مشاريع عمرانية ضخمة محكومة بالتعثر وسوء الحظ

لماذا تعجز هذه المباني عن الاكتمال؟

الفندق الذي أراده كيم إيل سونغ أعلى مبنى في العالم و كاتدرائية العائلة المقدسة في برشلونة
الفندق الذي أراده كيم إيل سونغ أعلى مبنى في العالم و كاتدرائية العائلة المقدسة في برشلونة
TT

مشاريع عمرانية ضخمة محكومة بالتعثر وسوء الحظ

الفندق الذي أراده كيم إيل سونغ أعلى مبنى في العالم و كاتدرائية العائلة المقدسة في برشلونة
الفندق الذي أراده كيم إيل سونغ أعلى مبنى في العالم و كاتدرائية العائلة المقدسة في برشلونة

إنها مثل الأشجار التي قطعت فأس قسمها العلوي وتركتها في مهب الريح والغبار. أما مكانها فلا يقتصر على بلد دون آخر، لكنها تشترك جميعًا في عجز أصحابها عن إكمالها وجعلها صالحة للاستخدام، رغم المبالغ الطائلة التي أنفقوها عليها. هل هو نقص المال؟ سوء في التقدير؟ وفاة راعي المشروع وخصام بين الورثة؟ تغير في التوجه السياسي؟ أخطاء معمارية لا تغتفر؟ كل هذه الأسباب واردة وهناك غيرها أيضًا. ويبقى أن من يمرّ بأحد تلك المباني الناقصة، فإنه لا يملك سوى التحسر على منظرها الباعث على الحزن مثل الأمنيات الخائبة.
في برشلونة، المدينة الجميلة التي تقع على الساحل الشمالي لإسبانيا، تنتصب الأبراج الأربعة لكنيسة العائلة المقدسة كأنها ستائر من الدانتيلا التي اشتهرت بتطريزها أنامل الإسبانيات. ويبن الأبراج الجميلة، تنحشر رافعة صفراء متوقفة عن العمل كأنها عمود متجمد. لقد صمم هذه التحفة المعمارية المهندس أنتوني غودي في عاصمة إقليم كتالونيا على أمل أن تكون أكبر كاتدرائية في أوروبا، وذلك عندما يكتمل بناء أبراجها الستة في عام 2026. وإذا كان «غدًا لناظره قريب»، كما يقول المثل، فإن الغد يبدو بعيدًا جدًا إذا عرفنا أن تاريخ البدء بتشييد هذه الكاتدرائية يعود إلى 145 سنة خلت! هل هناك أمل في بلوغ الهدف في موعده المحدد؟ يرى المهندس الذي ورث المشروع أن المهلة قد تحتاج لسنوات إضافية بسبب أعمال التزيين والمقرنصات التي كان المصمم الأول قد اقترحها.
المشروع الثاني المحوم بالنحس هو فندق «ريوغيونغ» في بيونغ يانغ، عاصمة كوريا الشمالية. إن من يشاهد صوره يتصوره رؤيا رومانسية حالمة على شكل هرم مخروطي طويل ورشيق يبلغ ارتفاعه 330 مترًا ويتجاوز كل ما عداه من أبراج. وحكاية هذا الفندق تعود إلى أيام الزعيم الكوري الراحل كيم إيل سونغ. فهو الذي وافق على المشروع وتحمس له وأراد له أن يكون أعلى عمارة في العالم. وكان من المؤمل أن يجري تدشين الفندق في عام 1989. لكن انهيار الاتحاد السوفياتي عرقل الآمال. وفي عام 2012، حصلت شركة «أوراسكوم» المصرية على امتياز الاتصالات الهاتفية في البلد، وكان من ضمن ما قامت به استكمال واجهات البناء الضخم. لكن لا أحد يعرف متى تبدأ حجرات الفندق والبالغ عددها 3 آلاف غرفة باستقبال النزلاء. وكانت مجموعة «كمبينسكي» الفندقية قد فازت بصفقة استكمال المشروع، لكنها تخلت عنه قبل ثلاث سنوات وغسلت يديها منه.
في شرق آسيا، أيضًا، هناك مشروع مجمد آخر هو معبد «وات رونخون» في مدينة شيانغ راي، شمال تايلاند. والناظر إليه يجد نفسه في غابة من أشجار عيد الميلاد لكنها مشيدة من الحجارة البيضاء. وهو تصميم حديث رائع جادت به مخيلة المعماري الفنان شاليرمشي كوستيبيبا، يتخذ من موقع لمعبد سابق مكانًا له. وقد بوشر العمل به في عام 1997 ليكون تكريمًا لبوذا يجمع بين الأيقونات التقليدية للمعابد العتيقة وبين إضافات ورسوم مستوحاة من الثقافة الشبابية المعاصرة. أما سبب عدم اكتمال المعبد فهو أن صاحب التصميم قرر أن يستمر في الاشتغال على تزيينه حتى تدركه المنية.
وعودة إلى القارة الأوروبية وإلى رومانيا، الجمهورية التي تنتظر بصبر أيوب اكتمال برلمانها الجديد. هل هو جديد فعلاً أم قديم؟ لقد بدأ العمل به قبل أكثر من 30 سنة، أي في فترة حكم تشاوسيسكو، أول المخلوعين. لقد أراد تشييد «بيت الشعب» في قلب العاصمة بوخارست. وكان المشروع يتطلب، ضمن ما يتطلب، إزالة هضبة من على سطح الأرض، ونقل أحياء كاملة من أماكنها، وحجز كل عمال تقطيع الرخام الموجودين في البلد. لكن الشعب لم ينتظر اكتمال بيته وانقلب على الديكتاتور الذي حوكم وأعدم أواخر 1989. ورغم أن المبنى الضخم ما زال ناقصًا، فإن النواب يجتمعون فيه، كما تحول إلى مقر لعدد من المتاحف الوطنية التي وجدت ملاذًا في أجنحته الواسعة.
في قلب نيويورك، ورغم كل الإمكانيات والأموال والدعاية التي وفرها له البهلوان الفرنسي فيليب بوتي، ما زال مشروع كاتدرائية القديس يوحنا محكومًا بالعراقيل. لقد غامر بوتي بالسير على حبل على علو شاهق يربط بين برج المبنى وإحدى ناطحات السحاب المقابلة له، لكن المشروع المصمم وفق النمط الغوطي والروماني ما زال يراوح ببطء منذ عام 1892، أي منذ أكثر من قرن. والسبب خلاف بين السلطات الكنسية في المدينة وبين المؤسسة المالكة للمكان. ولتدبير نفقات التنظيف، أحالت المؤسسة المبنى إلى مستثمر عقاري حول جانبًا منه إلى 428 شقة سكنية، بينها 87 شقة تؤجر بأسعار معتدلة لمتواضعي الدخل، إرضاء للكنيسة.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)