سلمان في مصر الثقافة

زيارة تجاوزت إطاري السياسة والاقتصاد إلى العمق المصري والعربي والإسلامي

الملك سلمان أثناء منحه شهادة الدكتوراه الفخرية من جامعة القاهرة
الملك سلمان أثناء منحه شهادة الدكتوراه الفخرية من جامعة القاهرة
TT

سلمان في مصر الثقافة

الملك سلمان أثناء منحه شهادة الدكتوراه الفخرية من جامعة القاهرة
الملك سلمان أثناء منحه شهادة الدكتوراه الفخرية من جامعة القاهرة

كان مسكًا أن تختتم زيارة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز لمصر قبل أيام بزيارة لجامعة القاهرة، حيث منح درجة الدكتوراه الفخرية. كما كان من المسك أيضًا أن تبدأ زيارة وفد الكتاب والإعلاميين لمصر، الوفد الذي شرفت بأن كنت أحد أعضائه، بزيارتين لمؤسستين ثقافيتين عريقتين هما: قصور الثقافة والهيئة العامة للكتاب. وبالطبع كان رائعًا أن تتوسط المناسبتين زيارة الملك والوفد للجامع الأزهر بكل ما يمثله من عراقة دينية وعلمية.
كل تلك كانت وقفات على شواهد من الهوية الثقافية لمصر، وعلى نماذج من العمل الثقافي العربي المؤسسي الجاد وما أنتجه وينتجه الإنسان العربي في مصر، شواهد على ثقافة هي التي تبقى حين تزول أشياء كثيرة أخرى. فلقد كان مهمًا أن تمتد الزيارة السعودية لتتجاوز إطاري السياسة والاقتصاد إلى ذلك العمق المصري والعربي والإسلامي. فعلى الرغم من انصباب الاهتمام إعلاميا على ذينك الإطارين، وعلى الرغم من أهميتهما التي لا يدنو إليها شك في عالمنا المعاصر، وبالنظر إلى احتياجات الإنسان فإن الالتفات إلى منجزات الفكر والإبداع وجهود الباحثين والكتاب والفنانين أخذ الزيارة إلى أبعاد تتجاوز المادي إلى الروحي والإبداعي، أبعاد تصب في الحاضر ثم تتجاوزه إلى الماضي والمستقبل معًا.
ومصر في هذه الأبعاد الزمنية الثلاثة هي الوطن العربي وقد تمثل في منتجات تغذى عليها العرب منذ بواكير النهضة العربية المعاصرة. من منا لم يقرأ لطه حسين أو العقاد أو الرافعي أو شوقي أو صلاح عبد الصبور أو نجيب محفوظ.. أو أو؟ من منا لم يفد من جهود محمد علي في تأسيس حركة الترجمة؟ ومن منا لم يفد من مطبوعات دار المعارف أو المركز القومي للترجمة؟ لا أظنني حضرت من المؤتمرات والندوات قدر حضوري ما أقامه المجلس الأعلى للثقافة في مصر، إلا حين تزايد النشاط الثقافي في المملكة ودول الخليج. وأظن ذلك ينسحب على كثيرين غيري من العاملين في هذا الحقل. تظل مصر رائدة وعملاقة في حقول أخرى كالسينما والفن التشكيلي والمسرح والغناء والموسيقى وغيرها، حيث تلمع أسماء كثيرة تمتد من يوسف وهبي وصلاح أبو سيف إلى سيد درويش وأم كلثوم وعبد الوهاب وغيرهم بالعشرات.
في قصور الثقافة تعرف الزوار على إنتاج ثقافي متعدد الصور ويمتد من الأدب إلى الفنون بأنواعها. هنا نجد الفنون الشعبية إلى جانب الكتابة الإبداعية والإنتاج النقدي ضمن عناية مؤسسية تقدمها الدولة. القصور يشبهها البعض بالأندية الأدبية السعودية، لكنها في حقيقة الأمر أقرب إلى فروع جمعية الثقافة والفنون مدمجة في الأندية الأدبية. وكان مما استرعى الانتباه دور الجهد التطوعي في عمل الهيئة العامة للقصور لا سيما في الأقاليم، حيث يعمل الشبان والشابات إلى جانب موظفي القصور في تقديم مناشط فنية من رقص وموسيقى ومهرجانات أدبية ومسرحية وغيرها.
