القارئ المغدور وعلاقته بالروايات الفائزة

بمناسبة قرب الإعلان عن جائزة «بوكر» للرواية العربية

علي فواز و وارد بدر السالم و محمد جبير
علي فواز و وارد بدر السالم و محمد جبير
TT

القارئ المغدور وعلاقته بالروايات الفائزة

علي فواز و وارد بدر السالم و محمد جبير
علي فواز و وارد بدر السالم و محمد جبير

يقول الروائي وارد بدر السالم، الذي كتب كثيرا من الروايات، كان آخرها، رواية (عذراء سنجار) وهي أول رواية عراقية تتحدث عن المأساة التي تعرض لها الإيزيديون العراقيون، حينما احتلت «داعش» مدنهم وقراهم، في الآونة الأخيرة نالت الرواية حظوة كبيرة لدى القارئ، حتى غدت سيدة العصر وسيدة الفنون الإبداعية، متجاوزة الكثير مما يحيط بها من جماليات سردية وشعرية وفنية أخرى؛ لذلك صارت قِبلة للقراء في شرق الكتابة وغربها. وعلى هذا تم استحداث عدد من الجوائز الأدبية السردية في الوطن العربي، التي وفرت أجواء مناسبة في ظاهرها لإشاعة ثقافة التنافس وتشجيع السرديين المحترفين والهواة، وخلق حالة من حالات التواصل الإبداعي الموسمي، وتثوير الطاقات الأدبية في منحاها السردي، وباتت الجوائز العربية معروفة في سرديات التنافس، وأهمها «بوكر» للرواية العربية و«كتارا» القطرية اللتان كرّستا شيوع القارئ المغدور أو الكسول من حيث لا تقصدان!
ويمكن تعريف القارئ المغدور أنه «القارئ الموسمي الذي غدرته جوائز تلك المسابقات فسعى إليها تاركًا حقلاً كبيرًا من سنابل السرد الطافحة بالإبداع والفن وروح التمرد على ثوابت قبيلة الرواية الكلاسيكية، وهي الروايات التي لا علاقة لها بالجوائز ولا التسابق المرهق. فهو القارئ الباحث عن صخب الجوائز والفائزين بها، واللاهث وراء الروايات الفائزة في حسابات ليست نقدية ولا فنية، ولكنه الركض وراء الضجيج الإعلاني الذي نساهم به جميعًا بقصد أو من دون قصد.
هذا القارئ لا يعوّل عليه كثيرًا، فهو مناسباتي، غافل، مستغفَل، كسول، انفعالي، انتقائي، سالب، وغيرها من الصفات التي يمكن استنتاجها بسهولة، وهي استنتاجات ليست ملزمة لأحد، لكنها واقعة بالفعل ولها أسبابها بطبيعة الحال».
ويستدرك السالم بقوله: «هذا لا يعني الشك بالروايات الفائزة التي قد تتصدر قوائم المبيعات، لكن ثمة معايير جديدة استجدّت مع هذه الجوائز حينما خلقت معها مثل هذا النوع من القراءة الكسولة التي تتأثر بموسمية الجوائز وتخلق لها وهمًا عن جودة الفوز من دون النظر إلى كم هائل من روايات عربية لم تفز أو لم تشترك أصلا في هذا التنافس الماراثوني المتعب. وبذلك يقع مثل هذا القارئ (ضحية) أوهام الفوز في قراءات ليست أصيلة بالنتيجة، ففوز رواية واحدة لا يلغي روايات كثيرة وكبيرة بفنيتها ورقيها السردي، وبالتالي سنخسر قارئًا هو نتيجة لتلك الصراعات السردية التي تتوخى خلق جو سردي تنافسي من دون أن تعني، وتساهم في إيجاد قارئ كسول، اسمه ببساطة: القارئ المغدور».. وهذا ما فعلته الجوائز الروائية العربية.
بدوره، يرى الروائي والإعلامي محمد جبير أن الجوائز على المستوى المحلي ما هي إلا كذبة يضحك فيها المسؤولون عن الشؤون الثقافية على ذقون بعض أنصاف المثقفين. أما على المستوى العربي فإنه هناك جوائز ينظر إلى قيمتها المادية والاعتبارية بشيء من الاهتمام، ويتمنى كل أديب الفوز بها ليغير من وضعه المادي والثقافي على مستوى النشر والتوزيع في البلدان العربية، حيث إن تلك الجوائز تكون المفتاح للشهرة والانتشار، والشواهد العربية على ذلك كثيرة، وخير مثال جائزة البوكر للرواية في دوراتها الست السابقة، وما تحقق للكتاب الذين فازوا بتلك الجائزة.
الكاتب والناقد علي الفواز له رأي آخر، مفاده: «من الصعب الحديث عن مقارنة الإنتاج الروائي مع أشكال الكتابات الأخرى، لأن هذا الإنتاج قرين بالجهد والوقت والطبع والتسويق وبطبيعة التقاليد الثقافية المهيمنة، لكن يمكن تأشير تحول واضح نحو هذا الجنس الكتابي في السنوات الأخيرة، إذ بدت الكتابة الروائية أكثر إغواء وإثارة للجدل، على مستوى اتساع فاعلية الإصدارات والحضور في سوق الكتاب، وعلى مستوى التوق إلى المنافسة مع تجارب روائية عربية لها تقاليد مُكرسة، ولعل العدد الكبير من الإصدارات الروائية منذ عام 2003 يؤكد وجود الشكل الاجتماعي لظاهرة الرواية العراقية الجديدة بقطع النظر عن معطياتها الفنية التي تتطلب جهدا نقديًا دؤوبًا وعميقًا».
وأضاف الفواز قائلا: «جزء كبير من نهضة الرواية يعود إلى الشباب فمنافسة الإصدار الروائي العراقي للروائيين الشباب يبقى رهانًا فنيًا، وقدرة على حيازة الجدة والوعي والمغامرة في المنافسة، والمشاركة الواسعة للروائيين العراقيين في المسابقات والجوائز العربية والدولية هو دليل على المغايرة».
ويقول الروائي خضير الزيدي: «شأن الرواية العراقية هو ذاته شأن الرواية العربية حتى عام 2003، أُنتج ما يقارب 280 رواية عراقية، إذا ما تم استثناء روايات الحرب والتعبئة منها. وبعد 2003 صدرت نحو 480 رواية عراقية وهذا يعني أن بعد أربع سنوات حصلنا على إنتاج كم ونوع متميز من عدة نواح تحقق لها شرط الوجود ثم شرط حرية الكتابة، كما أن هنالك مخطوطات روائية أعيدت لها الحياة وتم طباعتها لأنها تتحدث عن أحداث مهمة في العراق».



