلك المهنة التي طالما استمرت حكرا على الرجال، في تحد ليس فقط لقدراتهن الجسمانية ولكن لأقرانهن الرجال. وفي نحو 10 محطات للقطارات قالت المراسلة الصحافية: «قابلت بعض النسوة ممن يعملن كحمالات بشكل رسمي».
عندما تكون في محطة قطارات ميسور الشهيرة، سوف تشاهد وجه رزوانا بانو الباسم يعرض عليك حمل حقائبك، فهي المرأة الوحيدة من بين 59 رجلا يعملون بتلك المحطة.
فبعد رحيل زوجها جواد، قررت رزوانا أن تحل مكانه في العمل كي تتمكن من إعالة أولادها. وزملاؤها الرجال الذين عارضوا في البداية دخولها تلك المهنة أصبحوا الآن أكثر ودا وترحيبا بوجودها بينهم، لكن رزوانا تشكو من أن بعض المسافرين يحجمون عن قبول خدماتها لا لشيء إلا لكونها امرأة: «في بعض الأحيان أتمكن من إقناعهم بحمل الحقائب وأحصل على أجر يفوق المعتاد»، كما ذكرت رزوانا.
تعتبر هذه المهنة مصدر رزق جديد للهنديات اللاتي لم يقف أمامهن عائق في سبيل منافسة الرجال، فمن خلال محطات قطار جابور، ناغبور، ميسور، أغرا، ماثورا، لاهونديانا، كانت البداية لكثير من المحطات الأخرى التي امتهن فيها النساء مهنة الحمال التي تتطلب قوة جسمانية كبيرة. فالحصول على مهنة حمال ليس بالشيء السهل، حيث يتطلب هذا العمل اختبارا في التحمل حتى تحصل على رخصة رسمية بمزاولة العمل.
كافحت ماندرا ديفي لإعالة 3 أطفال وزوج يعانى من مرض الكبد المزمن، وتعتبر الحمالة الوحيدة في محطة قطارات أغرا، ذات الشهرة العالمية، حيث تعمل وحدها بين 104 رجال، في نفس المهنة. تضع ماندرا شارة تحمل رقم 21 على ذراعها الأيمن، وتحمل عبء إعالة أطفالها الثلاثة بحمل الحقائب، وأحيانا تضطر لمنافسة الرجال في السرعة والحيوية، وأصبحت معروفة للمسافرين الذين يمرون على محطة أغرا. وبعد أن مر 5 سنوات على عملها كحمالة، استعادت ديفي بفخر ذكريات مواقف تحتم عليها فيها العدو لمسافة 200 متر، بينما تحمل على رأسها حقيبة تزن 25 كيلوغراما في دقيقتين ونصف فقط، وفي مرة أخرى «طلب مني العدو وسط أولاد صغار لأربع دقائق لكني أكملت المهمة في نصف المدة، وكانت المرأة الوحيدة التي اختيرت لتلك المهمة ذلك اليوم».
وقالت: «لا أخشى العمل أبدا مهما كان شاقا، بمقدورك أن تحدد ما إذا كنت تستطيع القيام به أم لا. يجب أن ينضم كثير من النساء لمهنة الحمالات في محطات القطار في الهند، أعتقد أن الحمالين الرجال متعاونون وتستطيعين العمل من دون أي قلق».
وأضافت أن «المشكلة الشائعة التي تواجهها الحمالات هي أن الكثير من المسافرين يحجمون عن تشغيل الحمالات النساء، فأحيانا يشفقون علينا ويفضلون الرجال لحمل حقائبهم، وأحيانا يشعرون أنهم سيرتكبون إثما لو أنهم تركوا امرأة تحمل حقائبهم».
بستراتهم التي تحمل توقيعا أحمر وقطعة القماش التي يضعونها على أكتفاهم لحمايتها من ثقل الحقائب، يعمل الحمالون 8 ساعات يوميا في وقت الذروة. وتوضح ماندرا: «ما لا يفهمه الناس هو أنهم يساعدوننا عندما يسمحون لنا بالعمل وأننا نحتاج هذا العمل كي نحيا».
في محطة قطارات رايبور بولاية تشاتيسغار الأقل نموا، تعمل باساري ساهو ومنابي حمالتين لتعكسا ما يمكن وصفه بحالات بطولية من التصميم والعزيمة والتفاؤل.
غير أن العيش كامرأة ينطوي على كثير من التحدي، فالمهنة في حد ذاتها ليست عقوبة إذ إن أصعب ما فيها هو غيرة الحمالين الرجال الذين هيمنوا عليها. وتوضح باساري أن «الحمالين الرجال لم يتوانوا عن مضايقتنا. أنا لا أعتقد أن الكثير من الحمالين الرجال تقبلونا عندما شاركناهم المهنة في البداية. كانوا يرون أننا غزونا منطقتهم وكانت ملاحظاتهم دوما سلبية تجاهنا، وأحيانا كانوا يبعدون المسافرين عنا، وكان علينا الابتسام للمسافرين وكنا دوما ودودات معهم كي يوافقوا على حملنا لحقائبهم، وحتى هذا كان يساء فهمه من قبل زملائنا الرجال الذين نشروا الإشاعات أننا كنا نغازل المسافرين. اشتعلت الأمور عندما هدد حمال بالاعتداء البدني علينا، ووجد النساء نفوسهن مجبرات على الشكوى لمدير المحطة الذي وقف إلى جوارهن. تحسنت الأمور بعد ذلك وسار العمل في سلام بين سلطات المحطة والمسافرين».
مؤخرا جسدت الممثلة الهندية فيديا بلان عمل الحمالات النساء في عمل درامي أسعد مانجو بعملها إلى جوارها ليوم كامل، وفي نهاية اليوم أعطتها ما تحصلت عليه من أجر، والتقطت صورا تذكارية مع الموجودين. وتقول فيديا: «ارتداء عباءة مانجو فتح أعين الناس على تلك المهنة وشكل خبرة جديدة لي، فالتحديات التي تواجهها الحمالة ضخمة، خصوصا في مجال يهيمن عليه الرجال بشكل كامل ويرون أن تلك المهنة لا تناسب النساء».
تشرح باساري بحماسة شديدة قائلة: «نحن نساء قرويات واعتدنا على العمل الشاق، ولا أشعر بتعب يذكر في هذا المجال، وأشعر بسعادة بل ومتعة كبيرة في هذا العمل».
من دون شك، فإن مشهد امرأة تحمل حقائب ثقيلة يثير فضول الركاب.
تحدثت المراسلة الصحافية عن عمل كل من فشكا دابال ورنالي روت حمالات بمحطة ناغبور بين 150 رجلا، وسمعت منهما نفس القصص.
امتهن هؤلاء النساء تلك المهنة مستخدمات شارات أزواجهن الراحلين لكن عزيمتهن وروح المبادرة لديهن ساعدتهن على الصمود في سوق الرجال.
قد يردد هؤلاء النسوة عبارات عن المساواة بين الجنسين، إلا أنهن بالفعل نجحن في تحقيق تلك المساواة بشجاعة، وحصلن على حقوق وأدوا ما عليهن من واجبات تماما مثل الرجال.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)