ويسترعي الانتباه هنا دور وزارة الثقافة المصرية التي تشرف على نشاط القصور وغيرها من مؤسسات الثقافة كالمجلس الأعلى للثقافة، والمركز القومي للترجمة، والهيئة العامة للكتاب. في العام الماضي 2015 أعلن وزير الثقافة المصري أن ميزانية الوزارة ارتفعت من نحو مليار وخمسمائة مليون جنيه إلى ما يقارب المليارين وربع المليار جنيه، وهذا مبلغ كبير إذا تذكرنا إمكانيات مصر الاقتصادية وما تواجهه من تحديات وأعباء لا حصر لها. بميزانية كهذه تتمكن الهيئة العامة للكتاب من نشر أعمال الكثير من الكتّاب المصريين إلى جانب طباعة المجلات وتوفير كل ذلك بسعر زهيد يمكّن عامة القراء بمداخيلهم المتواضعة من الحصول على الكتب والمجلات. وقد ذكر مدير عام الهيئة أنها تنشر سنويا ما يقارب الخمسمائة وخمسين عنوانًا بين كتاب ومجلة، وهو عدد لا بأس به، لكنه بالتأكيد لا يمثل كامل المنتج المصري على مستوى الكتاب والمجلات أو المطبوعات الأدبية إجمالاً إذا تذكرنا أن القطاع الخاص، من دور نشر ومؤسسات متنوعة، كان ولا يزال يمثل ثقلاً واضحًا في الحياة الثقافية المصرية، على الرغم من الحضور المكثف للحكومة من خلال قطاعات الثقافة الكثيرة.
تأثير القطاع الخاص في الحياة الثقافية يتضح، سواء في مصر أو غيرها، من خلال معارض الكتب التي أصبحت ظاهرة ثقافية ثابتة في الوطن العربي، كما في معظم أنحاء العالم. ومع أن معرض القاهرة لم يعد الأكبر بين معارض الكتاب العربية من حيث حجم المبيعات على الأقل، فإنه يفوق كل المعارض الأخرى من حيث عدد الزوار. فقد بين رئيس الهيئة العامة للكتاب في مصر أن عدد زوار المعرض الأخير بلغ أربعة عشر مليونًا بزيادة بلغت نحو 4 أو 5 ملايين عن العام الذي سبقه، وبعد هبوط وتوقف شهدته السنوات الأخيرة منذ الثورة وتقلب الأوضاع السياسية. ولا شك أن للاستقرار الذي تشهده مصر حاليًا وشعور الناس، سواء من المواطنين المصريين أو الزوار من الدول العربية، دورًا في رفع عدد المقبلين على الكتاب في القاهرة إقبالاً لم تستغربه عاصمة المعز منذ دأب الكثيرون على تبضع الثقافة من مكتباتها الشهيرة، كمدبولي والشروق ودار المعارف وغيرها.
غير أن القاهرة ليست سوقا للكتاب أو مدينة للمؤسسات الثقافية فحسب، وإنما هي أماكن حاضرة في الذاكرة أيضًا. هي أيضًا المقاهي التي كان يجلس فيها توفيق الحكيم ونجيب محفوظ وأمل دنقل وغيرهم، وهي المتاحف والمسارح ودار الأوبرا، الأماكن التي يستعيد فيها العربي وهج الكبار ممن تركوا بصماتهم على ذاكرة الثقافة العربية، وكان جميلاً أن تأتي زيارة الملك سلمان والوفد السعودي الضخم إلى مصر وقد فاز أحد أبنائها بجائزة الملك فيصل العالمية للأدب العربي، أي الدكتور محمد عبد المطلب، الذي تميزت دراساته في مجال الشعر وأتيح لي مع اثنين من الأصدقاء (د. عبد العزيز السبيل وأ. محمد رضا نصر الله) أن نزوره في شقته الصغيرة حجمًا الكبيرة عطاء في مصر الجديدة.
إنها مصر الجديدة القديمة، مصر الماضي والمستقبل وما بينهما من حاضر يزخر بالكثير، ونتمنى له ما هو أكثر من الرخاء والأمن والازدهار.



سوريا الماضي والمستقبل في عيون مثقفيها

هاني نديم
هاني نديم
TT

سوريا الماضي والمستقبل في عيون مثقفيها

هاني نديم
هاني نديم

بالكثير من التفاؤل والأمل والقليل من الحذر يتحدث أدباء وشعراء سوريون عن صورة سوريا الجديدة، بعد الإطاحة بنظام الأسد الديكتاتوري، مشبهين سقوطه بالمعجزة التي طال انتظارها... قراءة من زاوية خاصة يمتزج فيها الماضي بالحاضر، وتتشوف المستقبل بعين بصيرة بدروس التاريخ، لأحد أجمل البلدان العربية الضاربة بعمق في جذور الحضارة الإنسانية، وها هي تنهض من كابوس طويل.

