ليبيا.. السويحلي رجل «مفترق الطرق»

رئيس مجلس الدولة يسحب البساط من المؤتمر الوطني

ليبيا.. السويحلي رجل «مفترق الطرق»
TT

ليبيا.. السويحلي رجل «مفترق الطرق»

ليبيا.. السويحلي رجل «مفترق الطرق»

من النادر أن تجد اسم عبد الرحمن السويحلي، الذي عُيّن أخيرًا رئيسًا لـ«المجلس الأعلى الدولة» الليبي، في المواقف العادية، إذ إنه يظهر عادة في الظروف الصعبة، أو كما يقال هنا: حين يكون هناك مفترق طرق، وحين يسود الارتباك، ستراه واقفًا لحسم الأمر وتوجيه الدفة، بغض النظر عن أي حسابات. السويحلي، ابن مدينة مصراتة الليبية، هو أول رئيس للمجلس الذي جرى انتخابه قبل أسبوعين رغم اللغط والانتقادات. ولقد ولد في أواخر أربعينات القرن الماضي، لأسرة معروفة شاركت في إرباك الاحتلال الإيطالي لليبيا. ومثل مصراتة، ارتبط اسم السويحلي بالكثير من المنعطفات التي مرت بها ليبيا بما في ذلك سنوات حكم معمر القذافي، ثم عام 2011 التي قامت فيها ميليشيات من المدينة بتهجير سكان بلدة تاورغاء المجاورة لها، بعد اتهام السكان هناك بمساندة نظام القذافي. وبعد ذلك شاركت ميليشيات من مصراتة في شن هجوم عسكري في عام 2012 على بلدة بني وليد، في عملية ارتبطت على ما يبدو بالرغبة في تصفية ثأر قديم وعملية انتقامية تركت جراحًا لم تندمل بعد. وبعد ذلك ظهرت مصراتة على الواجهة مجددًا من خلال «قوات فجر ليبيا»، التي شنت حروبا ضد خصومها، أشهرها معركة المطار ومناطق غرب طرابلس.
يمتلك عبد الرحمن السويحلي، بغض النظر عن كل شيء، تجربة سياسية قديمة تعود لسنوات المد القومي في سبعينات القرن الماضي. وقتها كان القذافي يغيّر موازين القوى الداخلية تحت شعارات، منها الاشتراكية والوحدوية، وتحت حماية «اللجان الثورية» التي أسست في ذلك الوقت لدعم نظام الحكم والسيطرة على الغضب الطلابي في الجامعات، وتطبيق نظريات السلطة التي عُرفت فيما بعد بمنهج «الكتاب الأخضر».
في تلك السنوات التي كانت فيها منطقة الشرق الأوسط ما زالت تدور في دوامة تداعيات حرب أكتوبر (تشرين الأول) عام 1973، بدأ السويحلي، قبل أن يتخطى عامه الثلاثين، ينشط في الأوساط السياسية حين انتقل للدراسة خارج البلاد، معتمدًا في ذلك على علاقاته القديمة مع طلاب المرحلتين الثانوية والجامعية ممن انتقلوا لاستكمال الدراسة في أوروبا، خصوصًا من أبناء مدينته.
من السيرة الطويلة لهذا الرجل، يمكن أن تلاحظ أنه يحسب خطواته.. قبل أن ينتقل من مكانه ينظر أمامه وينظر خلفه، ثم يتخذ القرار حتى لو لم تكن نتائجه مضمونة تمامًا. لهذا يبدو أنه أدرك، حين كان يقيم في العاصمة البريطانية لندن، حيث كان يتابع دراسته، استحالة تغيير نظام القذافي من خلال حركة طلابية صغيرة تنحصر غالبية أنشطتها بعيدا عن أرض الوطن. وعليه قرر في أواخر ثمانينات القرن الماضي العودة إلى ليبيا والابتعاد عن العمل السياسي، رغم ما كان في هذه العودة من مخاطر.
حدث هذا بينما كانت المعارضة الليبية في الخارج، سواء تلك التي اتخذت من لندن مقرًا لها، أو التي كانت مبعثرة في العالم، تزداد نشاطًا وقوة، مقابل ارتفاع وتيرة الملاحقات من جانب النظام ضد المعارضين في الداخل. ولهذا كان من المستغرب، لدى كثرة من السياسيين المطارَدين في البلدان الغربية، أن يتخذ الشاب السويحلي النشيط في خصومته لحكم القذافي، قرارًا بالعودة إلى ليبيا.
في نهاية المطاف.. وحين تنظر إلى تلك الأيام، حين كانت المعارضة في الخارج تعاني من الفقر والعراقيل، يمكن أن تفهم قرار السويحلي بالرجوع إلى بلاده. في تلك الفترة أيضًا ظهر اسم رجل الجيش خليفة حفتر، قائدًا للجيش الوطني الليبي في المنفى. كان حفتر قائدًا في القوات البرية الليبية أثناء الحرب بين ليبيا وتشاد، وتعرض للأسر وانتقل بواسطة إقليمية ودولية إلى الولايات المتحدة، لينضم بعد ذلك إلى «جبهة إنقاذ ليبيا» و«التحالف الوطني» وغيرهما من مسميات المعارضة.
