ثلاث مراحل في تاريخ التطرّف باسم الإسلام

في قراءة للباحث والخبير الفرنسي جيل كيبيل

ثلاث مراحل في تاريخ التطرّف باسم الإسلام
TT

ثلاث مراحل في تاريخ التطرّف باسم الإسلام

ثلاث مراحل في تاريخ التطرّف باسم الإسلام

ما هي المحطات التي شهدها تطوّر الفكر الإسلاموي المتشدد - الملقب بـ«الجهادي» - في فرنسا ومن أين استقى مصادره؟ مواضيع تطرّق إليها الدكتور جيل كيبيل، الباحث الفرنسي البارز، خلال المؤتمر الذي نظمه «معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى» في العاصمة الأميركية واشنطن، متحدثًا عن تجربته مع الجهاديين وعن كتابه الجديد حول تطوّر الإرهاب في فرنسا بعنوان Terreur dans l›Hexagone أي (الإرهاب داخل السداسي).
تحدث الدكتور جيل كيبيل، الباحث والخبير الفرنسي في شؤون الشرق الأوسط والإسلام والإرهاب، خلال المؤتمر المشار إليه أعلاه، عن ثلاث مراحل في تاريخ التطرّف الحركي الإرهابي باسم الإسلام. فقال: «تجلّت أولاها في أفغانستان بين أعوام 1979 - 1997»، وهو عصر سماه عصر «الجهاد المسلح» الذي نشأ عن نظرية المتشدد الفلسطيني عبد الله عزام، بتمويل خليجي ودعم أميركي وحماية باكستانية. ووفق كيبيل «ترجم الجهاد في أفغانستان، عبر النصر الذي تحقق في فبراير (شباط) 1989. حين انسحب الجيش الأحمر السوفياتي من كابُل بعد عشر سنوات من الحرب. إلا أن أحدًا لم يتنبّه إلى حقيقة ما حدث حينها، حيث إنه في 14 فبراير أصدر آية الله روح الله الخميني فتوى أدان فيها الكاتب سلمان رشدي حتى الموت»، وإذا بالاهتمام كله ينصب بهذا الاتجاه على حساب واقعة جيو-سياسية مرت مرور الكرام، على حد قوله.
بعد هذا النصر على الاتحاد السوفياتي، عاد عدد كبير ممن كانوا يقاتلون في أفغانستان إلى أوطانهم، منها الجزائر أو مصر، على سبيل المثال، وهناك حاولوا تكرار النموذج الأفغاني. كذلك ذهب البعض الآخر إلى البوسنة والهرسك في محاولة لتغيير مسار الحرب الأهلية في يوغوسلافيا السابقة وتحويلها نحو ما يعتبرونه «الجهاد»، غير أن محاولتهم باءت بالفشل. وفي عام 1997. تمكنت السلطات العسكرية أو المدنية في الجزائر ومصر من قلب ميزان القوى لصالحها. وكانت النتيجة أنه جرى التخلي عن هذا «الجهاد» الذي سرعان ما صوّب سِهامه باتجاه العدو القريب، أي أنظمة العالم الإسلامي، ليدخل بذلك مرحلة ثانية.
وهكذا، حسب كيبيل، بدأت المرحلة الثانية التي قادها تنظيم «القاعدة»، وعلى رأسه مفكره أيمن الظواهري، ولقد ركزت هذه المرحلة على «العدو البعيد» أي دول الغرب. وبلغت هذه المرحلة ذروتها في اعتداءات 11 سبتمبر (أيلول) 2001 على الولايات المتحدة الأميركية. وكانت الفكرة الأساسية منها أنه من خلال ضرب العدو، وإظهار ضعفه، سيُتاح المجال أمام المسلمين لكي يتخلوا عن خوفهم ويتمرّدوا على حكامهم. غير أن هذه الاستراتيجية القائمة على استعراض القوة، وشن هجمات متكرّرة، لم تؤدِّ إلى التأثير المتوخى كما لم تنجح في حثّ الجماهير المسلمة على الانتفاض والتمرد، كما يقول الباحث.
