ثلاث مراحل في تاريخ التطرّف باسم الإسلام

في قراءة للباحث والخبير الفرنسي جيل كيبيل

ثلاث مراحل في تاريخ التطرّف باسم الإسلام
TT

ثلاث مراحل في تاريخ التطرّف باسم الإسلام

ثلاث مراحل في تاريخ التطرّف باسم الإسلام

ما هي المحطات التي شهدها تطوّر الفكر الإسلاموي المتشدد - الملقب بـ«الجهادي» - في فرنسا ومن أين استقى مصادره؟ مواضيع تطرّق إليها الدكتور جيل كيبيل، الباحث الفرنسي البارز، خلال المؤتمر الذي نظمه «معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى» في العاصمة الأميركية واشنطن، متحدثًا عن تجربته مع الجهاديين وعن كتابه الجديد حول تطوّر الإرهاب في فرنسا بعنوان Terreur dans l›Hexagone أي (الإرهاب داخل السداسي).
تحدث الدكتور جيل كيبيل، الباحث والخبير الفرنسي في شؤون الشرق الأوسط والإسلام والإرهاب، خلال المؤتمر المشار إليه أعلاه، عن ثلاث مراحل في تاريخ التطرّف الحركي الإرهابي باسم الإسلام. فقال: «تجلّت أولاها في أفغانستان بين أعوام 1979 - 1997»، وهو عصر سماه عصر «الجهاد المسلح» الذي نشأ عن نظرية المتشدد الفلسطيني عبد الله عزام، بتمويل خليجي ودعم أميركي وحماية باكستانية. ووفق كيبيل «ترجم الجهاد في أفغانستان، عبر النصر الذي تحقق في فبراير (شباط) 1989. حين انسحب الجيش الأحمر السوفياتي من كابُل بعد عشر سنوات من الحرب. إلا أن أحدًا لم يتنبّه إلى حقيقة ما حدث حينها، حيث إنه في 14 فبراير أصدر آية الله روح الله الخميني فتوى أدان فيها الكاتب سلمان رشدي حتى الموت»، وإذا بالاهتمام كله ينصب بهذا الاتجاه على حساب واقعة جيو-سياسية مرت مرور الكرام، على حد قوله.
بعد هذا النصر على الاتحاد السوفياتي، عاد عدد كبير ممن كانوا يقاتلون في أفغانستان إلى أوطانهم، منها الجزائر أو مصر، على سبيل المثال، وهناك حاولوا تكرار النموذج الأفغاني. كذلك ذهب البعض الآخر إلى البوسنة والهرسك في محاولة لتغيير مسار الحرب الأهلية في يوغوسلافيا السابقة وتحويلها نحو ما يعتبرونه «الجهاد»، غير أن محاولتهم باءت بالفشل. وفي عام 1997. تمكنت السلطات العسكرية أو المدنية في الجزائر ومصر من قلب ميزان القوى لصالحها. وكانت النتيجة أنه جرى التخلي عن هذا «الجهاد» الذي سرعان ما صوّب سِهامه باتجاه العدو القريب، أي أنظمة العالم الإسلامي، ليدخل بذلك مرحلة ثانية.
وهكذا، حسب كيبيل، بدأت المرحلة الثانية التي قادها تنظيم «القاعدة»، وعلى رأسه مفكره أيمن الظواهري، ولقد ركزت هذه المرحلة على «العدو البعيد» أي دول الغرب. وبلغت هذه المرحلة ذروتها في اعتداءات 11 سبتمبر (أيلول) 2001 على الولايات المتحدة الأميركية. وكانت الفكرة الأساسية منها أنه من خلال ضرب العدو، وإظهار ضعفه، سيُتاح المجال أمام المسلمين لكي يتخلوا عن خوفهم ويتمرّدوا على حكامهم. غير أن هذه الاستراتيجية القائمة على استعراض القوة، وشن هجمات متكرّرة، لم تؤدِّ إلى التأثير المتوخى كما لم تنجح في حثّ الجماهير المسلمة على الانتفاض والتمرد، كما يقول الباحث.