لم يستمر الأمر طويلاً. دبت الخلافات بين عدد من قادة المعارضة الليبية في الخارج، وتوزعت ولاءات كثير منهم بين هذه الدولة وتلك، وبين هذا التيار وذاك. كان مفترق طرق يقف فيه قوميون وجماعة الإخوان وماركسيون وليبراليون ومشارب سياسية مختلفة. وفي هذه الأثناء كان السويحلي قد حصل على شهادة الدكتوراه في الهندسة المدنية من بريطانيا، وعاد إلى بلاده ليدخل في منعطف جديد، حيث أصبح رجل أعمال يدير مكتبه الاستشاري الخاص في أعمال الهندسة.
مدينة مصراتة، التي ينتمي إليها السويحلي، معروفة تاريخيًا بأنها مدينة الصناعة والثراء والميل إلى التيار المحافظ. ويبدو أن هذه الخلفية أثرت في تكوين شخصيته. ومن الطرائف أن بعض قيادات التيار الديني تصنّفه على أنه من «العلمانيين»، بينما يصنفه البعض في التيار المدني ضمن التيار الديني. ويقول عنه بعض المحايدين إنه «سياسي يجيد استخدام ما لديه من أوراق». وللعلم، تقع مصراتة على بعد نحو 200 كيلومتر إلى الشرق من طرابلس، وشهدت عواصف سياسية وعسكرية مرت على البلاد. ولقد كان لها مكانة خاصة في قلب القذافي منذ انتقل لاستكمال دراسته الثانوية فيها آتيًا من مدرسته في سبها في الستينات. (مدينة سرت، مسقط رأس القذافي، تقع إلى الشرق من مصراتة بنحو 200 كيلومتر أيضًا).
وفي مصراتة نفسها، شكّل القذافي «خلايا ثورية» رئيسية، وأقنع الكثير من الدارسين باستكمال التعليم عسكريًا في الكلية الحربية التي كانت تتخذ من مدينة بنغازي مقرا لها. ومن هناك انطلقت الحركة التي عرفت فيما بعد باسم «ثورة الفاتح عام 1969»، لتتولى حكم البلاد، وكان لرجال مصراتة نصيب في النظام الجديد، رغم اعتماد القذافي على التوزيع القبلي لكثير من المناصب خصوصًا الأمنية والعسكرية.
بعدها مرّت مصراتة ومعها كبار أثرياء ووجهاء المدينة، بمفترق طرق جديد يعد من المنعطفات المهمة التي أثرت بطريقة أو بأخرى على مسيرة السويحلي، وطريقته في النظر إلى الأمور، ووضع التصورات للمستقبل، بعد رجوعه إلى ليبيا ببضع سنوات. وهذا المنعطف يرتبط بشكل مباشر بالعلاقة التاريخية المضطربة بين مصراتة ومدينة بني وليد معقل قبيلة ورفلّة.
أولا.. تتذكر كثرة من الليبيين أن أصل الخلاف بين ورفلة ومصراتة يرجع إلى نحو مائة سنة مضت. وكان يدور في الأساس بين رجلين صديقين؛ أحدهما من أجداد السويحلي، اسمه رمضان السويحلي، وكان زعيمًا كبيرًا لقبائل مصراتة، والآخر هو عبد النبي بالخير، زعيم قبيلة ورفلّة. كان الرجلان ممن أسهموا في تأسيس أول جمهورية عربية، هي جمهورية طرابلس، إلا أن تباين الرؤى في التعامل مع المحتل الإيطالي وقتذاك، دفع السويحلي الجدّ إلى شن هجوم عسكري كبير على ورفلّة، لكن المعارك انتهت بمقتله، وانتهت أيضًا باختفاء بالخير من ليبيا.
ومضت السنون، وظلت كوادر من الجانبين، أي من مصراتة وورفلّة، يتربّص بعضها ببعض، رغبة في الثأر والانتقام وحسم الخلاف القديم، مع أن غالبية كل من مصراتة وورفلّة ما أرادتا أبدا أن تصل الأمور إلى ما وصلت إليه، لكن هكذا كانت الظروف تسير بالجميع إلى الأمام.
واستمرت الأحوال على هذا المنوال إلى أن بدأت الانتفاضة المسلحة ضد نظام القذافي في مطلع 2011. ومن جديد وجدت مصراتة وقياداتها - ومن بينهم رجل الأعمال والسياسي القديم عبد الرحمن السويحلي - نفسها عند مفترق طرق جديد.. هل يقفون مع ثورة 17 فبراير، أم ينتظرون إلى أن تتضح الآفاق الجديدة؟ بيد أن الأمم المتحدة، وأطرافًا إقليمية ودولية أخرى، كانت قد تواصلت مع «الثوار»، وبدا أنها عزمت على تغيير الأوضاع في ليبيا إلى الأبد. ووجد السويحلي نفسه من بين المتهمين بالتحريض على الثورة، وزجّ به القذافي في السجن مع عدد من أفراد أسرته.