لاحقا، كما يستطرد كيبيل: «بدأنا نشهد ظهور المرحلة الثالثة التي يمكن أن نردّ بداياتها الفكرية إلى يناير (كانون الثاني) من عام 2005. حين نشر المهندس السوري - الإسباني (أبو مصعب السوري) بيانه المؤلف من 1600 صفحة على الإنترنت، داعيًا إلى المقاومة الإسلامية العالمية». ويتابع أن «أبو مصعب السوري» تحدث عن «جهاد» يناقض تماما «الجهاد الهرمي» الذي اتبعه أسامة بن لادن، الذي كان يسدّد ثمن دروس الطيران وبطاقات السفر، وما إلى ذلك لأتباعه والمقاتلين معه، مُبشِّرا عوضا عن ذلك بـ«الجهاد القائم من أسفل إلى أعلى»، وقال هذا «الجهاد الذي لم تعد الولايات المتحدة فيه الهدف المنشود الأول إنما أوروبا، أي نقطة ضعف الغرب». واعتبر أن اللاعب الأساسي فيه هو الشباب الأوروبي المسلم الذي يكنّ كرها كبيرًا للغرب، وبالتالي ارتأى أنه سيكون من السهل تلقينه العقائد المتطرفة وتدريبه عسكريًا وإيلاؤه مسؤولية تنظيم حملات توعية وتلقين عقائدي.
ويضيف الباحث «اعتبر مُبتكر هذا النوع الجديد من التطرف الإرهابي المتزيي زي الإسلام، الذي انشق عن بن لادن، أن مهاجمة القارة العجوز قد تنجح في التسبب في نشوب حرب أهلية من خلال استخدام الأشخاص الذين لم يتمكنوا من التأقلم في مجتمعاتهم، ومن خلال إنشاء مخيمات تدريب في بلاد الشام». و«اليوم يظن البعض أن أبو مصعب السوري توفي. إنما لا أحد يعلم ذلك» وفق كيبيل، الذي يستطرد أنه بغض النظر عما إذا كان قد توفي أم لا، فذلك غير مهم لأن كتاباته لا تزال تنتشر في عالم الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي حيث لا يوجد كاتب محدَّد ولا جهة ناشرة معروفة.
وفي الوقت نفسه، شهدت الظروف حينها تطوّرين مهمّين. «كان أولها إنشاء موقع (يوتيوب)، في 14 فبراير 2005، الذي افتُتِحَ معه عصر الجيل الثالث من هذا التطرف، مع الفيديوهات والصور وما إلى ذلك» بحسب كيبيل، ما أحدث تغييرًا جذريًا في الإسلام الراديكالي الذي اتخذ منحى جديدًا وحقق نجاحا كبيرًا. ومن ثم اندلعت «الثورات العربية» التي زعزعت استقرار الكثير من الأنظمة الإقليمية وأسقطت بعضها الآخر، إنما في الوقت نفسه لم تكن قادرة على إرساء الديمقراطية، ما عدا في تونس. كما أن الفوضى العارمة التي تلتها، أدت إلى نشوء مستنقعات عنف وتطرّف على مقربة من أوروبا، قصدها الشباب الأوروبي، على غرار مهدي نموش، للتدرب بكلفة لم تتعد التسعين يورو. وهكذا، بدأت توصيات «أبو مصعب السوري» تُترجم على أرض الواقع، وهي تتجلى بحرفيتها اليوم من خلال ما نشهده من تطرف وإرهاب باسم الإسلام في سوريا والعراق، ومن نشوء «داعش» وهجمات استهدفت أوروبا.
وذكر كيبيل أنه في سياق هذه التحولات نتيجة تفاعلات كتابات «أبو مصعب السوري» والتطورات القتالية والسياسية في بلاد الشام، ظهر كتابه الجديد Terreur dans l’ Hexagone. وقال: إنه خلال السنوات العشر ما بين أحداث العنف في ضواحي باريس في خريف 2005 والهجوم على مطبوعة «شارلي إيبدو» في يناير 2015، عرفت فرنسا ظهور تصدّعات اجتماعية جديدة. فالجيل الشاب الذي ولد في فرنسا من أهل هاجروا بعد فترة الاستعمار كان له رمزية أساسية في هذه التطورات. هذا الجيل الذي نشأ في المدن الفرنسية ويحمل الجنسية الفرنسية وجد سبيلاً جديدًا للتعبير عن مبادئه الضائعة من خلال الإنترنت، فأخذ يبحث عن نموذج إسلامي كامل مقتبس عن إسلام متشدد يحث على الانفصال عن «الغرب الكافر». وساهمت الأدوات الرقمية المتاحة أمامه والمراجع المتطرفة خارج حدوده الوطنية في نشوء حاجز صلب بين ما اعتبر أنه «مُحلَّل» وما اعتبر أنه «مُحرَّم»، ما ساهم بدوره في تعزيز قوة الشبكات الإرهابية النشطة في العالم الرقمي كما على أرض الواقع.