لُقى «سمهرم» في محافظة ظُفار

لُقى «سمهرم» في محافظة ظُفار
TT

لُقى «سمهرم» في محافظة ظُفار

لُقى «سمهرم» في محافظة ظُفار

تحوي سلطنة عمان سلسلة من المواقع الأثرية تتوزع على قطاعات متفرقة من أراضيها الواسعة. بدأ استكشاف هذه المواقع بشكل علمي في مطلع الخمسينات من القرن الماضي، إذ أنجزت بعثة أميركية أول حفرية في خور من أخوار ساحل محافظة ظفار، يُعرف محلياً باسم «خور روري». كشفت هذه الحفرية عن قلعة مستطيلة مدعّمة بأبراج، شُيّدت بالحجارة على جبل منخفض يطل على هذا الخور، وحملت اسم «سمهرم» باللغة العربية الجنوبية القديمة، وتبيّن أن هذه القلعة كانت من أهم المواني في جنوب شرقي شبه الجزيرة العربية التي لعبت دوراً كبيراً في تجارة اللبان الدولية. استمرّت أعمال التنقيب في هذا الموقع خلال العقود التالية، وكشفت عن مجموعة من اللقى تشهد لتعدّدية ثقافية تعكس الوجه الدولي الذي عُرقت به سمهرم في الماضي.

تقع سلطنة عُمان في الربع الجنوبي الشرقي من شبه الجزيرة العربية، يحدّها خليج عُمان من الشمال والشرق، وتطوّقها الكثبان الرملية من الجنوب، ممّا يجعلها أشبه بجزيرة بين الصحراء والبحر. تضمّ هذه الجزيرة الشاسعة إحدى عشرة محافظة، منها محافظة ظفار التي تقع في أقصى الجنوب، وعاصمتها مدينة صلالة التي تبعد عن مسقط بنحو 1000 كيلومتر. تبدو ظفار في الظاهر معزولة عن شمال عُمان بأرض قاحلة، غير أنها تشاركه في الكثير من أوجه الشبه، كما يشهد تاريخها الموغل في القدم، حيث عُرفت بأرض اللبان، واشتهرت بتصدير هذا المورد النباتي في العالم القديم، وشكّلت بوابة عُمان الضخمة المفتوحة على المحيط الهندي حلقة الوصل بينها وبين ساحل شرق أفريقيا. برزت تجارة اللبان بشكل خاص منذ منتصف الألف الأول قبل الميلاد، كما تشهد مؤلفات كبار الجغرافيين اليونانيين، وتؤكد هذه المؤلفات أن اللبان كان يُنتج داخل هذه البلاد، ويُجمع في ميناءين يقعان على ساحل يُعرف باسم «موشكا ليمن»، ومن هناك كان يُشحن بالسفن شرقاً إلى الهند والخليج العربي، وغرباً نحو ميناء قنا على ساحل بحر العرب.

زار الرحالة البريطاني جيمس ثيودور بنيت ساحل ظفار في نهاية القرن التاسع عشر، وقضى بداء الملاريا في 1897، وبعد رحيله، نشرت زوجته ومرافقته في رحلاته كتاب «جنوب الجزيرة العربية» في 1900، الذي حوى وصفاً لموقع «خور روري» في ساحل ظفار، ويُعد هذا الوصف أول تقرير ميداني خاص بهذا الموقع. استند الرحالة البريطاني في بحثه الميداني إلى دليل ملاحة يعود على الأرجح إلى منتصف القرن الأول، يُعرف باسم «الطواف حول البحر الإريتري». و«البحر الإريتري» هي التسمية التي عُرف بها خليج عدن، وشملت البحر الأحمر الحالي والخليجين العربي والهندي. ذكر صاحب هذا الدليل ميناء «موشكا ليمن»، ونسبه إلى ملك من جنوب الجزيرة العربية يُدعى إليازوس، ورأى جيمس ثيودور بنيت أن هذا الميناء يقع في «خور روري»، وأثارت هذه القراءة الميدانية البحّاثة العاملين في هذا الحقل.