ومن المفارقات العجيبة أن قبيلة ورفلّة، خصوصًا في مدينة بني وليد، ورغم الظلم الذي وقع على أبنائها من نظام القذافي، وقفت ضد تدخّل حلف الـ«ناتو» في البلاد. ولهذا جرى تصنيف المدينة وسكانها باعتبارهم من الموالين لنظام القذافي، رغم أن هذا لا يُعد دقيقًا بأي حال، فكبار رجال القبيلة يقولون إنهم ما كانوا مع القذافي بل مع مبدأ عدم التحالف مع الأجنبي للتدخل في شؤون البلاد الداخلية، أيًا ما كانت طبيعة الخلافات بين أبناء الوطن الواحد.
في أي حال، تمكن المنتفضون على حكم القذافي من تحرير عبد الرحمن السويحلي ومَن معه من السجن، لتواصل المدينة رحلتها في التحرّر من قبضة قوات النظام الذي فرض عليها حصارًا من جميع الجهات لعدة أشهر. وتكوّنت عدة ميليشيات وكتائب في مصراتة شاركت بقوة في ملاحقة رجال النظام السابق، إلى أن وصلت إلى مقر إقامته في ذلك الوقت في مسقط رأسه بمدينة سرت. وبعد قتله، نُقِل جثمانه إلى مصراتة لكي يُدفن في مكان لم يُعلن عنه حتى الآن.
في البداية، أي بعد مقتل القذافي بعدة أشهر، أسس السويحلي حزب «الاتحاد من أجل الوطن» في عام 2012، ثم فاز في انتخابات «المؤتمر الوطني العام» (البرلمان السابق، وهو الأول بعد سقوط نظام القذافي) عن مدينة مصراتة، التي أجريت خلال شهر يوليو (تموز) من تلك السنة، ليترأس فيه لجنة «الدفاع والأمن القومي». وفي هذا التوقيت، أدت الظروف والانقسامات التي تمر بها البلاد، إلى جانب الخوف من عودة رجال النظام السابق إلى الحياة السياسية والعسكرية، إلى اتخاذ «المؤتمر الوطني» السابق قرارًا بشن هجوم مسلح على مدينة بني وليد، بزعم أنها تناصر أنصار القذافي، وتخبئ بعض القيادات المطلوبة. وظهرت على السطح اتهامات بوجود رغبة في الانتقام والثأر لمقل الجدّ رمضان السويحلي، خصوصًا أن كثيرًا من الميليشيات التي شاركت في الهجوم كانت محسوبة على مصراتة وقادتها، بمن فيهم عبد الرحمن السويحلي، حفيد الجدّ رمضان.
ومع ذلك فاز السويحلي في الانتخابات الجديدة للبرلمان في يونيو (حزيران) عام 2014، عن مصراتة أيضًا، لكنه رفض الالتحاق بالعمل في البرلمان الذي اضطر لعقد جلساته في مدينة طبرق بشرق البلاد. وسبب رفضه هو صدور حكم للمحكمة الدستورية العليا يخص بطلان إجراءات اتخذت في البرلمان السابق، إلا أن تفسير خصوم البرلمان الجديد، ومنهم السويحلي، أن قرار المحكمة يقضي بحل البرلمان الجديد من الأساس. وعلى ذلك عاد الرجل لمواصلة عمله في البرلمان السابق، الذي واصل عقد جلساته في طرابلس.
استمر هذا الوضع إلى أن بدأت «معركة طرابلس» التي أدت لحرق مطار العاصمة الليبية الدولي، وتدمير الطائرات الجاثمة فيه. ومجددًا اتهمت ميليشيات مصراتة، بإيعاز من بعض قادتها، بأنهم وراء هذه القوة التي استولت على طرابلس، تحت اسم «قوات فجر ليبيا». وبعد هذه الواقعة دخلت الأمم المتحدة على الخط، من جديد، لأول مرة منذ قرارها بإعطاء الضوء الأخضر للـ«ناتو» في 2011 بالتدخل في ليبيا. وبدأت منذ أواخر 2014 سلسلة من المفاوضات الصعبة لإيجاد حكومة توافقية بين بعض الخصوم الليبيين. واختير عبد الرحمن السويحلي ضمن الفريق الممثل للبرلمان السابق. واستمرت هذه المفاوضات ما بين بلدة الصخيرات المغربية وعدة مدن عربية وأجنبية أخرى إلى أن انتهت في أواخر العام الماضي، بالإعلان عن «مجلس رئاسي» برئاسة فايز السرّاج، وحكومة مقترحة لم تحصل على ثقة البرلمان بعد، مع إنشاء «مجلس أعلى للدولة» يتكون من أعضاء من «المؤتمر الوطني» (البرلمان السابق) يكون له الصفة الاستشارية، مع البرلمان الحالي المعترف به دوليًا وصاحب الاختصاص الأصيل في التشريع والرقابة.



فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟
TT

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

بعد 9 أيام من سقوط الحكومة الفرنسية، بقيادة ميشال بارنييه، في اقتراع لحجب الثقة، عيّن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، فرنسوا بايرو، زعيم رئيس حزب الوسط (الموديم)، على رأس الحكومة الجديدة. يأتي قرار التعيين في الوقت الذي تعيش فيه فرنسا أزمة برلمانية حادة بسبب غياب الأغلبية وهشاشة التحالفات، مما يضفي على الحياة السياسية جواً من عدم الاستقرار والفوضى. كان هذا القرار متوقَّعاً حيث إن رئيس الوزراء الجديد من الشخصيات المعروفة في المشهد السياسي الفرنسي، والأهم أنه كان عنصراً أساسياً في تحالف ماكرون الوسطي وحليف الرئيس منذ بداية عهدته في 2017. تساؤلات كثيرة رافقت إعلان خبر التعيين، أهمها حظوظ رئيس الوزراء الجديد في تحقيق «المصالحة» التي ستُخرِج البلاد من الأزمة البرلمانية، وقدرته على إنقاذ عهدة ماكرون الثانية.

أصول ريفية بسيطة

وُلِد فرنسوا بايرو في 25 مايو (أيار) عام 1951 في بلدة بوردار بالبرينيه الأطلسية، وهو من أصول بسيطة، حيث إنه ينحدر من عائلة مزارعين، أباً عن جدّ. كان يحب القراءة والأدب، وهو ما جعله يختار اختصاص الأدب الفرنسي في جامعة بوردو بشرق فرنسا. بعد تخرجه عمل في قطاع التعليم، وكان يساعد والدته في الوقت ذاته بالمزرعة العائلية بعد وفاة والده المفاجئ في حادث عمل. بدأ بايرو نشاطه السياسي وهو في سن الـ29 نائباً عن منطقة البرانس الأطلسي لسنوات، بعد أن انخرط في صفوف حزب الوسط، ثم رئيساً للمجلس العام للمنطقة ذاتها بين 1992 و2001. إضافة إلى ذلك، شغل بايرو منصب نائب أوروبي بين 1999 و2002. وهو منذ 2014 عمدة لمدينة بو، جنوب غربي فرنسا، ومفتّش سامٍ للتخطيط منذ 2020.