ومن خلال الشبكات الاجتماعية تمكَّن الجيل الثالث من مسلمي فرنسا من الاتصال المباشر مع موجة المرحلة الثالثة (من التطرّف الحركي الإرهابي باسم الإسلام)، التي بدأت تتكون أيضًا عام 2005 أي نفس سنة ظهور بيانات «أبو مصعب السوري». أضف إلى ذلك التغيرات التي شهدتها الأحياء الشعبية الفقيرة والتغيّرات في الأجيال المسلمة الفرنسية وصعود الآيديولوجيات المتطرفة. هذا التفاعل أدى إلى نشوء تجمعات متطرفة خرج منها إرهابيو فرنسا بعدما استهوتهم أرض المعارك في سوريا والعراق التي استقطبت خلال العام 2015 وحده نحو 800 شخص قتل نحو 100 منهم، من دون ذكر أولئك على غرار محمد مراح ومهدي نموش وشريف وسعيد كواشي وحميدي كوليبالي وسيد أحمد غلام الذين ارتكبوا هجمات إرهابية في أوروبا أو حاولوا ارتكاب عمليات إرهابية قبل إن يتم اعتقالهم. وللعلم، فإن الحالات التي ارتكبت أكبر المجازر، على غرار محمد مراح وكواشي وكوليبالي وعبد السلام وأباعود، تتشارك كلها تاريخًا إجراميًا متشابهًا إلى حد ما، وسبق لهؤلاء جميعًا أن سجنوا بتهم السرقة أو الأعمال الإجرامية، وكان التلقين الذي حصلوا عليه في زنزاناتهم أساسيا في تحويل هؤلاء المجرمين إلى إرهابيين يقتلون باسم الدين.
أخيرًا، يعتبر كيبيل أن «إرث الماضي الاستعماري والوضع الاقتصادي لفرنسا ساهما في التهميش» الذي شجع هؤلاء على الجنوح نحو التطرف والإرهاب. إذ إنه يشير إلى أن كثيرين من الشباب «لم يكن قادرا على الحصول على وظيفة بعد تخرجه من المدرسة، التي أخذت بدورها تفقد مصداقيتها في نظرهم بما أنها لم تكن قادرة على تأمين فرص العمل لهم، كما أنها عجزت عن تطبيق القيم العلمانية الفرنسية التي تنادي بها على الكثير من الشباب المحرومين».
وحقًا، فإن الوضع اليوم بات أشبه بدوامة مغلقة، كما أن الإرهاب ليس أمرًا وراثيًا، بل هو نتيجة عملية طويلة جرى فيها تخطي مثاليات اليمين المتطرّف ومثاليات اليسار المتطرف، ليجري الحديث عن «أسلمة التطرّف» كما يقول البعض.



فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
TT

فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)

غداة إعلان باريس مصرع 13 جندياً من مواطنيها، في حادث تحطم مروحيتين عسكريتين في جمهورية مالي الأفريقية، كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يعلن في مؤتمر صحافي أن بلاده تدرس جميع الخيارات الاستراتيجية المتعلقة بوجودها العسكري في منطقة الساحل الأفريقي.
في تصريحاته، أكد ماكرون أنه أمر الجيش الفرنسي بتقييم عملياته ضد المسلحين في غرب أفريقيا، مشيراً إلى أن جميع الخيارات متاحة، وموضحاً أن بلاده «ترغب في مشاركة أكبر من قبل حلفائها في المنطقة من أجل مكافحة الإرهاب».

هل يمكن عد تصريحات ماكرون بداية لمرحلة فرنسية جديدة في مكافحة الإرهاب على أراضي القارة السمراء، لا سيما في منطقة دول الساحل التي تضم بنوع خاص «بوركينا فاسو، ومالي، وموريتانيا، والنيجر، وتشاد»؟
يتطلب منا الجواب بلورة رؤية واسعة للإشكالية الأفريقية في تقاطعاتها مع الإرهاب بشكل عام من جهة، ولجهة دول الساحل من ناحية ثانية.