«حدوث ما لم يكن حدوثه ممكناً»

خليل النعيمي

بهذه العبارة يصف الكاتب الروائي خليل النعيمي المشهد الحالي ببلاده، مشيراً إلى أن هذه العبارة تلخص وتكشف عن سر السعادة العظمى التي أحس بها معظم السوريين الذين كانوا ضحية الاستبداد والعَسْف والطغيان منذ عقود، فما حدث كان تمرّداً شجاعاً انبثق كالريح العاصفة في وجه الطغاة الذين لم يكونوا يتوقعونه، وهو ما حطّم أركان النظام المستبد بشكل مباشر وفوري، وأزاح جُثومه المزمن فوق القلوب منذ عشرات السنين. ونحن ننتظر المعجزة، ننتظر حدوث ما لم نعد نأمل في حدوثه وهو قلب صفحة الطغيان: «كان انتظارنا طويلاً، طويلاً جداً، حتى إن الكثيرين منا صاروا يشُكّون في أنهم سيكونون أحياءً عندما تحين الساعة المنتظرة، والآن قَلْب الطغيان لا يكفي، والمهم ماذا سنفعل بعد سقوط الاستبداد المقيت؟ وكيف ستُدار البلاد؟ الطغيان فَتّت سوريا، وشَتّت أهلها، وأفْقرها، وأهان شعبها، هذا كله عرفناه وعشناه. ولكن، ما ستفعله الثورة المنتصرة هو الذي يملأ قلوبنا، اليوم بالقلَق، ويشغل أفكارنا بالتساؤلات».

ويشير إلى أن مهمة الثورة ثقيلة، وأساسية، مضيفاً: «نتمنّى لها أن تنجح في ممارستها الثورية ونريد أن تكون سوريا لكل السوريين الآن، وليس فيما بعد، نريد أن تكون سوريا جمهورية ديمقراطية حرة عادلة متعددة الأعراق والإثنيّات، بلا تفريق أو تمزيق. لا فرق فيها بين المرأة والرجل، ولا بين سوري وسوري تحت أي سبب أو بيان. شعارها: حرية، عدالة، مساواة».

مشاركة المثقفين

رشا عمران

وترى الشاعرة رشا عمران أن المثقفين لا بد أن يشاركوا بفاعلية في رسم ملامح سوريا المستقبل، مشيرة إلى أن معجزة حدثت بسقوط النظام وخلاص السوريين جميعاً منه، حتى لو كان قد حدث ذلك نتيجة توافقات دولية ولكن لا بأس، فهذه التوافقات جاءت في مصلحة الشعب.

وتشير إلى أن السوريين سيتعاملون مع السلطة الحالية بوصفها مرحلة انتقالية ريثما يتم ضبط الوضع الأمني ويستقر البلد قليلاً، فما حدث كان بمثابة الزلزال، مع الهروب لرأس النظام حيث انهارت دولته تماماً، مؤسساته العسكرية والأمنية والحزبية كل شيء انهار، وحصل الفراغ المخيف.

وتشدد رشا عمران على أن النظام قد سقط لكن الثورة الحقيقية تبدأ الآن لإنقاذ سوريا ومستقبلها من الضياع ولا سبيل لهذا سوى اتحاد شعبها بكل فئاته وأديانه وإثنياته، فنحن بلد متعدد ومتنوع والسوريون جميعاً يريدون بناء دولة تتناسب مع هذا التنوع والاختلاف، ولن يتحقق هذا إلا بالمزيد من النضال المدني، بالمبادرات المدنية وبتشكيل أحزاب ومنتديات سياسية وفكرية، بتنشيط المجتمع سياسياً وفكرياً وثقافياً.

وتوضح الشاعرة السورية أن هذا يتطلب أيضاً عودة كل الكفاءات السورية من الخارج لمن تسمح له ظروفه بهذا، المطلوب الآن هو عقد مؤتمر وطني تنبثق منه هيئة لصياغة الدستور الذي يتحدد فيه شكل الدولة السورية القادمة، وهذا أيضاً يتطلب وجود مشاركة المثقفين السوريين الذين ينتشرون حول العالم، ينبغي توحيد الجهود اليوم والاتفاق على مواعيد للعودة والبدء في عملية التحول نحو الدولة الديمقراطية التي ننشدها جميعاً.