تولّت بعثة أميركية مهمة التنقيب في هذا الموقع بشكل متواصل خلال عام 1950، وعاودت العمل لفترة قصيرة خلال عام 1962، وتبيّن أن الموقع يضمّ قلعة حملت اسم سمهرم، شيّدها ملك من ملوك حضرموت في تاريخ غير محدد، كما يؤكّد نقش كتابي كُشف عنه في هذا الموقع. تبنّت البعثة الأميركية قراءة جيمس ثيودور بنيت، ورأت أن سمهرم هي «موشكا ليمن»، وحُددت هوية الملك «إليازوس» على ضوء هذه القراءة، وهو ملك يَرِد ذكره بشكل مشابه في نقوش تعود إلى أكسوم في الحبشة. قيل إن ميناء سمهرم واصل نشاطه من القرن الأول إلى القرن الثالث للميلاد، كما توحي الكتابات المنقوشة واللُّقى التي عُثر عليها في الموقع، غير أن الأبحاث اللاحقة أثبتت أن هذه القراءة تحتاج إلى المراجعة. تولّت بعثة تابعة لجامعة بيزا مهمة مواصلة البحث في هذا الموقع منذ عام 1997، ونشرت تباعاً تقارير رصدت اكتشافاتها، وأظهرت الدراسات التي رافقت هذه التقارير أن ميناء سمهرم شُيّد في نهاية القرن الثالث قبل الميلاد، بالتزامن مع نشوء التجارة البحرية وتطوّرها في المحيط الهندي، وقبل وصول الرومان إلى مصر بزمن طويل، ولم يُهجر قبل القرن الخامس للميلاد، حين تراجع نشاطه تدريجياً مع اندحار مملكة حضرموت، وخضوعها لملوك حمير بعد سلسلة من الحروب في القرن الرابع للميلاد.

منذ نشوئه، تميّز ميناء سمهرم بطابع «كوسموبوليتي»، كما تشهد القطع الفخارية المتعدّدة المصادر التي عُثر عليها بين أطلاله. خلال تاريخه الذي دام عدة قرون، نسج هذا الميناء كما يبدو علاقات متينة مع سائر أنحاء العالم القديم، من حضرموت إلى قتبان في جنوب جزيرة العرب، إلى أكسوم في الحبشة، ومن الخليج العربي إلى آسيا ومصر وسواحل البحر الأبيض المتوسط. في هذا الموقع، عثرت البعثة الأميركية على تمثال هندي صغير من البرونز، يبلغ طوله 8 سنتيمترات، وهو من محفوظات متحف فنون آسيا التابع لمؤسسة «سميثسونيان» في واشنطن. يُمثل هذا التمثال الذي فقد رأسه وذراعه اليسرى امرأة تلوي خصرها، وتثني ساقها اليسرى خلف ساقها اليمنى. تُميل هذه الراقصة وركيها وتحني كتفيها إلى الجهة اليمنى، ويتميّز لباسها المحلّي بحلله المتعددة، ومنها حزام عريض يحوي أربعة صفوف من الدرر، وقطعة قماش تنسدل من طرف هذا الحزام على الفخذ الأيمن، وثلاث قلائد من الدرر تلتف حول الرقبة. صيغ هذا التمثال وفقاً لناموس الجمالية الهندية ويُجسّد كما يبدو سيدة الشجر في العالم الهندي. كذلك عثرت البعثة الإيطالية على قطعة مما تُعرف بـ«عملة كوشان» تحمل اسم كانيشكا، ملك كابل وكشمير وشمال غربي الهند. ونقع على مجموعة من الكسور واللُّقى الصغرى تعكس هذا الأثر الهندي الذي برز بشكل خاص في سمهرم.

في المقابل، يظهر أثر حضرموت في مجموعات أخرى من اللُّقى، منها المسكوكات، والأواني المتعددة، والأنصاب الحجرية المزينة بالنقوش الحجرية. من هذه الأنصاب يبرز حجر مستطيل يحمل نقشاً يصوّر ثوراً في وضعية جانبية، مع كتابة تسمّيه، بقي جزء منها فحسب. تُماثل هذه القطعة في تأليفها الكثير من القطع التي خرجت من نواحٍ متعددة من جنوب الجزيرة العربية، وهي على الأغلب من القطع التي تحمل في العادة طابعاً دينياً. في هذا الميدان، تحضر مجموعة من المجامر الحجرية تتميز بنقوشها التزيينية الجميلة. تحمل هذا المجموعة طابعاً جامعاً، كما أنها تحمل في بعض الأحيان طابعاً محلياً خاصاً، وتحتاج إلى دراسة مستقلّة خاصة بها.