شغل بايرو مهام وزير التربية والتعليم بين 1993 و1997 في 3 حكومات يمينية متتالية. في 2017 أصبح أبرز حلفاء ماكرون، وكوفئ على ولائه بحقيبة العدل، لكنه اضطر إلى الاستقالة بعد 35 يوماً فقط، بسبب تورطه في تحقيق يتعلق بالاحتيال المالي. ومعروف عن فرنسوا بايرو طموحه السياسي، حيث ترشح للرئاسة 3 مرات، وكانت أفضل نتائجه عام 2007 عندما حصل على المركز الثالث بنسبة قاربت 19 في المائة.

مارين لوبان زعيمة اليمين المتطرف (إ.ب.أ)

شخصية قوية وعنيدة

في موضوع بعنوان «بايرو في ماتنيون: كيف ضغط رئيس (الموديم) على إيمانويل ماكرون»، كشفت صحيفة «لوموند» أن رئيس الوزراء الجديد قام تقريباً بليّ ذراع الرئيس من أجل تعيينه؛ حيث تشرح الصحيفة، بحسب مصادر قريبة من الإليزيه، أن بايرو واجه الرئيس ماكرون غاضباً، بعد أن أخبره بأنه يريد تعيين وزير الصناعة السابق رولان لوسكور بدلاً منه، واستطاع بقوة الضغط أن يقنعه بالرجوع عن قراره وتعيينه هو على رأس الحكومة.

الحادثة التي نُقلت من مصادر موثوق بها، أعادت إلى الواجهة صفات الجرأة والشجاعة التي يتحّلى بها فرنسوا بايرو، الذي يوصف أيضاً في الوسط السياسي بـ«العنيد» المثابر. ففي موضوع آخر نُشر بصحيفة «لوفيغارو» بعنوان: «فرنسوا بايرو التلميذ المصاب بالتأتأة يغزو ماتنيون»، ذكرت الصحيفة أن بايرو تحدَّى الأطباء الذين نصحوه بالتخلي عن السياسة والتعليم بسبب إصابته وهو في الثامنة بالتأتأة أو الصعوبة في النطق، لكنه نجح في التغلب على هذه المشكلة، بفضل عزيمة قوية، واستطاع أن ينجح في السياسة والتعليم.

يشرح غيوم روكيت من صحيفة «لوفيغارو» بأنه وراء مظهر الرجل الريفي الأصل البشوش، يوجد سياسي محنّك، شديد الطموح، بما أنه لم يُخفِ طموحاته الرئاسية، حيث ترشح للرئاسيات 3 مرات، و«لن نكون على خطأ إذا قلنا إنه استطاع أن يستمر في نشاطه السياسي كل هذه السنوات لأنه عرف كيف يتأقلم مع الأوضاع ويغيّر مواقفه حسب الحاجة»، مذكّراً بأن بايرو كان أول مَن هاجم ماكرون في 2016 باتهامه بالعمل لصالح أرباب العمل والرأسماليين الكبار، لكنه أيضاً أول مع تحالف معه حين تقدَّم في استطلاعات الرأي.

على الصعيد الشخصي، يُعتبر بايرو شخصية محافظة، فهو أب لـ6 أطفال وكاثوليكي ملتزم يعارض زواج المثليين وتأجير الأرحام، وهو مدافع شرس عن اللهجات المحلية، حيث يتقن لهجته الأصلية، وهي اللهجة البيرينية.

رجل الوفاق الوطني؟

عندما تسلّم مهامه رسمياً، أعلن فرنسوا بايرو أنه يضع مشروعه السياسي تحت شعار «المصالحة» ودعوة الجميع للمشاركة في النقاش. ويُقال إن نقاط قوته أنه شخصية سياسية قادرة على صنع التحالفات؛ حيث سبق لفرنسوا بايرو خلال الـ40 سنة خبرة في السياسة، التعاون مع حكومات ومساندة سياسات مختلفة من اليمين واليسار.