لاحقا، كما يستطرد كيبيل: «بدأنا نشهد ظهور المرحلة الثالثة التي يمكن أن نردّ بداياتها الفكرية إلى يناير (كانون الثاني) من عام 2005. حين نشر المهندس السوري - الإسباني (أبو مصعب السوري) بيانه المؤلف من 1600 صفحة على الإنترنت، داعيًا إلى المقاومة الإسلامية العالمية». ويتابع أن «أبو مصعب السوري» تحدث عن «جهاد» يناقض تماما «الجهاد الهرمي» الذي اتبعه أسامة بن لادن، الذي كان يسدّد ثمن دروس الطيران وبطاقات السفر، وما إلى ذلك لأتباعه والمقاتلين معه، مُبشِّرا عوضا عن ذلك بـ«الجهاد القائم من أسفل إلى أعلى»، وقال هذا «الجهاد الذي لم تعد الولايات المتحدة فيه الهدف المنشود الأول إنما أوروبا، أي نقطة ضعف الغرب». واعتبر أن اللاعب الأساسي فيه هو الشباب الأوروبي المسلم الذي يكنّ كرها كبيرًا للغرب، وبالتالي ارتأى أنه سيكون من السهل تلقينه العقائد المتطرفة وتدريبه عسكريًا وإيلاؤه مسؤولية تنظيم حملات توعية وتلقين عقائدي.
ويضيف الباحث «اعتبر مُبتكر هذا النوع الجديد من التطرف الإرهابي المتزيي زي الإسلام، الذي انشق عن بن لادن، أن مهاجمة القارة العجوز قد تنجح في التسبب في نشوب حرب أهلية من خلال استخدام الأشخاص الذين لم يتمكنوا من التأقلم في مجتمعاتهم، ومن خلال إنشاء مخيمات تدريب في بلاد الشام». و«اليوم يظن البعض أن أبو مصعب السوري توفي. إنما لا أحد يعلم ذلك» وفق كيبيل، الذي يستطرد أنه بغض النظر عما إذا كان قد توفي أم لا، فذلك غير مهم لأن كتاباته لا تزال تنتشر في عالم الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي حيث لا يوجد كاتب محدَّد ولا جهة ناشرة معروفة.
وفي الوقت نفسه، شهدت الظروف حينها تطوّرين مهمّين. «كان أولها إنشاء موقع (يوتيوب)، في 14 فبراير 2005، الذي افتُتِحَ معه عصر الجيل الثالث من هذا التطرف، مع الفيديوهات والصور وما إلى ذلك» بحسب كيبيل، ما أحدث تغييرًا جذريًا في الإسلام الراديكالي الذي اتخذ منحى جديدًا وحقق نجاحا كبيرًا. ومن ثم اندلعت «الثورات العربية» التي زعزعت استقرار الكثير من الأنظمة الإقليمية وأسقطت بعضها الآخر، إنما في الوقت نفسه لم تكن قادرة على إرساء الديمقراطية، ما عدا في تونس. كما أن الفوضى العارمة التي تلتها، أدت إلى نشوء مستنقعات عنف وتطرّف على مقربة من أوروبا، قصدها الشباب الأوروبي، على غرار مهدي نموش، للتدرب بكلفة لم تتعد التسعين يورو. وهكذا، بدأت توصيات «أبو مصعب السوري» تُترجم على أرض الواقع، وهي تتجلى بحرفيتها اليوم من خلال ما نشهده من تطرف وإرهاب باسم الإسلام في سوريا والعراق، ومن نشوء «داعش» وهجمات استهدفت أوروبا.
وذكر كيبيل أنه في سياق هذه التحولات نتيجة تفاعلات كتابات «أبو مصعب السوري» والتطورات القتالية والسياسية في بلاد الشام، ظهر كتابه الجديد Terreur dans l’ Hexagone. وقال: إنه خلال السنوات العشر ما بين أحداث العنف في ضواحي باريس في خريف 2005 والهجوم على مطبوعة «شارلي إيبدو» في يناير 2015، عرفت فرنسا ظهور تصدّعات اجتماعية جديدة. فالجيل الشاب الذي ولد في فرنسا من أهل هاجروا بعد فترة الاستعمار كان له رمزية أساسية في هذه التطورات. هذا الجيل الذي نشأ في المدن الفرنسية ويحمل الجنسية الفرنسية وجد سبيلاً جديدًا للتعبير عن مبادئه الضائعة من خلال الإنترنت، فأخذ يبحث عن نموذج إسلامي كامل مقتبس عن إسلام متشدد يحث على الانفصال عن «الغرب الكافر». وساهمت الأدوات الرقمية المتاحة أمامه والمراجع المتطرفة خارج حدوده الوطنية في نشوء حاجز صلب بين ما اعتبر أنه «مُحلَّل» وما اعتبر أنه «مُحرَّم»، ما ساهم بدوره في تعزيز قوة الشبكات الإرهابية النشطة في العالم الرقمي كما على أرض الواقع.