وداعاً «نظام الخوف»

مروان علي

من جانبه، بدا الشاعر مروان علي وكأنه على يقين بأن مهمة السوريين ليست سهلة أبداً، وأن «نستعيد علاقتنا ببلدنا ووطننا الذي عاد إلينا بعد أكثر من خمسة عقود لم نتنفس فيها هواء الحرية»، لافتاً إلى أنه كان كلما سأله أحد من خارج سوريا حيث يقيم، ماذا تريد من بلادك التي تكتب عنها كثيراً، يرد قائلاً: «أن تعود بلاداً لكل السوريين، أن نفرح ونضحك ونكتب الشعر ونختلف ونغني بالكردية والعربية والسريانية والأرمنية والآشورية».

ويضيف مروان: «قبل سنوات كتبت عن (بلاد الخوف الأخير)، الخوف الذي لا بد أن يغادر سماء سوريا الجميلة كي نرى الزرقة في السماء نهاراً والنجوم ليلاً، أن نحكي دون خوف في البيت وفي المقهى وفي الشارع. سقط نظام الخوف وعلينا أن نعمل على إسقاط الخوف في دواخلنا ونحب هذه البلاد لأنها تستحق».

المساواة والعدل

ويشير الكاتب والشاعر هاني نديم إلى أن المشهد في سوريا اليوم ضبابي، ولم يستقر الأمر لنعرف بأي اتجاه نحن ذاهبون وأي أدوات سنستخدم، القلق اليوم ناتج عن الفراغ الدستوري والحكومي ولكن إلى لحظة كتابة هذه السطور، لا يوجد هرج ومرج، وهذا مبشر جداً، لافتاً إلى أن سوريا بلد خاص جداً بمكوناته البشرية، هناك تعدد هائل، إثني وديني ومذهبي وآيديولوجي، وبالتالي علينا أن نحفظ «المساواة والعدل» لكل هؤلاء، فهي أول بنود المواطنة.

ويضيف نديم: «دائماً ما أقول إن سوريا رأسمالها الوحيد هم السوريون، أبناؤها هم الخزينة المركزية للبلاد، مبدعون وأدباء، وأطباء، وحرفيون، أتمنى أن يتم تفعيل أدوار أبنائها كل في اختصاصه وضبط البلاد بإطار قانوني حكيم. أحلم أن أرى سوريا في مكانها الصحيح، في المقدمة».

خالد حسين

العبور إلى بر الأمان

ومن جانبه، يرصد الأكاديمي والناقد خالد حسين بعض المؤشرات المقلقة من وجهة نظره مثل تغذية أطراف خارجية للعداء بين العرب والأكراد داخل سوريا، فضلاً عن الجامعات التي فقدت استقلالها العلمي وحيادها الأكاديمي في عهد النظام السابق بوصفها مكاناً لتلقي العلم وإنتاج الفكر، والآن هناك من يريد أن يجعلها ساحة لنشر أفكاره ومعتقداته الشخصية وفرضها على الجميع.

ويرى حسين أن العبور إلى بر الأمان مرهونٌ في الوقت الحاضر بتوفير ضروريات الحياة للسوريين قبل كلّ شيء: الكهرباء، والخبز، والتدفئة والسلام الأهلي، بعد انتهاء هذه المرحلة الانتقالية يمكن للسوريين الانطلاق نحو عقد مؤتمر وطني، والاتفاق على دستور مدني ديمقراطي ينطوي بصورة حاسمة وقاطعة على الاعتراف بالتداول السلمي للسلطة، وحقوق المكوّنات الاجتماعية المذهبية والعرقية، وحريات التعبير وحقوق المرأة والاعتراف باللغات الوطنية.

ويشير إلى أنه بهذا الدستور المدني المؤسَّس على الشرعية الدولية لحقوق الإنسان يمكن أن تتبلور أحلامه في سوريا القادمة، حينما يرى العدالة الاجتماعية، فهذا هو الوطن الذي يتمناه دون تشبيح أو أبواق، أو طائفية، أو سجون، موضحاً أن الفرصة مواتية لاختراع سوريا جديدة ومختلفة دون كوابيس.

ويختتم قائلاً: «يمكن القول أخيراً إنّ مهام المثقف السوري الآن الدعوة إلى الوئام والسلام بين المكوّنات وتقويض أي شكل من أشكال خطاب الهيمنة والغلواء الطائفي وإرادة القوة في المستقبل لكي تتبوّأ سوريا مكانتها الحضارية والثقافية في الشرق الأوسط».