خلال مشواره السياسي، عمل مع اليمين في 1995، حيث كان وزيراً للتربية والتعليم في 3 حكومات، وهو بحكم توجهه الديمقراطي المسيحي محافظ وقريب من اليمين في قضايا المجتمع، وهو ملتزم اقتصادياً بالخطوط العريضة لليبيراليين، كمحاربة الديون وخفض الضرائب. وفي الوقت ذاته، كان فرنسوا بايرو أول زعيم وسطي يقترب من اليسار الاشتراكي؛ أولاً في 2007 حين التقى مرشحة اليسار سيغولين رويال بين الدورين الأول والثاني من الانتخابات الرئاسية للبحث في تحالف، ثم في 2012 حين صنع الحدث بدعوته إلى التصويت من أجل مرشح اليسار فرنسوا هولاند على حساب خصمه نيكولا ساركوزي، بينما جرى العرف أن تصوّت أحزاب الوسط في فرنسا لصالح اليمين.

ومعروف أيضاً عن رئيس الوزراء الجديد أنه الشخصية التي مدّت يد المساعدة إلى اليمين المتطرف، حيث إنه سمح لمارين لوبان بالحصول على الإمضاءات التي كانت تنقصها لدخول سباق الرئاسيات عام 2022، وهي المبادرة التي تركت أثراً طيباً عند زعيمة التجمع الوطني، التي صرحت آنذاك قائلة: «لن ننسى هذا الأمر»، كما وصفت العلاقة بينهما بـ«الطيبة». هذه المعطيات جعلت مراقبين يعتبرون أن بايرو هو الأقرب إلى تحقيق التوافق الوطني الذي افتقدته الحكومة السابقة، بفضل قدرته على التحدث مع مختلف الأطياف من اليمين إلى اليسار.

ما هي حظوظ بايرو في النجاح؟رغم استمرار الأزمة السياسية، فإن التقارير الأولية التي صدرت في الصحافة الفرنسية توحي بوجود بوادر مشجعة في طريق المهمة الجديدة لرئيس الوزراء. التغيير ظهر من خلال استقبال أحزاب المعارضة لنبأ التعيين، وعدم التلويح المباشر بفزاعة «حجب الثقة»، بعكس ما حدث مع سابقه، بارنييه.

الإشارة الإيجابية الأولى جاءت من الحزب الاشتراكي الذي عرض على رئيس الوزراء الجديد اتفاقاً بعدم حجب الثقة مقابل عدم اللجوء إلى المادة 3 - 49 من الدستور، وهي المادة التي تخوّل لرئيس الحكومة تمرير القوانين من دون المصادقة عليها. الاشتراكيون الذين بدأوا يُظهرون نيتهم في الانشقاق عن ائتلاف اليسار أو «جبهة اليسار الوطنية» قد يشكّلون سنداً جديداً لبايرو، إذا ما قدّم بعض التنازلات لهم.

وفي هذا الإطار، برَّر بوريس فالو، الناطق باسم الحزب، أسباب هذا التغيير، بالاختلاف بين الرجلين حيث كان بارنييه الذي لم يحقق حزبه أي نجاحات في الانتخابات الأخيرة يفتقد الشرعية لقيادة الحكومة، بينما الأمر مختلف نوعاً ما مع بايرو. كما أعلن حزب التجمع الوطني هو الآخر، وعلى لسان رئيسه جوردان بارديلا، أنه لن يكون هناك على الأرجح حجب للثقة، بشرط أن تحترم الحكومة الجديدة الخطوط الحمراء، وهي المساس بالضمان الصحّي، ونظام المعاشات أو إضعاف اقتصاد البلاد.

يكتب الصحافي أنطوان أوبردوف من جريدة «لوبنيون»: «هذه المرة سيمتنع التجمع الوطني عن استعمال حجب الثقة للحفاظ على صورة مقبولة لدى قاعدته الانتخابية المكونة أساساً من كهول ومتقاعدين قد ترى هذا الإجراء الدستوري نوعاً من الحثّ على الفوضى».

كما أعلن حزب اليمين الجمهوري، على لسان نائب الرئيس، فرنسوا كزافييه بيلامي، أن اليمين الجمهوري سيمنح رئيس الحكومة الجديد شيئاً من الوقت، موضحاً: «سننتظر لنرى المشروع السياسي للسيد بايرو، ثم نقرر». أما غابرييل أتال، رئيس الوزراء السابق عن حزب ماكرون، فأثنى على تعيين بايرو من أجل «الدفاع على المصلحة العامة في هذا الظرف الصعب».