ومن خلال الشبكات الاجتماعية تمكَّن الجيل الثالث من مسلمي فرنسا من الاتصال المباشر مع موجة المرحلة الثالثة (من التطرّف الحركي الإرهابي باسم الإسلام)، التي بدأت تتكون أيضًا عام 2005 أي نفس سنة ظهور بيانات «أبو مصعب السوري». أضف إلى ذلك التغيرات التي شهدتها الأحياء الشعبية الفقيرة والتغيّرات في الأجيال المسلمة الفرنسية وصعود الآيديولوجيات المتطرفة. هذا التفاعل أدى إلى نشوء تجمعات متطرفة خرج منها إرهابيو فرنسا بعدما استهوتهم أرض المعارك في سوريا والعراق التي استقطبت خلال العام 2015 وحده نحو 800 شخص قتل نحو 100 منهم، من دون ذكر أولئك على غرار محمد مراح ومهدي نموش وشريف وسعيد كواشي وحميدي كوليبالي وسيد أحمد غلام الذين ارتكبوا هجمات إرهابية في أوروبا أو حاولوا ارتكاب عمليات إرهابية قبل إن يتم اعتقالهم. وللعلم، فإن الحالات التي ارتكبت أكبر المجازر، على غرار محمد مراح وكواشي وكوليبالي وعبد السلام وأباعود، تتشارك كلها تاريخًا إجراميًا متشابهًا إلى حد ما، وسبق لهؤلاء جميعًا أن سجنوا بتهم السرقة أو الأعمال الإجرامية، وكان التلقين الذي حصلوا عليه في زنزاناتهم أساسيا في تحويل هؤلاء المجرمين إلى إرهابيين يقتلون باسم الدين.
أخيرًا، يعتبر كيبيل أن «إرث الماضي الاستعماري والوضع الاقتصادي لفرنسا ساهما في التهميش» الذي شجع هؤلاء على الجنوح نحو التطرف والإرهاب. إذ إنه يشير إلى أن كثيرين من الشباب «لم يكن قادرا على الحصول على وظيفة بعد تخرجه من المدرسة، التي أخذت بدورها تفقد مصداقيتها في نظرهم بما أنها لم تكن قادرة على تأمين فرص العمل لهم، كما أنها عجزت عن تطبيق القيم العلمانية الفرنسية التي تنادي بها على الكثير من الشباب المحرومين».
وحقًا، فإن الوضع اليوم بات أشبه بدوامة مغلقة، كما أن الإرهاب ليس أمرًا وراثيًا، بل هو نتيجة عملية طويلة جرى فيها تخطي مثاليات اليمين المتطرّف ومثاليات اليسار المتطرف، ليجري الحديث عن «أسلمة التطرّف» كما يقول البعض.



تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
TT

تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)

غداة الزيارة المريبة التي قام بها الوالي العثماني المنحول إردوغان إلى تونس، علا صوت الكثير من الأحزاب التونسية والاتحادات العامة للشغل وغيرها من جماعات المجتمع المدني بالرفض لأن تكون تونس ممراً أو مستقراً لنقل «الدواعش» من سوريا إلى ليبيا بواسطة تركيا عبر بلادهم».
المطالب المتقدمة تعني أمراً واحداً، وهو يقين الشرفاء والنبلاء من الشعب التونسي بأن بعض من نوايا إردوغان الحقيقية بالنسبة لليبيا موصول بإعادة إنتاج التنظيم الإرهابي الأشرس في العقود الأخيرة (داعش)، وربما في طبعة جديدة أسوأ مما شهده العالم في العراق وسوريا خلال النصف الثاني من العقد الماضي.
أسئلة كثيرة تطل برأسها من نافذة الأحداث المتسارعة عن أحوال «داعش» وعن الفوضى والارتباك اللذين تتسبب فيهما تركيا في ليبيا، وفي الوسط تسعى لنقل معركتها إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط، وإلى العمق الأفريقي لأهداف سنأتي على تفصيلها.