بداية، يمكن القطع بأن كثيراً من التحديات الحياتية اليومية تطفو على السطح في تلك الدول، لا سيما في ظل التغيرات المناخية التي تجعل الحياة صعبة للغاية وسط الجفاف، الأمر الذي يولد هجرات غير نظامية من دولة إلى أخرى. وفي الوسط، تنشأ عصابات الجريمة المنظمة والعشوائية معاً، مما يقود في نهاية المشهد إلى حالة من الانفلات الأمني، وعدم مقدرة الحكومات على ضبط الأوضاع الأمنية، وربما لهذا السبب أنشأ رؤساء دول المنطقة ما يعرف بـ«المجموعة الخماسية»، التي تدعمها فرنسا وتخطط لها مجابهتها مع الإرهاب، والهدف من وراء هذا التجمع هو تنسيق أنشطتهم، وتولي زمام الأمور، وضمان أمنهم، من أجل الحد من تغلغل الإرهاب الأعمى في دروبهم.
على أنه وفي زمن ما يمكن أن نسميه «الإرهاب المعولم»، كانت ارتدادات ما جرى لتنظيم داعش الإرهابي في العراق وسوريا، من اندحارات وهزائم عسكرية العامين الماضيين، تسمع في القارة الأفريقية بشكل عام، وفي منطقة الساحل بنوع خاص، ولم يكن غريباً أو عجيباً أن تعلن جماعات إرهابية متعددة، مثل «بوكو حرام» وحركة الشباب وغيرهما، ولاءها لـ«داعش»، وزعيمها المغدور أبي بكر البغدادي.
وتبدو فرنسا، فعلاً وقولاً، عازمة على التصدي للإرهاب القائم والآتي في القارة السمراء، وقد يرجع البعض السبب إلى أن فرنسا تحاول أن تحافظ على مكاسبها التاريخية السياسية أو الاقتصادية في القارة التي تتكالب عليها اليوم الأقطاب الكبرى، من واشنطن إلى موسكو، مروراً ببكين، ولا تود باريس أن تخرج خالية الوفاض من قسمة الغرماء الأفريقية، أي أنه تموضع عسكري بهدف سياسي أو اقتصادي، وفي كل الأحوال لا يهم التوجه، إنما المهم حساب الحصاد، وما تخططه الجمهورية الفرنسية لمواجهة طاعون القرن الحادي والعشرين.
في حديثها المطول مع صحيفة «لوجورنال دو ديمانش» الفرنسية، كانت وزيرة الجيوش الفرنسية، فلورانس بارلي، تشير إلى أن فرنسا تقود جهوداً أوروبية لتشكيل قوة عسكرية لمحاربة تنظيمي «داعش» و«القاعدة» في منطقة الساحل الأفريقي، وأن هناك خطوات جديدة في الطريق تهدف إلى تعزيز المعركة ضد العناصر الإرهابية هناك، وإن طال زمن الصراع أو المواجهة.
ما الذي يجعل فرنسا تتحرك على هذا النحو الجاد الحازم في توجهها نحو الساحل الأفريقي؟
المؤكد أن تدهور الأوضاع في الساحل الأفريقي، وبنوع خاص المثلث الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، قد أزعج الأوروبيين أيما إزعاج، لا سيما أن هذا التدهور يفتح الأبواب لهجرات غير شرعية لسواحل أوروبا، حكماً سوف يتسرب في الوسط منها عناصر إرهابية تنوي إلحاق الأذى بالقارة الأوروبية ومواطنيها.
يكاد المتابع للشأن الإرهابي في الساحل الأفريقي يقطع بأن فرنسا تقود عملية «برخان 2»، وقد بدأت «برخان 1» منذ اندلاع أولى شرارات الأزمة الأمنية في منطقة الساحل، فقد التزمت فرنسا التزاماً حاراً من أجل كبح جماح التهديد الإرهابي.
بدأت العملية في يناير (كانون الثاني) 2013، حين تدخلت فرنسا في شمال مالي، عبر عملية «سيرفال»، بغية منع الجماعات الإرهابية التابعة لتنظيم القاعدة من السيطرة على البلاد.
والثابت أنه منذ ذلك الحين، توحدت العمليات الفرنسية التي تضم زهاء 4500 جندي تحت اسم عملية «برخان». وتعمل القوات الفرنسية في هذا الإطار على نحو وثيق مع القوات المسلحة في منطقة الساحل.