أما أقصى اليسار، الممثَّل في تشكيلة «فرنسا الأبية»، إضافة إلى حزب الخضر، فهما يشكلان إلى غاية الآن الحجر الذي قد تتعثر عليه جهود الحكومة الجديدة؛ فقد لوَّحت فرنسا الأبية باللجوء إلى حجب الثقة مباشرة بعد خبر التعيين، معتبرة أن بايرو سيطبق سياسة ماكرون لأنهما وجهان لعملة واحدة.

فرانسوا بايرو يتحدث في الجمعة الوطنية الفرنسية (رويترز)

أهم الملفات التي تنتظر بايرو

أهم ملف ينتظر رئيس الوزراء الجديد الوصول إلى اتفاق عاجل فيما يخص ميزانية 2025؛ حيث كان النقاش في هذا الموضوع السبب وراء سقوط حكومة بارنييه. وكان من المفروض أن يتم الإعلان عن الميزانية الجديدة والمصادقة عليها قبل نهاية ديسمبر (كانون الأول) 2024، لولا سقوط الحكومة السابقة، علماً بأن الدستور الفرنسي يسمح بالمصادقة على «قانون خاص» يسمح بتغطية تكاليف مؤسسات الدولة وتحصيل الضرائب لتجنب الشلّل الإداري في انتظار المصادقة النهائية. أوجه الخلاف فيما يخّص القانون تتعلق بعجز الميزانية الذي يُقدَّر بـ60 مليار يورو، الذي طلبت الحكومة السابقة تعويضه بتطبيق سياسة تقشفية صارمة تعتمد على الاقتطاع من نفقات القطاع العمومي والضمان الاجتماعي، خاصة أن فرنسا تعاني من أزمة ديون خانقة حيث وصلت في 2023 إلى أكثر من 3200 مليار يورو. الرفض على المصادقة قد يأتي على الأرجح من اليسار الذي يطالب بإيجاد حل آخر لتغطية العجز، وهو رفع الضرائب على الشركات الكبرى والأثرياء. وكان فرنسوا بايرو من السياسيين الأكثر تنديداً بأزمة الديون، التي اعتبرها مشكلة «أخلاقية» قبل أن تكون اقتصادية؛ حيث قال إنه من غير اللائق أن «نحمّل أجيال الشباب أخطاء التدبير التي اقترفناها في الماضي».

الملف الثاني يخص نظام المعاشات، وهو ملف يقسم النواب بشّدة بين اليمين المرحّب بفكرة الإصلاح ورفع سن التقاعد من 62 إلى 64 سنة، إلى اليسار الذي يرفض رفع سنّ التقاعد، معتبراً القانون إجراءً غير عادل، وبالأخص بالنسبة لبعض الفئات، كذوي المهن الشاقة أو الأمهات.

وتجدر الإشارة إلى أن فرنسا كانت قد شهدت حركة احتجاجات شعبية عارمة نتيجة إقرار هذا القانون، وبالأخص بعد أن كشفت استطلاعات الرأي أن غالبية من الفرنسيين معارضة له. صحيفة «لكبرس»، في موضوع بعنوان «بايرو في ماتنيون ماذا كان يقول عن المعاشات» تذكّر بأن موقف رئيس الوزراء بخصوص هذا الموضوع كان متقلباً؛ فهو في البداية كان يطالب بتحديد 60 سنة كحّد أقصى للتقاعد، ثم تبنَّى موقف الحكومة بعد تحالفه مع ماكرون.