علامة الاستفهام الأولى في هذا الحديث: «ما هو وضع الدواعش في الوقت الحاضر في موطن النشوء الأول ومن حول بلاد الشام التاريخية؟».
الجواب نجده بالتفصيل والأرقام عند هارون ي زيلين، الباحث في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، وعنده أنه في عام 2019 قدر البنتاغون أن ما بين 14 و18 ألف من مقاتلي تنظيم «داعش» لا يزالون في العراق وسوريا، والتساؤل ما الذي يفعلونه هناك؟
بلا شك مواصلة العمل كتنظيم إرهابي متمرد يكرس أعضاؤه جل وقتهم لمحاولة تهريب السجناء، وربما إعادة السيطرة على الأراضي، ومن خلال حرب استنزاف يعتقدون أنهم سيرهقون أعداءهم، كما أنهم يستفيدون من أي مساحات لا تسيطر عليها الحكومة المركزية أو يلعبون على وتر خطوط الصدع السياسية أو العرقية أو الدينية آملين في استغلالها لصالحهم.
> هل لدى التنظيم حتى الساعة مقدرة مالية على إدارة شؤونه بنفسه والإنفاق على عملياته الإرهابية؟
ــــ من الواضح أن الدواعش لا يزالون قابضين على ثروة تقدر بنحو 300 مليون دولار، ووفقاً لتقرير صادر عن الأمم المتحدة في يوليو (تموز) 2019، فإن «داعش» استثمر مجدداً أمواله في أعمال مشروعة، وربما بأسماء وهمية لا علاقة لها بأعضائه الإرهابين، أي من خلال عناصر نائمة، وذلك عبر العقارات، ووكلاء السيارات، ويوجد عدد منها في تركيا وفقاً لوزارة الخزانة الأميركية التي صنفت أفراداً من تنظيم «داعش» وشركات تحويل وصرافة على لائحة الإرهاب.
> ماذا تعني تلك البيانات المتقدمة؟
ــــ باختصار غير مخل، تشير إلى أن التنظيم لا يزال باقياً وفاعلاً، وأن الأيادي التركية السوداء تقف وراءه في أقصى الشرق، وها هي تجد فرصة غير مسبوقة ليعبر المتوسط جهة الغرب ويحل برحاله في ليبيا.
لم ينس إردوغان للحظة واحدة أنه في الشرق من ليبيا، توجد مصر الكنانة التي أسقطت مشروعه في عام 2013؛ فقد خيل له أنه قد أضحى الخليفة الجديدة بعد سنوات الربيع المغشوش؛ ولهذا فإن ملامح وعلامات الانتقام من مصر لا تغيب عن ناظريه، وقد حاول كثيراً استخدام الطابور الخامس من الإخوان المسلمين في مصر في زعزعة استقرار المحروسة وأخفق؛ ولهذا فقد بدا واضحاً أن الرجل المقهور يود نقل معركته إلى الداخل المصري بالاقتراب الكبير والمؤثر والفاعل؛ الأمر الذي لا يغيب عن أعين صقور المؤسسة العسكرية المصرية التي تقف له بالمرصاد.
وجد إردوغان ضالته المنشودة في جماعة الوفاق المنحلة، التي هي مزيج من الإخوان المسلمين والدواعش و«القاعدة» والجماعات الإرهابية كافة الشاردة والواردة، ومن خلال عمليات لوجيستية تتضح ساعة بعد أخرى، يمضي في إحياء التنظيم القاتل وله في ذلك أيضاً مأربان، أحدهما جهة الشمال والآخر ناحية الجنوب...ماذا عن ذلك؟
أما الشمال، فالمقصود به أوروبا، حيث العداء التاريخي المستحكم من تركيا تجاه أوروبا، وإردوغان يشعر بالغدر والخيانة من جراء رفض الاتحاد الأوروبي قبوله تحت سقفه؛ ولهذا أطلق تصريحات ذات طبيعة دوجمائية أكثر من مرة، حاول بها تفعيل مشاعر ديماجوجية في وسط الأتراك ليكتسب شعبية، رغم أن الأمر ارتد عليه مؤخراً بالسلب.