ويمكن للمرء توقع «برخان 2»، من خلال تحليل وتفكيك تصريحات وزيرة الجيوش الفرنسية بارلي التي عدت أن دول الساحل الأفريقي تقع على أبواب أوروبا. وعليه، فإن المرحلة المقبلة من المواجهة لن تكون فرنسية فقط، بل الهدف منها إشراك بقية دول أوروبا في مالي بقيادة عملية «برخان 2»، في إطار وحدة مشتركة تدعى «تاكوبا»، بغية مواكبة القوات المسلحة المالية.
ولعل المتابع لتصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون العام الحالي يرى أن الرجل يكاد ينزع إلى ما مضي في طريقه جنرال فرنسا الأشهر شارل ديغول، ذاك الذي اهتم كثيراً بوحدة أوروبا والأوروبيين بأكثر من التحالف مع الأميركيين أو الآسيويين.
ماكرون الذي أطلق صيحة تكوين جيش أوروبي مستقل هو نفسه الذي تحدث مؤخراً عما أطلق عليه «الموت السريري» لحلف الناتو. وعليه، يبقى من الطبيعي أن تكون خطط فرنسا هادفة إلى جمع شمل الأوروبيين للدفاع عن القارة، وعدم انتظار القوة الأميركية الأفريقية (أفريكوم) للدفاع عن القارة الأوروبية.
هذه الرؤية تؤكدها تصريحات الوزيرة بارلي التي أشارت إلى أن فرنسا تبذل الجهود الكبيرة من أجل أن يكون هناك أوروبيون أكثر في الصفوف الأولى مع فرنسا ودول الساحل. وقد أعلنت الوزيرة الفرنسية بالفعل أن «التشيكيين والبلجيكيين والإستونيين قد استجابوا أولاً، كما أن آخرين حكماً سينضمون إلى عملية (تاكوبا) عندما تصادق برلمانات بلادهم على انتشارهم مع القوات الفرنسية».
لا تبدو مسألة قيادة فرنسا لتحالف أوروبي ضد الإرهاب مسألة مرحباً بها بالمطلق في الداخل الفرنسي، لا سيما أن الخسائر التي تكمن دونها عاماً بعد الآخر في منطقة الساحل قد فتحت باب النقاش واسعاً في الداخل الفرنسي، فقد قتل هناك العشرات من الجنود منذ عام 2013، مما جعل بعض الأصوات تتساءل عن نجاعة تلك العملية، وفرصها في الحد من خطورة التنظيمات الإرهابية، وقد وصل النقاش إلى وسائل الإعلام الفرنسية المختلفة.
غير أنه، على الجانب الآخر، ترتفع أصوات المسؤولين الفرنسيين، لا سيما من الجنرالات والعسكريين، الذين يقارنون بين الأكلاف والخسائر من باب المواجهة، وما يمكن أن يصيب فرنسا وبقية دول أوروبا حال صمت الأوروبيين وجلوسهم مستكينين لا يفعلون شيئاً. فساعتها، ستكون الأراضي الأوروبية من أدناها إلى أقصاها أراضي شاسعة متروكة من الدول، وستصبح ملاجئ لمجموعات إرهابية تابعة لـ«داعش» و«القاعدة».
ما حظوظ نجاحات مثل هذا التحالف الأوروبي الجديد؟
يمكن القول إن هناك فرصة جيدة لأن يفعل التحالف الفرنسي الأوروبي الجديد حضوره، في مواجهة الإرهاب المتغلغل في أفريقيا، لا سيما أن الهدف يخدم عموم الأوروبيين، فتوفير الأمن والاستقرار في الجانب الآخر من الأطلسي ينعكس حتماً برداً وسلاماً على بقية عموم أوروبا.
ولم يكن الإعلان الفرنسي الأخير هو نقطة البداية في عملية «برخان 2» أو «تاكوبا»، فقد سبق أن أعلن رئيس الجمهورية الفرنسية، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، بمعية رئيس بوركينا فاسو السيد روش كابوريه، وهو الرئيس الحالي للمجموعة الخماسية لمنطقة الساحل، إبان مؤتمر قمة مجموعة الدول السبع في بياريتز، إنشاء الشراكة من أجل الأمن والاستقرار في منطقة الساحل.