وعلى طاولة رئيس الوزراء الجديد أيضاً ملف «الهجرة»؛ حيث كان برونو ريتيلو، وزير الداخلية، قد أعلن عن نصّ جديد بشأن الهجرة في بداية عام 2025، الهدف منه تشديد إجراءات الهجرة، كتمديد الفترة القصوى لاحتجاز الأجانب الصادر بحقهم أمر بالترحيل أو إيقاف المساعدات الطبية للمهاجرين غير الشرعيين. سقوط حكومة بارنييه جعل مشروع الهجرة الجديد يتوقف، لكنه يبقى مطروحاً كخط أحمر من قِبَل التجمع الوطني الذي يطالب بتطبيقه، بعكس أحزاب اليسار التي هددت باللجوء إلى حجب الثقة في حال استمرت الحكومة الجديدة في المشروع. وهذه معادلة صعبة بالنسبة للحكومة الجديدة. لكن محللّين يعتقدون أن الحكومة الجديدة تستطيع أن تنجو من السقوط، إذا ما ضمنت أصوات النواب الاشتراكيين، بشرط أن تُظهر ليونة أكبر في ملفات كالهجرة ونظام المعاشات، وألا تتعامل مع كتلة اليمين المتطرف.

إليزابيث بورن (أ.ف.ب)

بومبيدو

دوفيلبان

حقائق

رؤساء الحكومة الفرنسيون... معظمهم من اليمين بينهم سيدتان فقط


منذ قيام الجمهورية الخامسة عام 1958، ترأَّس حكومات فرنسا 28 شخصية سياسية، ينتمي 8 منها لليسار الاشتراكي، بينما تتوزع الشخصيات الأخرى بين اليمين الجمهوري والوسط. ومن بين هؤلاء سيدتان فقط: هما إيديت كريسون، وإليزابيث بورن.هذه قائمة بأشهر الشخصيات:جورج بومبيدو: ترأَّس الحكومة بين 1962 و1968. معروف بانتمائه للتيار الوسطي. شغل وظائف سامية في مؤسسات الدولة، وكان رجل ثقة الجنرال شارل ديغول وأحد مقربيه. عيّنه هذا الأخير رئيساً للوزراء عام 1962 ومكث في منصبه 6 سنوات، وهو رقم قياسي بالنسبة لرؤساء حكومات الجمهورية الخامسة. لوران فابيوس: ترأَّس الحكومة بين 1984 و1986. ينتمي للحزب الاشتراكي. شغل منصب وزير المالية، ثم وزيراً للصناعة والبحث العلمي. حين عيّنه الرئيس الراحل فرنسوا ميتران كان أصغر رئيس وزراء فرنسي؛ حيث كان عمره آنذاك 37 سنة. شغل أيضاً منصب رئيس الجمعية الوطنية. تأثرت شعبيته بعد محاكمته بوصفه مسؤولاً عن الحكومة في قضية الدم الملوّث الذي راح ضحيته أكثر من 4 آلاف فرنسي. كما تكرر اسمه في مفاوضات الملف النووي الإيراني.جاك شيراك: إضافة لوظيفته الرئاسية المعروفة، ترأَّس جاك شيراك الحكومة الفرنسية مرتين: المرة الأولى حين اختاره الراحل فاليري جيسكار ديستان وكان ذلك بين 1974 و1976، ثم إبان عهدة الرئيس فرنسوا ميتران بين 1986 و1988. شغل مناصب سامية، وتقلّد مسؤوليات عدة في مؤسسات الدولة وأجهزتها، حيث كان عمدة لمدينة باريس، ورئيس حزب التجمع الجمهوري اليميني، ووزيراً للزراعة.دومينيك دوفيلبان: شغل وظيفة رئيس الحكومة في عهدة الرئيس جاك شيراك بين 2005 و2007، وكان أحد مقربي الرئيس شيراك. كما شغل أيضاً حقيبة الخارجية ونال شعبية كبيرة بعد خطابه المعارض لغزو العراق أمام اجتماع مجلس الأمن في عام 2003. حين كان رئيس الوزراء، أعلن حالة الطوارئ بعد أحداث العنف والاحتجاجات التي شهدتها الضواحي في فرنسا.فرنسوا فيون: عيّنه الرئيس السابق نيكولا ساركوزي في منصب رئيس الوزراء بين 2007 و2012، وهو بعد بومبيدو أكثر الشخصيات تعميراً في هذا المنصب. شغل مناصب وزارية أخرى حيث كُلّف حقائب التربية، والتعليم، والشؤون الاجتماعية، والعمل. أصبح رسمياً مرشح حزب الجمهوريون واليمين والوسط للانتخابات الرئاسية الفرنسية 2017، وأُثيرت حوله قضية الوظائف الوهمية التي أثّرت في حملته الانتخابية تأثيراً كبيراً، وانسحب بعدها من الحياة السياسية.