يسعى إردوغان من تأصيل وجود «الدواعش» على الشاطئ المتوسطي المواجه لأوروبا إلى استخدام الإرهاب الأصولي كأحدى أوراق نفوذه ضد ألمانيا، وفرنسا، وإيطاليا، والبرتغال، وقبلهما اليونان وقبرص، وهو أمر ليس بجديد عليه، فقد صرح قبل فترة بأنه قادر على فتح بوابات الوصول إلى أوروبا أمام اللاجئين والدواعش لإغراق أوروبا، وربما إحراقها بنيران الدواعش ومن لفّ لفّهم.
إردوغان أيضاً له مأرب آخر يتصل بعمق القارة الأفريقية، وهو يدرك أن ما فقده من أوهام الخلافة في الشرق الأوسط، ربما يجد له صدى في وسط أفريقيا، حيث يغيب الأمن كثيراً عن بعض الدول من جهة، ولا سيما المفككة اجتماعياً، وحيث تنتشر جماعات الإرهاب المشابهة من «حركة الشباب» و«بوكو حرام» وما شابه، وغالبيتها قد أعلنت ولاءها وانضواءها تحت راية تنظيم «داعش» الإرهابية وليس الإسلامية قبل نحو عامين.
والشاهد، أن إردوغان لا ينشئ فرعاً جديداً لـ«داعش» في ليبيا، وإنما يسعى لإيقاظ المؤتلفة قلوبهم، إن جاز التعبير، أولئك الذين هم دواعش في الباطن وإن أبدوا خلاف ذلك في العلن، والمعروف أن الأرضية الأصولية الإخوانية في ليبيا كانت قد انتهزت فرصة الإطاحة بمعمر القذافي عام 2011، حيث أقام المقاتلون مثل سوريا والعراق حكماً دينياً، غير أنه وفي عام 2016 استطاعت قوات الحكومة ومقاتلون من مصراتة بدعم من القوات الأميركية الخاصة وطائرات «إف 16» إخراج مقاتلي التنظيم من سرت في ديسمبر (كانون الأول) 2016.
في ذلك الهجوم قُتلت أعداد كبيرة من المتشددين، في حين هرب البقية إلى الجنوب بحثاً عن ملاجئ آمنة، وأقاموا معسكرات تدريب استخدموها للسطو على شاحنات النفط، وحصلوا على موارد من خلال التهريب، وهرب بعضهم إلى النيجر، حيث انضموا إلى فرع التنظيم هناك. ورغم عددهم القليل فإنهم استمروا في هجماتهم السريعة.
مؤخراً، وحتى قبل التدخل الإردوغاني المسموم، بدأ القلق يتزايد في سرت مرة أخرى، حيث تم اعتقال عشرة أشخاص يشتبه بتعاطفهم مع التنظيم، منهم مهندسة عثر على جهاز لاسلكي في بيتها، كما قبض على رجل قابل أعضاء في «خلية نائمة»، وأقاموا حاجز تفتيش خارج المدينة لإظهار أنهم لا يزالون فيها.
> هل بدأت مرحلة إحياء «داعش» ليبيا بشكل رسمي الأيام الأخيرة وبدعم علني من تركيا لا يواري ولا يداري أهدافه الآثمة؟
ــــ من الواضح أن ذلك كذلك، ولا سيما في ضوء ما رصده «المرصد السوري لحقوق الإنسان» في سوريا، والذي أشار قبل أيام إلى أن الفصائل السورية الموالية لتركيا قد افتتحت هناك مراكز تسجيل أسماء الأشخاص الراغبين بالذهاب للقتال في ليبيا.
> هل بدأ الحشد «الداعشي» التركي طريقه إلى ليبيا بالفعل؟
ــــ الشاهد، أنه، ومن أسف، قد بدأ عشرات الأشخاص يقصدون تلك المراكز للالتحاق بالمعارك في ليبيا للعمل تحت الحماية التركية هناك، كما نقلت مصادر محلية قولها إن الفصائل الموالية لتركيا تشجع الشباب على الالتحاق بالحرب الليبية، وتقدم مغريات ورواتب مجزية تراوح بين 1800 و2000 دولار أميركي لكل مسلح شهرياً، علاوة عل تقديم خدمات إضافية تتكفل بها الدولة المضيفة.