وترمي هذه الشراكة مع بلدان المنطقة إلى تعزيز فعالية الجهود المبذولة في مجالي الدفاع والأمن الداخلي، وإلى تحسين سبل تنسيق دعم الإصلاحات الضرورية في هذين المجالين، وتمثل ضرورة المساءلة مقوماً من مقومات هذه الشراكة.
ولا يخلو المشهد الفرنسي من براغماتية مستنيرة، إن جاز التعبير، فالفرنسيون لن يقبلوا أن يستنزفوا طويلاً في دفاعهم عن الأمن الأوروبي، في حين تبقى بقية دول أوروبا في مقاعد المتفرجين ليس أكثر، وربما لمح الفرنسيون مؤخراً من طرف خفي إلى فكرة الانسحاب الكامل الشامل، إن لم تسارع بقية دول القارة الأوروبية في إظهار رغبة حقيقية في تفعيل شراكة استراتيجية تستنقذ دول الساحل الأفريقي من الوقوع لقمة سائغة في فم الجماعات الإرهابية، في منطقة باتت الأنسب ليتخذها الإرهابيون مخزناً استراتيجياً ومنطقة حشد لهم، وفي مقدمة تلك الجماعات مجموعات إرهابية تابعة لتنظيم القاعدة تجتمع تحت راية جماعة «نصرة الإسلام والمسلمين»، وأخرى تابعة لتنظيم داعش على غرار التنظيم الإرهابي في الصحراء الكبرى، التي تقوم بتنفيذ كثير من الهجمات ضد القوات المسلحة في منطقة الساحل، والقوات الدولية التي تدعمها، والتي تضم بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الإبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي، المكلفة بدعم تنفيذ اتفاق السلام المنبثق عن عملية الجزائر العاصمة، ودعم جهود إرساء الاستقرار التي تبذلها السلطات المالية في وسط البلاد.
ولعل كارثة ما يجري في منطقة الساحل الأفريقي، ودول المجموعة الخماسية بنوع خاص، غير موصولة فقط بالجماعات الراديكالية على اختلاف تسمياتها وانتماءاتها، فهناك مجموعات أخرى مهددة للأمن والسلام الأوروبيين، جماعات من قبيل تجار المخدرات والأسلحة، وكذا مهربو البشر، وتهريب المهاجرين غير الشرعيين، وهذا هاجس رهيب بدوره بالنسبة لعموم الأوروبيين.
على أن علامة استفهام تبقى قلقه محيرة بالنسبة لباريس وقصر الإليزيه اليوم، وهي تلك المرتبطة بالإرادة الأوروبية التي تعاني من حالة تفسخ وتباعد غير مسبوقة، تبدت في خلافات ألمانية فرنسية بنوع خاص تجاه فكرة استمرار الناتو، وطرح الجيش الأوروبي الموحد.
باختصار غير مخل: هل دعم الأوروبيين كافة لعملية «برخان 2» أمر مقطوع به أم أن هناك دولاً أوروبية أخرى سوف تبدي تحفظات على فكرة المساهمة في تلك العمليات، خوفاً من أن تستعلن فرنسا القوة الضاربة الأوروبية في القارة الأفريقية من جديد، مما يعني عودة سطوتها التي كانت لها قديماً في زمن الاحتلال العسكري لتلك الدول، الأمر الذي ربما ينتقص من نفوذ دول أخرى بعينها تصارع اليوم لتقود دفة أوروبا، في ظل حالة الانسحاب من الاتحاد التي تمثلها بريطانيا، والمخاوف من أن تلحقها دول أخرى؟
مهما يكن من أمر الجواب، فإن تصاعد العمليات الإرهابية في الفترة الأخيرة، أو حدوث عمليات جديدة ضد أهداف أوروبية في القارة الأفريقية، وجريان المقدرات بأي أعمال إرهابية على تراب الدول الأوروبية، ربما يؤكدان الحاجة الحتمية لتعزيز توجهات فرنسا، وشراكة بقية دول أوروبا، ويبدو واضحاً أيضاً أن بعضاً من دول أفريقيا استشرفت مخاوف جمة من تعاظم الإرهاب في منطقة الساحل الأفريقي، مثل تشاد التي وافقت على تعبئة مزيد من الجيوش في المثلث الحدودي الهش مع النيجر وبوركينا فاسو.