ولعل الذين تابعوا الأسبوع الماضي تصريحات المتحدث باسم الجيش الوطني الليبي اللواء أحمد المسماري قد وقر لديهم أن عجلة إحياء تنظيم «داعش» في ليبيا قد دارت بالفعل، وذلك من خلال الأصابع المشبوهة للمخابرات التركية التي تقوم بنقل عناصر التنظيم، عطفاً على القادمين والمنتمين الجدد والذين هم في غالبيتهم مرتزقة ومؤدلجون أصوليون، والنوعان معاً، ولا سيما من أعضاء «جبهة النصرة» من سوريا إلى ليبيا عبر مطار جربة في تونس، الأمر الذي يعود بنا إلى الحديث عن تونس مرة جديدة، ويربط بينها وبين ما يجري في ليبيا.
> هل تعرّض التونسيون إلى خدعة كبرى في اختيارهم الأخير؟
ــــ مهما يكن من أمر ساكن القصر الرئاسي، إلا أن المؤكد أن حزب «النهضة التونسي» ليس إلا وجهاً آخر من أوجه الإخوان المسلمين في تونس، وهو أحد فروع التنظيم الدولي لـ«الإخوان» المسلمين المنتشر حول العالم، يأتمر بأمرهم، ويتوجه كيفما يعنّ لبوصلتهم.
هنا يصبح من الحقيقي التسليم بالمعلومات التي رصدها الجيش الليبي من استخدام مطارات تونس لغرض إنشاء «داعش» جديدة على الأراضي الليبية، ومنها مطار جربة، حيث تم إنزال مجموعات إرهابية في تونس، وتم نقلهم إلى ليبيا عن طريق الجبل الغربي، ومطار مصراتة وزواره، ومعتيقة تحديداً التي استقبلت أعداداً كبيرة من «جبهة النصرة» وتنظيم «داعش».
في هذا السياق، يبقى من الطبيعي أن تنهض آمال «الدواعش» في تونس في الفترة المقبلة، أولئك الذين سيصبحون الجسر الواصل بين تونس وليبيا؛ الأمر الذي حذر منه البرلمان التونسي السابق قبل عودة النهضة الكارثية مرة أخرى، لكن في ظل السيطرة الإخوانية التونسية الأخيرة يكاد يكون الأمل سراباً في إعادة ضبط وتموضع «الدواعش» التونسيين.
حين نشير إلى أن دواعش ليبيا قد بدأوا مرحلة مغاير آخذة في التصاعد الإرهابي المؤلم، فإننا لا نرجم بالغيب، بل من خلال أدلة ليس آخرها الفيديو الذي أذاعوه نهار الخامس من ديسمبر 2019، وفيه ذبح لمواطنين ليبيين بينهم موظفون حكوميون سقطوا أسرى في أيدي التنظيم، ومشاهد بشعة لعمليات إعدام جماعية بالرصاص، في منطقة الفقهاء جنوب ليبيا.
الفيديو بثته وكالة «أعماق» التابعة لتنظيم «داعش» حمل اسم «وأخرجوهم من حيث أخرجوكم»، استمر نحو 31 دقيقة وأظهر معاملة مشينة من عناصر التنظيم للأسرى الذين وقع اختطافهم، أو المواطنين الذين تم اعتقالهم خلال عملياته الإرهابية على بلدة الفقهاء، حيث وثقت مقاطع عملية إعدام جماعية لأشخاص مكبلين رمياً بالرصاص على رؤوسهم.
الأسئلة الجوهرية في هذا السياق، هل ستبقى أوروبا مكتوفة الأيدي أمام تركيا وهي تعيد سيرة حروب القرون الوسطى من جديد، وهل ستكتفي بدور المشاهد بعد أن أسقطت نظام القذافي ولم يكن لها خطة لليوم التالي؟
ثم فيما يخص أميركا، لماذا يتسم موقفها بالميوعة السياسية، وهل يخشى إردوغان من التورط في الأزمة الليبية عسكرياً وهو في عام الانتخابات ولديه من الإشكاليات الداخلية ما يكفي؟
ألا تعد خطط إردوغان نوعاً من تهديد السلم العالمي، الأمر الذي يستوجب التنادي إلى البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة الخاص بالاتحاد من أجل السلم قبل أن يستفحل الضرر ويتحول المشهد إلى حرب إقليمية؟
ثم ما هو الدور الروسي في ليبيا وهي التي تسعى لاستعادة نفوذها هناك، وهل سيقدر لها قطع الطريق على الآغا العثمانلي بطريق مشابهة لما فعلته مع الدواعش في سوريا؟